المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
10/09/2008 06:00 AM GMT
يظل هذان السؤالان عالقين في أذهان الكثير من القراء: ما الذي يدفع المبدع لإعادة ترجمة كتاب سبق وأن صدر بعدة تراجم؟ أليس من الأفضل توسيع المكتبة العربية أفقيا من خلال ترجمة كتب جديدة؟ في المقدمة التي وضعها لنص مسرحية «هاملت» المترجم، يترك لنا د. نيازي عددا من المفاتيح المساعدة لفهم المجازات التي استخدمها شكسبير والكيفية التي تعامل وفقها مع الحواس في نصه المكتوب شعرا. كذلك يقدم لنا إجابة مباشرة عن السؤال الأول بينما نتلمس إجابة ضمنية عن السؤال الثاني. ذكّرتني مقدمة الكتاب التي احتلت ما يقرب من 50 صفحة بتلك المقدمة التي كتبها الأكاديمي والناقد العراقي عبد الواحد لؤلؤة لترجمته «الأرض اليباب»، قصيدة تي أس إليوت الشهيرة. مع الاثنين نجد هذا الدأب على تعقب الأخطاء التي وقع بها المترجمون السابقون للنصين مع مقارنة صبورة ما بينها وبين النص الأصلي. لكننا في مقدمة صلاح نيازي لمسرحية هاملت، نجد عنصرا إضافيا يقتضيه الفاصل الزمني ما بين وقت كتابة المسرحية التي تعود إلى أواخر القرن السادس عشر أو بداية القرن السابع عشر، وبين عصرنا الحديث. فاللغة ككائن حي تتغير، وطرائق استخدام هذه الكلمة أو تلك، وهذا التعبير أو ذاك تتغير أيضاً مع مرور الوقت، ناهيك عما تحمله استخدامات شكسبير الجديدة والمفاجئة من معان جديدة تتطلب هي الأخرى الحرص الكبير في التعامل مع مجازاته وصوره الشعرية. لذلك يضطر نيازي الى أن يتعقب بدأب كبير معظم ما كتبه شارحو شكسبير أو بالخصوص كتبه شارحو مسرحية هاملت، التي تعتبر واحدة من أعظم القمم الأدبية في تاريخ البشرية. فعالم النفس سيغموند فرويد وضعها إلى جانب مسرحية الإغريقي سوفوكلوس «أوديب ملكا» ورواية دوستويفسكي «الاخوة كرامازوف» باعتبارها أعظم ما أنجز في مجال الأدب الذي يستبطن من وجهة نظره عقدة أوديب. هذا التأني في قراءة الشارحين الإنجليز لشكسبير ساعدت المترجم على اكتشاف المعاني المبطنة للكثير من المصطلحات والتعابير التي تعود للعصر التيودوري. لذلك فهو يضطر أحيانا إلى التخلي عن الترجمة المباشرة لما تعنيه الكلمة من دلالات مفضلا التمسك بالمعنى. وهذا أحد الخيارات التي اتبعها في ترجمته: مسك المعنى ثم صياغته بالعربية بشكل مكثف ومتماسك. في مقدمته، أجرى المترجم نيازي مقارنة شيقة في العديد من المقاطع المترجمة على يدي الراحلين عبد القادر القط وجبرا إبراهيم جبرا، ثم إجراء مقارنتها بالنص الانجليزي، وما جاء في الشروح التي قدمها المتخصصون بشكسبير. أستطيع القول إن الترجمة التي اقترحها في تلك المقاطع المستشهد بها، مقارنة بترجمة الكاتبين الكبيرين لها تجعلني انحاز إلى ترجمة صلاح نيازي. ويبدو لي أن الصبر الذي تمتع به والفترة الطويلة التي قضاها وهو يعيد قراءة المسرحية ودراسة كل مقطع وكل عبارة قدمها شارحو شكسبير، ساعدت على الإمساك بتلابيب النص. في فصل آخر من مقدمته، سلط صلاح نيازي الضوء على الكيفية التي استخدم بها شكسبير الحواس، في بناء مسرحيته الشعرية، فهناك وفق ما قدمه لنا مما كتب عن شكسبير في هذا المجال وما رصده المترجم، تناغم هارموني في استخدام الحواس والكيفية التي تساعد اللغة على تقديمها بشكل لا يتعارض بعضها مع البعض بل يتكامل لايجاد التأثير الفني المطلوب. وفي ترجمته للنص نفسه، يتبع نيازي أسلوبا ظل سائدا في الكثير من الأدب الكلاسيكي عند إعادة طبعه مرة أخرى بعد انقضاء فترة طويلة على صدوره: وضع الهوامش لكل فصل من فصوله الخمسة، وهذه هي في الغالب مقتبسة من شروح متخصصين بشكسبير وهناك أيضا بعض الإيضاحات التي يقدمها نيازي نفسه لبعض الكلمات أو الجمل. وهذا ما ساعد على تقديم شروح مفيدة جدا للقراء وللمخرجين المسرحيين العرب إن هم أرادوا تقديم المسرحية المترجمة للجمهور العربي. مع ذلك أجدني محاصرا بهذا السؤال: هل يجد المترجم نفسه في حال أسهل إن هو سار في سكة اختطها آخرون قبله، ليجري تحسينا على النص المترجم بكشف هفواتهم وتصحيحها أم البدء في عمل جديد لم يسبق أن ترجم من قبل؟ لعل إغراء التفكير بإعادة ترجمة الأعمال الأدبية الكلاسيكية تقليد تم ترسخه في الكثير من البلدان الغربية. وهذا يعود إلى تغير اللغة والذائقة مع مرور العقود مما يتطلب إعادة الترجمة. فأعمال هنري جيمس ترجمت عدة مرات في فرنسا خلال الثمانين سنة الأخيرة، وكتّاب روس ينتمون إلى القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين مثل دوستويفسكي وتشيخوف تظل أعمالهم موضع إعادة للترجمة من وقت إلى آخر. في بحثي الأخير عن ترجمة انجليزية لرواية «الأبله» لدوستويفسكي، فوجئت بوجود خمس تراجم لها، وكل واحدة منها حاولت أن تمسك جانبا محددا في الرواية لتظهره: اما مناخها الشعري الحالم أو إيقاع السرد الخاص بها، أو غير ذلك. وحتى بعد اختياري لإحدى التراجم ظل الفضول يساورني لمعرفة التراجم الأخرى. في نهاية المطاف، أجد أن ترجمة مسرحيات شكسبير أشبه بعمل مفتوح، فما نجح فيه الفقيد جبرا إبراهيم جبرا كان تجاوزا لما فشل فيه الفقيد عبد القادر القط، وما نجح فيه صلاح نيازي كان تجاوزا لما فشل فيه جبرا. نحن على الطريق الصحيح للوصول إلى جماليات شكسبير المطلقة. أتذكر في مقدمة عبد الواحد لؤلؤة لترجمته لـ«الارض اليباب» جملة تدل على روح الباحث المتواضعة وعظمتها حينما قال:«إن الترجمة هي خطوة على طريق ترجمة أفضل ستأتي مستقبلا».
|