المقاله تحت باب منتخبات في
13/06/2008 06:00 AM GMT
يبدو لي ان الروائي علي بدر مشغول على الدوام بهاجس تفكيك السرد العراقي، والايهام بتخليصه من عقد الأفكار المهيمنة وعقد (الصناعة الواقعية) التي فرضت نفسها على مساحات مهمة من هذا السرد، تلك التي ارتبطت بطبائع الأمكنة والحيوات والعلاقات السرية، وازمات ابطالها المتوغلين والملتبسين مظاهر البطل الحزبي والبطل الشعبي والبطل الملحمي في احيان أخرى، وهذا طبعا لم يكن أمرا سهلا ومتاحا للتنفيذ دون تعقيدات، ليس لان السردية العراقية لاتستسيغ التخلي عن تراكم منجزها الواقعي التقليدي والنقدي وانماط تجريباتها المتعددة، تلك التي اشتغلت على الواقع والافكار اكثر من اشتغالها على الرؤى! بل لان تعقيدات الحياة العراقية وازمة الدولة الثورية العسكرية والانقلابية والدولة الغائبة التي عاشها العراقي منذ عام 1958 وإلى الآن، فرضت لعبتها القاسية في عزلة المثقف الدائمة ومطروديته السياسية والنخبوية، التي وجدت ظواهرها عبر استشراء ظواهر طرد النخب الاجتماعية في مجتمع الخمسينات العراقي، مثلما اسهمت في صناعة ظواهر السجن السياسي والمنفى والاغتيال، تلك التي جعلته خاضعا الى رعب ازمات اجتماعية/ نفسية انعكست على انتاج ظواهر ومراضاة الحنين واللاجدوى والرغبة النكوصية للعودة الى الرحم، فضلا عن طبيعة (اللاوعي الثقافي) النفسي واللغوي والراسخ في تجليات الواقعي السياسي الحزبي الشعبي. لا شك ان هذا النمط من تشكلات الوعي انعكس على طبيعة الافكار المتصارعة، ونمط التجريبات التي وضعت مفهوم (الرؤيا) امام الافكار ذاتها، في محاولة لاستعادة الغائب والمحذوف والمسكوت عنه او محاولة لاعادة انتاج السردي (الوثائقي) عبر حضوره كشاهد، مقابل زيف اللغة الساردة، ولا شك ان حضور (الوثيقة) يعني موت الكثير من (الانوات) المفخمة التي ارتبطت بسرد الافكار وسحريتها، فضلا عن انعكاس ذلك على شروط وآليات الكتابة ذاتها، اذ تحولت الكتابة الى حفر قصدي في آثار الذاكرة او الوثيقة، لان هذه الوثيقة تحمل الكثير من ترسبات الذاكرة او الحدث. يدرك علي بدر خطورة هذا الانزياح عن تاريخ السردية العراقية، والتشيؤ في لعبة مضادة تبدأ بالسخرية من هذا التاريخ اولا، ومحاولة مواجهة تداعياته عبر اصطناع البطل الواقعي لكن المشوه ثانيا، وعبر استخدام ثيمة المكان الاشكالي ثالثا، فضلا عن ان استخدام الوثيقة اسهم في فضح الكثير من مخيالات الواقع وايهامات تزويره في آن رابعا.. ازاء هذا يبدو علي بدر وكأن ثمة قناعة اخرى لديه تقول ان الكثير من هذا التاريخ هو مقحم ومفخّم ويحمل الكثير من الشائعات، وان صيروراته الظاهرة تسحب من خارج الثقافي جرعات عالية من الاوهام و بما يجعلها تقف عند علامات مهمة تخص علائق ابطاله وحيواتهم وهمومهم وانتماءاتهم، تلك التي تؤشر ازمات المكان وازمات الحياة الاجتماعية والسياسية، فضلا عن ما يمكن ان تستحضره من وثائق خبيئة، تحت ضغط التابوات الطاعنة في الجسد العراقي، لكن استحضارها هنا لا يجعلها (متون) ضاغطة، بقدر ما يجعلها تذهب، بعيدا باتجاه ان تكون مبنى حكائياً هو الاقرب الى السرد، الذي يعيد انتاج الاحداث وتشكلاتها وتداعياتها في ضوء ما يجترحه الكاتب من احداث تبدو خارج متن الوثيقة ذاتها. في روايته الجديدة (الركض وراء الذئاب) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2007 وهي السابعة في مشروعه الروائي يواصل لعبته المدهشة في السخرية من تاريخ بطله وافكاره، عبر افتراض بطل آخر يراقبه ويتلصص على هزيمته وضياعه ويتابع يوميات اغترابه خارج المكان النوستالجي، إذ تبدو هذه الثنائية وكأنها محاولة لادانة بطله الواقعي/الحزبي الذي هرب من عقدة المكان الوطني الى المكان الكوني ليعيش ازمة وعيه مجددا. البطل الاول هم المجموعة (احمد سعيد، ميسون عبد الله، الصحافي، جبر سالم) مجموعة الشيوعيين الذين هربوا الى اثيوبيا خلال المدّ الماركسي الثوري الذي اقترح تشكيل الجيش الاممي في افريقيا دفاعا عن انظمة ديكتاتورية بلباس ثوري! والبطل الثاني هو الراوي المثقف العراقي الذي يعيش في امريكا مع زوجته الامريكية وولديه، يعمل في مؤسسة اعلامية امريكية تؤمن بفكرة الصورة والوثيقة/ ادوات تعبيرية عن المراقبة والتلصص، وطبعا هذه الثنائية تحمل توصيفا له مهيمنات ضاغطة تبدأ من سلطة الراوي الذي يزور(اديس ابابا) بحثا عن شخوصه الموهومين العاطلين للتلصص عليهم بالصورة والوثيقة، وتنتهي عند اقتراح صنعه الروائي لتغييب البطلين (احمد سعيد، وميسون عبد الله) خارج المتن السردي والتاريخي، والاكتفاء بحضور الصحافي جبر سالم بمونولوجه الهستيري الذي يشتم فيه الثورة وحلمها ويعترف بخدعته الكبيرة التي وورطته بها الصحافية الاثيوبية (سوسينا)، وكأنه يمعن في لعبة تشويه بطله وخذلانه امام رغباته وانهيار فكرة البطل الموهوم بالثورة . هذه الثنائية تكشف عن وجود الازمة/ ازمة البطل/ ازمة الفكر والثورة/ ازمة الحلم/ ازمة المكان،مقابل اصطناع ايهامات تجعل المكان الوطني غائما شاحبا مستعادا بنوع من الارتياب والريبة والشك. هذه الرواية هي ايغال في لعبة تفكيك السرد التقليدي، ورغم انها تبدو واقعية تقوم على تسجيل احداث معينة، لكنها تتجاوز هذه الواقعية الى توغلات عميقة داخل (المبنى النفسي) للشخصيات وداخل اركيولوجيا الامكنة. فالشخصيات خارج المكان النوستالجي مهووسة ومضطربة غير متوازنة فاقدة لايقاعها النفسي، لاتعيش افراط الحلم بقدر ما تعيش افراط الخيبة، وهذه اشارة الى موت الشخصية الواقعية في السردية العراقية، تلك الشخصية التي اكتشفت موتها امام الصورة والوثيقة، والشخصيات داخل المكان التلصصي متوازنة تمارس فعلها الرقابي (الصورة + الوثيقة) وفعلها الجنسي (علاقته الجنسية مع لاليت واقامتها معه في الفندق) وهذا يقترح لنا شخصية المراقب الذي يصنع وهم الوثيقة. لكنه بالمقابل يبقى مزورا للوثيقة ذاتها، اذ يبتكر وثيقة اخرى تسجل احداثا يفترضها، وهذا مايجعل مفهوم الوثيقة خارج فكرة التسجيل، لكنها داخل عالم يقوم على نمط من السردية التي لاتنمو فيها الاحداث قدر ما تتقاطع (حسب اختيار قصدي) لتناسب الوقائع المتخيلة التي يفرضها الروائي على قارئه، أي ان هذا الروائي لايؤمن ان هناك تاريخاً للحكايات والاحداث والهزائم، اذ انها من صنع مخيلات كبيرة قادرة على ممارسة التلصص بامتياز على حيواتهم الواقعية والسردية.
|