المختفي للكاتب حمزة الحسن

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
25/12/2007 06:00 AM
GMT



هل الهوية التي يحاول النصّ التشبث بها هي هوية سياسية، إذا ما أعتبرنا أن ما يدفع به النصّ إلى مخيلة الناس هو حدث سياسي مكتوب لحساب دعاية لأيديولوجيا ما؟ أم هل هو نصّ تجريبي يحاول التشكل بأدوات إبداعية نزيهة ورصينة إلى جنس من الأجناس الفنية الشائعة؟ أم إنه يتكيء على هذا بذاك؟

من الوهلة الأولى تترتب في ذهن القاريء هذه الأسئلة، وتبقى حين يوغل قراءةً في فصول النصّ الستة والأربعين، أو في النصّوص الستة والأربعين التي تتناول حدثا أو مجموعة أحداث مُدّعاة تدور حول ظاهرة اختفاء الناس في بلد ما.

 

محاولة للإبهار بالصدمة

يبدأ النصّ بمشهد إبهاري ثقيل هو ترك جثة الضحية المختفية منذ سنوات عند مدخل منزل أسرته. حدث ليس بمستوى البداية الكسولة للنصّ الذي يدور منوّماً ليصف الصدمة التي حلّت بكل من اقترب من المشهد وشاهد التابوت الملقى عند باب الزقاق المفجوع. فالإشعار الأول هو أن تلك الليلة ستبدأ بأحداث جسيمة، ولكن أين هي هذه الأحداث التي يبشر أو ينذر بها النصّ؟

للبحث في هذا السؤال علينا تحليل النصّ الذي وصفناه بالكسول. وأين نجد المفاصل المريضة في ذلك النصّ. ليس من الصعب على أصابع، على درجة مقبولة من الخبرة جسّها، وتبيان مواقع الضعف فيها لو وضعنا أمام العين بعض الإسهابات النصّية المأخوذة من فصول مختلفة وهي إسهابات لاضرورة لها إلا إذا اعتبرنا التطويل غير المدروس ضرورة من ضرورات الإبداع.

ومن هذه النصّوص الإسهابية على سبيل المثال لا الحصر نورد مايلي :

1. (الرعب المكبوت، والمعتق، والمنفي، والمخبوء).

ويمكن جدّاً إضافة صفات أخرى كيفما نشاء وبمقدار ما نشاء دون أن نؤثّر في النصّ، وفي مفهوم الرعب الذي هو أشد المشاعر السلبية الإنسانية عنفاً، والتي لا تحتاج إلى صفات إضافية لتصل إلى الوجدان الإنساني، فالرعب هو الرعب. ويمكن إضافة ملاحظة تقنية كتابية هي أن كاتب النصّ إستخدم واو العطف في سلسلة الصفات وكذلك الفارزة مع كل صفة، وقد كان يكفي استخدام واحدة منهما.

2. (ما معنى السؤال، ما معنى الإجابة، ما معنى الفجر، ما معنى الصيف، ما معنى الوقت، ما معنى الأراجيح، ما معنى الإنتظار؟).

3. (وكانت الطفلة حائرة بين الصرخة والفجر والتابوت والحشرجة والرعب ووووو…)

4. (خلل من نوع شاذ وفريد ونادر وخطير ومربك قد أصاب توازن الأشياء).

5. (مع هذا الثراء والعذوبة واللدونة والبياض والوهج المهلك والحريق والجنون والمغامرة والخرق).

لمَ كلّ هذا الترصيع، وما هي أهميته؟

إذا كان الشعر هو لغة الإيجاز والتكثيف، فإن هذا الإيجاز هو ضرورة بدوره في النصّوص الطويلة كالرواية والمسرحية إذا كان هذا الإيجاز كافياً لإيصال الفكرة وتجسيد المشهد الدرامي. أما إذا كانت وظيفة التكرار والتطويل بعيدة عن هذا الهدف وإسهاباً لمجرد الإسهاب فسيكون ذلك على حساب المادة النصّية ومخيلة وذكاء القاريء الباحث عن فن أدبي حقيقي.

كان على كاتب النصّ أن يزيل الكثير من الشحوم التي تُثقل نصّه. والتي لاتدلل على أنه اكتناز صحي، بل يبدو النصّ وكأنه حقن بمضاد حيوي لتسمين وتضخيم العمل النصّي. هذا التكرار لا يصيب فقط الجمل الطويلة التي تشكل الفصل، بل إن الفصل نفسه هو عبارة عن تكرار تطويلي يلعب على فكرة واحدة. وأوضح مثلاً على ذلك استغراق الكاتب في وصف التابوت، فكرة تتلو فكرة أخرى هي ذات الفكرة الأولى وهكذا دواليك، حتى يبدو أن النصّ هو الذي يلهث وراء القاريء وليس العكس، وكلّ نصّ لا يسبق قارئه فإن حكمه التقويمي واضح ومعروف. الأمر الذي يبعث على الضجر السريع، ويكلف القاريء صبراً طويلاً وطاقة غير مبررة ليقوم بنفسه باستخلاص الفكرة من شحوم النصّ المتكدسة، وتتحول هذه الطاقة إلى ضريبة في حال غياب هذه الفكرة من النصّ أو عدم وجودها أصلاً.

مع ذلك يصر كاتب النصّ "المختفي" على هذا الإسلوب ليصل إلى حال مركبة يمكن أن نسميها "تكرار التكرار". وهنا لابد من إجتزاء المثل من النصّ نفسه بالعبارة التالية:

- ذهب إلى ( المقهى، الدائرة، الحمام، السوق، النادي، صديق، مسجد، مرقد، بار، ثكنة، حديقة عامة، شاطيء، نهر، مرحاض، دائرة بريد) ولم يرجع.

هذه المفردات تضرب النصّ على رأسه فلا ينجح الكاتب في إيصال ما يريده إلى الآخر. فيوغل في التكرار الذي شأنه شأن ماء البحر لا يروى ولا يوصل إلا إلى أدمان عطش التكرار :

- ذهب إلى ( يحصي كاتب النصّ عشرين مكاناً آخر) ويكرر جملته (ولم يرجع).

ينتبه بعدها إلى الخلل في نصّة فيفقد القدرة على التحكم بأدواته، ويشعر بعدم جدوى المواصلة فيلجأ إلى أدوات غيره من المبدعين كعلاج لخلل بيّن، يشير بأمانه إليهم. فهو يستعير أدوات الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي والقاص الناجح محمد خضير والأديب الشامل لويس بورخس، كما يشير في نهاية فصوله التي وسمها بالمختفي.

 

البناء على معلومة خاطئة

يسلك النصّ سلوكاً عصابياً مرتبكاً، تبدو معه واضحة ثقافة كاتب النصّ في بعض حقائق علم النفس، يمكن معها أن نطلق عليه صفة "نصّ نفسي". لكنه يبنى على معلومة خاطئة لا يمكن أن تفوت على مشاهد عربي، فيورد أصل العبارة المشفرة التي يحتمي بها الناس من نظام سياسي قمعي وهي عبارة (ذهب ولم يعد) ويقول إنها عنوان لمسلسل تلفزيوني بينما هي في الحقيقة عنوان لفيلم سينمائي شاهده الملايين من الناس يتحرك البطل فيه بين الريف المصري الهاديء والمدينة الصاخبة المختنقة بالتلوث. لا نعطي هذا الأمر أهمية كبيرة، لكننا نلتفت إلى مأزق كبير وقع فيه النصّ الذي لا يخلو من نزعة استعلائية واضحة لا تتفق مع نصّ ضعيف لا يقوى على الوصول إلى فهم ووجدان الناس يقول النصّ في مكان ما واصفاً موقعاً ما بما يلي :

(تحول إسم جادّة الغنم إلى شارع الشعب)

هذا التلميح لا يثير في القاري شعوراً بإعجاب يتوسله كاتب النصّ، لسبب بسيط هو أن الحطّ من قيمة كيان أو هوية جماعية مثل (الشعب) عملية سهلة، لكن الإبداع ليس شرطاً من شروطها، وأنما هي حالة الهروب من إلحاح الإبداع الفني إلى جادة أسهل هي جادة كيل الشتائم أو جلد الذات، ومن شروط جلد الذات أيضاً أن لا يكون جلداً لذات جماعية تضم المختلفين زيداً وعمراً ومن بينهما. فالرخيص يُعرض بثمنه البخس او لاثمنه، أما النفيس فهو بحاجة إلى مبدع حقيقي يبرز عناصر الجمال والنفاسة فيه، هو بحاجة إلى إبداع في عمليتي التثمين والإقناع، وهذا ما يفتقر إليه كاتب النصّ على ما يبدو.

هناك أيضاً ضعف ملحوظ في التصرف باللغة وصياغة الحوار الذي يبدو بدوره فقيراً، وهنا لابد من التفريق بين البسيط والفقير. يتضح ذلك الضعف في عملية التحوير الجبري في العبارة الزجرية الشائعة عربياً وشعبياً والتي تستخدم في بلاد الشام والعراق (هذا مو شغلك)، فيوردها كالتالي :

(هذه ليست مهنتك)، وكأنة نقلها من لغة أخرى.

لا يخفى على اللبيب أن التحوير في العبارة أضعفها وحولها إلى عبارة بائسة.

نتصفح الفصول النصّية عائدين القهقرى إلى النصّ الرابع لنجد الكاتب قد عاد إلى اللعب على عبارته المأخوذة من معلومة خاطئة من جديد، ليكدّس عليها جملاً وتفاصيل يومية صغيرة ناسياً أنه قد أشار في فصول سابقة إلى أن الناس قد انقطعوا تماماً عن ترديد هذه العبارة للتدليل على الإختفاء بعد أن اكتشفتها الأجهزة السرية وذهب أحد البسطاء ضحية لها. لأنها تورد قائلها موارد التهلكة، عاد الكاتب وركّب عليها فصلاً كاملاً، يمكن أن نسميه بالفصل الزائد، وهو خطأ فني آخر يرتكبه الكاتب يجعل الناقد يتحفظ من إعطاء النصّ تسمية من تسميات أشكال الإبداع الفني يتوسلها الكاتب ليستحق صفة أخرى غير صفة الكاتب وأكثر وضوحاً منها وربما هي صفة الروائي صعبة المنال قياساً بالقيمة الفعلية لنصّه. لكنه يحوّر العبارة إلى (ذهب ولم يرجع) بدلاً من (خرج ولم يعد). وهذا التحوير السطحي يدلل على عجلة وتسرع وتعامل ساذج مع النصّ، وركون وهروب من المحاولة والإصرار، ويأس من إمكانية الوصول إلى نتيجة أفضل.

حتى بداية النصّ السادس لم يعلن النصّ عن حدث جديد، ولم يدخل منحى مختلفاً أو بيئة نصّية جديدة بحيث يشد انتباه القاريء الذي ينتظر دون جدوى ويبقى ينتظر حتى نهاية النصّ الأخير بالعبارة الساخرة الخادشة في بذائتها وانهزاميتها التي يطلقها أحد السكيرين ويدونها على شاهدة قبر المرحوم جبر والتي تلخص مسيرة حياة القتيل حتى قبره وهي عبارة مسجوعة شائعة، ليستقر الرأي على أن كل ما فصّله النصّ من يوميات رهيبة لم يكن في النهاية سوى لعبة سكارى ولم تكن هناك ثمة قضية جديّة أو موضوعة سياسية أو رسالة إجتماعية يسعى النصّ إلى توضيحها والإعلان عنها.

المختفي هنا

هو الفكرة ذاتها

نواة الإبداع وركيزة العمل الفني، والتي يبدو معها النصّ مجرد نصّ وليس أكثر دون هوية أو ملامح.

نصّ من حروف وكلمات وجمل ثم يتضخم إلى فصول.

هنا لابد أن نطرح السؤال الموجع التالي :

هل (المختفي) هو نصّ روائي حقاً؟

وهل السيد الحسن روائي؟ ­

أم أنه كاتب نصّ يقترب من شكل يسميه رواية؟

أقصد شكلاً خارجياً وليس بناءً.

أميل متحفظاً إلى الخيار الأخير.