"اللاسؤال واللاجواب" محاولة في الكتابة المحايدة |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات يستمد الروائي العراقي الراحل فؤاد التكرلي مناخ قصصه ورواياته من الفضاء الاجتماعي والسياسي مثلما خبره، من الواقعة التاريخية مثلما شهدها وقرأها.. كانت روايته ( الوجه الآخر ) على الرغم من قصر شريطها اللغوي مفتتح أفق جديد للسرد الفني العراقي في مطلع الستينيات من القرن الماضي. وكان على المؤلف أن ينتظر أكثر من عشرين سنة بعدها لينشر روايته الأكثر تماسكاً ونضجاً ( الرجع البعيد ) فيما كانت روايتا ( خاتم الرمل ) و ( المسرات والأوجاع ) عملين لاحقين نُشرا في التسعينيات، لرصد تحولات المجتمع خلال العقود الأخيرة، قبل أن تكون الخاتمة مع رواية ( اللاسؤال واللاجواب/ إصدار دار المدى 2007 ). وبذا، لا نستطيع، مع روايات التكرلي، أن نكون بنيويين خالصين، ولاسيما في هذا المقام، نفصل النص عن مؤلفه ( بعد أن نقتله ) وعن الأرضية الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي ولّدت هذا النص. بالمقابل هل بالإمكان القول؛ إن ( اللاسؤال واللاجواب ) هي تجربة في كتابة البياض، الكتابة المحايدة، درجة الصفر في الكتابة، ومحاولة لتقويض الموجّه الإيديولوجي، وتصوير الحدث في انسيابيته التلقائية في طبيعته الخام. وهل نجح التكرلي إن كان هذا هدفه حقاً في تحقيقه؟.. الجواب، كما اعتقد هو؛ كلا. فتحت القشرة الخفيفة الهشة للـ ( لا سؤال ) ثمة أسئلة كثيرة تبرز من بين السطور. ووراء الستارة المموهة للـ ( لا جواب ) تتلاحق الأجوبة عارية، صادمة. ويشكل النص، في جانب منه، ما يشبه مانفيستو سياسياً ينطوي على فكرة ورؤية وانحياز للإنسان في تجليات وجوده كلها في طيبته ودناءته.. في قوته وضعفه.. في وعيه وشطط نزواته.. في سموه وانحطاطه.. في أمله ويأسه.. في مسراته وأوجاعه.
يصور التكرلي الهزات التي أصابت الطبقة الوسطى المدينية، ولاسيما الشريحة الدنيا منها، ليس من الناحية الاقتصادية وحسب وإنما من الناحية القيمية والأخلاقية أيضاً.. إن موقف اللاسؤال واللاجواب يقود حتماً، وتحت وطأة الظروف القاهرة إلى استقالة الضمير وضعف المشاعر الإنسانية الاعتيادية كالندم والشفقة.. والسؤال الذي هو قيد التوقيف لدواعي سياسية لا يحرِّض على العثور عن إجابة، وكل شيء يجري كما لو كان جزءاً من ناموس قدري لا راد له. فهناك على الرغم من الكفاح المضني من أجل لقمة العيش نوع من الاستسلام أمام المصائب والآلام. والسلبية التي طبعت الشخصية العراقية كما يقدِّمها التكرلي في زمن الحصار مردّها أيضاً إلى أجواء القمع السياسي التي عاش فيها المجتمع العراقي في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، ثمة خوف من الكلام حتى أمام الذات، ناهيك أن يكون أمام المقربين. أو هو نوع من القناعة بلا جدوى الخوض في مسائل سياسية لا تنفع، وقد تقود إلى التهلكة. فأبداً لا يناقش أبطال الرواية جذور حالتهم التعسة وكأنها نتيجة حكم إلهي. قد نوعز سبب التدهور النفسي للبطل والحالة الغريبة التي تنتابه وهو في عزّ النوم إلى صدمات الواقع والتوتر الذي خلّفه واقع الحصار الدولي على العراق في نفوس الناس. وسوى ذلك لا نجد مسوغات مقنعة أخرى، أو لا تدلنا عليها الرواية، ولذا فإن الراوي لم يرغم نفسه حتى على مراجعة طبيب نفساني، أو حتى على الانغماس جدياً في التساؤل عن حالته إلا في مواقف معدودة. تبدأ أحداث الرواية في كانون الأول من العام 1994 بتعرض عبد الستار حميد زهدي الشخصية الرئيسة في الرواية لحالة غريبة يجد نفسه على إثرها مرمياً من فراشه على الأرضية الثلجية وقشعريرة تهز جسده بعد أن غمرته ظلمة ثقيلة كادت تكتم أنفاسه.. هذه الحالة تأخذ بالتفاقم شيئاً فشيئاً، ويوماً بعد آخر، فتفسد عليه حياته التي لا تخلو هي الأخرى من أزمات ومشكلات خاصة وعامة. وعبد الستار مدرس تجاوز الأربعين من العمر يعيش مع زوجته زكية وابنته كوثر وابنة زوجته هيفاء ( من زواج سابق ). ويضطر للاشتغال سائق سيارة تاكسي تعود لجار له. يكتب التكرلي روايته باستخدام ضمير المتكلم في معظم أجزاء القسم الأول. فالشخصية الرئيسة ( عبد الستار ) يحكي لنا ما يجري بطريقة اليوميات في هذا الجزء من الرواية قبل أن يسترسل الراوي كلي العلم في السرد الاعتيادي في القسم الثاني منها. وهذه الانتقالة لا نجد لها ضرورة فنية كافية سوى أنها قلصت من مساحة الرواية لأن إيقاع الأحداث في هذا الجزء كان أسرع مما كان في الجزء الأول الذي اعتمد صيغة اليوميات المثقلة بالتفاصيل. وفي المرات التي يلجأ فيها الكاتب إلى استخدام ضمير الغائب في القسم الأول فلأجل وصف النوبات الكابوسية التي يتعرض لها الراوي والتي لا يكاد يتذكر منها شيئاً حين يستيقظ. إن ما يتجنبه التكرلي هو الكشف عن المأزق الأخلاقي لبطل روايته الذي يحتفظ بمجوهرات ثمينة مسروقة بعد أن يجدها في مكتبته بطريقة ملتبسة، لا يتذكر كيف حدثت. وهو الذي انتزعها من سكير لص في لحظة عراك على الأجرة وجاء بها إلى بيته.. إنها مجوهرات مسروقة، وهو ( أي بطل روايتنا ) يعرف أنها مسروقة ويعرف لمن تعود ملكيتها. ويعرف أن هناك من وقع في ورطة نتيجة ذلك ( جاره صاحب سيارة التاكسي )، ومع هذا فإنه لا يتوانى عن التصرف بما لا يملك. ولعل ما يحصل له من نوبات هستيريا يؤذي خلالها نفسه في أثناء النوم ليس سوى انعكاس لصراع داخلي ضار يجري في منطقة اللاوعي بين الأنا العليا والـ ( هو ) باستعارة مفاهيم فرويد. والـ ( هو ) من ينتصر أخيراً في قرارات البطل ليدفعه الثمن من صحته النفسية التي سيكون باهضاً في نهاية المطاف. فكابوسه الأخير بعد أن يبيع المجوهرات ويشتري داراً ويترك وظيفة التدريس والسياقة كان أبدياً "كان عبد الستار حميد زهدي داخلاً مرة أخرى في عالمه الثاني الذي لم يخرج منه". وهذه آخر عبارة في الرواية. فهل أراد التكرلي أن يقول لنا ملخِّصاً رسالة عمله بفكرة أن قسوة الحصار الاقتصادي والفقر تقود حتماً إلى انهيار القيم وخراب النفوس. فإذا ما قرأنا لا وعي النص نجد أن بطله ليس بالرجل الصالح، مثلما يريد إقناعنا، فهو، فضلاً عن استساغته لعملية الاحتفاظ بأموال الغير بقصد سرقتها، حتى وإن حصل عليها من سارق مجرم. وإذ لا يفصح عن أزمة في الضمير طالما كان المال عائداً لأناس آخرين يعانون من أثر فقدانه أقول فضلاً عن هذا فإنه ( أي البطل ) يشعر بالراحة ويستلذ من سلوك ابنة زوجته هيفاء، الذي قد يكون بريئاً، وهي تحك جسدها الفتي بجسده في أثناء شدها ليديه ورجليه كي لا يؤذي نفسه حين تهاجمه الكوابيس في أثناء نومه، على الرغم من أنها تناديه بابا ويناديها بـ ( ابنتي ). وهو من ناحية يرفض أن يأخذ حقه تماماً من صاحب سيارة الأجرة التي يسوقها كل مساء ولا يخفي عنه ما كسب خلال ساعات العمل إلا تلك المبالغ التي تُعطى له مثل هدية ( مبالغ أكبر من الأجور المستحقة ). ومن ناحية ثانية يحتفظ بمال ضخم مسروق من غير أن يحاسبه ضميره، ومن غير أن يسأل نفسه أسئلة ذات طابع أخلاقي بهذا الصدد. والقارئ يحس، ها هنا، أن لغة السارد لا تتطابق أو تتلاءم وطبيعته الحقيقية كما لو أنها لغة شخص آخر، فهي لغة تحمل تناقضها في داخلها. والراوي يفصح عما في نفسه من غير مواربة عندما يقول: "إذ ما دمنا نكافح من أجل البقاء فكل شيء مباح ومسموح به، حتى الجرائم. وفي حالة غريبة وغير مسبوقة مثل حالتهم هذه، ماذا تعني الأخلاق القويمة والفضيلة والكرامة الإنسانية والأنانية.. لإنسان يموت جوعاً". لجأ التكرلي إلى لغة سرد سهلة تقرب من المحكي غير أنه كان يقع في فخ المبالغة في تصوير مأساة العائلة.. فالواقع المرسوم داخل الرواية هو واقع آخر، مثلما نعلم، لا يطابق الواقع التاريخي بل يكافئه أو يوازيه. لكننا في بعض الأحايين نجدنا مضطرين لعقد نوع من المقارنة بين ما يحصل داخل الرواية وما حصل فعلاً على أرض الواقع الذي خبرناه. وخاصة إذا كانت الرواية معنية بالتصوير الفني ( بتقنيات السرد الروائي ) لحقبة تاريخية وواقع موضوعي كما يخبرنا الراوي أو الروائي من خلال راويه.. صحيح أن عقد الحصار كان قاسياً جداً على العراقيين لكن ليس من المنطقي أن تكون عائلة ربها يعمل مدرسا في النهار وسائق تاكسي في المساء وزوجته تعمل خياطة لا يجدون بعد يوم عمل شاق غير كسرات يابسة من الخبز، ولا يستطيعون شراء حتى بيضة واحدة، كذلك ثمة إشارة للعائلة نفسها تطبخ حبة باذنجان واحدة قُطفت من شجيرة في حديقة الدار وتحتفل بها فيما المعروف أن سعر الباذنجان كان هو الأرخص في مرحلة الحصار حتى سمي عندنا بـ ( وحش الطاوة ). استند التكرلي، فيما يبدو، في تمثيله لذلك الواقع على ما سمعه أو قرأه ولم يعشه ويخبره كما كان. تبقى رواية التكرلي ( اللاسؤال واللاجواب ) بأسلوبها الشيق والسلس شهادة على مرحلة عصيبة من تاريخنا، وإضافة مهمة لتراث التكرلي ولمكتبتنا الروائية. |