صلاح نيازي يصحح ترجمات «هاملت» العربية

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
22/06/2008 06:00 AM
GMT



تتنافس الطبعات البريطانية في ما بينها في تقديم الشروح والهوامش والإيضاحات للأعمال المسرحية التي كتبها وليم شكسبير، فما بالنا بمسرحية «هاملت» التي أثارت جدلاً واسعاً لم تنتهِ تداعياته حتى الآن؟ فهذه المسرحية كانت معروفة، وتُمثل على خشبات المسارح قبل أن يكتب شكسبير عام 1600 أو 1602 هذا النص المسرحي المعروف في صيغته الحالية. أما الحذف والإضافة والتعديل التي اعتمدها شكسبير، فهذه قضية أخرى نتركها للباحثين والمتخصصين في هذا المجال. على ان السؤال المهم يكمن في السبب الذي يدفع بالمترجمين العرب الى إعادة ترجمة مسرحيات شكسبير، وتقليب وجهات النظر فيها.
هل ان الترجمات السابقة قاصرة؟ وما سبب هذا القصور على رغم أن «هاملت» تُرجمت نحو عشر مرات؟ لا شك في أن صلاح نيازي مترجم محترف، شديد الإخلاص لهذه «المهنة الإبداعية»، ولا يجد ضيراً في أن يسترشد بآراء من سبقوه من المحللين والشرّاح والمفسرين البريطانيين، ولذلك جاءت ترجمته لـ «هاملت» و «مكبث» من قبلها، دقيقة وأمينة وأقرب الى النص الأصلي على رغم الملاحظات والانتقادات الحادة التي يُبديها بعض المثقفين العراقيين على وجه التحديد!
قد يتبادر الى ذهن القارئ سؤال آخر لا يقل أهمية عن السؤال السابق مفاده: هل إن المترجمين العرب لا يحبذون استعمال الأنوار الكشّافة التي تضيء لهم عتمة النص، وتفكك مغاليقه المتعددة؟ يبدو أن الأمر كذلك لعدد من المترجمين العرب الذين ترجموا «هاملت» من دون الاعتماد على شروط الترجمة المعروفة. فلا غرابة في أن يرفق صلاح نيازي ترجمته الجديدة لـ «هاملت» بمقدمة طويلة بلغت 48 صفحة موضحاً فيها أسلوبه الخاص في ترجمة النص الشكسبيري. يعتقد نيازي أن «التقنية» هي أهم شرط من شروط الترجمة، وبالأخص حينما يتعلق الأمر بشكسبير. ويبدو أن المترجمين العرب السابقين، وعلى رأسهم جبرا إبراهيم جبرا، وعبدالقادر القِط، ومحمود السمرة، لم يعيروا اهتماماً كبيراً لهذا الجانب، ولهذا فإن قصورهم بدا واضحاً في ترجمة المفاهيم والمصطلحات المجازية. وأكثر من ذلك، فإنهم ترجموا «هاملت» كعبارات وجملٍ منفصلة بعضها عن بعض، بينما تقتضي الترجمة الأمينة أن يأخذوا العمل بصفته وحدة متكاملة وصفها نيازي بالعمل الموسيقي المتواشج، وشبّهها سدني بولت باللوحة الرصينة التي لا تقبل التجزئة. وبسبب هذه الرؤية التجزيئية القاصرة، فهم لم ينتبهوا الى تقنية تكرار بعض الكلمات والمفاهيم والصور الشعرية ودلالاتها في النص المسرحي، الأمر الذي أفضى بهم الى ارتكاب الكثير من الأخطاء التي لا تُغتفر حقاً. والأغرب من ذلك، كما يشير نيازي، أنهم، أي المترجمين العرب، عرّبوا الكلمات المكررة بكلمات مغايرة للكلمات التي ترجموها في بداية النص أو في وسطه!
ومن الجدير ذكره في هذا المضمار أن صلاح نيازي اعتمد، وبكل تواضع، الشروح والإيضاحات الموجودة في طبعات «هاملت» كلها، ومن دون استثناء، وتحتشد المقدمة بأسماء هؤلاء الشرّاح والمحررين أمثال: سدني بولت، هارولد جنكينز، جون. أف. أندروز، ج. ويلسون نايت، ج.أرْ هيبارد وآخرين. ولا بدّ من الوقوف عند بعض النماذج التي تعزز رأي صلاح نيازي في هذا الجانب التجزيئي. يترجم جبرا الجملة الآتية:The great man down, you mark, his favourite flies كالآتي: «إن هوى الرجل العظيم حسبنا عليه ما دنا منه حتى ذباب». تصور جبرا أن flies تعني «ذباب»، ولو عاد الى شرح بيرنارد لوت لاكتشف بسهولة أنها تعني «يهرب أو يتخلى عن». والملاحظ أن «حتى» مُضافة من عند الراحل جبرا وهي ليست موجودة في النص الأصلي.
وفي المقطع ذاته ترجم جبرا كلمة Poor بـ «الحقير»، في حين أنها شائعة والكل يعرف أنها «فقير» كما ترجم Fortune بـ «الزمان»، في حين أنها تعني «الحظ» وهي من الثيمات المتداولة في مسرحيات شكسبير. أما Hollow friend التي ترجمها بـ «الخل» فهي تعني «عدو محتمل» كما يذكر هارولد جنكينز، أو «رجل لا أهمية له» كما يشير أندروز، أو «فارغ، زائف، أو غير وفي» كما ترد في «قاموس ألفاظ شكسبير». يؤكد نيازي أن لغة شكسبير «هي لغة تلميح لا تصريح»، أي أنها لغة مجازية تشطح بمخيلة القارئ الى التورية والاستعارة والدلالات المُوارِبة. وقد يكون مناسباً هنا الوقوف عند المقطع الآتي الذي يسخر فيه هاملت من لغة «أوسرك» المحشوة بالزيف بحيث يقول:A did comply with his dug before a suck it ، يترجم جبرا هذه الجملة على الوجه الآتي: «لا ريب أنه تمسّك بالآداب إزاء ثدي أمه قبل أن يرضع منه!». بينما يترجمها عبدالقادر القط في هذا الشكل: «لا شك أنه كان يؤدي التحيات لثدي أمه قبل أن يرضعه»، في حين أن المعنى المجازي هو «أن الذين ينشأون في محيط البلاط يتكلمون بهذه اللغة العقيمة مذ كانوا في بطون أمهاتهم».
وفي المقطع ذاته يترجم جبرا كلمة Bevy بـ «الفصيل»، بينما يترجمها القط «من هذا الطراز»، ولو أن المُترجمَين نظرا الى النص كوحدة متواشجة لاكتشفا أن كلمة «سرب» هي الأنسب لأن «أوسرك» كان يتحدث عن طائر الزقزاق، وغراب الزاغ، ودجاجة الحرج، إضافة الى المثل الذي يقول «إن الطيور على أشكالها تقع». فالمشهد كله كان معنياً بالطيور وكان حرياً بالمترجمَين أن يلتفتا الى أهمية الكلمات والعبارات التي ترد ضمن بيئتها. كان الراحل جبرا أسيراً للترجمة الحرفية في مواضع كثيرة سنختار منها هذه الجملة المجازية الآتية: A took my father grossly full of bread وقد ترجمها جبرا: «لقد أتى أبي غرّة وهو مليء بخبزه»، بينما ترجمها نيازي «قُضي على أبي حينما كان منغمساً في ملذاته».
ولا شك في أن الفرق كبير في المعنيين. تكمن أهمية ترجمة نيازي في استقرائه القرائن، ومعرفته بالدلالات والإشارات المجازية ضمن النص كوحدة متكاملة يشببها غالباً بالعمل السمفوني المتواشج. قدَّم نيازي حفنة من الكلمات والمصطلحات التي ترجمها جبرا عشوائياً على الشكل الآتي: ترجم حَسَك أو إبر القنفذ بـ «الريش المزئبر» والفأرة بـ «العصفور» ومالك الحزين بـ «الكركي» والضفدع بـ «السلحفاة» ودجاجة الحرش بـ «العصفور» والنخلة بـ «غصن الزيتون» والشعر الجنائزي بـ «الشعر المُرسَل»، والسنونو بـ «العصفور» والتراب الناعم بـ «التراب المحترم»، وكذلك فعل محمود السمرة. لا يجوز للمترجم، بحسب نيازي، المساس بثلاثة أشياء، هي: «المصطلحات، والمفاهيم، والاقتباسات»، فلا ينبغي لجبرا أن يحوّل «النخلة» الى «غصن زيتون» أو الى «الغار» كما فعل عبدالقادر القط في هذه الجملة:A love between them like the palm might flourish. ترجم جبرا Woodcock التي تعني دجاجة الحرج بالعصفور، بينما ترجمها عبدالقادر القط بديك الغابة، وشتان ما بين الترجمتين! ونستنتج من خلال هذه المقدمة الشاملة والعميقة أن صلاح نيازي كان معنياً بالتقنيات التي اعتمدها شكسبير، كما كان معنياً بالمنظورية التي تساعد المترجم أو القارئ في متابعة مسارات النص، وحركته المشهدية المتوترة التي تعززها القرائن والأدلة.