في (مُعجمٌ بكِ) للشّاعر محمّد حلمي الرّيشة |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات
تناولت أوهام فنجاني، بينما أغيب مندهشةً في رؤيا مخضّبة بفتوحات الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة، ومجموعته الشّعريّة (مُعجمٌ بكِ). شاعر ربط حسّه الشّفّاف، باحثًا عن قفلٍ في عمق الرّؤية الشّعريّة لقصيدة النّثر. وجدت ظاهريّة الطّرح متمكّنة بعمله الأدبيّ المتقن، يبوح دون تقليد وتقيّد، بل يفتَّت خطوط العجز والجدل كلّها، بما حملته مجموعته (مُعجمٌ بكِ). المفهوم الجماليّ للغة الشّعر هو ما يهزّ نفس البشر وعقولهم. وما يحدث في هذا العالم من قريب أو بعيد، معاناة كبيرة زمكانيّة، تأثّر المجتمع بها والوضع العامّ لمسار الحياة، وكذلك عيشنا مع عالم اللاّواقع المفروض، بدلاً من أن تكون الحياة نجومًا وأقمارًا تراقص نفوس الشّباب، وتغذّي الأحلام الصّافية. يدهشني، بل تؤلمني همجيّة نحوتات زمننا المعاصر، وكيف يفكّر صنّاع الموت باسم السّلام طاحنين المشاعر؟! ما ستحمله هذه الدّراسة النّقديّة، وكالعادة، التّناغم الجماليّ فيما أبدعه شاعرنا الوسيم، كقصائده التي تشبه الحدائق اليابانيّة، بما تحمله من رقّة وعذوبة، أو كالجنائن المعلّقة وسحرها الأخّاذ. شيءٌ ما متداخل في الرّمزيّة المستخدمة تقودك للشّعور بالألم المطحون، بين سطور هذه المجموعة الشّعرية المعذّبة. سيكون عدم دخولي مدرسة أو نظريّة معيّنة أهمّ وجهة لمساري في التّحليل. سأعمل على التّداخل في مضمون الأفكار التي لها خبرات، قد تكون مختلفة عن مفهوم العالم، نعيشها ونقاسيها نحن دول عالم الثّالث، في مجال الشّعر المعاصر (قصيدة النثر)، والتي تحمل سمات الوجدان وانعكاسات لنظرة الذّات. هي محاولة التحام كامن في نزاهة التّعبير الذي ينسكب في بياض ذلك الفضاء النّقيّ، والإبداع الذي يعتمد على خلق صورة شعريّة فائقة الدّقّة، بمضمونها القائم على ذائقة الشّاعر. الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة عنده القدرة على اغتصاب الغربة الزّاحفة نحو الموت. يُخرجك بقدراته الخلاّقة في غزل المفردة، وإعطائها رمزيّةً في نسيج وحياكة الصّورة الواعية، طليقة في مشاعها، تجمع ندى الصباح برقّته، تحمل الهدوء الذي يفوح عبيره في المفردة بغنج. قصائد لا تخجل من عيون الفضوليّين، إنه مُطّلعٌ على أسبابِ التّجاوز، فاهمٌ كيف يدقّ إسفين صوت دليل شعورنا ببعضنا، آخذًا بالمثل القائل: "ازرعْ غصنًا من الخير، قد يأكل من ثمره حفيدك، أفضل من أن تترك البلاد جرداء"، لأنّ أيّة بداية في لحظة معيّنة، تساعد على خلق لحظة إبداع في زمن آخر، أو قد تكون مجرى لأساس جديد، فالشّعر جزء من فنون أخرى ابتدعها الإنسان كي يقول للآخر: "أنا أبدعت بما أنجزت، فهل لك مثلي؟". لم أحمل سلاحًا، فالموت لا يمثّل الحياة، بسلامٍ نفّذتُ فكرتي التي أريد، بإحساس جسدٍ تألّم وتداعى خياله، بتفاعل عشتُ القضيّة، غيّرتُ البطش، بريشتي وإزميلي وقلمي رسمت ملحمتي، نحتْتُ إلهامي، أبحرتُ بزورق أفكاري، بعقلٍ دافعتُ عن مصيري، رسوماتي هي حارس كهوفي، ألواحي الطّينيّة شهدتْ على مقدرتي وقدراتي، وقد أذِنتْ لي طقوس الشّعر بممارسة إبداعي. بشعورٍ جماليٍّ، أضاف الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة إلى سمات أسلوبه ذاتًا فوق ذوات. قلَّبَ جمال أفكاره بلحظةٍ عاصفةٍ أدهشتنا، أثار الرّغبة في الحزن والفرح، بصورة عجيبة مميّزة، خرجت من صميم أعماقهِ ومحيطهِ، جاء إبداعه من عدم تخلّصه من انتمائه. انطلاقًا من هذا، يُشعرنا محمّد حلمي الرّيشة بالتّخاطر في حدائق صحرائِهِ، قاضمًا قهرَ الرّجال، لا يقصد خضوع المرأة الموصومة بحوّاء، حاذق ببراعةٍ، يذلّل انثيالات المفردة بغزوٍ جديد، يعالج العقم الفكريّ بذوق أصيلٍ غير مهزوز، مكتسِبًا جاذبيّة حين ينتقل بين اختصاراته النّوعيّة. يقول في قصيدته "رواغ": لا تَدَعِيهِ يَشْعُرُكِ - هذِهِ اللَّيْلَةَ - أَنَّكِ وَحْشٌ ضَئِيلٌ وَجَنَازَةُ سَرِيرٍ أَعْمَى ! الرّواغ إمعانٌ في التّربّص، وتعمُّدٌ في الغدر، انقلاب في ظلماء ميّتة. ومنطقيًّا؛ يقف اللاّمنطق في الرّمز الشّعريّ موقف الضّدّ. هذا ما يغمرنا به ناب قصائده بالمعنى اللّغويّ، وبحركة لولبيّة، يناقش ما يثير الحياة في مكمن صفاتها: البَيَاضُ الَّذِي هَبَّ فُجْأَةً - مِنْ فَرَاغِهِ - لَمْ يَكُنْ يَسْتَطِيعُ ابْتِلاَعَهُ بِلَمْسِةِ عَيْنٍ يَتِيمَةٍ وَبِأَرْمَلَةٍ سَودَاءَ مُبْهَمَة ! تحذُّرٌ موزون بعناصر التّناغم المترابطة، بجوهر الشّيء من ارتفاعات النّفس صعودًا بالزّمن، ممسكًا بيده نثرَ زجاج حادّة التماعاته، كلآلئ الموج الفضّيّة حين ينعكس عليها ضجيج الشّمس: تُحَاوِلُ ابْتِلاءَهُ بِقُصْفَةِ صُرَاخٍ مُمَغْنَطَةٍ لكِنَّهُ .. أَصْبَحَ أُذُنَ ارْتِيَابٍ ثَرِيٍّ ، وَلِحُزْمَةِ مَا سَخِرَتْ مِنْهُ أَسْلاَكُهَا الرَّطْبَةُ لَمْ تَعُدْ تَصْلُحُ حَتَّى لِنَشْرِ غَسِيلِهَا الأَبْكَم ! التّفاعل الإنسانيّ تصطحبه انقلابات زمنيّة في قصيدة "خشخاش". عنوانها يفتح ما يدور عند الشّاعر من تنوّعٍ متناغم، وكما يُعرف الخشخاش أنّه نوعٌ من أنواع الزّهور الجميلة، وما تحمل من دلالات عناصرها، بل رائعة الجمال، يستمدّ من عنوانها اختياراته في الذّوق السّامي، ناسجًا قاموسه الشّعريّ بحفاوة، يَعْلم مأساة نسيجه النّاضج، قوامًا بقولهِ: أُقَلِّمُ شَوْكَةَ الغَسَقِ بِكِتَابِ الحَنِينِ .. مَا مِنْ مَسَاءٍ إِلاَّ وَأُخْدُودُهُ نَافِرٌ كَنَصْلٍ أَعْشَى - إِذًا ؟ - ... انتماءٌ مدغمٌ بفكرة التّوحّد بالجمال، نافذًا بجاذبيّة العقل القامع، عرقلةَ الخطوط الشّخصيّة المقاوِمَة، تتّفق مع حقيقة شعوره، يعطينا حرّيّة فهم الحالة، متذكِّرًا، أنّه لا بدّ من استمرار الحياة، حتّى لو وُلِد بدون مشيمة تُقَوّي من عزمه: تَذَكَّرْ .. - أَيُّهَا الغَامِضُ فِي فَرَاغِ رَحْمٍ - : هاأَنَذَا أَشُدُّكَ إِلَيَّ بِصِيغَةِ حَامِضِ نَهَرِي ؛ ذلِكَ الَّذِي يُسِيلُنِي مَقْذُوفًا نَحْوَ مَتَاهَةِ فَرَاغ حالةُ موتٍ تعمل على إنعاشها بعد رجّةٍّ، قد تزيد من ارتعاشات الوجد التي أصبحت كحالة جنسيّة لا طعم فيها، حين تكون لحظاتها مغتصَبَة، غريزةٌ منكوبةٌ بجمود لذّتها، فاترةٌ من كلّ شعور: كَأَنْ لَمْ يَكُنْ صُبْحٌ سَيَأْتِي - ذَاتَ نَوْمٍ - ؛ بِدَوَرَانِ بَيَاضٍ حَوْلَ بِذْرَتِهَا أَوْ .. بِاهْتِيَاجِ ثَغْرٍ مِلْءَ وَرْدَتِه! تحت سيقان الخشخاش يرفض الموتَ وعتمتَه، يتأوّه بنكهة الخشخاش، فوق جفافٍ لا يعرف الشّمس، لا بدّ أن تصيبَه العفونة، ثم يعدم نفسه أمام خيانة، منحتْه خشونةَ الموقف، فاعتمد بريد السّرّ، وأصبحت المسافة معدومة داخل الشّكّ بنفسهِ: وَلَمْ نَكُنْ أَحَدْ! يواكب تحدّياته الشّعريّة بوسائل معاصرة للحقيقة المعيشة، بذاتٍ لا تعرف أبدًا الانحناء، أبعد ما يكون عليها الوصول للطّريق بتآكل الزّوايا. هياجٌ في الفكر والتّاريخ إلى آخر القصيدة، يمرّ بتضاريس بيولوجيّة طبوغرافيّة في قصيدة "رغوة"، والتي تحمل جنونًا أمتع جوف الانزياح: لاَ أَحَدَ يَشُدُّهُ إِلَيْهِ فِي مَسَائِهِ الضَّيِّقِ فَحِينَ وَصَلَهُ انْتِظَارُهَا رَأَى الفَرَاغَ يَتَفَرَّسُ مَلاَمِحَهُ وَسَمِعَهُ هَمْسًا : كَأَنَّهُ ... هُوَ! ما دامت هناك أسرّة للقبور، يبقى المساء نافرًا، والعقيدة قائمة يحنّطُها القصور المُعتم. إسقاطاتٌ ينمّيها عالم القهر، تُقام عليها أضرحة الإدراك، والقصيدة "زوال" تزأر لأخذ البَرَكات: سَتَذْهَبُ [ ذَاتَ يَوْمٍ مَضَى غَدُهُ ] إِلَى جُمْلَتِكَ المَرِيضَةِ؛ تِلْكَ الآيِلَةِ إِلَى عَادِيَّةِ البَسْطِ تَحْتَهُ، كَخُشُوعِ شَمْعَةٍ مُشْرَئِبَّةِ الذُّبَالَةِ، وَالْتَتَنَفَّسُ بِخَيَاشِيمِ وَرْدَةِ العَتْمِ الضَّئِيلَةِ، تعلّمتِ الإناث الصّوم على الشّوك، يحلمن بضوء أو شعاع، يفتح حقب الثّقوب الوهميّة. والشّاعر هنا، يعتمد حالة استنباط، مستخدِمًا السّبب في الارتباط بصورة نسَقيّة لفكرهِ. الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة، يؤرّخ طريقًا لإحساسه المتماسك للافتراضات، وانشغالاتُه تَدفع بتأثيرها العظيم: سَتَرَى كَمْ كُنْتَ شَقِيًّا وَصَالِحًا لِلتَّوَهُّمِ، مِثْلَ زُجَاجِ حَدَقَةٍ أَعْمَى.. أَيُّهَا الشُّعُورُ بِهَا! كصيحةٍ مبهمةٍ في سماء، أغلقتْ آذانها عن طلبِ سبق، وإن كان الجدل فيها طويلاً. ثعلبةٌ مزدوجةٌ تلك القصيدة، قمّةُ الدّيوان لِما تحمل من مفاتن لم يعلن عنها بعد: كَخَجَلِ ثَمَرَةٍ تَتَعَاذَرُ قُبَيْلَ لَمْسَةِ النُّوَاةِ.. فَكُنْ حَيْثُ لاَ تَكُونُ، وَلَوْ بِضَجَرِ ثَعْلَبٍ يَلُوكُ مُخَيَّلَتَهُ، وَبِرَخَوِيَّةِ أَعْضَائِهَا تِجَاهَكَ، فَقَطْ.. أَيَّتُهَا الشَّرِهَةُ اليَابِسَة! تحمل مزدوجته هذه في طيّاتها، كثيرًا من الأبعاد الرّغويّة في قلب الجسد، يكفي أنّها لعنةُ الدّفء، مكابدةٌ نضجت في غير مكانها، يوشّحها الحزن، وقد غزلتْ لمخادعها ألوانًا من الغضب. ربّما النّفس تبقى فيحاء، ربّما تقطع حبلَها السّريّ. فلغةُ الجنس ولغةُ الحرير، ابتكارٌ لمضمونٍ يُخفي التّقطّع، وفقدانُ الإنسان أسباب عناصر وجودِهِ، منسلِخًا بالتّرقيم ثمّ التّفريق، هو قمّة المكابدة، وتفسيرٌ رمزيٌّ واضحٌ في استمداد المفاهيم: إِذًا: سَتَخْرُجُ مِنْهَا؛ لِتُوْلَدَ دُوْنَ حَبْلٍ سُرُّيٍّ يَلُفُّ فِكْرَتَكَ الطَّائِشَةَ الجَمَالَ، فَلاَ فُسْحَةٌ فِيهَا؛ لِتَقُوْدَ عَصَاكَ نَحْوَ انْفِرَاجِ مَرْمَرِ العِتْقِ، ثَانِيَةً، مِنَ انْكِمَاشِ نِدَائِكَ المُتَكَرِّرِ، لَوْثَةً إِثْرَ لَوْثَةٍ، نشاهد تشظّي العقم المقيت، تأويلٌ له تحليلاتٌ أخرى، للبُعد المطلوب والموجود في صياغة المقطع، واقعٌ في مهمّة التّحديث في خطوط القصيدة. مُجمَلُ ما يريد قوله، أو البوح به في قصيدة "سأم"، إنّهما سيّان؛ جمالُ الوطن وجمال دفئِها، ولا بدّ من افتضاح أمريْهِما، فهي أنقى من الصّفاء، والوطن أغلى من الرّوح: حِيْنَ رَفَعَتْ كَأْسَ الغِيَابِ إِلَى غَيْبُوبَةِ فَمِهَا لَمْ تَكُنْ لِتُدْرِكَ أَنْتَ / حِيْنَهَا / مَنْ يَشْرَبُ مَنْ ؟! تداخُلُ ملَكاتٍ لنغمةٍ واحدةٍ، عَرَجُ شوقِها يُهدهد مللَ أرضِهِ بالقّوّة نفسِها، زمانًا ومكانًا، وفي روحيْهِما تتعالى قوّة شوق شديد. الشّاعر لا يريد تعطيل خضرةٍ باسقةٍ، تقوم ظلالُها على الشّاسع من ضياء النّهار، لكن هناك صُفرةٌ ناشطةٌ تأكل أماني المستقبل، بحاضرٍ مقهورٍ متكرّرِ المِحَن. نجد ذلك في المقطع السّابع من القصيدة "سأم": تَفْجَؤُكَ بَعْدَ انْهِمَارِ سُعَالِ الأَصَابِعِ ، وَانْهِيَارِ سَيْلِ الأَسْئِلَة : / - كُنْ ضِفَّتِي الوَاحِدَةَ .. لكِنْ / دَعْ مَوْجَكَ فِي خِزَانَةِ الثَّلْج! دروسُ السّقم بهذا الجنون لدرجة المستحيل، حتّى يصل الأمرُ فقدانَ العقل، تُحيلُك قصيدة "جويس" إلى درجات الهلاك، وبداية النهاية. هو يعلم أنّ لا مجهول للمسبّب، حضور يقود إلى نتيجة متمثّلة بالسّلبيّ، حيث الجلوس تحت ظلّ الخوف، تعاقرُه متخطّيًا ثواني القلق المطحونة: تَ هْـ بِ طُ سَلاَلِمَ الأَمَلِ دُفْعَةً تَتَكَرَّرُ مِثْلَ مَوْجَةٍ تُتْقِنُ دَلاَلاً عَلَى خَلِيجِ دِلْتَاهُ .. تُسْرِعُهُ بِاضْطِرَابِ نَظْرَتِهَا المَائِلَةِ كَأَنَّهَا تُطَارِدُ حَلَقَةَ دُخَانٍ بِشَهْوَةٍ عَرْجَاءَ وَ .. سَاقَيْنِ مِنْ طَمْيِ خَزَف! ماذا تقول لمن صبغ لحظات اليوم؟ لأفئدةٍ وجِلةٍ تعيش مذابح، منذ شهقت بأوّل حلمة لثمتها أفواههم؟ يولدون أقمارًا بوجوهٍ طريّةٍ منطلقةٍ بصراخاتٍ مثلومةٍ. هكذا نجد المقطع الخامس من قصيدة" جويس": " مَكَائِدُ يَدَيْكَ العَمْيَاءُ فَوْقَ نَهْدَيَّ المُرْتَعِشَيْنِ الحَرَكَاتُ البَطِيْئةُ لِلِسَانِكَ المَشْلُولِ فِي أُذُنَيَّ المُجَيَّشَتَيْنِ لِلْعَوَاطِفِ كُلُّ فِتْنَتِي الغَارِقَةُ فِي عَيْنَيَكَ دُوْنَمَا بُؤْبُؤَيْهِمَا المَوْتُ فِي بَطْنِكَ وَهُوَ يَلْتَهِمُ دِمَاغِي كُلُّ هذَا يَجْعَلُ مِنِّي آنِسَةً غَرِيبَةً"* ها أَنْتَ إِلَى زَوَالٍ - مِثْلَ دَبَقٍ تَعَرَّشَنِي خِلْسَةً - أَغْسِلُهُ بِعَضَّةِ القَلْبِ .. ها أَنَا - فِي انْفِلاَتِكَ - بَقِيَّةٌ كَامِلَة! الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة، يعاقر خمر عذابهِ الذي أدمنه، منذ فتح شموع حدقتيْه لصوتها، صاحَبَ نموُّ عثراتِهِ عودَه الزّبديّ، مَا قادَ نهرَ شبابِهِ إلى النّضج الكامل، قبل أن يكون جنينًا في رحم الألم. في قصيدة "لألأة": فُجْأَةُ الأُذُنِ الثَّالِثَةِ طُيُوبًا يَ نِ زُّ الأَثِيرُ ... تَوَاصَلْ أُفُقِيًّا أَيُّهذَا الأَلَق ثم يسحبنا إلى المقطع الرّابع بطريقة عجيبة: نَوْمُ صَحْوَةٍ فِي غِشَاءِ حُلُمٍ ... بُسْتَانُ أَرِيكَةٍ مُسْكِرَةٍ تَنْتَظِرُ كَأْسَيْنَا حَتَّى ثُمَالَةِ الخَضّ كأنّه جالس على حافّةِ العشقِ المدهونِ بشحمِ أفعىً امتصّتْ دماءَ الورود، آخذةً منها الحبّ لجنسها، عمرٌ مفقودٌ تعجّ به الدّيار، تاركةً ساعاتٍ سودًا، آثارُها باقيةٌ بين عشبٍ يعاصرُه دغلٌ ممتدٌّ إلى أبعد زمان، مثخَنٌ بالوجع المستَباح، يُعيد الإنسان مرّات ومرّات إلى الوقوف والتأمّل: مَعًا نَنْحَنِي نَحْوَ مَهْبِطِ الغَيْبُوبَةِ كَيْ يَنْتَصِبَ فِينَا الدُّوَار كيف تُعرِّف شيئًا لا يُعرَّف، كالهواء والإحساس؟! هذا ما يريد الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة تعريفهُ. الشّعور عند البشر ذوي الحساسيّة، يمثّل ما يخلقونه من إبداع في الشّعر، منذ أوّل صرخةٍ تنطلق من أفواههم، يكّْبُرُ معنا الإحساس بعدّة اتّجاهات واختلافات. قصيدة "حواس" رمز التّواصل الحرّ، فتحت بين الشّعر والشّاعر مسافاتٍ: كُلَّمَا .. وَقَعَ الصَّمْتُ حَوْلِي كُلَّمَا .. تَحَسَّسَتْ أُذُنِي وَقْعَ خُطْوَتِكِ القَادِمَة! التّفاعليّة موجودة في محاورة النّفس، توغّلٌ في الجذوة من الإحساس، بياضٌ مندرجٌ فوق الخصوصيّة بهذه الصّور: إِشْرَاقُ وَجْهِكِ كَانَ مِرْآتِي نَظَرْتُ فِيهَا بِعَيْنَيْنِ مِنْ أَمَلَيْنِ لأَرَانِي .. فَكُنْتِ أَنْتِ! ترقص الكلمات داخل إطارٍ من نور، الزّمن أوشك أن يدقّ براكين الصّمت، حتّى الهواء أصبح في نظر الشّاعر رخوًا. أوضح ذلك التّفاؤل في قصيدتهِ "حواس": كَأَنْ كُنَّا نَبْحَثُ عَنَّا .. كَأَنْ كُنَّا نَسِيرُ إِِلَيْنَا .. كَأَنْ لَمْ نَفْتَرِقْ غَدًا إِلاَّ لِوَعْدِ الأَمْس! في قصيدة "نشيش" هياجاتٌ والتحامات، تَصَدٍّ وتصدّعٌ وتفتُّحٌ وانغلاق، توثُّبٌ وتشهّداتٌ تنوح بمفاتن نقوشِها، ما تكاد تنفكّ خطوط، حتّى تعود عليك بالتّمعّن، كي تتوصّل إلى الوضوح من جديد، حيث تجد في هذه القصيدة صورة، من صور الحلم المنبثق لأسمى معاني الجسد الجماليّة: كَأَنَّكِ طِفْلَةٌ تَعِدِّينَ بَاقِي المَسَافَةِ .. كَأَنِّي طِفْلٌ أُعِدُّكِ شَهْدًا لِشَفَا شَفَتَي .. كَأَنَّا طِفْلاَنِ كَبِيرَانِ يَهْبِطَانِ العُمْرَ إِلَى أَوَّلِه! صِيَغٌ جماليّة يبدعها الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة، ليأخذك إلى فضاءات مشرقة من لذيذ هذا العمر المنسكب على الحياة، ممجِّدًا شعائر الحبّ في المقطع الخامس من القصيدة: بِصَلِيبِكِ وَدُعَائِي ؛ أَقْلَعَتْ عَنْقَاءُ الشَّوْقِ بِرَفِيفِ أَجْنِحَتِنَا / نَحْوَ مَحْمِيَّةِ الوَجْد! في قصيدة "نشيش" يرسم لمخيّلتك ألف مَنْفَذ، جاعلاً نهارك خاليًا من أيّة حرقة، لو تابعت حركته اللّولبيّة، ودخلت معه مواطن الخيال، ستجد نفسك تذوب رعشة، وتطير بجنح فراشة، وأنت ترتشف عسل الكلمات حتّى آخر مقطع من القصيدة: ثَانِيَةً أَؤُوبُ إِلَى وَحْدَتِي الطَّائِشَة ؛ كَأَنِّي تَأَخَّرْتُ عَنْهَا بِضْعَ أَرَقٍ / فَرَاغٌ آخَرُ اسْتَقْبَلَ شِبْهَ انْتِهَائِي! "اختزال"؛ هذه القصيدة من عنوانها تُبْحِرُك في عالم ميتافيزيقي، وشيء من الصّوفيّة، أو توصِلُك حدَّ التّوحّد لوصول حالة التّعلّق بالشّيء المفقود، ثمّ تجسيد الخيال الضّمير، كما فعل (هتشكوك) في أفلامه: آنَ لِي [ بَعْدَ انْخِطَافِي إِلَى بَرْزَخِ الحُلُمِ ] أَنْ أَشُدَّكَ خَصْرًا وَحَصْرًا نَحْوَ لُغَتِي كَيْ أَتَهَجَّاكَ ، وَتَبْقَى أَبْجَدِيَّتِي المَالَ عَرْشُهَا إِلَى صَوْتِ صَادِ الصَّبَابَةِ وَبَلِيغِ بَائِهَا قصيدة "اختزال"، كموجات البحر وفقاعاتها تحدو بك إلى الوهم في تقلّباتها؛ ما أن يدخل رأسك دوار البحر، حتّى تغرق في صوفيّة العشق الأبديّ، ولم تستطع الانفلات من ذلك الانجذاب الموحش، والمتشابه جدًّا بالسّراب، فتبقى مدفونًا في خشونات أخرى من موجات تصطادك: سَأَصْطَادُ سِرْبَ خَيَالاَتِكَ بِخَدْشَةٍ طَائِشَةٍ أُضَفِّرُهَا بِدُوَارِ العَاطِفَةِ أَعْجِنُهَا بِمَحْلُولِ الحَنِينِ وَأَدَعُ رُؤُوسَ أَصَابِعِ الانْتِظَارِ تَُنْقُرُ عَلَى صَهْوَةِ الوَقْتِ ثَانِيَةً : أَمَا آلَ لِي! في قصيدة "أشياء"، يوجد استحداث لغويّ للذّائقة الشّعريّة، هيمن على تفاصيل أنماط التّعبير فنّيًّا، أشاع بحكم شهوانيٍّ احتواءً نفسيًّا للشّعر، بقدرةٍ معرفيّة، نجدها في المقطع "كاميرا" من القصيدة: الكَامِيرَا الَّتِي أَخْفَتْ عَيْنَيْكِ عَنْ الْتِقَاطِهَا أَحَسَّتْ بِحِسِّ أَنْفَاسِي؛ أَلْقَتْ عَلَيْهِمَا غِشَاوَةَ سَهْوٍ إِذْ خَزَنَتْكِ فِي أَحْشَائِهَا لِتُظْهِرَكَ لِي كُلَّمَا [دَائِمًا] تَقَوَّسَتْ مُخَيَّلَتِي وَاشْتَدَّ سَهْمِي! توطّؤٌ جريءٌ واستدلال أسطوريٌّ، مظهرًا الإبداع الجماليّ في مفارقات التّفاصيلفي المقطع "شاي": هَيَّأْتِ كُلَّ شَيْءٍ لِنَشْرَبَ شَايًا مَعًا؛ إِنَاءً وَمَاءً وَسُكَّرًا وَمِلْعَقَةً صَغِيرَةً وَكُوْبَيْنِ فِي بَيَاضِ عُرْسَيْهِمَا.. لكِنْ كَيْفَ صِرْنَا نَدُورُ [مِثْلَ بَرْدَانَيْنِ] بَحْثًا عَنْ قَبَسِ حَرَارَةٍ أَوْ كُوَّةِ نَارٍ فِي الجِدَارِ؟ حِينَهَا؛ ضَحِكْنَا قَلِيْلاً، وَذُبْنَا مَعًا بِارْتِشَافِ انْتِشَاء! لقّح القصيدة بعفويّة، ترك روحه موغلة في عالم الشّعور باللّحظة، مغلّفًا معاناة النّفس وخفقاتها في الوصول لمبتغاها، تاركًا تساؤلاتها قائلاً في المقطع "لآلئ": وَبَعْدُ.. أَشْيَاؤُكِ القَلِيلَةُ الَّتِي انْتَثَرَتْ [لآلِئَ تَجْرَحُ بِلَّوْرَ ذَاكِرَتِي] عَلَى سَطْحِ اغْتِرَابِي، كَانَتْ كَثِيرَةً عَلَى ضَعْفِ احْتِمَالِي أَمَامَ سَطْوَةِ خُلَّبِهَا.. إِنَّهَا لَمْ تَزَلْ؛ تَطْفُو لأَشْهَدَ غِيَابَكِ، وتَغُوصُ فِي أَعْمَاقِي لأَكْتَشِفَنِي فِيكِ، كَأَنَّهَا المَرَّةُ الأُوْلَى كُلَّ مَرَّة! قصيدة "جنوح" تحمل نوعًا من الإشباع، لطبيعة ثابتة، الطّفولة ساهمت في تكوينها، الصّراع واللاّشعور مشاهدان جلبا الويل، تمكّن الشّاعر من عنوان القصيدة، أن يطرح استبعاد الماضي، ويخلق الجديدَ: كِتَابَانِ نَحْنُ ؛ بِوَرَقةٍ وَاحَدِةٍ لِمَوْضُوعٍ وَاحِدٍ : أُحِبُّك .. بِكَافٍ مَفْتُوحَةٍ هِيَ أُفْقُنَا ، وَذَاتُهَا بِالْكَسْرِ انْحِنَاءً فِي العُبُور! طاردًا الجمود من صنوف القصيدة، يعالج الشّاعر جانبًا من الحياة، آتيًا من النّاحية الجماليّة. انصهارٌ في هيكل الثّقافة يتنقّل في فضاء البياض النّاصع للحياة والنّفس، نجد ذلك في: البَيَاضُ الْكَانَ ؛ لَمْ تَكْتُبْ عَلَيْهِ الرِّيحُ يَأْسَهَا أَوْ تَتْرُكْ شَرْشَفَ الغُبَارِ يُمْلِي عَلَيْهَا إِقَامَتَه! يُدخلك رائحةَ الابتسام، يفكّ عروة الأجداد؛ اختلافٌ واضحٌ بين مقوّمات أفكارهم وأفكار العصر، إسقاطاتٌ أنموذجها متأصّل، كأنَّهُ يريد القول: يمكننا تفصيل ما يناسب ذوقنا: لَمْ أَزَلْ أَتَذَاكَرُ انْمِحَاءَ بَعْضِ البَيَاضِ : كَيْفَ مَدَدْتِ جُنُوحَ صَوْتِكِ بِصِيغَةِ الآهِ إِلَى أُذُنِي الفَاتِرَةِ ذَاتَ ضُحَى الرُّوحِ فَـ تَ سَ ا قَ طْ تُ فَوْقَ بَ يْ نِ ي بِكُلِّ وُضُوحِ شَغَفٍ لِصُورَتِكِ الغَامِضَة! بمفهومٍ منسوجٍ من وحدات حياتنا وواقعها، يعزّز استجماع أجزائِنا، باشتهاءٍ لذيذٍ من أعمارنا يوقعها بنظرة ذاتيّة، شغَّلَ مفرداتِها العذبة كزنبقة تفوح بعطرها: بِرُؤُوسِ أَصَابِعِ الوَلَهِ خَطَّتْ فَوْقَ صَدْرِ شُرُوقِي هَبَّةَ أَرِيجِ أَنْفَاسِهَا الأُوْلَى وَبِرِيشَةٍ عَطْشَى غَمَسْتُهَا فِي رُطُوبَةِ دُوَاتِهَا فَاشْتَعَلَتْ تَلأَلُؤًا مُنْذُهَا أَنَا لَمْ أَكُنْ أَنَا وَلَمْ أَزَلْ أَعْتَرِينِي تَبَرْهُنَ يَقَظَة! الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة متوحّد متوقّد، حُرٌّ كالنّار، تسكنه مثل غيره احتراقاتٌ لا فائدة من إخمادها. في قصيدة "لُجأة"، نجده ماسكًا إزميله، يعمّق شقَّ التّمثال من قبالتهِ، لعلّهُ يصل حدَّ الصّورة بدقّة فائقة: يَبْدَأُ اللَّيْلُ مِنِّي ؛ عَتْمَةَ تَمَاهٍ بَيْضَاءَ لِيَنْتَهِيَ نُوَّارُهُ فِيكِ! بعد أن تبيّن أن لا أمل من الحفر، وأن لا بدّ من الاستمرار، وبدل مجادلة القشور، حاول إحياء المضمون في قواعد العمليّة الجنسيّة المغبونة، صارخًا بما لا بدّ من استحسانه: لاَ تَغِِيبِي لَيْلَةً أُخْرَى يَبْدَؤُنِي كُحْلُهَا ؛ غِشَاوَةَ غَشْيَةٍ .. سِتَارَةَ سَدِيمٍ .. وَجُمْلَةً جَامِحَةً .. لَكِ، الآنَ، أَنْ تُعِيدِي تَرْتِيبَ فُسْحَةِ فُصُولِي : شِتَائِي اشْتِهَاءً خَرِيفِي خَفِيفًا رَبِيعِي رُجُوعًا صَيْفِي انْصِرَافًا لكِنْ .. إِلَى خَفِيضِ فَصْلِ وَصْلِكِ الطَّوِيلِ! في قصيدة "كتاب"، تجد تمازجيّة منفلتة عن تساؤلات تفوح منها رائحة الدّوامة، مأساة حياة خرجت من حدود التّحوير والتّعديل، نارها عكست حروفًا أوغلت في مسح السّطور، يحادث فيها دواخل الدّواخل. سأفرد هنا من القصيدة بعض المقاطع متفرّقة حسب رؤياي، بغضّ النّظر عن فضاءات القصيدة: هُوَ فِي مَتْنِهِ مَتْنِي! ... أَنَا أَعْزِفُهُ خَفْقِي! ... أُفَتِّحُهُ قِرَاءَةً وَاحِدَةً! ... أَلْثُمُهُ صَفْحَةً .. صَفْحَةً! ... أَسْئِلَةً أَكْثَرَ بِاتَ حِضْنِي! ... أَنَا تَحْتَ ظِلِّ سُطُورِهِ! ... كَانَ ثَمَّةَ افْتِرَاضُ امْرَأَةٍ تَتَشَبَّثُ بِحَوَاشِي قَلْبِهِ .. الآنَ ثَمَّتِي أُنْثَاهُ! هكذا كانت قراءته لخطوط كتابه. كأنه يقول: سأصدر غضبي حول مربعات الشقاء. قصيدة "اشتراق" تحمل حالة أخرى من الزمكانية الحديثة، حيث معاناة النفس البشرية تكمن في فكرة (فرويد) والكبت الجنسي. في المقطع الأول "زمن" من القصيدة: كُلُّ الرُّخَامِ الحَلِيبِيِّ هذَا الَّذِي يَخْتَبِئُُ أَمَامِي الآنَ لِمَ لَمْ أَكُنْ لَهُ أَزَلاً وَيَكُونُ لِي أَبَدًا؟ تساؤلٌ غريبٌ مفتوحٌ على أوجه عدّة. في المقطع "مفازة يثبّت صورة، هي نوع من الصّراع في وجه قوافل من معوّقات حرّيّة الإنسان، وقتل طموحاته الجسديّة: مُشَظًّى بِالظَّمَأِ مُوجَعٌ بِالجُوعِ أَحْضِنُنِي اشْتِرَاقًا كَأَنِّي رَعْشُ رَمْلٍ! تشاهد في المقطع "ترويض" من قصيدة "اشتراق"، أنّ توصيل المعاني غير مباح. الأنين يعتلج الكلّ، ولكن من يستطيع إطلاق الحقيقة؟ عالمنا أصبح يمجّد الخوف والموت، حيث يقول: أَذُوبُ حَتَّى آخِرِي كُلَّمَا اسْتَرَاحَ عُصْفُورُ صَوْتِهَا لَيْتَ تَكْفِي الأُذُنُ وَحْدَهَا عِلاَجًا كُلَّ نَأْيٍ ! مجموعة "معجم بكِ" تشبه السّبحة المتعدّدة الجواهر، كلّما انتهى القارئ من تفقّد إحدى حبّاتها، متمعّنًا في قيمتها، احتضنت يدهُ الأخرى قصائد المجموعة التي تهدف إلى نضوج حركة فكر الشّاعر، بتمريرها على مصوّغات العمل الإبداعي. في قصيدة "رنين" تشعّب جديد في فنّيّة الصّورة، وتحريك المضمون نحو مسوّدات بيضاء. نسق خاصّ بالشّاعر في رمزيّته للرّقم سبعة في جميع مقاطع القصيدة: سَبْعَةٌ .. وَتَطِيرُ رَشَاقَةُ الأَثِيرِ، بِخِفَّةِ الوَلَهِ، أَقْصَى مَا يَضِجُّ الشَّوقُ بِنُضُوجِ وَخْزِهِ، فَيَفْرُكُ الحُلُمُ أَسْئِلَةَ عَيْنَيْهِ هَرِعًا مِنْ غَبَشِهِمَا نَحْوَ أَجْوِبَةِ هُتَافٍ صَافٍ! نجده قاصدًا بتلك العنونة شيئًا من الالتماس في محتوى فوارق الرّقم، قائمًا سبات المفهوم للرّقم نفسه. يصف بدقّة الألم الواقع على مساحة الحياة: سَبْعَةٌ .. وَتَتَكَوَّرُ طِفْلَةً مُبَلَّلَةً بِلَثْغَةِ أَنِينٍ تَحْنِيهِ حُنُوًّا حِينًا، وَحِينًا يُشَابِقُهَاِ قَسْوَةَ بَوْحٍ، دُونَ تَعَمُّدِ اكْتِرَاثٍ، رَغْمَ تَوَاتُرِ نِدَاءِ الأَلَمِ! إنّه العجز في التّخلّص من كسر القيود، رغم المحاولات المميتة في استنهاض الرّغبة بدفع الوهن. نجد هذا واضحًا في المقطع السّادس من القصيدة نفسها: سَبْعَةٌ .. وَيَرْتَجُّ تَخَاطُفُ هَاتِفَيْهِمَا، كُلَّ مَرَّةٍ، بِلَحْظَةٍ تَتَشَابَهُ .. تَنْتَشِي أَنَاقَتُهُمَا أَمَامَ مِرْآةٍ لاَ مَاءَ فِضَّةٍ تَسْتُرُ عُرْيَ زُجَاجِهَا .. مَحْضُ قُبْلَةٍ : مَا مِنْ زُجَاجٍ كَان! كباقة زهور تطلّ علينا قصيدة "نعاس"، بأكفّ صباحاتها تصبّ مفهوم النّعاس: طَرَّزَتْ وِسَادَتِي بِتَنَاثُرِ رَائِحَتِهَا .. أُحَاوِلُ لَثْمًا نَسْجَهَا زَنْبَقَةً! البوح لعالم أصابه التّضعضع، بعفويّة صادقة، وبنقاءٍ قرير يريد التّوافق بين اللّغة والفعل، يودّ جمع شتات يغرق: مَسَاؤُهَا رِدَاءُ عَتْمَةٍ تَنِزُّ نُورًا .. تَتَعَرَّى أَوْرِدَتِي لِدِفْءِ مَذْبَحِهَا ! صراخٌ نظيفٌ وبكاءٌ أليمٌ من صوتٍ يسقي العجز بالحبّ كما يشتهي، لا بدّ من تعميم هذا الكون بألوانٍ أخرى، أكثر رقّة: لِوَرْدَتِهَا ذَوَبَانُ سِحْرٍ شَهِيٍّ .. شَائِكَةٌ رَغْبَتِي بِشَوْكِ غَيْبُوبَتِي! تَتَثَاءَبُ دَلاَلاً كَغُنْجِ قِطَّةٍ تَتَعَاذَرُ .. تَتَوَاثَبُ رِقَّتِي قَسْوَةً فَوْقَهَا! التّعبير عن صورة تعكس نفحات الجنون المختبئ بين ثنايا ذاتيّة معذّبة، شكّلت جماليّة بعيدة النّظر في قصيدة "نعاس". أمّا قصيدة "بياض"، يشاهد الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة بياض العشق، والعشق هنا ليس عشق القلب، بل عشق العقل، لأنّه يحادث أدوات الحياة، ومصمّمي معالمها، وما تلقيه على مفرداتها الإنسانيّة، التّعلّق بها حدّ العشق والإحساس بها: أُحِسُّكِ .. أُحِسُّكِ دَائِمًا .. أُحِسُّكِ دَائِمًا هكَذَا ؛ دُوَاةَ عَتْمَةٍ تَغُوصُ فِي بَيَاضِ يَرَاعِي! ... يَااااااه ... كُلُّ هذَا البَيَاضِ جَسَدُكِ ؟! إِذًا : سَيَجْعَلُنِي الشَّاعِرَ الوَحِيْدَ بِلاَ الأَفْعَالِ الكَامِلَة! يموج في مفردات اللّغة، كي يعطي لجمال البياض الذي سَحَرَهُ، فتحوّل إلى شاعر، ينسّق الكلمات في حالة الشّعر، منقاد إلى كتابة قصيدة تمسك زمام الأمور، وعقله يحاول معالجة لحظات الانتظار، بتتبّع تعاقب السّاعة وعقاربها، في صياغة شبكة عينيّة سمّاها المكر، ثمّ يعود إلى القمر الذي أصابه الكمد، لعب العشق بعقلهِ، لكنّه لم يكن ساكنًا كالقمر، استلّ ممّا حوله، واستمرّ يناغي جمال المرأة المنسكب في فؤادهِ، بعقل واعٍ: البُخَارُ الَّذِي يَتَصَاعَدُ بَيَاضًا الآنَ مِنْ قَهْوَةِ قَصِيدَتِي : هُوَ رَقْصَةُ الشِّعْرِ تَعْلُو مِنْ مَلَكُوْتِ القَصِيدَة! ... حَتَّى وَإِنْ كَتَبْتُكِ بِأَزْرَقِ السَّمَاءِ فَوْقَ أَصْفَرِ الصَّدْرِ سَتَسْتَخْلِصِينَ بَيَاضَ صَوْتِي بِنَحْلَةِ أُذُنِكِ يَتَنَاقَطُ : أُ حِ بُّ ك يدنو من مشاعرها بحذر شديد، يبتعد عنها بحذر شديد، يدور حول مفاهيم عقلهِ لما يصبغ بياض جسدها عليه من حرقة، يريد أن لا تصيبه، يعاود الكرّ في التّحوّل إلى شيء من الطّبيعة، ليمثّل إرهاقه على شكل مشاعر فوّاحة، متخلّلاً مجسّات الإحساس: تَعَطَّلَ اللِّسَانُ عَنْ بَيَاضِ يَاقُوتِهِ لاِنْهِمَارِي .. يَا .. قُوتَ .. نَارِي! معاتبًا: ثَمَّةَ أَمْطَارٌ كَانَتْ تُمَارِسُ احْتِلاَمَهَا خَارِجَ النَّافِذَةِ وَأَنَا أَتَرَاذَذُ دَاخِلَ مَكْنُونِكِ بَيَاضَ نَبِيذ! ثم يتابع: لأَدْنَى مِنْ فِرَاشِ شَغَفٍ ، وَأَبْعَدَ مِنْ شَهْقَةٍ مُشْرَئِبَّةٍ ؛ كَانَ مَسَارُ بَيَاضِ صَهِيلِي! يومًا ما سئل (الرشيد) عن حقيقة العشق فأجاب: "يذهل القلب عن مساؤئ المحبوب". وشاعرنا محمّد حلمي الرّيشة، كتب عن العشق متمعِّنًا في جسد المرأة: كُنْتِ : أَكْثَرَ مِن جَسَدٍ لاِحْتِلاَلِي .. كُنْتُ : أَكْبَرَ بَيَاضًا فِي حُلُولِي فِيه! لَمْ أَزَلْ أُوَبِّخُنِي كَثِيرًا لأَنِّي نَسِيتُ لَمْلَمَةَ دُرَّاقَ العِنَاقِ عَنْ حَقْلِ عَرْشِنَا! مستمرًّا في توضيح بعض معاناته العشقيّة إلى آخر القصيدة: لاَ أُرِيدُكِ أَنْ تَأْتِي بِرَمَادِي .. لاَ أُرِيدُكِ أَنْ تَذْهَبِي بِبَيَاضِي .. كَيْفَ لَكِ حَرَكَةُ خُطْوَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَنْتِ فِيَّ؟! في قصيدة "تخابب"، نجدهُ قطّعها إلى مقاطع، وحمّلها كلّ الألم، اليأس، القنوط، الحزن، بعناوينها الدّالّة على معترك الأزمات الفرديّة والعامّة، بتمرّد واضح، ما يدل على غضبه العنيف بتأكيد تلك العناوين: (1) خيانة (2) غشاء (3) عصيان (4) اغتصاب (5) جموح (6) عري (7) دلال (8) ألم (9) مراودة (10) خشوع (11) امتزاج (12) غيبوبة. كأنّه في مفاعل مجتثّات الحياة وقسوتها، والتي غابت في التّفاصيل المنسحبة منها النّعومة، حياة سكبت في بوتقة الاختبار، مع شعورهِ وإحساسهِ، أنّها هي من تصنع الإنسان وقيمته الزّمنيّة، منتظرًا النّتائج، وكثافة المتوالي على ساعات اليوم من الأحداث، ناظرًا من نافذة مغلقة، لكن صريرَ العواصف ما زال قائمًا بجنونه. لنقرأ المقطع الأول "خيانة": أَرْغَبُ ، اللَّيْلَةَ ، أَنْ أَخُونَكِ .. نَعَم .. هكَذَا : نَافِرًا مِثْلَ شَقْاوَةِ بُرْكَانٍ فَوْقَ فِرَاشِ مُخَيَّلَتِي مَعَكِ! أمّا المقطع الثّاني "غشاوة": إِِفْتَضَضْتِ غِشَاوَةَ عُزْلَتِي كَغِشَاءِ عُذْرِيَّةٍ مُقَنْدَلٍ .. أَنَايَ ، الآنَ ، زَوْجُ رُوْحِنَا الوَاحِدَة ! في المقطع "عريّ": تَفَاجَأْتِ / حِيْنَ عَرَّيْتُكِ .. تَفَاجَأْتُ / حِيْنَ سَتَرْتُكِ بِعُرِيِّي! ما إن يتابع القارئ باقي القصيدة، حتّى يجد التّشابك في انتهاك سويعات الفرح، بالتّرميز للألم من كلّ جانب، باهتياجٍ يزاحم الدّلالة في اللّغة، بسحق اللّذّة قبل وبعد الشّعور بها. تكوّر المشاعر بهذه الطّريقة، يعني تهميش الإنسان بما غشّاه من انصباب اللّوعة، وتلبّس الحياة بثقل يعاند وجوده، فالشاعر يعوده الهمّ بصورة إنسانٍ عاقلٍ، كائنٍ فَهِمَ نوعًا آخر من السّكون في المقطع "خشوع": هَبِينِي أَتَنَزَّلُ عَلَيْكِ سَوْطًا حَانِيًا ثُمَّ أَنْصِتُ إِلَى هِرَّةِ خُشُوعِكِ مِنْ شِدَّةِ شُبَاطِهَا! أمّا في المقطع "غيبوبة"، فتكمن شدّة المعاناة واللّوعة؛ كم هو محاصر! كم هي مقتولة في جميع حوافي يومها المسنّن! هما ملغيّان حتّى في أدقّ تفاصيل حياتهما البسيطة، رغم قناعتهما بوجودهما المبتور: يُدَاعِبُنَا حُضُورُنَا المَبْتُورُ : فَنَتَلَهَّى بِغَيْبُوبَةٍ نُعَاوِدُهَا وَنَتَعَدَّدُ عَلَى غِيَابِهَا .. كَمْ يُحْزِنُهَا تَرْكُنَا نَفْتَرِقُ عِنْدَ التِقَاءِ آخِرِ قُبْلَة! لم يستسلم الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة في قصيدة "كمان"، لمغالطاتٍ غيبيّةٍ لا تشبع من جوع، بل يسكب ذوقه المفتول في قوّة الشّعر، "كمان" تكشف مرحلة مغايرة، تمثّل تحدّيًا في معيار ذوق الشّاعر، إذ نجدهُ محترفًا محبًّا للشّعر من أوّل القصيدة: لَكِ شَكْلُ المُوسِيقَا ؛ يَصَّاعَدُ مِنْ حَسْرِ يَدَيَّ / وَمِنْ خَلْفِي ؛ أَوْتَارُ أَصَابِعِكِ النَّجْلاَء تَسُوطُ : كَمَانْ! جمعَ مقاييس الإحساس، الرّغبة، الحبّ، استقاها من تعدّد الارتقاء في تنوّع خبرته وثمرتها، بإضفاء الفكر المطّلع، فلسفيّ غير معقد، إنجازٌ أدبيٌّ مقوَّمٌ في لغةٍ بارعةٍ: يُزْحِفُنِي جَبَرُوتُ الضَّعْفِ ؛ كَمِحْرَاثٍ يُسْهِبُ فِي سَهْلِ اللَّهْفَةِ / إِذْ يَشْطُرُنِي حَدُّ أَنِينِكِ ؛ هذَا المَشْدُودُ لِطَعْنِ الطُّعْمِ بِحَجْمِ حَنِينِي / لِعُرِيِ : كَمَانْ! الانطباعيّة التي يطلقها في مجمل القصيدة، تقع على ضرورة التّحوّل لما تحْمِلُه من استحسان مركّز على خضّ الرّغبة، ودحض المرفوض من مشاعر مكبوتة، لأنّ التّأثّر بالظّواهر، والتّجربة المعيشة، يقمعانها. لذا يستند إلى تكوينه الحضاريّ والمعاصر، حصيلةَ إحساسٍ ملموس: مَاذَا قُدَّامِي ، حِيْنَ الآمَالُ الرَّطْبَةُ فِي عَرْشِ الرَّغْبَةِ تَتَلَوَّى بِنِدَاءِ ذِرَاعَيْهَا ، وَأَنَا أَغْلِي كَحَلِيْبِ إنَاءٍ ، وَأَفُورُ / سِوَى أَنْ أَخْضَعَ كَي أَرْضَعَ مِنْ ثَدْيِ : كَمَانْ؟ تجرّدٌ متباينٌ يدفع إلى اتّخاذ عوامل كثيرة، ليدركنا صعوبة التنابز مهملين دواخلنا، متمسّكين بما يهمّشها، متصارعين على غير استناد لما ينتج عن ذلك: الوَقْتُ يُخَمِّشُنِي وَأَنَا أَتَصَفِّحُ أَجْنِحَتِي فِي عُرْسِ فِرَاشٍ وَفَرَاشٍ ؛ مَا شَكْلُ اللَّوْنِ ؟ يُسَائِلُنِي شَغَبًا .. لاَ رَدَّ لَدَيَّ / أَعِيْرُ الأُذُنَ لِرَقْصِ : كَمَانْ! بعد قراءة المجموعة أكثر من مرّة، وجدت أنني أغمد خنجر البوح بمكنونِهِ السّاطع، كالنّجوم في تميّزها. لم أستطع الكتابة بمثل ما عهدت فيما سبق لي، وكتبت عن بعض القصائد، وحين تسرقني قصيدةٌ ما، ينصبّ كلّ اهتمامي في البحث عن الجانب الجماليّ، بغضّ النّظر عن كاتبها، لذا طال العمل في التّحليل النّقديّ لهذه المجموعة وجديدها. دفعني تحسّسٌ شديدٌ نحو كلّ القصائد؛ أتذوّق أوّلاً دافع الشّاعر، ثمّ أشدّ نطاق إحساسه بالمفردة، فلا يأتي شيءٌ من الفراغ. قادني التّأمّل إلى صور المضمون، بحالة من الصّبر العميق في كيفيّة صياغة الفكرة، لأستقي الجماليّة والإبداع في أسلوب الشّاعر. المجموعة الشّعريّة "معجم بكِ" بقصائدها العشرين، تحمل سمات قصيدة النّثر الجديدة، لما بعد القرن العشرين، متفتِّحةً على القرن الواحد والعشرين. التّأمّل في هذه القصائد، يجعلك عائمًا بأمواج هذا القرن المعطوب من بدايته. لقد اعتمد الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة البناء النّفسيّ للجدل في فائض الحدث، قد تدور باحثًا عن محلِّلٍ للأحلام في بعض القصائد، كي تفيق من عصر الأسطورة الموهومة، بفعلها السّاقط على الأزمنة القادمة، بل هناك استدعاء للأزمنة القادمة في كلّ حين وسطر. مأساة الجسد وسلطة المرجعيّات الخارجيّة، من موروثٍ وعاداتٍ نُقِشتْ لأسباب، ثم ترسّبتْ بقوّة. الشّاعر قام بعمليّة تعتبر تخديرًا موضعيًّا، من أجل إضاءة المستقبل، وثبوتيّة زيادة الوعي بالمحنة. مارس صميميًّا مسؤوليّة محنة الكاتب داخليًّا، فكانت الثّمرة لغة شعريّة مستشعرة، مليئة بالصّور المفرطة بالامتزاج الإبداعيّ المتجذّر في فضاء القصيدة. استخدم الرّمز الأنثويّ، ملأ الحدث السّاكن بحركته المشبعة في النّموّ التّأمليّ الفلسفيّ، أجاد في عموم مجموعته، خصوصًا لحظات تفكّكٍ فلسفيٍّ أراد له أن يولد، وربّما ولد، لأنّ سويعات التّجوال في قصائد المجموعة التي تسحبك إلى غابات (الأمازون)، تعيش بين اللّذّة والدّهشة والحزن الغريب المنعش، ابتداءً من العنوان، الإهداء، القصائد، إلى آخر كلمة، وما أن تستفق ذاكرتك من وحشتها، حتّى تجد أنّك في حال الواقع، مع صور رائعة تبذر للحلم الأمل بالتّفتّح، تبحث عن كلّ المفاتيح الضّائعة، في حالة الشّرود اللاّموثوق من الوعود المنسّقة، في غفلة من العمر الذي نعمل على شدّ جسده المترهّل، بعد أن قطعنا مسافاتٍ كبيرةً، وفي الأخير وجدناه رميمَ عظام. * شاعرة وكاتبة من العراق *العِبَارَاتُ الشِّعْرِيَّةُ الَّتِي بَيْنَ أَقْوَاسٍ هِيَ لِلشَّاعِرَةِ جُويسْ مَنْصُور مِنْ مَجْمُوعَتِهَا "صَرَخَاتٌ". |