من بين الأنقاض ... القرية |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات في أحدى الأيام وقعت تحت يدي مجلة تصدرها إحدى الكنائس في العراق وفيها تحقيق عن قيام النظام السابق بتدمير أكثر من 300 قرية متاخمة للحدود التركية العراقية...قرى عريقة وموغلة في التاريخ تم تدميرها وتشريد أهاليها ....هذا يعني أن حياة وتاريخ وتقاليد وطقوس اندثرت مع تلك القرى وانجرفت تحت أنقاض البلدوزرات التي كانت تجرف مايقع أمامها ومادة إل تي إن تي هي الأخرى تكفلت بتهديم الجزء الأكبر من بيوت الأهالي ومضايفها التي تحولت إلى أنقاض بلمحة بصر. من ذا الذي يعيد ألينا تلك الحي وات التي كانت تعيش في تلك القرى ؟ ..من ذا الذي يحكي لنا عن فصول تلك القرى وتقاليدها وطقوسها وعاداتها ومعيشة الناس فيها وجمال المناظر التي أبدعت الطبيعة في رسمها.... هل يستطيع رسام أن يرسم ما قد مضى...هل تستطيع قصيدة أن تعبر عن خلجات الحجر والجدول والشلال والصخر....هل تستطيع قصة أن تعبر عن كل ذلك ؟ هل تستطيع رواية ما إن تمسك بالمكان والشخوص والعادات والتقاليد والتاريخ ؟ . هذا ما حاول أن يصل إليه الإعلامي والأديب الكردي محمد سليم سواري في روايته القرية المكتوبة باللغة الكوردية وقام بترجمتها إلى العربية سامي الحاج. قليلة هي الإعمال الأدبية الكوردية المترجمة للعربية التي نجدها في المكتبات وفي مجال الراوية بالذات خصوصا لغير المطلعين والمتخصصين بالأدب الكوردي وحسن فعل الصديق الكاتب محمد سليم سواري عندما أهداني نسخة من روايته الرائعة القرية . أحداث رواية القرية ترجع إلى الأربعينات من القرن المنصرم عندما حل الزعيم الكوردي ملا مصطفى لبرزاني مع رجاله في قرية سواري عام 1945...وعلى مدى ثلاثة أيام انشغل جميع أهالي القرية في خدمتهم وضيافتهم ...هذه الزيارة أصبحت علامة فارقة في تحديد حوادث معينة في تاريخ القرية فيقولون تزوجت قبل زيارة الملا مصطفى للقرية أو أنجبت بعد مجيء ملا مصطفى بسنتين وإحداث هذه الزيارة مازال ماثلة في مخيلة الكثير من رجال القرية يتناقلونها عن طريق القص الشفهي المتداول بين أهل القرية والقرى المتجاورة .. يقول الكاتب :والإحداث التي رواها لي أبي وعمي ماتزال ماثلة في مخيلتي عندما كانا يتحدثان عن البار زاني وكيف جاء إلى القرية ومن كان برفقته وماذا كان يدور في الديوان وما الذي كان يسر لبارزاني ...ص9 القرية عاشت هذه الحادثة في ذكرى الكاتب تنمو معه وتعيش وترعرع إلى إن كبر وأصبح كاتبا وكان يحتاج إلى خمسة عشر عاما لكي يعايش الشخصيات والأماكن ويعيش الإحداث بكل أحاسيسها ((كنت في كل لحظة أقول وأفكر مع نفسي كيف سأبدأ بهذا العمل ومتى وأين أنهيه ؟ًص11 القرية تترقب زيارة القائد ملا مصطفى البارزاني ومن خلال هذا الترقب رصد الكاتب قرية سواري والقرى المحيطة بها أشخاصا ومكانا ، عالما " قائما" بذاته وكينونته ينعزل عن العالم الخارجي في أيام الشتاء الباردة خصوصا عندما يتساقط الثلج وبلتم على بعضه كي يواجه غضب الطبيعة ....هذا العالم يترقب زيارة الملا والناس في القرية هي شغلهم الشاغل ينتظرون قدومه الميمون والكاتب يرصد أدق التفاصيل في حياة منطقة بهدانان ليصورها بل انه يوغل في المكان ومن خلاله في التاريخ ليحيلنا لمرجعية حدث ما أو مرجعية تقليد أو عادة مكتسبة لذلك فان هذه الرواية حاولت إن ترصد تاريخ وعادات وتقاليد منطقة بهدنان في أربعينيات القرن المنصرم وما قبلها وتصور لنا تأثير زيارة الملا مصطفى لقرية سواري من خلال سرد حكائي امتاز بالشفافية وبقالب فني سلس وموحي ومن نوع البسيط الممتنع ضمن حبكات فرعية دعمت الحبكة الرئيسية بخطوط تجعل من الرواية نسيج متماسك من خلال( تقديم لوحة كوردية اجتماعية تاريخية أصيلة ونابضة بالحياة.ما أن تبدأ بقراءتها حتى تبهرك بجمالها فلا تقوى على تركها بل تتمتع به وتنهل من معينها إلى إن تبلغ نهايتها) 1. بناء الشخصيات جاء مكمل لبناء المكان ليس هناك بطل مطلق في الرواية يتبع الكاتب حيلة درامية عندما يوزع اهتمامه في بداية الرواية على شخصيات متعددة ويسرد حيوات تلك الشخصيات ويراقب أدق التفاصيل في حياتها مصورا أحاسيسها ومشاعرها ثم ببدء تدريجيا ينسحب منها إمام شخصية القادم وترقب الكل لهذه الشخصية ليفسح لها مكانا " أكثر اتساعا باعتباره الزعيم المؤثر وصاحب القرار لهذا فعندما يزور القرية ويمكث فيها ثلاثة أيام الكل يتسابقون لخدمته وخدمة رجاله عسى أن يكونوا قد أدوا واجبا " قوميا" لقضيته التي هي قضيتهم ....أية جملة نطق بها وأية حركة قام بها كانت مرصودة من أعين أهل القرية وظلت في الذاكرة الشفهية لآهل القرية تتناقل عبر الأجيال هذا مااوصله لنا الروائي المبدع محمد سليم سواري في روايته الأولى القرية ...لقد استطاع بحق أن ينقلنا إلى أجواء الريف الكوردستاني الأصيلة من خلال شخوصه التي بث بها الحياة على الورق ريبه ر وشيرو في الشجاعة والقيادة و حه لي وعه زو في أجمل قصة حب واقعية وسط جمال الطبيعة الذي شهد قصة حبهم وعلى غير عادة قصص الحب التي تنتهي نهاية مأسوية بفضل جراءة حه لي وحكمة ريبه ر..لقد أحسن تصوير أهل القرية في دأبهم للعمل ونشاطهم وهم يستفيقون مبكرا كل يوم ليذهبوا إلى بساتينهم وحقولهم وإعمالهم اليومية (يعيش المرء أجواء القرية الكوردية الأصيلة وفي مجتمعها المحلي الذي نشعر بالحيوية المتدفقة بين أسطرها في مصارعة الفرد الكوردي لقوى الطبيعة وكذلك في تعامل بطل الرواية مع الفكر المتنور الذي حل في ساحة الفكر القومي الكوردي وقد أبدع في رسم خطوط أستشراق المستقبل وربطها)2. قرية سواري حالها حال القرى الكوردية والمسيحية التي أقدم النظام السابق على أزالتها من الخارطة لكن قرية سواري ومنطقة بهدنان وجدت من يأتي على سيرتها ويدون لنا بعض من تاريخها وعاداتها فهل لنا من يعيد الحديث عن تاريخ وعادات وشخصيات مئات من القرى التي أزيلت من خارطة العراق ...وهل هناك من يستنطق الحجر والتراب والشجر والماء والسماء مثل محمد سليم سواري ليتحفنا بعمل مبدع كالقرية..... نحن في الانتظار . |