المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
21/01/2008 06:00 AM GMT
تنبئك صنعاء، على الفور، بما ينتظرك، سيان ان كنت بعد على متن طائرة البوينغ، او في ردهة المطار، او في القاعة المركزية بجامعة صنعاء. فوسط المسافرين، او بين حشود المهاجرين، ورجال الحدود والجمارك، او في زحمة المؤسسة الاكاديمية، ثمة شيء مشترك هو: اختلاط الأزمنة. يقرأ المرء هذا الاختلاط في بطون الكتب.لكنه يبرز للعيان لحظة يطأ المرء أديم صنعاء.للتاريخ هنا، كما في اصقاع اخرى، جلال القدم. في الصين، وجل آسيا، ثمة عبادة الاسلاف. في هذه البقعة لا موجب لعبادة الاسلاف، فهم حاضرون. يطالعك التاريخ هنا أولاً في الصروح المعمارية العملاقة: مبان حجرية، بعدة طبقات، تزدان بدرابزونات مزركشة، ونوافذ مزوقة بالجبس الابيض، تعلوها نصف دائرة يسمونها " قمرية " (نسبة الى القمر) تحوي كل اشكال النقوش المعمولة من الجبس، او الزجاج الملون.
تجثم صنعاء التاريخ وسط صنعاء الحديثة، بل في القلب منها، محتفظة بقبابها، ودروبها الضيقة، واسواقها القديمة ذات الابواب الخشبية. اما صنعاء الحديثة فهي، شأن المدن الحديثة الاخرى، مجرد حلقات عشوائية تنمو حول وخارج التاريخ: مبان حديثة، سيارات المرسيدس والتويوتا والساب، وآخر صيحات الفنادق، موفنبك. يبهرك المدى الزمني الممتد الى مملكة سبأ (نحو 1200 عام قبل الميلاد). هذه بلاد مملكة حمير، وسد مأرب الاسطوري بمغزاه (شيد عام 750 قبل الميلاد وانهار عام 600 ق. م، أي قبيل ظهور الاسلام بعقدين ونيف)، مثلما يفاجئك المعمار الحديث، ومظاهر الثراء الجديد المعلن في مؤسسات الدولة. ومثلما ترى الانشطار والتجاور بين صنعاء القديمة وصنعاء الجديدة، في المباني، تراه في مظاهر اللباس، بين البدلة الاوروبية (مع او بلا ربطة عنق) واللباس التقليدي: الوزرة وعمرة الرأس، والنطاق المزركش المزدان بالخنجر اليمني المعقوف (الجنبية)، والكحل في العين (للذكور). لكن المظهر الابرز لازدواج الماضي والحاضر يتجلى في جامعة صنعاء. ففي المؤتمر الاول لعلماء الاجتماع (5-7 كانون الثاني – يناير) احتشد جمع غفير من المع الاكاديميين في اليمن. في قاعة " جمال عبد الناصر "، يستمع المرء الى احدث البحوث في منهجيات العلوم الاجتماعية، التي تقارب موضوعات معقدة، ونظريات شتى حداثية وما بعد حداثية. ويجيل المرء نظره في القاعة العملاقة، ليجد، مبهوراً، ان ثلث المشاركين من النساء، باحثات وطالبات. ويكاد قطاع المرأة في القاعة ان يكون بمثابة خيمة سوداء واحدة، فالمرأة هنا مجللة برداء اسود، وغطاء رأس اسود، ونقاب أسود، لا ترى منه سوى عينين سوداوين او عسليتين (حسب مصادفة الوراثة). ويضاف الى ذلك في احوال، قفاز يد أسود، وجوارب سود. أحصيت، في فضول، وجود نحو خمسين امرأة من مجموع مئة وخمسين ضيفاً، واحصيت نحو اربعة وجوه سافرة. لم أشاهد شعر امرأة قط، باستثناء الفنانة آمنه النصيري. (هناك لوحة للفنانة النصيري تصور قططاً سود لا تظهر من ملامحها المفصلة سوى العينين، وهي ترميز مباشر للامتثال الجمعي). بادرتني سيدة شابة بالترحيب، فارتبكت لجهلي بهوية السيدة، حتى انبأتني انها سكرتيرة المؤتمر، واننا التقينا صباح اليوم الاول. اعتذرت لعجزي عن تبين ملامحها، فتخيلت انها ابتسمت من وراء النقاب، شارحة لي ان الناظر يشخص هوية المرأة من عينيها. مثل هذه الفراسة عصية على كهل مثلي، ينظف عدسات نظارته مرتين في اليوم، ليدرأ الغبش المستديم. علمتني صنعاء فناً جديداً: حفظ هوية المراة من زركشات مميزة فضية او ذهبية على ردن جبتها السوداء، او، وهذا أدق، التفريق بين النساء اعتماداً على المرتدية قفازاً من العارية من قفاز. ووجدت ايضاً علامات فارقة اخرى: بعض النساء يرتدين سراويل تحت القفطان الاسود، سراويل جينز شارلستون، او جينز عادي، بعضها ازرق داكن. بعض الاقدام عارية، وبعضها يطل باظافر ملونة. صباغ الاظافر علامة اخرى. هذه التفاصيل العملية اسعفتني في التمييز لفترة. فالملابس والاصباغ والزركشات، خلافاً لمعالم الوجه، تتغير بين ليلة وضحاها. ما كان " أزمة هوية " عندي، كان موئل أمان معلن عند جل النساء المتشحات بالسواد. فالحجاب الكامل، بكلمات بعضهن، ينجيهن من اللوم، والضغط، ويمنحهن حرية الوجود في عالم ذكوري ضاغط. ويقف الحجاب الاسود في تضاد صارخ مع عقول هؤلاء النسوة الاكاديميات، بما انتجنه من أوراق بحث مميزة تعتمد احدث النظريات. كيف يتأتى لفوكو وماكس فيبر، وبورديو، ودوركهايم ان يتعايشوا مع هذا الحجر التام للكائن البشري وراء اللباس الاسود؟ لا ادري. تبدو الحياة كلها مخترقة من اقصاها الى اقصاها بهذا الانفصام (الشيزوفرينيا) المجتمعي، بين شمال عاش في انغلاق شبه سرمدي، وجنوب فتحه البريطانيون عنوة على العالم الحديث. فها هنا بقي الراديو محرماً حتى الستينات. وكانت الصحف والمجلات العربية القادمة الى اليمن في الخمسينات ومطالع الستينيات من القرن المنصرم تدخل قصر الامام ولا أحد سواه. ويمضي الانفصام الى مؤسسات السلطة الاجتماعية والدينية. فثمة المشايخ (زعماء القبائل) والعُقّال (جمع عاقل) أي وجهاء المدن، وثمة السادة (ذوو المكانة الدينية)، وثمة رجل الايديولوجيا (السياسي الحديث)، وثمة العسكري والتكنو قراط (رجل الدولة الحديث). هذه الخلائط وغيرها منظمة في دوائر شبه مغلقة، تغتذي في ديمومتها على وعورة المنطقة الهضبية الجبلية التي تحتل الربع الغربي من مستطيل اليمن بمحاذاة ساحل البحر الاحمر، كما تغتذي على امتدادات الصحراء في النصف العلوي من المستطيل نفسه. لا طرق هنا ولا ادارة. عاشت هذه الاصقاع، وما يزال بعضها يعيش، في عزلة عن السلطة المركزية. لم تقتحم طرق الحداثة جل هذه الاصقاع، التي تناوبت عليها الاديان من وثنية ويهودية ومسيحية، فاسلام، مثلما تعاقبت عليها وتداخلت فيها المذاهب: الزيدية، الشافعية، الحنفية والحنبلية. في تبدلات اردية الثقافات العليا، بقي التنظيم الاجتماعي شبه مستقر، او راكد في معظم انحاء اليمن. وكما في جل العالم القديم، تتركز مظاهر الحداثة في العاصمة، او على التخوم الساحلية الاكثر احتكاكاً بالعالم. اشتكى باحث صنعاوي من ان اهل صنعاء الاصليين اختفوا بعد زحف القبائل. هذا حال بغداد ايضاً بعد هجرة الارياف! ولاحظ جنوبي ان حجاب المرأة بدأ يزحف الى الجنوب السافر. لكن شمالياً أشار الى ان السفور الجنوبي اخذ يشق طريقه الى الشمال. واطلق آخر شكاواه من " عقبة " القبائل أمام التقدم، واعترض شكاك من أن الدولة الحديثة هي مجرد قبيلة اخرى. في كل هذا يبدو التاريخ بجلاله وقد سيته جاثماً على اليمن، فأسلافه حاضرون في كل زوايا المجتمع، شاهرين سيف القدم. الميت يمسك بتلابيب الحي، التاريخ القديم ينيخ على التاريخ الحديث بكل جبروته. لعل الحضارات القديمة تدفع ثمن مجيئها المبكر أضعافاً.
|