المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
28/09/2009 06:00 AM GMT
في الذكرى التاسعة لرحيله
في اليوم الذي غادرنا فيه سامي محمد (28/9/2000) أمطرت السماء على غير توقع. كان قد ووري التراب صباحاً، في المساء كانت مائدته الخاصة في حديقة اتحاد الأدباء جاهزة، وقد آثرنا أن يظل كرسيه فارغاً. فجأة تغير الجو وأمطرت، لتحل بيننا، نحن أصدقاءه الحزانى، ميتافيزيقيا لها تاريخ صغير . فكرت أن سامي محمد الذي اعتاد عدم التصديق سيرى في هذا المطر المفاجئ مجرد نكد إضافي من صديقي إنليل. لم يكن يصدق بأن لنا القدرة على جلب الأعاجيب. كان يائساً من وجود إمكانية أخرى، إمكانية فرح على سبيل المثال، ومطر، وحرائق نظيفة ومصادفات تخترق نظام الحياة الرتيب. في أيام الصيف كانت الحرارة تحول الهواء إلى ما يشبه الجدران التي تطبق علينا مع كل رشفة ، وكان لايني يفتح منديله ويمسح عرقه متذمرا ، ثم يمنحنا وجهاً غضوباً لا يقبل التداول والتسامح. ما كان يطيق الحر، ولا الأحاديث المتصلة، ولا السماح بتعليقات مرحة. وإزاءه كنت أجن من الحر، ومن صمته المتجهم، فأصبح عبثياً محاولاً تحريك العواطف والهواء والكلمات، أرفع رأسي الى السماء وأستخير إله الرعد والبرق والصواعق السومري: لطفك إنليل، نسمة هواء! وكان يخزرني مستاءً من سخفي وتهريجي، شاعراً بأنني أدس عليه شغباً لا يستطيع قبوله. وكان إنليل كثيراً ما يستجيب أو يتظاهر بذلك فيدفع ببعض هبات هواء لا ندري من أين تأتينا، فأمعن في رعونتي مشجعاً إنليل على المزيد من الكرم، ولكن سامي محمد لا يكترث لهذه الأعجوبة، فبعد كأسين لا يعود إنليل سوى إله ثانوي، أما هو فيتحول إلى كبير الآلهة مردوخ، مهزوماً في مكان ما داخله، متظاهراً بقوة لا تبددها إلا زلات لسانه، إلا ضحكة لا يمكن قمعها، إلا إشارة ملوكية كان يطلقها لاسكات صوت ما ارتفع فجأة في عمق الحديقة: إش ش ش ش! في السنوات الأخيرة من حياته بدت إشاراته الملوكية مستهلكة، وتجهمه بدا طريقة مكشوفة في الدفاع عن نفسه. ممن؟ لا أدري، بيد أنه أخذ يخاصم الذكاء، والأريحية، والنقاش الجدي. كان يمارس الموت كمثقف، لكنه ظل قوياً بالتكرار اليومي، بالأحرى بسعادة الحي الذي وجد ملجأه الأخير الآمن. لم نستطع أن نتبين ما حدث لصديقنا سامي محمد بالضبط ، فهو لا يشكو من امر محدد بل يشاغب على نفسه وعلينا، ويتصرف بعدم رضا دائم. في الصباح الباكر كان يبدو موجوعاً من الليلة الماضية، وفي الليل كان يمتلك المهارة في الدفاع عن نفسه ضد أي تدخل في شؤونه. كان يحتمي بالتكرار الذي أضحى خلاصنا جميعاً، معززاً فينا اللامبالاة. كنا نسهو، وكان يسهو، وبالسهو وحده كانت الحياة تمضي بلا مشكلات، وبلا توقفات لا طائل منها. لم يكن سامي محمد الاجتماعي في الظاهر، وأظن بسبب الدور لا الحاجة، يعترف لأحد بهمومه الشخصية على نحو حميم. كان ببساطة يتسلل خارج همومه، ولعله كان يحطمها في داخله، ويتناساها بالشغل والشرب . ما كان يطيق أن يكون جاداً، لكنه يفضل أن يظهر جاداً حتى لا يبدو ضعيفاً، الهزل عنده ليس ضد الجد لكن ليس هو المرح بل اللعب. وكانت روح الممثل الوسيم تعينه في ذلك، أما روح النجم الذي تلبسته فقد شكلت استقلالية قادرة على التفكير بالنيابة عنه، تحميه، تلعب به وتلعب على الآخرين، وبها كان يفرض شروطه في عرض مدهش من عدم الرضا بأشياء غير محسوسة وغير معلنة. كان هذا يتعبه ويتعبنا ، ولقد نسى على نفسه ، ولم ندرك جيدا بالمقابل أن طريقته هذه أضحت جسداً له، هذا الجسد الذي كان بحاجة إلى الراحة من الرتابة والتكرار والضغط والتمثيل واللعب والنجومية. ولقد نسى هو على نحو خاص، خلف جسده الفارغ ووسامته المؤكدة، تبدلات ضغطه الدموي المنذر بالخطر. كان معجباً بجملة يرددها نسبها إلى مالارميه: (إن جسد لحزين!) لكن ما كان يعرف شيئاً عن جسده في الحقيقة غير استهلاك الحزن الذي فيه بعمل حزين كان يدافع عنه كأنه إنجاز. والحال إن حزن العمل كان أقسى من حزن الجسد الشاعري، بل أن الأول صنع الثاني، إلا أن الثاني في الصورة التي يظهر فيها في المرآة وأمام نظرنا كان قوياً، وما كنا على أية حال نمتلك فكرة واضحة عنه نحن المستهلكين الذين لا نصيخ السمع لإنذاراته المبكرة. كان هو يتندر عليه، وكنا نؤجل التعرف عليه، وكانت لدينا حالة مشتركة في النظر إلى أجسادنا بوصفها أقل من آلة، بل عرقلة، شغب بسيط في شارع. ما الجسد في حياة لم تعد حياة، غير عرقلة؟ الاعتياد لا يرينا إسرافنا الفظ، وكنا أرواحاً على أي حال، وسامي محمد كان يشرب لكي يجعل من روحه روحاً مركزة ناسياً ومتناسياً أن الحياة كلها هي من تركيزات الجسد، من علاقات قوى يدخل فيها الجسد كحد أصيل. وما كانت أرواحنا على أي حال في منجى من علاقات القوى الخارجية التي تلف أجسادنا معها، وتضعها على خط النيران، وعلى خط العذاب والموت وتحت عدسات السلطة، وتحت رق رقابتها وعسفها والمخاوف التي تزرعها في أرواحنا وتستحيل إلى جسد. ماذا نعرف عن (هذا) الذي ننسى اسمه، وإذا ما ذكرناه، بسبب وخزة ألم لا نمتلك الوقت الكافي لكي نستجيب إليه. الوقت الكافي! إنها نكتة فنحن نمتلك أكثر من وقت كافي إلا أننا مشغولون بحالة تفكير دائمة عنه، مشغولون بالمناورات بعيداً عنه لكي نأمن! كان سامي مشغولاً في دوامة عمل لا يشبه العمل. وما أسهل ما كان يتبجح بحريته في الوقت الذي يعترف بأنهم ألقوا القبض عليه وانتهى الأمر. الوقت الكافي! لنكرر هذا. . ونعم. . ما كنا نملك الوقت الكافي لكي ندمج أجسادنا بأرواحنا، ونقرر، حتى على سبيل التجربة، حداً جديداً من علاقات القوى ، فالوقت وانعدام الوقت يرتبطان بالأمل، وأحياناً بالوعد، ونحن لم نكن نمتلك الاثنين. . وكان سامي محمد قد تخلى عن الاثنين. كان يمتلك كل إمكانات المثقف الحر. . لكن الزمان كان ضده، أتعبه، فأتعب نفسه، وسوَّف معه فسوَّف على نفسه. تلك هي أعذار سامي محمد. . وأعذارنا.
|