المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
28/05/2008 06:00 AM GMT
فصل شتاء في اللاذقية
اللاذقية، مدينة الجمال، والتاريخ، والطبيعة الخلابة، كانت خيط مرور، حينما عبرتها، شتاء عام سبعة وستين وتسعمائة والف، مع عشرين من الطلاب العراقيين من جامعة بغداد، في حافلة دفع تكاليفها، الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الدوري، رئيس الجامعة، حينذاك، وأعط كل طالب منا، عشرين دينارا، عل ما اذكر، لنقوم برحلة الي الأردن، وسوريا، وفلسطين، ولبنان، خلال عطلة نصف السنة، كنا طلابا نسكن المدينة الجامعية ومن كل الاطياف العراقية، قوميا، ودينيا، وطائفيا، وسياسيا، وإقليميا، وحتى بالتخصصات الاكاديمية. بعد أكثر من خمسة وثلاثين عاما، وصلت الي اللاذقية، مرة اخرى، وطعم الزيارة السريعة الاولي، ما يزال في جوارحي، كان شتاء اخر، تعرفت خلاله على اللاذقية، المدينة، والادباء ومقراتحاد الكتاب، الجامعة، وجريدة الوحدة، والمركز الثقافي في المدينة، البحر والهدوء الجميل، ميدان الشيخ ضاهر (اكتبها كما يكتبها اللاذقيون، بأخت الصاد)، الجبل وجبله، كانت اياما رائعة، قرأت فيها، وكتبت كثيرا، وشاركت في نشاطات ثقافية عديدة، ولعل القصيدة الطويلة (قهوة ادونيس) هي ابرز ما انجزته خلال الفترة التي بقيت فيها، مواطنا لاذقانيا، مع عدد من القصائد، والدراسات النقدية حول بعض الكتب، لادباء من المدينة، وحين غادرتها متوجها الى القاهرة، اودعت كتابا يضم هذه الدراسات لدى الإخوة في اتحاد الكتاب، لمتابعة إصداره، في دمشق، ضمن مطبوعات الاتحاد، الذي سبق وأن طبع لي ثلاث مجموعات شعرية ومنحني عضويته، التي اعتز بها كثيرا. حين اخبرني الصديقان الشاعر، عبد الكريم شعبان، و الشاعر الصحفي مالك الرفاعي، ان الشاعر الكبير ادونيس، موجود في اللاذقية، رجوتهما ان نذهب الي زيارته. المطر يكاد يغرق المدينة، ويصب صبا، و النباتات، كأنها لعشقها لقطرات المطر، تحاول أن تتسلق، خيوطه، في نوع من صوفية الطبيعة وهيمانها، بنفسها، الشوارع تغتسل على نظافتها المعتادة، وهكذا صعدنا الى قرية الشاعر (قصابين) التي تقع علي سفح الجبل، ودخلنا الى بيته الواسع، الجميل، الذي تطوقه حديقة ورد، وبستان فاكهة، السفح غارق في الخضرة، والقرميد المغسول يظلل المكان، بلونه الداكن النظيف. رحب بنا ادونيس، شربنا القهوة، أتذكر أنني كنت أنظر الي المدفأة الحجرية، النار مشتعلة فيها، قال أدونيس (كانون يقطع ذيل العصفور)، وعقب، ان هذا احد الأمثال الشعبية في المنطقة، وقال إنه يأتي سنويا، لزيارة والدته والسلام عليها، ولرؤية أصدقائه. التقينا بادونيس، منذ السبعينات، في العراق، وفي مناسبات أدبية مختلفة، واعتقد انه كان موجودا في مهرجان ابي تمام في الموصل أوائل السبعينيات، وفي مناسبات اخرى في بغداد، ثم في القاهرة نهاية الثمانينيات. لم يزل حيويا، انيقا، في معطفه الاسود القصير، ملتفا بلفافة حول عنقه اتقاء من البرد، هادئا، بشوشا، بيده غليونه، بدا شيخا مليئا بالحكمة والفكر والثقافة. وسرعان ما انسحب الحديث الى الشعر، واستغل الشاعر الصحفي مالك الرفاعي، المناسبة، واخذ يسأله حول بعض الشؤون، والموضوعات، التي تصلح ان تنشر في جريدته اليومية، وكان ادونيس يتحدث بشفافية، وبساطة، خاصة حين يجيب على أسئلة، لا يمكن الإجابة عنها، الا بإضفاء قدر من طابع الطرافة او المجاملة، فكان يجيبه حين يسأله عن احد الشعراء، بانه شاعر كبير، انه شاعر كبير وصديقي، وحين يضفي زميلنا الشاب كلمات الاعجاب والاطراء على الشاعر كأن يقول له : انت تنظر الي بقلبك. ورغم ان الزيارة كانت للمجاملة، وللتعبير عن اعتزازنا به، وبتجربته الابداعية والادبية، الا اننا واصلنا الحوار، على سجيته، قلت له : انه يحظى بتقدير عميق، من المثقفين، والادباء العرب في كل مكان من وطننا العربي، بمختلف بلدانهم وقومياتهم ومذاهبهم وانتماءاتهم، رغم اختلاف الكثير منهم معه، في وجهات النظر، حول الشعر، والثقافة بشكل عام، فهل يعتبر نفسه منحازا الي طيف محدد من جوانب التاريخ العربي، ام انه ينبغي ان يكون، علامة وحدة وتضامن، في سبيل خلق صورة جديدة للواقع، عبر نظرة موضوعية للتاريخ، واذا كان الامر كذلك، فهل يكون كتابه (الكتاب)ادانة للحكم والسياسة العربية التاريخية، بكافة تابعياتها، ام لاتجاه محدد من ذلك التاريخ ؟ قال ادونيس :ابدا، انني حين كتبت كتابي (الكتاب) استعرضت تاريخ القمع كله، في الدولة العربية، من أي جهة صدر، او جاء، انا لست منحازا لاية مرجعية او تابعية، سوى مرجعية الانسان، وهناك امثلة تاريخية، تشير الى ان من مارس القمع السياسي والثقافي كانوا من كل اطياف الصراع، حينما تولوا سدة الحكم، ولم يكن القمع مقتصرا على فئة دون فئة. واضاف قائلا : انه رجل علماني، لا تتصدر اهتماماته سوى قضية الابداع، في الثقافة العربية، وان ادانته، كانت لمن قام بها من الاشخاص، وليس لما ينتسب اليه، ذلك الشخص. وحين اشرت الى ان تلك المراحل من تاريخ الامة، كانت تشبه ما كان موجودا، في كل مكان من الدنيا، وانها وفق السياقات العامة، للمرحلة الانسانية في كل اقطار المعمورة، في اسيا، واوربا، وافريقيا، وغيرها، وليس مقتصرا على الاداء السياسي للحاكم العربي القديم . قال ادونيس : ان ذلك ليس مبررا، ومثلما ندين تاريخ القمع لدى العرب، ندينه في أي مكان او زمان. وعن تقنيات كتابه (الكتاب) قال : انه تمثَّل شخصية (المتنبي) لانه الشاعر الوحيد الذي استطاع ان يجمع بين الشعري والسياسي، وأن هذه الوحدة لم تتحقق إلا عند المتنبي، وقال انه يترك للقارئ حرية قراءته، قراءة غير سردية، بمعنى أن يقرأ من اليمين الي اليسار، او بالعكس، أو يبدأ من الوسط، وهكذا، وأضاف أنه استلهم الشكل الذي قسم بموجبه الصفحة الواحدة، من خلال رؤيته لشريط سينمائي ياباني، فالجزء الذي على اليمين، افترضته ذاكرة المتنبي، والصفحة الاساسية قسمان، الاعلى قائم على استلهام المتنبي، والاسفل، اشراقة او لمعة حرة تضيء، اما الهامش الايسر فمساحة لمن يريد ان يتوسع اكثر حول الموضوع. وقال إن كتابه (الكتاب) نوع من السفر في الثقافة العربية بطريقة غير سردية، وقال : أنا لا اميل الى السرد، انما الى المقطعات، والدائرة، والانفجارات. وحين سالته عما يصادفه احيانا، خلال بعض زياراته للبلدان العربية من مفاجآت، أشار الى ان هناك جانبين، الاول هو الجانب الرسمي، والثاني الجانب الثقافي، ولكل منهما من يمثله، وانه حريص على استيعاب الجوانب الثقافية، اما الجوانب الرسمية، فهو يدرك أن ليس من وظيفة الشاعر، تقديم المجاملات الزائدة، وحضور الحفلات الرسمية، الا في حدود، انني عندما ازور مدينة يهمني أن أزور فيها الاماكن القديمة، والشواهد التاريخية، والمعالم التي تكون الشخصية العامة لها. أتعرض احيانا الي نقد جارح، أو غير جارح، ولكنني لا أكره احدا، واومن بالحوار، الثقافة هي القدرة على الحب، والابداع هو سمو في سماء العقل والعاطفة. كنا علي وشك ان نغادر بيته، التقطنا صورا جماعية، ومنفردة، احسست بحنو شديد، ومحبة غامرة، لهذا الشيخ الشاعر، الذي شغل الناس وما يزال، وتساءلت كم من المبدعين في وطننا العربي يصلون الى قامته. كانت نار المدفأة الحجرية، تتوهج بجمر جديد، والصالون المزين بلوحات تشكيلية عديدة، وبسجاجيد وبسط شعبية، وبعض الاكسسوارات ذات الطبيعة الفولكلورية، شعرت أننا أثقلنا على الشاعر، وانه على وشك السفر الي بيروت، ومنها الي باريس، حيث اقامته الدائمة، قلت له عند عتبة البيت : سأكتب شيئا عن هذا اللقا ء، لا أعرف، كتابا، او قصيدة، تبسم، وودعنا . وودعناه. بعد أيام، بدأت اكتب قصيدة (قهوة أدونيس)، مستوحيا من هذا اللقاء تجربة ثرية، وفهما جديدا، قد لا يتطابق مع ارائه جميعها، ولكن في كل الاحوال، يظل ادونيس، ظاهرة شعرية وثقافية اصيلة، في عصرنا الحديث.
|