المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
30/10/2008 06:00 AM GMT
حين تتوالى الانهيارات في واقع معيّن لسبب داخلي كالاستبداد أو داخلي – خارجي كالحرب أو خارجي كالاحتلال أو لهذه الأسباب مجتمعة، يتحوّل الناس الى ضحايا يتربص بهم الموت عند كل زاوية أو منعطف، يغدو الواقع ضرباً من الخيال ويصير المشهد سوريالياً بامتياز حتى إذا ما جاء النص يرصد هذا الواقع ويعكس غرابته وقسوته نراه يخسر واقعيته ويسقط بدوره في السوريالية. وعندها، لا نستغرب أن يتحوّل الأموات والقتلى والفصاميون الى شخصيات روائية تقوم بأدوارها داخل النص، وتفعل في الأحداث أو تنفعل بها. فغرابة الواقع وسورياليته لا بد من أن تنعكسا بقوة في مرآة النص، سواء على مستوى الحكاية أو الخطاب. من هذه التوطئة ندلف الى رواية «إنه يحلم أو يلعب أو يموت» للكاتب العراقي أحمد السعداوي (دار المدى). فهذا العنوان الذي يعادل بحرف العطف المتكرر مرتين «أو» بين الحلم واللعب والموت يشكّل إطلالة مناسبة على متن الرواية وأحداثها التي تتناول الواقع العراقي خلال مرحلة تمتد من الاستبداد الى الحرب فالاحتلال حيث لا فرق بين الحلم واللعب والموت. شخصيات الرواية هم ضحايا المرحلة السوداء الأخيرة في تاريخ العراق بدءاً من استبداد النظام السابق مروراً بحروبه العبثية وصولاً الى الاحتلال الأميركي. وهي مرحلة تركت ندوباً واضحة على أجساد الشخصيات ونفسياتها وعقولها، فنرى بينها المهجّر والكسيح والمشلول والفصامي والمستبد ومبتور الأطراف، وكأنّ الرواية معرض لمعوّقي الحرب والاستبداد بمعرضٍ من نوع الإعاقة وموضعها. ولا تقتصر آثار هذه المرحلة ومؤثراتها على الإنسان، بل تتعدى ذلك الى المكان والزمان وحركة الحياة اليومية. وثمّة بين الشخصيات من يبخل عليه الكاتب باسم علم ويكتفي باسم الجنس، فهناك صاحب المكتب، وسائق الحافلة، وسائق التاكسي، وكبير المنضِّدين وسواهم. ولعل الكاتب تعمّد ذلك في إشارة منه الى البعد التمثيلي لهذه الشخصيات بحيث تعبّر كل منها عن شريحة معينّة، فاسم الجنس لا يدل على واحد بعينه بل يدل على كثرة معيَّنة. يتعاقب على السرد في الرواية ثلاثة رواة رئيسيين وبعض الفرعيين، يروي كل منهم حكايته على شكل لوحات ومشاهد متعاقبة شكلاً، مبعثرة، يقفز فيها كيفما اتفق من زمن الى آخر أو من مكان الى آخر. والحكاية الواحدة قد تكون متذكّرة ومتخيّلة ومفترضة وتخضع للتعديل عن سابق وعي وتصميم... ويكون على القارئ أن يحاول جمع أشتات الحكايات ليؤلف الحكاية. والمفارق في النهاية أنه ليس ثمة حكاية واحدة، بل حكايات متناثرة، فلكلِّ ضحية حكايتها المتقاطعة مع حكايات الآخرين، وقد لا يكون للحكاية نهاية... في سرد الحكايات تنعدم المسافة بين الحياة والموت، بين الحياة والحكاية، بين الذاكرة والمخيلة، بين الحاضر والماضي، بين الوقائع والتخيلات...، فكأننا إزاء فوضى سردية تعكس فوضى الواقع وسورياليته غير أنها ممسوكة بحِرَفية واضحة من الرائي الذي يجترح الأقنعة/ الرواة، ويوزّع الأدوار، ويبعثر المشاهد والحكايات بمقادير محددة، فتغدو الفوضى السردية بنّاءة تُفرد للتجريب والحرية هامشاً ملحوظاً. الراوي الأول في الرواية هو نديم يارالله، جندي سابق في الجيش العراقي وواحد من الستين ألف قتيل الذين سقطوا في المعارك التي انتهت بخروجهم من المحمّرة. لذلك، هو لا يروي حكايته فقط، فحكايته هي حكايات هؤلاء جميعاً. وهو على وعي تام بما يقوم به من فعل السرد، فكأنه شخصية تقيم في الحياة وفي الرواية معاً. يقول: «هناك 60 ألف حكاية إلا حكاية، تملك قيمة حكايتي نفسها، ومن الغباء أن يصدّق أحد ما أنني أروي حكاية بعينها حين أروي، فأنا لسان هذه الحكايات جميعاً» (ص 21، 22). هذه الحكاية/ الحكايات يرويها نديم مباشرة بصيغة المتكلم في بداية الرواية، ويرويها مداورة بصيغة اليوميات في نهايتها، وفي الصيغتين المباشرة والمداورة ثمة نثار من المشاهد واللوحات الروائية، الواقعية أو المتخيّلة، لا يجمع بينها سوى خضوع الراوي لها أو شهادته عليها. وفي الحكاية يتموضع الراوي بين واقع قاس لا يزول وحلم بعيد المنال لا يتحقق، ففي الواقع مقتل أمه بغارة أميركية، وتسبّبه في شلل صديق، وهجرة أخيه، ومزاولته التنضيد في جريدة، وانسداد أفقه. وفي الحلم المجهض عدم تحقق سفره للالتحاق بأخيه في شمال أميركا. وإزاء قسوة واقعه وانكسار حلمه يتردّى في مهاوي الإحباط والعزلة وفقدان الأمل. الراوي الثاني هو حميد شقيق الأول يحمل آثار الحرب على جسده بتراً لساقه اليمنى، وعلى عقله انفصاماً بين شخصيتين. فخلال عقدٍ من هجرته الى شمال أميركا هرباً من بطش النظام، يصطرع فيه حميد المسكون بماضيه القاسي وهاميت المتطلع الى حاضره القاسي أيضاً. ولا يتصالحان ويعودان شخصاً واحداً إلا بزيارة متحف المسروقات العراقية في الولاية الأميركية، في إشارة روائية الى أن الانفصام قد يحدث بالابتعاد عن الوطن والتاريخ والهوية وقد يزول بالعودة الى هذه الأقانيم. وتنتهي حكاية حميد/ هاميت بالاستمرار في التشرد والمنفى والغرق في الشراب. والغريب أن إحدى الشخصيتين تقوم بمراقبة الأخرى ورصد حركاتها وسكناتها وأحلامها وأفكارها ونوازعها. والراوي، هنا أيضاً، على وعي بما يقوم به من فعل السرد، فهو شخصية واقعية – روائية، يبحث في الرواية عن خيارات لم تتحها الحياة. الراوي الثالث والأخير عائد بدوره من المنفى ليعمل منضِّداً في جريدة. وإزاء صدمته بالواقع الجديد واستمرار غربته ومنفاه في الوطن، يستبدل الحياة الممزّقة في الخارج بحياة افتراضية على الانترنت حيث «تتسع دائرة الأصدقاء على الماسنجر، وتضيق على الأرض» (ص 151). هذه النهايات الفردية بما تنطوي عليه من نفي وإحباط وعزلة واغتراب وعدم استقرار هي نهاية جماعية لشخصيات الرواية/ الحياة التي تفتقر الى الاستقرار والهدف، تخشى ماضيها، تضيق بحاضرها، وتجهل مستقبلها. هذا ما تنتهي به الرواية.
|