المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
11/04/2008 06:00 AM GMT
في كتابه الشيعة والدولة أشار والدي في إحدى فقراته إلى بعض الدوافع التي حملته إلى النجف، بداية من إرثه العائلي، عاشوراء، ومشاركاته في يوم العاشر من محرَّم، وعاد بذاكرته إلى سيِّدة مسنة من قريتنا، قالت له ما لم تدرك حجمه ومستقبله وضرائبه (يا هاني ابن السيِّد مصطفى مكانك ليس هنا، إنه في النجف). هو المكان إذاً، سرق والدي ابن السبعة عشر ربيعاً والوحيد في أسرته، ومن بعده سرقنا نحن أبناءه وبناته. في نفس الكتاب يقول السيِّد هاني فحص أنه لا يستطيع أن يخفي شيعيته، فالعمامة السوداء على رأسه، منذ أكثر من أربعين عاماً، أصبحت علامته. وهي علامتي الآن رغم كل محاولاتي أو قناعتي بضرورة الاعتراف بالموروث وعدم تبنيه بالكامل. على أبواب النجف حيث تملكني الخيال لا المشهد، عدت للموروث برمته، ارتديت عباءة والدي دون تردُّد، على عجل استعدت ما تيسر مما حكاه أو كتبه عنها، فدخلت المدينة كأني فاتح ، أو كالغائب عنها فقط. شوارع مهملة، أبنية أقل من عادية، صورة متكاملة لمشهد يختزل سنوات القمع والحرمان والحزن. إذن ما سرُّ المدينة؟ وما الذي أسرني أو جذبني إلى هذا الحد! عند باب المرقد، اجتاحني الموروث، استسلمت دون مقاومة، اختفت مفردات اليسار، شعارات التقدمية، صخب المدن الطويلة، أناقة دبي وجمال موسكو وحراك بيروت، فقرَّرت قراءة طالعي، بحثت عن برجي الفلكي الجديد، أيها الأخوة وبفصيح العبارة، على جبيني اكتمل مشهد الهوية، إني شيعي رغم أنفي، شئت أم أبيت، أنا من هذا المكان الذي سمعت عنه ولم أره، والأذن تعشق قبل العين أحياناً. من أحد الأبواب الخمسة للصحن الحيدري المطل على سوق المدينة القديمة دخلت مقام الإمام عليّ بن أبي طالب، كانت نظراتي بكلّ الاتجاهات، حاولت رسم المكان أو استكشافه بسرعة، بصراحة أكثر كانت خطا سيري واضحة، باتجاه وسط الصحن الشريف، حيث قبة قفص قبر الإمام عليّ. من أين لهذا المكان هذه السطوة ولهذا الرجل الغائب كل هذا الحضور وكلّ هذه الهالة (أنني الآن في الحضرة). أمام القفص قبل أن ألمس قضبانه الفضية، حاولت أن أردِّد التحية التي يقولها زوار المقام، ولكن بدلاً من قول السَّلام عليك يا أمير المؤمنين، خرجت عبارة، السَّلام عليك يا أبا عبد اللَّه الحسين، اقتربت من القفص صامتاً، أحسست ببعض الدموع تترقرق في عيني، شعرت بالكثير من الخشوع. وانطلق جدل غريب في داخلي. هذا الجدل أعادني أولاً إلى الأيام الأخيرة للمراهقة، حيث كنت مقتنعاً بأني يساري وأني خارج كل هذه الطقوس وبأني غير ملزم بما أملاه عليَّ المحيط الاجتماعي، وأصررت على إظهار الإهمال للمظاهر الدينية، وكوني ابن رجل دين ومن وسط محافظ، فقد تسبَّب تمردي هذا بالكثير من المشاكل العائلية، وأدَّى لتوتر في العلاقة مع والدي، ومع خروجي المبكر من محيط الأسرة، استطعت أن أنجز انفصالي البسيط عن الخطوط العريضة للعائلة دون المساس بالثوابت والمسلمات. في النجف وأمام معادلة حية لثابت غير قابل للتحول، في التاريخ والجغرافيا، اكتمل مشهد ذاكرتي، فالعادة أن يتحدَّث النَّاس عن مدن أو أماكن زاروها أو عاشوا فيها، أمَّا في حالتي، فقد كنت أتأكد من التطابق بين الصورة التي رسمها والدي عن المدينة، والمشهد الفعلي أمامي، حي السعد، شارع الرسول، مسجد السهلة، السوق القديمة، الطوسي، كلية الفقه، بيت السيِّد السيستاني، الشيخ الخاقاني، حسينية آل بحر العلوم. كنا في أوَّل أيام الشهر الخامس من سنة الهزيمة والاحتلال والحرية، كانت المدينة تكشف أسماء موتاها وتعرض صورهم تقرأ الفاتحة على أرواحهم جهاراً لأنها منعت لسنواتÅمن قراءتها علناً وسراً. على الجدران أو من الشرفات تدلت أقمشة سوداء، كانت تلف أرجاء المدينة الواسعة اتساع الحزن الطويل الذي سكنها، تحمل أسماء قتلت على عجل، أراد القاتل أن يطول الصمت ليطول عمر السلطان. في كلِّ ناحية بيت عزاء ولافتة، هناك واحدة لآل الحكيم لافتة بأكثر من ستين اسماً، بالقرب منها أخرى لآل بحر العلوم بنفس العدد أو أقل، وأخرى لآل الصدر أو الموسوي أو البهادلي، عوائل كانت تساق إلى حتفها راضية بالموت خلاصاً من موت آخر يمارس كلّ يوم. لحظة المدينة كانت لموتاها، للبحث عمَّا تبقى منهم، قرب المرقد أخذنا صحيفة تنشر أخبار النجف، كانت تتألف من 6 صفحات عبارة عن قوائم بأسماء لأصحاب جثث تمكنوا من التعرُّف عليها في مقابر جماعية، كانت العوائل تبحث عن أبنائها في تلك القوائم، وترتاح إن عثرت عليهم، لأنَّ الهم الوحيد بعد إن انعدم الأمل في وجودهم أحياء، كان بالعثور على ما تبقى من أشلاء تكريماً لهم بإعادة دفنهم بسلام في وادي السلام. في وادي السلام أو مقبرة النجف، تبرز علاقة شائكة بين الموت والمدينة، كأنها رغبة الأموات قبل الأحياء بالمكوث فيها، فالنجف تستقبل زوارها الموتى كأنها تؤمن لهم راحة الجوار وعفواً مرتجىً، هي مدينة الرجاء الدائم فيها يطلب الإنسان ما يريد، يكرِّر طلبه دون ملل أو خجل من المطالب. رحلة الرجاء في النجف ليست وثنية أو هرطقة أو انحرافاً، هي الجدل اليومي لأهل المدينة أو زوارها مع سيدها، وهو الحاكم عندهم رغم غيبته، هو السامع رغم استشهاده، إليه يأتون كل يوم، يسألونه الدعاء، المساعدة بالمغفرة يوم الدين، يتكلمون معه يجادلونه، يطلبون دون خجل، ويكررون يعودون كل يوم يطلبون ولا يشعرون بالإهانة من الإلحاح أو كثرة الطلب، يخبرونه حوائجهم، أحزانهم خوفهم، هو مشكى ضيمهم، معه لا يوجد ثالث يسمعهم غير اللَّه. داخل الصحن عند الباب الداخلي للمقام، حيث الضريح، أو عند القفص مباشرة أو من حوله، ترى أيادي تشدّ على القفص، وجوهاً ملتصقة به، وآخرين من حوله واقفين أو جالسين، ولكن الجميع في حضرته كأنه موجود بينهم، تشعر بهم كأنهم يتحدَّثون إلى شخص شاخص أمامهم، يتمتمون يحركون أيديهم، تظهر عليهم بعض علامات الاستهجان وفي بعض الأحيان كأنه الغضب، هذا الغاضب الذي لا يقوى على الرحيل، وإن غضب فلا ييأس، يكمل جدله مع الغائب جسداً والحاضر روحاً وهيبة، في بعض الأحيان يجلسون لساعات، أو يكررون الزيارة عدَّة مرات في اليوم. لم أكن لأتجرأ وأسأل احدهم عمَّا يقوله، ففي دخولي اليومي للمقام استطعت أن ارصد أو أتعرف على وجه امرأة صادفتها عدة مرات داخل الصحن، كانت حين تخرج من أمام الضريح تقف قبالة باب مدخله تكمل حديثاً أجرته في الداخل تحرك يديها، ترفع إصبعها وكأنها تشير إلى شيء ما، إلى أحد ما ، إلى حب ما إلى عتب إلى وجع، أمل، حزن أو رجاء. من ملامح وجهها، من كم الكرب الذي يختزله، من الوجع البائن في جسد نحيل ويدين تختصر تشققاتهما حجم الشقاء وتعب الأيام، والكفاح من أجل البقاء. من هذه الصورة يتجلى تراكم الخوف العراقي، والألم المسكون بأهل المدينة، فلم يكن أي داع لسؤالها إلى من تتحدث؟ أو عمَّا تتحدث؟ أو لماذا تأتي كل يوم؟ وإن لم يتغير شيء. سر هذه السيدة هو سر زوار المقام أيضاً، هي تأتي كل يوم تقف أمام القفص، تطلب شيئاً معيناً، وتذهب تكرر الطلب أكثر من مرة وتزيد من إلحاحها، وإن غضبت لعدم الاستجابة، ستعود لأنها ستعود لأمير المؤمنين الذي لا تستطيع أن تغضب منه أو أن تبتعد عنه. والسؤال أمام هذا الكم من القتل والتعذيب والتشريد، الذي شهده العراق إبان حكم البعث، إبان الخوف الدائم، والحذر المستمر، ما كان ليفعل الفرد العراقي، لولا وجود هذه العادات والتقاليد الدينية، لولا هذه الفسحة من الأمل التي قد يراها البعض مبالغات. وفي العودة على بدء، للموروث الذي يطغى ليصبح الهوية، في المشهد المتكامل معه، مع والدي في النجف التي عاد إليها بعد ربع قرن، في أطول ساعات صمته الذي كان يزداد كل ما اقتربنا من المدينة، في لحظات خشوعه الأبدي، في اللحظات التي تجلت فيها عراقيته، وانفجرت فيه نجفيته، في عناقه لحجارتها في شوقه لأزقتها، لكل شيء فيها، لدرجة انتابني القلق عليه، على ردة فعله الأولى، فهو إن تحدَّث عنها يبكي فكيف الحال وهو بحضرتها وفي داخله وفيه الكم الكبير من مخزون الشوق والاشتياق. في النجف كان كأنَّه لبنان المنفى وصارت المدينة يوم حريته الأولى، في النجف وأنا إلى جانبه اكتشفت مصدر كل كتاباته، جمله، وهواياته، واعتذرت منه في سري، لأني وللحظة فهمت معنى أن تكون نجفياً. لوالــدي حكايــته عـن المديـنة، ولـي أن أروي ما رأيتـه حكايـة مرقـد ومدينـة.
|