عن بركات الشقاق

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
01/08/2008 06:00 AM
GMT



يبدو حال العراق في لحظة غريبة من التشظي الفائق للطوائف والكتل والاحزاب، وهو تشظ يعد بتبدل الوجوه، او انقلاب الخرائط. وما من لحظة كهذه تكشف سخف المقولات التي تصور الطوائف والاثنيات جلموداً صوانياً، او ترى الهويات الكبرى والصغرى بمثابة كتل متراصة، ثابتة.
الهويات الاثنية (القومية) تنتمي الى العصر الحديث، عصر القوميات الذي انبلج في اوروبا خلال القرن التاسع عشر، وانتشر في عالمنا خلال القرن العشرين، وهو عصر بسيط ومعقد، مفاده ان لكل امة حق الانتظام في الدولة، وبات هذا الحق مألوفاً الى درجة ان تعبير «الامة» صار مرادفاً لتعبير «الدولة». لكن كثرة من امم المعمورة (وهي تزيد عن ثمانية الاف على اساس المعْلم اللغوي وحده) انحشرت مع بعضها في دولة واحدة متعددة القوميات بالتعريف، فصار لزاماً ليس فقط حل المسألة القومية (لكل امة دولة)، بل ايجاد توازن بين قوميات متعددة داخل الدولة الواحدة، المبرقشة.
اما الهويات الدينية - المذهبية فهي هويات قديمة سابقة للدولة الحديثة بقرون وقرون. وهي هويات ثقافية ولّدت وتولّد فروقات في القيم، والعبادات، والطقوس، بل حتى احياناً في انماط المأكل والملبس (كجزء من القيم الثقافية). واذا كانت الهوية القومية (او الاثنية) مسيسة (او سياسية) بالتعريف، اي انها تتوخى انشاء دولة خاصة بها، او الحصول على حصة في الدولة (كجهاز سياسي يدير اقليماً معيناً)، فان تسييس الهويات الدينية والمذهبية جديد نسبياً، خصوصاً في البلدان ذات التجانس اللغوي والثقافي.
ومشكلة الهويات الدينية - المذهبية انها مزدوجة. فهي من جهة فوق قومية، اي عابرة للوطن او الاوطان التي تنشط فيها، وهذا العبور للاوطان يعطيها وزناً اكبر، في جانب، لكنه يضعفها بسبب تصادم المصالح بين الاوطان المختلفة. والهويات الدينية - المذهبية هي ايضا دون قومية، اي جزئية داخل الوطن، وهي بالتالي مضطرة، حيثما برزت، الى الاقرار بوجود هويات جزئية اخرى. ولعل بروز الهويات المذهبية (شيعية او سنية مثلاً) يرجع الى عوامل شتى، ابرزها احتكار السلطة والموارد على يد جماعة جهوية، او دينية، او مذهبية محددة، في ظل نظام اوتوقراطي او توتاليتاري. والغاء الاوتوقراطية او التوتاليتارية باحلال نظام تمثيل ديموقراطي، لا يحل المشكلة بل يزيدها تعقيداً. وهذه مفارقة من مفارقات ومشكلات الديموقراطية. نعني بذلك ان الديموقراطيات الكلاسيكية (وبخاصة في الدول المتجانسة) تقوم على مبدأ الاكثريات والاقليات (السياسية او الانتخابية)، الذي يترجم احياناً (في ظروف معينة) الى اكثريات واقليات دينية ومذهبية.
الخطاب الديني - المذهبي ينطلق من اعتبار المذهب او الطائفة كتلة واحدة موحدة. وهذا مفهوم مضحك. فما من امة، او طائفة، او مذهب، مهما بلغت درجة التجانس الثقافي فيها او فيه، بقادرة على الغاء الفوارق الاجتماعية والطبقية، وتنوع المصالح الجهوية، فهناك ابناء حواضر وابناء ريف، وهناك المنتمون الى طبقات حديثة، او الملتصقون بتنظيمات اجتماعية قرابية، او تقليدية (البيوتات، العشائر)، وهناك الطبقات الوسطى، والعاملة، والهامشية، وهناك المحافظون والوسطيون، وهناك اليسار واليمين، وهناك وهناك...
وحين يحتدم الصراع على الموارد السياسية (السلطة) والمادية (الثروات المجتمعية) يلجأ المتنافسون الى استخدام كل ادوات التعبئة المتاحة، تحقيقاً لغاياتهم. فما من هوية (طبقية او دينية) الا وتدخل بازار السياسة المفتوح على مصراعيه.
وكلما تفككت الهويات الحديثة القائمة على المصالح السياسية والاقتصادية، والاجتماعية المعبّر عنها بلغة الايديولوجيات السياسية، اخذت الجماعات تتوسل بلغة الدين والطائفة والمذهب، اداة توحيد للجماعة، ووسيلة تمييز لها عن غيرها، ومهماز تعبئة سياسية- انتخابية.
هذا الحال يصح على العراق. وتتصارع اليوم الهوية العراقية الجامعة (التي لم تفقد بعد طاقتها التعبوية) مع الهويات الجزئية، وبخاصة في الشطر العربي المبتلى بالمذهبية المسيسة والمسلحة.  وقد نجحت هذه الهويات الجزئية في انتخابات كانون الثاني  (يناير) 2005 التأسيسية، كما نجحت في انتخابات كانون الاول (ديسمبر) 2005 البرلمانية.
لكن الكتل «الشيعية» و»السنية» وغيرها، مما نتج عن هذه الانتخابات لم تنعم بسعادة التحليق على جناح الهوية المذهبية عالياً او طويلاً. فسائر هذه الكتل تتألف من قوى واحزاب وحركات مقسمة جهوياً، وعائلياً، وايديولوجياً. ووحدتها لم تكن بنيوية اي لم تكن نابعة من مصالحها الكلية، بل كانت خارجية، اي نابعة من حاجتها الى اقصاء خصم، حقيقي او مفترض. ويشهد العراق اليوم تفتت الكتل الكبرى التي بلغ بعض اطرافها حد الاحتراب الدامي. فما ان تحقق هدف اقصاء الخصم، حتى وجد المتحدون انفسهم في تصارع مع بعضهم على اقتسام الجائزة.
وتكاد الكتل الاساسية الحاكمة في العراق ان تمر كلها بازمة قيادية، وتطاحن وتنافس مع الكتل الاخرى. زد على ذلك ان تصفية او اضعاف بعض القوى (التي خرجت من الائتلاف الحكومي) اثر الحملات العسكرية الحكومية ربيع هذا العام (في محافظات الانبار، ونينوى، وديالى، وبغداد والبصرة والعمارة) ان تعيد تشكيل التوازنات السياسية داخل كل «كتلة». كما ان صعود القوى القبلية في وسط وغرب وجنوب العراق، وجد متنفساً اكبر من ذي قبل في التعبير عن نفسه. فهذه القوى تحظى اليوم بدعم مادي ولوجستي وسياسي من المركز، وهي تشكل تهديداً للتكوينات السياسية التي فازت في انتخابات 2005.
والزائر اليوم لبغداد وحدها سيجد حقائق هذا التشظي الفائق متجسدة في قلق نواب البرلمان من غموض الوضع، اي غموض مستقبلهم. وتتهيأ القوى القديمة، المفتتة، شأن القوى الجديدة الصاعدة، لخوض الانتخابات المحلية (لحكومات المحافظات) القادمة قريباً.
ان التشظي الفائق الحالي هو نتيجة من نتائج التدمير المنظم للمؤسسات المدنية الذي ابلت فيه النظم الجمهورية «الثورجية» بلاء حسناً (لسوءالحظ)، مثلما هو نتيجة من نتائج التهالك على ذهب الدولة النفطية. واذا كانت هذه هي لعنة النفط، فان للتشظي الفائق بركاته ونعمه. اول واكبر نعمة ان التشظي يفتت الهويات المذهبية السياسية (وليس الهويات المذهبية الثقافية)، ما يسمح بالزوال التدريجي للطائفة السياسية، التي انكشفت عورتها الفئوية للعيان: تعيين الاتباع الحزبيين، واقصاء ابناء الطائفية نفسها إن كانوا من حزب آخر او من لا حزب.
وثاني اكبر نعمة لهذا التشظي منع احتكار السلطة، وارغام المتنافسين على البحث عن حلول تشاركية في اطار المؤسسات. ولكن حتى ينتقل التنافس من قتال الشوارع والمتاريس الى اروقة المؤسسات ثمة حاجة الى استقرار ثقافة العمل السياسي القانوني في المؤسسات، وليس هذا التحول سهل المنال في وضع سيادة قانون الغاب.