القليل من الفرح |
المقاله تحت باب قصة قصيرة لم يرتخي لهُ جفن تلك الليلة، ولم يعرفَ النعاس سبيلاً إلى مقلتيهِ، أهو في حلم؟!، هل تحقق حلم السنين؟، لسعات أشعة الشمس وقرصات البرد لم تذهب أدراج الريح، هل ظفر بمسعاه، هل يجني ثمرة وقوفه ساعاتٍ في طوابير أمام دائرة التقاعد؟. ثلاثون عاماً انصرمت في خدمة الواجب الوطني، ومنذ ثلاث سنوات أحيل للتقاعد، ولكنهُ لم يستطع أن يكمل أوراق ملفه حتى الأمس؛ اتصل بهِ أحد أصدقائه القدامى، وأخبرهُ أن أبنتهُ قرأت أسمهُ ضمن الأسماء التي تم الموافقة عليها، وغداً سيستلم أول راتب، شدة الفرح وسعة البهجة طردت النوم من عيني الرجل العجوز الذي قضى الليل يتقلب في فراشة كمراهقٍ عاشق، غير مصدقٍ حقيقة ما سمعهُ، حتى شهق الصباح أنفاسهُ الأولى وصبت الشمس بأشعتها من ثقوب النافذة الخشبية القديمة على الغطاء الذي كان يرميه على بدنه النحيل، استيقظ بنشاط وحيوية، لم يشأ أن يصل متأخراً، حلق ذقنه واغتسل وارتدى جلبابهُ الأبيض، استبقَ خطاه حتى يكون أول الحاضرين، وحالما وصل وجد هناك من سبقه أو من قضى الليل هناك، رجلان وثلاث نساء وطفلان يتجاذبان دمية بترت إحدى ساقيها، كان قد رمى بها بائع الألعاب المستعملة في نهاية الشارع، ألقى التحية واصطف في الطابور، لم يكن الباب قد فتح بعد، كان المكان هادئاً سوى من بعض همسات النساء وصوت تجاذب الطفلين، الرجلان يجلسان بصمت وجمود وكأنهما جثتين تجمدتا، أحدهما طاعن في السن، عليه ملامح التعب والوقار، أبيض الشعر والذقن غائر العينين ذو أنف كبير وجلد مطوي كطي الكتاب على جبينه ووجنتيه، وتفاصيل كثيرة أخرى في وجههِ النحيل العتيق، ويرتدي جلباباً رثاً بالكاد يستر عورته وضعف جسده كان يرتشف سيجارة بأنفاس متتابعة، أما الرجل الثاني فكان في الثلاثين، لم يبدُ عليه أنه جاء لتسلم مرتبهُ التقاعدي بل ربما جاء نيابةً عن أحد أفراد أسرته، أما النساء فلم يستطع التعرف إليهن فقد كن يرتدين العباءات ويجلسن بجوار الحائط، وقف بمحاذاة الحائط، وبعد فترة قدمَ رجلان ثم فتاة وامرأة وتتالى آخرون حتى عج المكان بالناس، ووصل الموظفون والمدير وبدء الناس يتوافدون إلى الدخول، وكان عليه أن ينتظر دخول الرجلين اللذين سبقاه في الصباح الباكر، كان الضجيج يرتفع شيئاً فشيئاً كلما ازداد توافد الناس، دخل أحد الرجلين، وسمع صوت بكاء طفل التفت ليجد أحد الطفلين قد ساقط على الأرض والدمع يتلألأ في عينيه دون أن يستطيع البكاء، ينتحب وبالكاد كان صوته يسمع، لكن أمه لم تبالِ فقد كانت مشغولة بكلام النساء، ثم نهض وجعل الطفل الثاني أمامه ليسدد إليه لكماتهُ الضعيفة لكن دون جدوى فقد كان الثاني اكبر جسماً وعمراً ولم تكن لكماتهُ لتؤثر به فعادا يتجاذبان، مضى زمن ليس بالقصير على دخول الرجل الأول ولم يخرج، وفجأة اندفعت سيارة إلى جانب الطريق شاقةً طريقها بين السيارات، منجرفةً معها في الشارع، ولكن سرعان ما شتت انتباهه خروج الرجل الأول ودخول الثاني، وأيقن أنه التالي وارتسمت على وجههِ القديم ملامح الفرح، ثم سمع صوت مكابح السيارة وتوقفها كانت السيارة سوداء من نوع (BMW) يستقلها رجلان احدهما يغطي وجهه شعر كثيف أسود وكان شاحب الوجه، خائفاً، مصفراً، يرتجف، مشتت النظرات، أما الثاني فأبيض البشرة أسود الشعر يرتدي نظارات سوداء شمسية كان يخاطب الأول بطريقة الحث والتشجيع، لم يستطع أن يسمع الحديث الذي يدور بينهما، ولم ينتبه أحد لهذا الموضوع وبعد مرور دقائق نزل الأول من السيارة كان يرتدي سترة؛ مع إن الجو لم يكن بارداً إلى درجة ارتداء ملابس كثيرة، خطى بعض الخطوات، ندسه أحدهم بأصابعه على كتفه استدار فوجد الرجل يقف خلفه في الطابور: (ألن تدخل حان دورك؟) قال الرجل، أجابهُ (نعم؟، بلى شكراً) دخل وخطى مسترسلاً نظرات الفرح يميناً و شمالاً، ينثر ابتساماته على الموظفين، لم يطل بع الوقت كثيراً كالرجلين السابقين فقد سارت الأمور على أحسن ما يكن، استلم راتبه التقاعدي الأول، لم تكن الفرحة لتوصف، قبَّل المال ثم شكر الله ودس المال في جيبه، وانطلق صوب أشعة الشمس التي كانت ترسل خيوطها الذهبية من خارج المبنى مكونةً شكلاً رباعياً مضيئاً على الأرض الرخامية، أندفع بقوة وتوقف على عتبة الباب، فوجئ بأن الرجل لا يزال يخطو ببطء مقترباً من الباب، شاهد تلاطم شفتيه، لم يستطع أن يسمع شيئاً فصوت صخب المارة والناس الواقفة كان يعلو ويضج، التفت إلى يسارهِ حيث عربة بائع (الفطائر) شعر بالجوع بعد أن امتلأ جيبه وشعر بعناء الوقوف طويلاً، لم يكد يخطو خطوة واحدة أخرى حتى ساد المكان صمت قاتل فجأةً وشاهد المرأة التي أمامهُ قد تدلى فكها السفلي وجحظت عيناها ثم أحس بصوت كان أشبه بصوت الرعد ثم ساد الصمت، ووجد نفسه ملقى على الأرض نهض فوجد المكان يعج بالغبار لم يتذكر سوى بعض كلمتين كانتا آخر ما سمع (الله أكبر) وبعد دقائق أنجلى الغبار فشاهد الناس في هلع وكر وفر، التفت يميناً ويساراً، شاهد الناس بهرعون باتجاهه ولكنهم يمرون بالقرب منه دون أن يولوه أي اهتمام استدار ونظر حوله كان هناك الكثير من الناس على الأرض، وبعض من الأطراف والأشلاء المتشظية المتناثرة هنا وهناك، حاول أن يستفسر عما جرى لكنه لم يجد أحداً يصغي إليه، وثب ليساعد في نجدة الجرحى، واتجه مهرولاً نحو رجل كان يتأوه وقد بترت يده وساقه، ولكن أسرع إليه رجلان وسبقاه ليحملا الرجل إلى عربة الإسعاف التفت يمينا فوجد الطفلان ساقطان على الأرض وتحت قدميهما الدمية المبتورة القدم وقد تلونت بالأحمر من دمهما، وقف صامتاً دون حراك، ثم أفاق وتوجه نحوهما ولكن مرةً أخرى تقدم رجل وحمل الطفلين، ثم تلفت يمينا وشمالاً وشاهد رجلاً هناك عند الباب (لما لا يحمله أحد؟ هل فارق الحياة؟ أوليس للموتى مكان في عربات الإسعاف، لا بأس الأحياء أولى من الأموات وسيُحمل فيما بعد، سأذهب لأرى إن كان قلبه ينبض بالحياة أم توقف)، تقدم وجلس عند رأسهِ كان المصابُ ساقطاً على وجههِ حاول أن يقلبه ولكن دون جدوى؛ أمرٌ غريبٌ يحصل! لماذا لا يقوى على قلبهِ؟، استجمع قوته وحاول ولكن باءت محاولاته بالفشل، التفت إلى الوراء وبدء يصرخ ويستنجد أحداً ما، لم ينتبه له أحد، وبعد مرور دقائق نظر أحد الرجال إليه واتجه نحوه وتبعه رجل آخر فقلبا الجثة وحملاها وساعدهما كان يحمل الجثة من وسطها، وعند باب العربة كان عليه أن يترك الجثة ليدخلاها الرجلان، وقرر أن يلقي نظرة على وجه الميت علهُ يعرفه؛ فهو أحد الرجال الذين كانوا يقفون في الطابور نظر إليه، وفجأة توقف وتسمرت قدماهُ في الأرضِ، وتصلب جفنه فلم يعد يرتد لهُ طرف، وجحظت عيناه، وأصفر وجهه، وجفت شفتاه، وارتخى رأسه وتدلى على صدرهِ، تهاوى على الأرض وظلت عيناه مفتوحتان ينظر إلى السماء ومرت لحظات كأنها ساعات بل هي أيام وسنين، لقد شاهدهُ نعم شاهد نفسه (إنهُ جسدي.... إلى أين تحملونني أعيدوني إلي ها أنا هنا) وبعد مرور وقت طويل أيقن أنه ميت لا محال فقدْ فقدَ الحياة وانتهى كل شيء، دفن يده بجيبه ليخرج المال الذي قبضهُ اليوم. |