"ليلة الملاك" ملعبة خيال طفل |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات نعرف النص الأدبي بأنه رواية حين قراءته، حتى وإن لم يكتب الروائي على غلاف كتابه كلمة ( رواية) . نقول هذا على الرغم من عدم وجود معايير ثابتة نهائية قارة للرواية ومتفق عليها من النقاد. وعلى الرغم من وجود نصوص كثيرة متباينة في لغتها وأساليبها ومبانيها وخصائصها الفنية تطلق عليها جميعاً تسمية (رواية ). وما زلت شخصياً مقتنعاً بتصنيف وتوصيف الناقدة يمنى العيد للرواية بالمقارنة مع القصة القصيرة والأقصوصة من خلال طول شريطها اللغوي.. بهذا المعيار هل يمكن عد نص ( ليلة الملاك )* لنزار عبد الستار رواية؟. أو هي ( قصة طويلة ) أو ( قصة قصيرة طويلة ) كما يحلو لبعضهم أن يسميها؟ أعتقد بأن هذه المسألة ربما أقلقت الكاتب في أثناء تأليفه عمله ومن ثم تصنيف جنسه الأدبي قبل دفعه للنشر. والمعروف أن نزار عبد الستار هو واحد من أبرع كتّاب القصة العراقيين من الجيل المتأخر. صحيح أن النص المعني يغطي بأحداثه مساحة زمنية واسعة، وصحيح أنه يحوي شخصيات عديدة تتحرك على رقع جغرافية رحيبة، لكنه مختزل بشريطه اللغوي، وجملته لا تنفتح على أفق الرواية الشاسع بل تلتم في ضمن اقتصاد اللغة المميز للقصة القصيرة.. هذا لا ينتقص بالتأكيد من قيمة النص الذي نحن بصدد تناوله. وسنجنّس النص مثلما فعل مبدعه.. سنقول أن هذا النص "رواية" وسنتعامل معه هكذا، على الرغم من بعض تحفظنا الذي أشرنا إليه.
يبدو للوهلة الأولى أن نزار عبد الستار في روايته المذكورة آنفاً يتحرش بالتاريخ، ومنه جزء أُسبغ عليه هالة القداسة وجرى تأطيره بخط أحمر، ويحاول صياغة حكاية مؤسطرة تستمد عناصرها من الحاضر ومن الماضي في الوقت نفسه. وهو في حقيقة الأمر يفعل هذا وأكثر من هذا، متعاطياً ببراعة وذكاء مع مادته.. يشطح في الخيال ليطيح أحياناً بالمنطق والمعقول. وأي جهد حقيقي لفك شفرات نصه الروائي يضعنا أمام ممكنات لا تعد للقراءة والتأويل. فقد سعى الروائي لمراوغة وضع سياسي واجتماعي كان قائماً بكتابة تأخذ القارئ في طرقات وعرة ملتبسة يحتاج معها إلى قدرة عالية وصبر للمضي حتى النهاية. ما الذي يبغيه الروائي في ( ليلة الملاك )؟ أمقصده التشكيك بالتاريخ المكتوب والتنكيل بما أو ببعض ما وصل إلينا منه؟ أم ترميم ثغراته؟ أم تراه رمى إلى إعادة بنائه بعد تفكيكه؟. إن مادة التاريخ المتوفرة والمبذولة في آلاف المخطوطات والكتب تجعل الكاتب في حيرة من أمره، غير أنها تحرّضه أيضاً على أن يفعل شيئاً.. أنقول أن ينتقي؟ ربما، فلابد من الانتقاء أولاً. لكن هذا ليس كل شيء.. هناك طريقة التعاطي مع المادة المنتقاة، وقبل ذلك كيف عليه أن ينتقي. وعند أية عتبة تبدأ فعالية الخيال؟ ما أراه أن نزاراً أراد أن يقدّم عملاً فنياً في البدء، ومن ثم أن يُفهمنا شيئاً بخصوص وضع معاصر عاش تفاصيله بوعي وقلق ولم يكن التاريخ له سوى ذريعة، سوى قناع. فلا أظنه يقصد التاريخ لذاته، أو حتى يفكر بإعادة صياغته.. إن ما يؤرقه هو كيفية بناء نص فني يكون بمثابة الشهادة على عصر وحقبة شهدت أحداثاً جساماً وتحولات أغلبها كارثية.. يجول في الموصل الحالية ويأخذ شخصيات حقيقية من المعاصرين، عاشت أو ما تزال في هذه المدينة التي يحتفي بها. والتاريخ يبقى كما في معظم قصصه لعبة نزار، مرتعه الثري. وإذن لا يريد لروايته أن تكون بديلة لكتاب في التاريخ أو حتى مناظرة له. ولا يرغب أبداً أن يحل محل المؤرخ وبأي حال. في آن معاً يجعل الروائي الماضي يتلبس الحاضر وبالعكس، ويجعل الأسطورة تخترق الحاضر لتضيء زوايا معتمة منه. فالأسطورة، هنا، تقوم بمهمة استكشاف دقيقة في الواقع الراهن. ولا يستعير الروائي أسطورة بعينها كما فعل كثر من الروائيين مع أساطير وملاحم قديمة مثل يوليسيس وجلجامش.ولا يأتي بشخصية أسطورية معروفة وإنما يبتدع شخصيته الأسطورية الخاصة ويمنحها موقعاً ودوراً في حكايات وأساطير وقصص قديمة، ومنها قصص من الميثولوجيا الدينية، أو في التاريخ الحقيقي والمؤسطر للعالم كله. مركِّزا بطبيعة الحال على الأساطير العراقية، ولاسيما تلك المنبثقة من أرض نينوى القديمة في ضمن إطار الحضارة الآشورية والبابلية. إنه يتلاعب بمدونات التاريخ وبمحتوى الأساطير ويلفق أحداث روايته بما يثري فعل السرد، مسمّياً كائنه الأسطوري ذاك ( السمارتو ). والسمارتو لا يرد له ذكر في أي من الأساطير والملاحم التي اطلعنا عليها. إنه يبزغ في حلم طفل. حتى لكأن الرواية برمتها تبدو وكأنها جولة تفقدية في حلم يقظة هذا الكائن الغض الصغير، أو منامه. وكأن فضاء الرواية هو فضاء الحلم نفسه، أو ملعبة خيال طفل. فيما اختيار الاسم ( يونس ) لم يأت اعتباطاً فهو يحيل إلى النبي يونس ( ع ) الذي يقع مرقده في الموصل، وثمة جامع شهير باسمه، له مكانة قدسية عند معتنقي الديانات الكبرى، ولاسيما عند الموصليين.. يونس بطل روايتنا استعير اسمه في إحالة مقصودة ليونس النبي. وهناك إشارات لهذا في متن الرواية، كما في المقطع الآتي حيث يبث الروائي رسالة معينة تجسد واحدة من غاياته وهي تأكيد الرغبة بالسلام مقابل فضح بشاعة الحروب، وإن بلغة فيها تهكم واضح؛ "قال أسرحدون بأنه آمن بكلمة الرجل الطيب، العائد من بطن السمكة، لذلك لن يكون لنينوى أي جيش بعد الآن ما عدا كتائب التبشير، وصنوف الكلمة الطيبة". وأن يكون الحلم خاصاً بطفل في العاشرة وليس برجل بالغ فهو من أجل أن يكون الأمر مقنعاً طالما كنا نتحدث عن معجزات وخوارق وحوادث لا معقولة تدور تفاصيلها في ذهن من هو بهذا العمر، وفي لاوعيه. إلا أن عنصر الإقناع في الرواية يضعف نوعاً ما حين يتمادى الراوي ( أو الروائي ) في استجلاء وعي طفلنا بالتاريخ وبالواقع. نحن في ملعبة خيال إنسان صغير السن كما قلنا، أو في أفق حلمه، لكن ما يُسرد علينا ليس محض شطحات وخيلات مفككة وإنما بناء سردي ينم عن معرفة واعية بالواقع والتاريخ، ويتسم ببنية متماسكة متقنة الصنع. يتحدد زمن السرد بليلة واحدة، غير أن زمن الحكاية يمتد ليغطي أحداثاً جرت عبر آلاف السنين.. يخرج الطفل يونس بصحبة الكائن الأسطوري ( السمارتو ) الذي هو برأس صقر وجذع إنسان وله أجنحة مثل الملائكة، ومقصدهما الموصل، ومنها ( اقليعات/ الموصل القديمة ) بدءاً من مدينة الألعاب فيها. وما يفعله السمارتو هو أنه يحقق أحلام الطفل في هذه الليلة ويريه مدينة نزعت عنها كآبتها، وخرجت من ظلام ليلها التقليدي ولبست رداءاً جديداً مضيئاً. وإذ ذاك يحكي بعضهما لبعض.. السمارتو عمّا جرى في الأزمان القديمة والحديثة، ويونس عمّا يتمنى. وها هو السمارتو يعرّف نفسه؛ "أنا حارس آتو نبشتم.. عملت في صناعة السفينة، وكنت ملاّحه الخاص.. حاربت معه من أجل إنقاذ البشرية من الغرق... هو الذي أطلقني من السفينة للبحث عن اليابسة". يستحيل السمارتو إلى ذاكرة للتاريخ.. أرشيف حر ومتشعب له. فالسمارتو شارك في صنع الحدث التاريخي كما يدّعي ( يصدّقه يونس الطفل الصغير ــ المروي له ــ ويصدقه القارئ أيضاً )، والسمارتو هو راوي التاريخ في الوقت ذاته. وفي لحظات معينة يغدو ضميراً له.. إنه ليس الضمير السعيد البريء والنقي، بل يحمل قدراً كبيراً من لوم الذات والندم وينزع إلى الاعتراف، وإن كان يتهرب أحياناً من بعض الأسئلة ويحاول إخفاء بعض الحقائق. "فتح السمارتو عينيه ليعترف أمام يونس، وكائنات الخضرة، بأنه ارتكب أحقر وأبشع المجازر، وأن رحمة البشر لن تقدر على غفران ( 43156781 ) جريمة ارتكبها انتقامه طوال قرون الانشقاق التي عاشها". يغوص السمارتو في ذاكرة يونس، أم تراه يلبِّسه ذاكرته؟، ثم يبدأ بالتقصي فيه. ويونس كما لو أنه الحاكم الذي يضع التاريخ متمثلاً بشخص السمارتو في قفص الاتهام. أو إنه ضميره الذي يستجوبه بشدة. مثلما السمارتو هو بحسب قراءة وتأويل ما ممثل ضمير التاريخ وصوته. من جانب آخر فهذه الرواية هي رواية مكان، فبتحديد زاوية القراءة من منظور مكاني نستطيع القول أن البطل في رواية ( ليلة الملاك ) هو المكان/ نينوى الحالية/ أولاً حيث يغدو مصغراً لبلد أكبر هو العراق. فنجدنا مع نينوى بتاريخها وجغرافيتها.. بطبيعة أرضها وناسها بعاداتهم وتقاليدهم ومسراتهم وأوجاعهم، وبظروفها السياسية والاجتماعية.. برائحتها.. بما تنطوي عليها من حضارة ومنجزات، وما فيها من عبق الماضي البعيد. وإذن فقد خلق الروائي حكاية مؤسطرة تنبع عناصرها من مكان بعينه، أو هي حكاية مفعمة بنكهة مكان بعينه، بزمنه الحاضر وتاريخه الموغل في القدم. والآن؛ من وجهة نظر من تُسرد أحداث ( ليلة الملاك )؟ من هو راوي هذه الرواية؟ أين موقعه من الحدث المسرود؟ أهو الراوي كلي العلم الذي ليس بوسعنا التعرف عليه بيسر لأنه ببساطة لن يخبرنا بأي شيء عن نفسه. لابد أن يكون الأمر كذلك فما يفعله هو أنه يكشف لنا ما يدور ليونس الطفل بصحبة السمارتو، في وعي يونس وذاكرته وتشظيات خياله. لكن كثير مما يكشف عنه الراوي لهو أكبر وأعمق وأعقد من أن يكون بوسع طفل عمره عشرة أعوام التعبير عنه، أو تخيله. لغة الراوي ساخرة.. سرده يقطر سخرية وتهكماً.. إنها سخرية متعمدة لاجتياز حواجز وممنوعات والإطلالة على الأحشاء.. لا شيء كالسخرية يعرّي ويفضح، ويفصح عن المكنون. وهي لغة تنساب من غير أن تتفلت وتضيع.. تكسر سياقات السرد التقليدي من غير أن تقع في فخ التعمية والإطناب الذي لا معنى له، والذي غالباً ما يقع فيه متوهمو الحداثة. وهي تذكرنا بلغة وأسلوب الراحل محمود جنداري وطريقة استثماره لعناصر الموروث في كتابة القصة الحديثة. وهذا لا يعني، بأية حال، أن نزاراً الذي له نبرته ولغته المميزة في البناء السردي يقلد الجنداري. ( ليلة الملاك ) رواية ترغمك على البحث عمّا وراءها.. عمّا لم تقلها.. تغريك بولوج الفراغات الكثيرة المتمنعة التي تتركها. فهذه رواية مختزلة مضغوطة لا تعطيك بسهولة مفاتيحها بيد أنها تغويك بفتح أبوابها الموصدة.. رواية مكتوبة بلغة حديثة على الرغم من أنها تحاكي في مواضع كثيرة لغة وأسلوب الشاعر العراقي القديم، مبدع الأساطير والملاحم. "اخرج يا آتو نبشتم مع بذور الحياة إلى رياح الجهات الأربع، وقرّب قربانك، واسكب الماء المقدس على قمة اقليعات.. انصب سبعة وسبعة قدور، وكدّس أسفلها القصب، وخشب الأرز، والآس، ثم خذني معك إلى فم الأنهار". ( ليلة الملاك ) رواية: نزار عبد الستار.. دار أزمنة ــ عمّان.. 2008. |