قراءة في اوراق هاني بن ال الجراح الطائي - ح 1

المقاله تحت باب  رواية
في 
21/10/2007 06:00 AM
GMT



تمهيد

1. ان هذا السفر هو قراءة في أوراق أحد أعلام العراق (هاني بن عبد الرحمن آل الجراح الطائي) من كتب السيرة الذاتية لمرحلة مهمة من تاريخ المماليك في العراق وما صاحبها من أحداث منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي ولغاية منتصف القرن التاسع عشر الميلادي والتي غفل تاريخ العراق المعاصر عن سرد اغلب وقائعها وشخوصها وان تعرض لأبرز أحداثها بصورة مجملة.
أما هذه الأوراق فقد تطرقت إلى أمور تفصيلية عن الحوادث التي غفل هذا التاريخ عن تسجيلها ولهذا السبب تعطي هذه الأوراق صورة عن اغلب الأحداث والأشخاص البارزين في هذه الحقبة التاريخية المهمة والتي قررت مصير العراق وشعبه لمدة تقارب قرنا من الزمن.
ومن خلال البحث والتقصي عن أخبار هذه السيرة التي تبرز بوضوح تطلع العراقيين إلى الاستقلال التام عن الدولة العثمانية ما قدموه من التضحيات في سبيل هذه الغاية النبيلة التي كادت أن تتحقق لولا معاكسة الأقدار إذ لم يتهيأ لهم القائد الفذ الذي كان باستطاعته ان يمضي بهم قدما لتحقيق هذه الغاية.
فالسيرة هذه حياة كاملة وحقيقية لأشخاص عاشوا ومارسوا حياتهم وتزوجوا وانجبوا وان قسما من أبنائهم لا يزال يعيش في نفس البيئة والأماكن التي عاش فيها آباءهم وأجدادهم. وبسبب تلف قسم كبير من هذه الأوراق بفعل الزمن وسوء الحفظ اصبح من المتعذر قراءتها لذا قام والدي "رحمه الله" بترتيبها واعادتها إلى الحياة بعد فقدان الكثير من أوراقها الأصلية منذ ان ورثها مع ما ورثه من دارهم بمحلة (عيفان الفضل) في قلب بغداد القديمة. وقد طلب مني قبل وفاته أن اقوم بطبعها ونشرها لما فيها من فائدة لطلاب الحقيقة والتاريخ.
2. اما قرية هاني بن عبد الرحمن (ارضمه) فقد كانت قرية رعوية اغلب سكانها من البدو وقد تم تدميرها ثلاث مرات.
أ. في المرة الاولى علي يد منكو تيمور ابن هولاكو الاخ الاصغر لابغا بن هولاكو حاكم العراق المغولي عندما توجه من العراق إلى بلاد الروم عن طريق الشام بعد اثنان وعشرون سنة من معركة عين جالوت فخربها انتقاما من أهلها الذين كانوا قد قاتلوا مع امير قبيلة طي في برية العراق وأحلافها احمد بن حجي وأمير قبيلة طي في الشام وأحلافها عيسى بن مهنا أمراء إمارة آل ربيعه الطائية اللذان انضما إلى جيش سلطان مصر المملوكي سيف الدين قطز وان ينتصروا على جيش التتار في فلسطين بمعركة عين جالوت (658هـ 1260م) ويقتلوا قائده (كتبوغا) الذي كان قائد الجناح الأيسر لجيش هولاكو عندما استباح بغداد (656هـ 1258م) فلما رأى اهل القرية ما فعله مانكو تيمور بقريتهم انضموا ثانية إلى مقاتلي إمارة آل ربيعه الطائية بقيادة احمد بن حجي وعيسى بن مهنا واطبقوا على جيش التتار الذي كان بقيادة منكوتيمور يقاتل جيش سلطان مصر المملوكي الناصر قلاوون في معركة حمص (680هـ 1281م) وانتصروا على التتار وكان عيسى بن مهنا حاملا ريشة على رأسه وقت المعركة فلقب (بابو ريشه) وعادت القرية إلى الحياة بعدها.
ب. ودمرت القرية في المرة الثانية بعد قرن ونصف من سقوط بغداد أي في 795هـ 1393م) عندما احتل بغداد المغولي تيمورلنك فهرب سلطانها احمد الجلائري إلى حلب يريد السلطان برقوق المملوكي في القاهرة فنزل قرب قرية ارضمه ضيفا على منازل امير إمارة آل ربيعه الطائية (نعير بن حبار بن مهنا) وهو في طريقه. فقام تيمورلنك بتدميرها عندما مر بها متجها إلى الشام ولكنها عادت إلى الحياة بعدها.
ج. اما في المرة الثالثة فقد كان تدميرها نهائياً وكلياً بواسطة اسلحة الطائرات الامريكية والحليفة يوم (23/1/1991) التي عالجتها بالمدافع والصواريخ وحاويات النابالم الحارقة – بطريق الخطأ كما ادعوا – فلم تقم لها قائمة وقتل اغلب سكانها حرقا واختناقا وقد حدثني شاهد عيان عن كيقية اصابة احد هذه الصواريخ لمسجدها فاحال منارته وقبته إلى تراب وأسقط حوائطه. واحرقت حاويات النابالم خيامها واكواخها وصيرتها اكواما من الرماد وقضت على كل اثر من اثار الحياة فيها وتشرد اهلها الناجون ثم اتت الامطار الشديدة في تلك السنة التي استحالت سيولا لم تنقطع فجرفت هادرة كل ما تبقى من رمم قرية (ارضمة) متجهة بها هذه السيول وهي تغيض في اخدود عظيم.
وفي نهاية موسم الامطار ظهر في السماء قوس قزح هائل ارتفع الاف الامتار فوق سطح الارض جميلا ساحرا يحمل بشارة من السماء إلى الارض بالسلام لارواح اهالي قرية (ارضمة) التي اختفت هي وسكانها من على سطح الارض.

الفصل الاول
هزيمة الرجال الشجعان

لا احد من الناس يعرفني مثلما اعرف نفسي فانا اعرف الناس بها دون ان انظر إلى المرآة أو اسافر داخلها. اعرفها بكل اجزائها وخلجاتها الارادية واللاارادية وبكل اعماقها الظاهرة والمستترة وبكل احلامها الممكنة والمستحيلة واحاسيسها المعقولة وغير المعقولة. وبالرغم من اني اسير سيرا طبيعياً في الطرقات وادرك ما يدور حولي الا اني احس بأني محتجز داخل نفسي بشكل جبري يعتقلني نسيجها العنكبوتي كسمكة لا تستطيع الخلاص من محيطها المائي.
اكتشفت ذات يوم باني استطيع ان اقول الشعر بطريقة جذابة ثم اكتشفت بعد زمن اني امتلك من الخيال كمن يطارد طيفا لا يستطيع الامساك به احد يلوح بين معزوفات الموسيقيين ومجلدات الاقدمين واسواق العطارين وان كنت لم اقتنع بحقيقته حتى الان. واخيرا استطعت ان ارى الامور بوضوح اكثر عندما قدر لي ان انجو من يد المجرمين اللذين اغتالا ابي عندما كنت في العاشرة من عمري في ليلة ليلاء. كان القابل شابا صغيرا في ميعة الصبا مألوف الملامح ذا شاربين رفيعين. راح يستجوب ابي وقد قيده شخص اخر لم أتبينه جيدا يرتدي لباسا اشبه بلباس المماليك الشراكسة، اما الشاب الصغير فقد كان لباسه اشبه بملابس الانكشارية؛ استيقظت من النوم تماما على صوته وهو يسأل ابي خارج الغرفة التي كنت نائما فيها:
-اين تخفي زوجتك الذهب والنفائس؟ سأله الشاب الصغير
-فاجابه والدي: ولكنها ميتة
ولم يفلحوا في العثور على ما كانا يبحثان عنه وفي اللحظة التي رميت نفسي على والدي اطلق الشاب الصغير النار عليه فأرداه قتيلا قبل ان يلوذا بالفرار ولم ادرك ان ما رأيته حقيقة الا بعد زمن طويل. فالاطفال يعيشون في دنيا من العجائب والمعجزات. كنت ارى في كل ليلة وانا اضع راسي على الوسادة شخصين اعرفهما تمام المعرفة يطلقان النار على ابي فيرديانه قتيلا وسط بركة من الدماء وهما يصعدان إلى منصة مرتفعة. حتى غدى هذا الحلم هاجسي كل ليلة وقد جعلتني مأساتي هذه اعي مأساة الاخرين في سعيهم الازلي إلى السعادة والعدالة عبر صنوف العذاب والمظالم في سن مبكرة ولما ابلغ الوالي عبد الله التوتنجي باشا بهذه الجريمة اهتم بها وارسل إلى الدفتردار داود آغا إلى وحاجي اغا الانكشاري طالباً ان يتحققا بالامر إلى ان جاء قريبنا الشيخ سعد الله الطائي ومرافقاه عبد وعبيد ومعهم جدتي من البادية وفرس اصيلة هدية منه إلى الوالي فازداد اهتمام الوال وارسل الكثير من الابرياء والمفترى عليهم والمعتوهين واخرين اقتيدوا خطأ إلى السجن فقد كان الولاة العثمانيين يؤمنون بان اطلاق سراح برىء من السجن اهون بكثير من البحث عن منفذ الجريمة وانه كلما ازدادت الاعباء عليهم وهم يبذلون جهدهم في جباية الاموال وارسال حصة الاسد منها إلى اسطنبول ازداد استحواذهم على الباقي مثلما يؤمنون بمبدأ الشفاعة فكلما بنوا مسجدا أو قاموا باعمار تكية في هذه الدنيا ازداد عدد القصور التي تبنى لهم في جنة الفردوس. وبقيت جدتي لتعتني بي هنا وتعهد الشيخ برعاية امورنا في القرية. ولكن حياتي تعقدت واصبح عذابي ان اعرف من هم قتلة ابي ولماذا قتلوه.
مرت سبع سنوات على الحادثة وقد قتل الوالي التوتنجي باشا وتوفت جدتي في العام الماضي وانا اجلس الان وحيدا اسجل ما اراه واسمعه عن الثورة التي اشعلها داود باشا المرشح لتولي ولاية بغداد ضد صهرة الوالي الحالي سعيد باشا ابن سليمان باشا الكبير متمنيا ان يعود الهدوء إلى المدينة التي سادها الاضطراب والفوضى لاعود لممارسة حياتي الاعتيادية في الدرس والتحصيل من جديد وان بدا هذا الامر بعيد الاحتمال بعد ان شاهدت الانكشاريين وهم يستولون على السراي ودواوين الحكومة وقد لجأ سعيد باشا هو واتباعه إلى القلعة متخذين موقف الدفاع فيها. وبرغم ولادتي في بغداد فلا يزال تراب القرية يغطيني وقد جعلتني الظروف التي نععيشها اكثر نضحاً وصرت كمن يقاتل التأريخ بالسلام وازددت اقتناعا بكراهيتي للمدينة التي سأبتهج لو ودعتها إلى الابد برغم شجاعة اهلها وفروسيتهم وروعة قصائدهم التي تبدو قصيدة حياتي كلمة واحدة تجاه قصائدهم فقد كانوا شعراء حقيقيين. فالعربي يولد شاعرا فنحن محكومون بالشعر احياء كنا ام امواتاً. نولد مع الشعر ونضع على رخامة قبورنا بيتا من الشعر. نتذوقة مع رنين الكلمات وتشكل حروفه نغما ومعنى في حياتنا قبل ان نطل من نافذة اروقة الدرس متطلعين إلى ثقافة العالم الواسع، وقبل ان نتعلم من اللغة جماليتها واطاراتها المذهبة ونتصل بعالم المعرفة المدهش الذي يشكل تحديا يومياً لحياتنا الطفولية.
فعالم الشعر هذا يثير فينا الانفعال والهواجس بصورة تتعذر على الوصف. اما الان فلم يعد الامر كما كان وصارت الاشياء تبدو وكأنها مختلفة واستحالت مدينة الخلفاء العظام إلى وردة ذابلة ما زالت عليها اثار مجد العباسيين وحكايات الف ليلة وليلة. واصبحت بمآذنها وقباب مساجدها وبيوتها وشوارعها ووجهها الصارم المحافظ كمن ينتظر شيئا واحساسنا بانها لم تعد قانعة بعذريتها ونقاءها وقبور اولياءها بعد ان اجتاحها وباء العنف وحمى التغير وتم قتل عدد اخر من ابناءها وعلماءها واشرافها بلغوا المئات. ولم تنتهي محنتها بقتل بعضهم وهرب البعض الآخر بل ابلغ داود باشا الاستانه بان سعيداً باشا يثير رجال الدين وعموم الشعب على الدولة العلية وسلطانها محمود الثاني خليفة المسلمين فاهتز كل شيء وظهرت البدع وعملت الرجعية المتحجرة والامتيازات والخيانة وشراء الذمم على سحق المدينة واهلها واحكام الحصار عليها. فارتفعت اسعار المواد الغذائية ارتفاعا فاحشاً ولم يعد الصمود فيها ممكنا ورحنا نتعرض من هجوم لآخر كان اشدها تأثيرا على العقل والمعنويات الاشاعات الكاذبة والاراجيف المزيفة التي يطلقها اعداء الوالي فمات الكثيرون وجرح الكثيرون وفرض العنف نفسه وتغيرت وجهة الكثير من الامور فحمى العنف والثورة امر يشبه الحمل والولادة خاضع للزمن والتهيؤ. لعبة لا تنطبق عليها قواعد المباريات التي نعرفها فقد كانت نتيجة لتراكمات تاريخية ونفسية وحضارية لم تتوقف يوما واحداً. ولكن الظروف التاريخية والاجتماعية والثقافية لم تسمح لها بالانفجار الا في عصرنا وسيضل كل وعي عن الثورة التي قامت في بغداد ضد الوالي سعيد باشا ولا يغوص إلى الاعماق سطحيا وغامضا. ان ساعة العنف لم تكن واقفة حولنا وان وقت الثورة لم يبدأ بنا فكل لحظة من زماننا هذا لها علاقة باللحظة التي سبقتها فالثورة لم تولد من العدم ولعلها بدأت قبل اللحظة التي اجتاحتنا فيها قبائل المغول واسقطت دولتنا المتهرئة. فقد كانت تلك القبائل كالنار احالت كل شيء إلى رماد فوق سطح الارض وهشيما تذروه الرياح. اباد حصادهم الدامي ثلاث امبراطوريات اعظم ما جاد به زمنهم آنذاك فقد كان التأريخ يحرك هؤلاء الغزاة لينهي بهم عصرا من عصور عذاب الارض وهي تمر بمخاضها الدامي تحت سماء مغشاة بالحرائق وخيولهم تطأ أجساد الملوك وتميط عن الطبيعة سرها وتعيده إلى العدم الذي سرى في الكون واختلط بكل شيء: الغزاة والتأريخ والضحايا لتبدو وحوه القادمين من سهوب اسيا القصية تلمع تحت بروق سيوفهم وهم يحرثون الحياة ويعرونها أمام مرآة التأريخ. فقد كانت الحياة تتحلل كل يوم لتقوم مكانها حياة اخرى، تنشأ من جديد على اسس جديدة ولكن من الذي سيلحظها؟ ومن الذي سيشير اليها؟ ومن الذي يستطيع ولو بقدر ضئيل ان يحدد ويعبر عن قوانين هذا الانحلال وهذا الخلق الجديد؟ لست ادري كيف تستطيع الطبيعة الانسانية ان تتحمل تعذيباً كهذا، دون ان تهوي إلى الحضيض. ولهذا لم يكن غريباً عندما صنع هولاكو ومن بعده تيمورلنك اهرامات من جماجم شعب مدينتنا عندما اجتاحوها كمظهر من مظاهر الانتصار عليها. ونزفت الحضارة الانسانية دما غزيرا قانيا كما تنزفه الان وسطر التأريخ على لوح الزمن "دع الرابحين ياخذون ما يشاؤون اما الخاسرون فبوسعهم ان يتباكوا كما يشاؤون" واضطررت إلى الانتقال لبيت اخر هربا من السلب والنهب ودوي المدافع واطلاقات البنادق وهوسات الفرسان واناشيد الانكشارية. وقد طوق الحيش السلطاني بغداد بقيادة داود باشا فأستنجد الوالي سعيد باشا بقبائل الفرات الاوسط الذين سبق ان ساعدوه في الوصول إلى كرسي الولاية وخف إلى نجدته حليفه الشيخ حمود الثامر ومعه الف وخمسائة فارس. وفي جو شتائي حزين وقد اجردت الاشجار من اوراقها واجدبت الحقول من نباتها وسكنت الريح في يوم غائم جرت معركة حامية بين الطرفين خارج اسوار بغداد عند الباب المسمى بباب المعظم إذ قام هؤلاء الفرسان الاشاوس بحركة هجوم مباغتة تؤازرهم مدفعية القلعة فحققوا النصر لسعيد باشا مما اضطر زوج اخته داود باشا إلى سحب قواته واتجه شمالا بغية اعادة تنظيمها.
ظن سعيد باشا ان الخطر قد زال عن بغداد ففتح ابوابها واعاد الطمأنينة للنفوس وسمح للشيخ حمود وفرسانه بالعودة إلى ديارهم فخطأ بذلك خطأً قاتلاً فوجود داود باشا مع قواته وهي تهدد المدينة جعل اسعار الاطعمة تميل نحو الارتفاع تدريجيا واخذ انصار داود باشا المنتشرون في كل مكان يبثون الاشاعات المهيجة في الاسواق والمقاهي ويحرضون الناس على التمرد ضده. وبدأت اولى بوادر الثورة في محلة باب الشيخ إذ خرجت المظاهرات منها وامامها حملة الدفوف والاعلام وهم يستغيثون من سوء الحالة وضيق اسباب المعيشة وارتفاع الأسعار وانقطاع الطرق. ثم عمت الفوضى وكثر السلب والنهب وراح المتنفذون يفعلون ما يشاؤون دون رقيب أو حسيب مما اضطر الوالي هو واتباعه ان يلجأ إلى القلعة مرة ثانية متخذين فيها موقف الدفاع واستمر الهيجان في المدينة واستمرت حمى الثورة فيها وهي تمزق الغشاء القديم الذي يغلف كل مفردات حياتنا بكل العواطف والافكار التي نسجناها حول انفسنا مع تقادم الزمن وتسلخنا عن المألوف لتحررنا من طفوليتنا. واستسلمنا للدهشة الغامرة التي سنتمرد عليها مع الوقت فقد كنا بانتظار ما لا ينتظر ومجيء من لا يجيء كنا ننتظر المجهول واصابت هذه الاحداث الكثير من الناس بالعنفوان الذي جعلهم يلمسون السماء بايديهم ويتحدون الزمن ويغيرون نظام الانسان ولكنهم فشلوا في ما ارادوا وضاعت امالهم بسبب جمود العلاقة بينهم وبين التأريخ ففي بغداد كان الولاة والأغوات والانكشاريون يعيشون على طرفي نقيض من فقر عامة الناس وشقاءهم ففي ولائمهم وملاهيهم يتردد ذكر الصحون وملاعق الذهب والاواني النادرة ومناديل الحرير والموسلين المطرزة وأباريق الفضة والعطور تؤازرهم ما يشترونه من السنة الادباء والعلماء والشعراء التي تنطق اقوالهم وقصائدهم بالتغني بالمناقب والامجاد اما جماهير الناس الذين يرزحون تحت وطأة الاغتصاب والظلم فليس هناك من ينطق بلسانهم أو يدافع عنهم وكثيراً ما تأثروا هم انفسهم بما ينشر هؤلاء الشعراء والأدباء في مدح الوالي فيصدقون به وينسبون الظلم الذي حل بهم إلى القضاء والقدر أو يعللونه بانه عقوبة من السماء على ذنوبهم.
قررت ان ارحل عن مدينتي التي اصبحت مدينة للأشباح واهيم في صحراء ياسي القاحلة خارج سلطة شرائعها وقوانينها واعود إلى قريتي لابقي لنفسي بعض احترامها ولا احرمها من كل حقوقها وامنعها من ان تكون حجارة شطرنج لاحد. وانا ارى مجتمعها يفرغ من انسانيته ويتحول إلى كائنات غبية محبوسة في اطار ضيق وسجن انفرادي كبير اعاد إلى عصر الانحطاط كل رؤى جديدة ونظرة إلى المستقبل وتطلع للرقي فتحول كل شيء إلى ضريح وذكرى وقد ادركتنا الشيخوخة ولم تولد بعد.
ذهبت إلى دار قريبي الحكيم عبد الوهاب اغا الجراح فوجدته منشغلا بين المرض والجرحى فأستأذنته بالسفر إلى قريتي فحاول ان يثنيني عن عزمي وهو يقول "هناك صعوبة في الخروج من اسوار بغداد فابواب السور لا تفتح الا للحراس والدوريات أو المغاوير الصناديد من شجعان المحلات". وقد بدا وانا انظر إلى عينيه الكليلتين وشعره الابيض عجوزاً جداً، وهو يقول:
أن السير غير امن في هذه الايام الا بحراسة القوافل القوية، ولكنني اصررت على السفر فلما رأى شدة اصراري اعطاني مبلغا من المال وهو يدعو لي بسلامة الوصول فأوصيته خيرا بداري القريبة منهم وخرجت من عنده متجها إلى باب المعظم حيث تجمهر عدد من صناديد المحلات الشجعان وكانت اصوات الرصاص والقنابل تلعلع في الجو وقد وقف معنا عدد من شجعان محلتنا (محلة عيفان الفضل) متحمسين للقتال فهؤلاء المغاوير يحبون دائما أن يثبتوا رجولتهم في المعارك فهم يندفعون وراء اول صيحة يطلقها احد الرجال من ذوي الصوت الجهوري هاتفاً بأهل محلته مستنجدا بهم حتى يهب الكثيرون منهم مدركين أو غير مدركين مستجيبين له، شاهرين اسلحتهم في ثورة عارمة لا يعرفون بوضوح لماذا ثاروا وراء صيحة النخوة هذه ويزداد اندفاعهم حين يلمحون النساء ينظرن اليهم أو يزغردن لهم فيرمون بانفسهم إلى الموت من حيث لايشعرون. لذلك اصر هؤلاء الصناديد على فتح باب السور والخروج لمقاتلة القوات الغازية وكان يشجعهم على ذلك(كاظم اغا ابن علوش افندي). وقد حاول احد عقلاء المماليك حاجي آغا الانكشاري المعروف بالتروي والحكمة أن ينصحهم ويبين لهم مغبة عملهم الطائش فلم يأبهوا له وقابلوه بتهكم وشتموه ثم اندفعوا خارجين من باب السور واندفعت خارجاً معهم لغرض في نفسي وبعد أن سرنا مسافة قليلة هجمنا على طابية عند ساحل دجلة وغنمنا سلاحها ومدفعين صغيرين كانا فيها سحبناها قرب السور بين هتاف الناس وتشجيعهم ورحت اتحين الفرصة لابتعد عنهم ولكن ما حصلوا عليه هؤلاء الصناديد من غنيمة سهلة أغراهم أن يتجهوا نحو طابية اخرى تقع على طريق الاعظمية وهناك فاجئنا رعيل من عشرة فرسان من "السباهية" فهزمونا شر هزيمة وصار السباهية يطاردوننا حتى أوصلونا إلى باب المعظم وحين شاهد الجمهور الذي كان هناك خارج السور ما حل بأبطاله الأشاوس فرو إلى داخل السور نحو المقاهي وصار بعضهم يدهس بعضا وكنت اسمع صراخهم وقد سقط منهم جرحى وقتلى وانا اهرب باتجاه النهر نازلاً من ضفته العالية إلى الماء افتش عن مكان اختبئ فيه بين أدغال النهر وفجأة لمحت قاربا صغيرا لاحد صيادي السمك فنزلت فيه ورحت أجدف كالمجنون مستغلاً انشغال "السباهية" بمطاردة زملائي الشجعان مؤملا أن اتمكن من عبور دجلة وما أن تجاوزت منتصف النهر حتى كان احد "السباهية" قد لمحني واخذ يطلق النار على قاربي حتى اوشكت أن ارمي بنفسي في الماء لولا توقف اطلاق النار. وهكذا عبرت نهر دجلة ووصلت إلى ضفة الكرخ سالما وكان هناك بعض الاشخاص يتفرحون على ما يجري عبر النهر، فراح بعضهم يشجعني واعتبرني قسم منهم مجنونا واعتبرني اخرون شجاعا ولكني كنت خائفا حتى ساعدني بعضهم على النزول من القارب. ولمحني بعض اخواني ممن اعرفهم جيدا فاخذوني إلى دارهم معجبين بي وخلال الحديث اخبرتهم باني انوي السفر إلى قريتي عن طريق الانبار فأبدوا استعدادهم لمساعدتي وجاؤوني بجماعة من البدو ممن ينقلون الحبوب لهم من منطقة عكركوف إلى خاناتهم وقد تعهد هؤلاء البدو بأيصالي إلى ابناء عمومتهم من ادلاء القوافل هناك. وكان بعضهم قد سمع بما جرى فأعجب بما سمع بعد أن راح صديقي وكان قد شاهد قسما من مغامرتنا من جانب الكرخ يقص عليهم شاحذا خياله بأسلوب خلاب قصة الهجوم على الطابية واستيلاؤنا على المدفعين والاسلحة وهو يشير الي بكوني احد هؤلاء المهاجمين فقال احد البدو متحمساً:
-لو كانت المدافع لدينا لقمنا بضرب الطرفين فالاثنان من حكومة ظالمة.
ثم جاء زوار اخرون واخبرونا بان كاظم اغا ابن علوش افندي الذي قاد مغامرتنا يدور في المقاهي يتحدث بما قام به الشاب هاني قريب الحكيم عبد الوهاب آغا الجراح الذي هو انا من جرأة في الهجوم على الطابية وكيف كنت اطلق النار من وسط النهر على السباهية فانسحبوا مرغمين. قلت لصديقي متعجباً مما سمعته من المبالغات: أن ما يقصونه عني اشبه بالاحلام.
-قال صديقي حالماً وهو يبتسم بسعادة: ولكن الاحلام جميلة واجمل ما فيها ربما تحققت يوما ما فاجبته بأستغراب
-لا تكن خياليا مثلي فقد كنت في الواقع خائفا وعلى وشك الغرق
-قال صديقي جذلا: هكذا يتواضع الرجال.
-فرددت عليه برجاء: ادع الله لي أن اصل إلى اهلي سالما.
قضيت الليلة معهم وفي الصباح الباكر ودعت اصدقائي وغادرت المدينة بصحبة البدو الذين نفذوا ما تعهدوا به ورفضوا ما قدمته لهم من مال بعد أن علموا باني انتسب إلى آل الجراح وقالوا بانهم من حلفاء قبيلة طي وان آل الجراح من شيوخ هذه القبيلة.
ومع قافلة كبيرة يقودها مجموعة من الأدلاء البدو رحلت إلى قريتي متجهين إلى نهر الفرات متخذين طريق الأنبار.

الفصل الثاني
الرحيل

عبرنا خرائب عكركوف ومعسكرات العباسيين القديمة وسلكنا الممرات النائية التي يسلكها الفارون، مجتازين المستنقعات المالحة والأراضي الوعرة نسير في النهار ونكمن في الليل متجنبين الأماكن المأهولة بقطاع الطرق ومفارز الانكشاريين معقبين الضفة اليسرى لنهر الفرات متعرضين في كل لحظة لخطر الوقوع بايديهم مدركين بانهم اشد علينا من الموت نفسه.
وبعد سبعة عشر يوما من السير الشاق في جو لاهب الحرارة بدت لنا مشارف بلدة مشهد "ابو ريشة" (مقر إمارة آل ربيعه الطائية) أو كما أسماها الدليل (مشهد عنه) لوقوعها شمال بلدة (عنه) وقال بأنها كانت قبل تسلط العثمانيين تمثل الحد الفاصل بين الدولة المملوكية في الشام والدولة المغولية في العراق.
غدت قريتي قريبة وشارفت رحلتي مع القافلة على الانتهاء وقبل أن انفصل عنهم طلب الينا كبير الادلاء أن نكمن في واد قاحل بانتظار عودة احد ادلاءه برخصة المرور من سلطات الامير "ابو ريشة" لأفراد القافلة الذين سيجتازون بادية الشام فالشيخ "ابو ريشة" امير البادية بلا منازع. وعودة دليل آخر من استكشاف الطريق والتأكد من خلوه من الانكشاريين زيادة في الحذر. سألت الدليل البدوي عويد ونحن جلوس بانتظار عودة زميله:
-من يكون الشيخ "ابو ريشة" هذا؟ ألا حدثتني عنه..
-أجاب الدليل وهو يتفحصني بإمعان وقال:
برغم سمت المتعلمين الذي يبدو عليك فيقيني بأنك تعرف الكثير ولكنكم معشر المتعلمين ترغبون دائما في الاستزادة من المعرفة. فالشيخ "ابو ريشة" هو امير إمارة آل ربيعه وشيخ قبيلة طي وأحلافها الذين كانوا يسيطرون على البادية وسقي الفرات من الرقة شمالا إلى نواحي حمص غربا في بلاد الشام فالحلة جنوبا في بلاد العراق وان حكام هذين البلدين يسترضون أمرائها ويقطعونهم الإقطاعيات ويتحفونهم بالهدايا والخلع والرتب لأجل المحافظة على طرق التجارة وامن القوافل ومواكب الحجاج ورسل البريد. وهذا الأمير يتنقل على مدار السنة في البادية متفقدا شؤونها وليحميها من كل طارئ ويتقاضى الضرائب من البلاد الخاضعة له وكثيرا ما يطلقون عليه اسم ملك وهو يأمر في بلاده كسيد مطلق وان كان الأمر قد تغير علهم الآن وضعفت سطوتهم بعد قوتهم وتفرقوا بين العراق والشام. فقاطعته متسائلاً:
-أليس السلطان العثماني هو الملك وعليه إطاعته كما اعلم
-فأجاب قائلاً: أن إطاعته للسلطان العثماني اختيارية فإذا دعي إلى الحرب مثلا ارسل رجاله اليها والأمير ذو استقامة، طهر بلاده من رجال السوء مما جعله على خلاف دائم مع الولاة العثمانيين الذين يعملون على تفريق كلمة القبائل ويألبون بعضهم على البعض الآخر ولا يفهمون امورها، فسامونا العذاب وخربو الزرع والضرع وبذلوا جهدهم في تفريق آل "ابو ريشة" الذي كان اسما مخيفاً لباشوات بغداد وديار بكر وحلب إضافة إلى التنافس والتآمر على الإمرة بين الأمراء انفسهم. فقاطعته متعمدا أن اسمع رأيه:
-ولم يتلقب "بابو ريشة"؟
-نظر لي الدليل باستنكار وهو يعدل كوفيته على رأسه وقال: أن الأمير يتلقب باسم عائلته "ابو ريشة" واول امير منهم اطلق عليه لقب "ابو ريشة" هو الأمير عيسى بن مهنا لاشتراكه مع الملك قلاوون سلطان مصر المملوكي ضد التتار في معركة حمص وكان سببا في الانتصار عليهم فأكرمه السلطان بمبلغ عظيم من المال ووضع ريشة من الذهب على عمامته دلالة على العلو والفخار وأصدر أمرا تشريفياً بتقليده إمرة جميع العرب وصار يطلق على فروع عائلة آل ربيعه التي تحكم قبيلة طي مثل فرع آل مري أو آل فضل أو آل عيسى أو آل مهنا لقب "أبو ريشة" فاشتهروا بهذا اللقب بدلا من ألقابهم السابقة حتى اصبح يطلق على الأمير الذي يتولى الإمارة منهم الأمير "أبو ريشة" دون ذكر اسمه اكثر الأحيان. ثم نظر اليّ بتمعن وقال:
-بالله عليك اصدقني؛ الست قريبهم؟ فهل انت منهم؟ ففيك ما يدل على انك منهم وان كنت من اهل الحضر وسكنت المدن.
-فقلت له وقد ادهشتني فراسته: اني من اقرباء الشيخ سعد الله الطائي.
-انبسطت اساريره وهش بوجهي وهو يقول: خير الشيوخ قريبك فهو من شيوخ طي وافضل من عرفت من امراء البادية، وما دمت قريبه فقد وجب عليّ اكرامك فللشيخ ايادي بيضاء علينا وبمقدوري اخذك إلى مضاربه ان شئت.
-فاجبته: انا لا اعرف مكانه الآن ولعله ما زال بمشاتيه في قلب الصحراء. وسابعث اليه من يخبره بوصولي إلى قرية ارضمه.
-قال الدليل البدوي عويد: ان عربه في الجابرية قرب القائم الآن وبعد غد سنكون في دياره ولكن الذي اعرفه انه سافر إلى الحج هذا العام ولكني ساخبرهم بوصولك بنفسي فقلت له:
-لك شكري الجزيل فأنا ذاهب إلى قريتي وقد اصبحت قريبة من هنا. انقطع حديثنا بعودة الأدلاء ليخبرونا بأن الطريق آمنة فخرجنا من الوادي وتفرق المسافرون فتوجه بعضهم إلى (هيت) و (عنه) والبعض الآخر إلى (جبه وكبيسه) وبدوري ودعت الأدلاء وبقية الركب واخذت طريقي إلى قريتي ورأيتهم قبل أن يغيبوا عن نظري وهم يعبرون الفرات إلى الضفة اليمنى حيث مشهد "ابو ريشه" باتجاه البادية وطريق الشام وبعد مسيرة عدة ساعات عبرت الفرات وواصلت السير إلى قريتي التي لا تتميز عن بقية القرى المتناثرة في هذه المنطقة الا بسوقها السنوي الذي يقام لبضعة ايام بعد موسم الحج فيقصدها البدو والتجار للبيع والشراء وتغدو هدفاً للأنكشاريين ايضاً.
دخلت داري ورحت اتطلع إلى القرية التي كانت كما تركتها منذ سنين تغفو على مشارف الصحراء لاشيء فيها يثير الخيال وعين الماء لاتزال فيها تسيل بكاء على الاحياء والاموات والرياح تداعب نخيلها الذي لا يرتوي عطشه ففي قريتنا لا يدرك طعم السعادة الا الذين جربوها في اذهانهم من قبل وقد امتلئت مآقيهم بالدموع فهي اشبه بالقفرة لا دور فيها الا اكواخ من الطين بين خيام متناثرة وازقة قذرة ودربها المترب الذي يغدو سوقاً لبضعة ايام كل عام يقع بين مسجدها ومقبرتها التي يفصلها عن المقهى الذي نطلق عليه (مقهى المجد العظيم) حاجز صغير من الصخر ينطمس بين القبور ولم يتغير من معالمها أي شيء ولكنها ازدادت فقرا على فقر وبؤساً على بؤس منذ ان تسلط عليها آغا الانكشارية رئيس الحراس في قلعة الحامية العسكرية القريبة منها فأصبح سيدها وراعياً لشؤونها فانتهبها كلص أو قاطع طريق. وانكمشت من الفقر على نفسها فصار منظرها يوحي بالبؤس والفاقة والاهمال.
سررت ودهشت عندما التقيت بعدد من معارفي الذين فروا من المدينة إلى قريتنا هذه هرباً من الفوضى والاضطهاد التي كنا نعيشها هناك من بينهم نوابغ افاضل كانوا اساتذة لي يدرسون في اروقة المساجد والمعاهد قبل ان تعم الفوضى والثورة ويهربوا من بغداد وبمعيتهم رحت اقضي معظم وقتي نجتمع في (مقهى المجد العظيم) نلوذ بشجيراته الشاحبة ونتسقط نتف الاخبار التي تردنا من هنا وهناك عن المدينة وما يجري فيها. وبينما كنت اجلس وحيدا ذات يوم في ركن منغزل من المقهى غارقاً باحلام اليقظة بلا حب أو طموح بعيد المزار كشهاب عابر في سماء ليلة صافية، احلم بالهروب وقد بدت لي فكرة الموت حقيقة هروبية من حقائق هذا العالم القديمة والمثيرة للذعر فقد جاءتنا الاخبار بمقتل الوالي سعيد باشا وتسليم كرسي الولاية إلى داود باشا وانه لقي ترحيباً من الاهالي. وقررت ان ابقى في القرية منتظرا عودة الشيخ سعد الله الطائي من الحج لاعود بعدها إلى بغداد فامارس حياتي الاعتيادية بكل هدوء ولكنها فكرة على اية حال فاحلام اليقظة تأخذنا احيانا في واحدة من اشد الرحلات التي يقوم بها الخيال الانساني اثارة عندما يجد الخيال نفسه في حالة دفاع باعتباره يتفادى الواقع المر ويخترع الاكاذيب لتخفيف هذا الواقع. جلست كمن يسافر في رحلة خالدة لا تصل إلى هدفها ابداً ونظر لي الاصحاب بنظرات الامل بدلا من نظرات الوداع فقد كانوا يجهلون بان الراحلة التي حملتني لن تعود ابدا. كان رحيلا داخل النفس في هذا الركن المنعزل عند طرف المقبرة وانا استمع إلى صدى اغنية تشنف الاسماع تاتي من بعيد:
يا من يسائل عن فوز وصورتها ان كنت لم ترها فأسال عن القمر
جعلتني الأغنية ارى كل شيء حزيناً وحزينا جدا فلم يكن ما اسمعه غناء فحسب بل كان بكاء ايضاً. جلست اقضم افكاري المهلهلة ببطء مع صدى الاغنية الحزينة وتهت في دروب ضبابية وفي آماد زمنية مآلها النسيان. وفي دهاليز رحيل الوهم قطعت صحراء قاحلة فاقعة الرمال يردد فيها الصدى افكاراً ما افصح عنها اللسان ويرفع فيها القلق راياته فرأيت من خلالها جدران العالم التي تآكلها ملح الزمان وشرفاته المتهرئة التي نخرها السوس. وعلى الباب قرأت اغرب بطاقة كتب عليها "مقبرة المجد العظيم" وقد اوشك الباب ان ينهار لو لم تتداركه خيوط العنكبوت. كانت هناك انثى ممددة وفي عينيها لمعان حيوان خائف وانتثر شعرها المموج على الوسادة وقد استحالت نظرات الحنين التي منحتها لها الحياة الفانية إلى جماد وجللها الموت بجلاله، جلست حزينا لا أتألم من أي شقاء تتفتح أحلامي مزهرة فلا يقطعها أي كابوس.
وبالرغم من ان التعب قد هدني فقد رايت اصحابي في "المجد العظيم" قد التفوا حولي وهم يحملون رايات مصبوغة بالدم اكفانا لهم. اما الاخرون الاكثر عزة فقد كانوا يتضورون جوعا في ظل احسان الآخرين وأطال الحقد اعمارهم فراحوا يقضون ما تبقى منها يلوكون امجاد الماضي الكاذبة وهم يعودون بذاكرتهم إلى الوراء يحلمون بربيع سيقبل وبحب ابدي دائم. فالحب ما هو الا لحظة عابرة في عالم الخوف والغدر والتعذيب عالم السحق بالاقدام والعيش تحت وطأة هذه الاقدام، عالم يزداد قسوة وهو يظهر نفسه ناميا مزهرا مثمرا بالعذاب بكل قسوة ووحشية. رأيت التقدم فيه بأتجاه المزيد من الألم رغم ادعاءهم بان العالم يقوم على الحب والعدالة. اما ما اراه فانه يقوم على البغض الم يقتلوا ابي امام عيني بلا ذنب جنيته. وفجاة قطعت علي احلامي تعليقات الاصدقاء حولي؛ قال عبد الله استاذ اللغة العربية الصارم ابداً:
-لن تكون في عالمنا اية انفعالات غير الخوف والبغض والأحتفال بالانتصارات واذلال الآخرين بجرح كرامتهم وعزتهم وكبرياءهم.
واستمعت بلا اهتمام إلى احد الشعراء الشباب وهو ينشد قصيدة بلا قافية:
حطمنا الشعر والقوافي وعادات التفكير
وبالحضارة قطعنا الاواصر التي تربط الطفل بابويه والمراة بزوجها والاخ باخيه
لن يجرؤ احد ان يأتمن زوجته أو ابنه أو صديقة بعد الان
لن يكون هناك ولاء الا للخوف وسلطته المباركة
لن يكون هناك حب أو ادب أو فن غير سلطة الخوف
عندما نكون ذوي مقدرة فلن نكون بحاجة إلى العلم
لن يكون هناك تميز بين الجميل والقبيح لن يكون هناك حب استطلاع أو استمتاع بالحياة
ستكون كل المتع متلاشية
أما المستقبل فلن يولد بعد لانه مستحيل.
سكت الشاعر بعد ان اخذته نوبة قوية من العطاس جعلت رذاذه يتناثر على الاخرين واخذ يردد وهو يمسح انفه بيده " ان ما نحتاجه هو سلسلة من الانتصارات لترويع الاخرين وتجويعهم وترويضهم. يعيش الواقع الحاضر ويسقط الماضي والمستقبل وقبل ان يتم هتافه تفرق اغلب رواد المقهى وراح بعضهم باتجاه الخيام والأكواخ أما الآخرون ففقد اضطجعوا باستكانة عند سور المقهى الذي يشبه قلوب الخونة المنحوتة من الصخر ورغم استكانتهم فقد راحوا يتمردون على انفسهم ويتطارحون ابياتا من الشعر ما انزل الله بها من سلطان وقد انحسرت عصارة الغسق الدموية عن قمم النخيل المحيطة بالقرية التي ينبجس منها الأحياء والأموات كأنهم أشباح في فراغ عالم يخلق من جديد كل مساء لتستسلم إلى الصحراء المحيطة بها. واخذ الليل ينشر حولها نجوما بيضاء وراحت نوافذ الأكواخ تطعن الظلمة في الصميم والقمر يسطع متالقا وقد سقط نوره الباهر على اطراف اشواك المقبرة الندية فخلع عليها بريق السيوف وقسوتها، وبدت السماء صافية ترصعها النجوم دونما سحابة من شرور الحياة التي لا علاج لها. ورسمت وجوه اصحابي المحيطة بي ظلالا غريبة على الجدران بفعل ضوء المقهى الخافت وقد انتصف الليل وبدا الجالسون يحسون بوجود بعضهم البعض دون ان يرى احدهم الاخر جيداً. قال صالح مدرس الفلسفة المتأنق المعطر وهو يرفع عمامته عن رأسه: المرأة هي رمز الحب الابدي وهي المصدر الاول للوجود الانساني ولهذا فهي أما خائنة أو آلهة.
- فاجاب عبد الله استاذ اللغة بوجوم: كلا فالمرأة رمز الحب الانساني وليس الابدي وهي ملتقى الواقع بالسحر والحقيقة بالاسطورة. ان المراة ايها السادة هي طموح الانسان وحلمه في جنة ارضية يعيش فيها البشر بسعادة ووئام وصحبة لانها رمز للحياة المطلقة.
- فاجابه الشيخ عبدل شاعرنا ورجل العلوم الشرعية واكبرنا سنا وقد ترمل من سنين: ان للمراة القدرة على الغوص في اعماق النفس البشرية لتتعرف على معاناتها وتترجمها حنانا واحلاما تفيض على الناس لاسعادهم لانها شعر الحياة.
قال صالح وهو يعيد وضع عمامته على رأسه: ان شعر الحياة ما هو الا امثولة للفوضى والحمق لانه شعر منعزل منحاز ولا قيمة للجمالية الادبية أو محتواها فيه بعد اليوم.
اجاب عبد الله: هل تعني بان الشعر يقوم استنادا على محتواه اللفظي وان تهمل جودته الفنية لانه يمثل النفعية الادبية.
- قال الشيخ عبدل: ان الشعر هو الانسانية المعذبة التي لن تصل إلى هدفها ابدا ما لم تحمل جوهر الشعر الحقيقي أو قدرة النفاذ إلى اعماق الانسان أو وجدانه لان الشعر يعني الالتزام الحي النابع من التفكير بكرامة الانسان وحريته.
- قال صالح: يجب ان تكون هناك رؤية ما.
-اجاب عبد الله : وماذا في ذاك لتكن رؤيا الصمت والترقب والمراقبة للبشر العادي الذي يموج بكل ما لا يخطر ببال ويعبر عنها في كل مناسبة.
-قال الشيخ عبدل : اعتقد ان الانسانية قد تلاشت في عالم مضلل اصبح فيه حتى تاريخ اليوم عرضة للشك. ان اشد اعدائك هو جهازك العصبي فانفعالاتك النفسية عرضة لان تترجم نفسها في أي لحظة إلى مظهر عدائي.
-اجاب عبد الله: ان ميزة الحياة الحديثة ليست الانسانية بل القسوة وافتقارها إلى المثل الأعلى. فالمثل الاعلى المقام حاليا هو شيء يجعل الحياة ليست قاسية فحسب بل ومضطربة اضطراباً يجعلها تفتقد معنى الحياة.
-فقاطعه صالح صارخاً باحتجاج وهو يشير بيديه: انكم اظهرتم الحياة امامي بكل عريها وزيفها وحقارتها وفتورها وكانكم تسلبوني حق الحياة.
-قال عبد الله وهو يخرج قلما من جيبه؛ ان هذا القلم اصبح اداة مهملة لا يمكن استخدامها لشيء.
-اجاب صالح: ان ما يجمع المجتمع الآن هو المكان وليس الاحاسيس والافكار والمشاعر.
وفجأة دخلت مجموعة من الملثمين المقهى وراحت تهاجم الموجودين بعنف وقسوة فانفض الجالسون مذعورين من شدة ضرب الهراوات وطعن السيوف والخناجر ووميضها الذي اخذ الابصار من كل حدب وصوب وهم متجهون نحو الشيخ عبدل الذي اندفعت نحوه بلا وعي مني محاولاً تخليصه من السيوف التي مزقته ارباً اربا وقد تعالت صرخات الألم والخوف واحسست بشيء ثقيل يقع على راسي وانتابني الم عاصف ورأيتني اسقط في هوة لا قرار لها وقبل ان اغيب عن الوعي بين لحظة اليقظة والحلم، في هذه اللحظة التي تنهال فيها الذكريات بدت لي حياتي كشعاع من الضوء الناعم الممتد من الفجر الممطر حيث جئت إلى الدنيا بين حيطان بيضاء في نفس البيت الذي اسكنه في بغداد إلى الصباح المنعش لهذا اليوم. رأيت ابي وامي وجدتي، ومعهم عروس اسمها (مريم) وقد بدوا باحسن حال. كانت جدتي سيدة شديدة التدين صغيرة القوام قامت بتربيتي بعد مقتل ابي وموت امي فعشت في كنفها ميسور الحال ولم يكن لها ابن غير ابي فجعلتني رعايتها الكريمة لي اتصورها اعظم كل النساء اللواتي شاهدتهن في حياتي. كانت تجلس عقب صلاة العصر تستنشق هواء دجلة ليبدأ الحوار بيننا وهي ترد على اسئلتي بجملها الخالدة ؛ عندما تكبر ستفهم.
-ولكن من هؤلاء يا جدتي واشرت إلى أبي و أمي ومريم
-هؤلاء هم المحبون الذين يريدون منك ان تتزوج عروساً كالقمر جمالاً.
-ولكني انظر إلى القمر كل يوم ولا أرى ما تقولين.
-عندما تكبر وتصبح رجلاً ستفهم ما قلته لك.
-ومتى اصبح رجلا يا جدتي.
-عندما تنام مبكرا مثلما تفعل الشمس فعندها ستفهم كل شيء.
ولكني لم افهم أي شيء اول الامر ثم بدأت افهم قليلاً بعد ان عاشت معي في بغداد. وفجاة رايت نفسي افكر بما قالته عن القرية وعن آغا الانكشارية رئيس الحراس الذي استولى عليها فالقرية ميتة لا دار فيها سوى اكواخ الطين بسقوفها المنخفضة التي لا تصلح الا زرائب للماشية ودربها المترب الوحيد المؤدي من مسجدها إلى المقبرة ؛ درباً داسته الاقدام سنينا طويلة فصار درباً تتشعب فيه القرية إلى ازقة ومجموعات من الخيام تتناثر حوله وتحيط به وكيف استولى عليها بالقوة وشرد اصحابها الشرعيين كما شرد الشيخ والمقرىء ومؤذن المسجد. كان معادياً باعتقاد فلسفي لاي نوع من التقدم. قضى حياته وهو يحارب اعداءه حتى ابادهم واخذ كل ما اعجبه وكل ما اراد وحارب كل ما اقره الله من الخير للناس في المثل والشرائع وسمو الحكمة الإلهية. واعتمد على الاجتهاد الإنساني في سبيل مصالحه. وبعد ان قتل من قتل وشرد من شرد اصدر تعليماته ورفض ما جاءت به الشرائع الدينية من سمو الاخلاق وسار على هواه وليس كما سارت عليه اعراف الآباء والأجداد وراقب بشدة وصرامة كيف يتم تنفيذها واشعار الاخرين بها وسرعة اطاعتهم لتعليماته ورعاية مصالحة. وقد غدى اداة الوالي الضاربة في انحاء المنطقة.
كان في اوقات الازمات والشدائد يقتل اعداءه بمختلف الوسائل بشكل سري ولكنه يهرع لنجدتهم علنا وقد ضمنت له اخلاقيته هذه اعلى درجات الخوف من الناس واكتسب انكشاريته الملتفين حوله ثقته المطلقة، أما بارتكابهم الجرائم أو الجور العلني على الضعفاء العزل، أو بأظهارهم تفوق قوته الغاشمة على البسطاء والاستيلاء على ثرواتهم خدمة منه لحساب مصلحته الخاصة وهو يردد اقواله المأثورة أمام ضحاياه وانصارة: (الفرق بين الحلم والحقيقة زائف تماماً) أو يردد (ان الحياة جريمة إذا ولدت الحب والخير فقط).
انتبهت على نباح الكلاب وهي تغطي السماء بعوائها مرعبة الطيور فخطر ببالي كم تصبح الحياة شديدة الظلم والقسوة عندما يموت الحب وتنقطع وشائج الانسانية وتغدو ضعيفة فارغة لا روح فيها، واحسست بان شخصا ما سقاني شرابا شديد المرارة فنظرت إلى السماء الصافية والى القرية القابعة في الظلال وقد بدى الفجر سابحا في نهر من النور الواهن عندما انتبهت اليها وهي تخاطبني. ورحت اتطلع إلى بشرتها المرمرية وفمها الدقيق وطلعتها الأنثوية الرقيقة التي تتناقض مع اتساع عينيها نظرت اليها بعينين مغمضتين اغرورقتا بالدموع وعرفتها فقد كانت مريم ولكنها بدت كما لو كانت فتاة اخرى تشبه عائشة ابنة الشيخ سعد الله الطائي وهي تهمس:
-ان شخصا لا يعرف كيف يغلق فمه من الافضل ان تكبل القيود يديه … قالتها مريم وهي تغالب دموعها وتحاول مساعدتي على النهوض لكنها لم تستطع تحريكي رغم المي العاصف فأردفت:
-لقد ذهب الزمن بقرار الاخلاص والامانة ووجب علينا ان نجد في السعي والصبر فامامنا عمل كبير. وعندما احسست بان يدها قد تلوثت بالدم المتجمد على ملابسي وراسي مسحت وجهي وهي تقول:
-كل شيء سيستحيل إلى خليط لا قيمة له كنفاية قذرة لا روح فيها وسيضطهد الجميع باسم العدالة ويدورون كالعبيد مع عجلة الحياة. قالتها كما لو كانت تتحدث بصوت جدتي. اردت ان اسألها من تكونين أيتها المباركة بين النساء؟ فاختلطت الصور والاصوات وتشبثت بها وانا ارفع صوتي عاليا ولكن صوتي خانني وراحت الوان الفجر الشاحبة تجلل الارض التي تحيط بالقرية وبدا لي كان الناس الباكرون ينبجسون من اكواخها الطينية إلى دربها المترب وهم ينشدون على وقع اقدامهم المتعبة وانا انشد معهم "ان قصة شقائنا لا نهاية لها وان السعادة لا تدوم الا كما تدوم زخة المطر تحت اشعة الشمس. فرزقة السماء ما هي الا قبر كبير وان الموت هو الحل الامثل لكل مشاكلنا. فمن الافضل ان نكون مجرمين يرضى عنا السلطان خيرا من ان نكون أبرياء مظلومين".
-اردت ان اقول لها : ان الناس الذين يقومون باقسى الاعمال يفتقدون إلى اشد مطالب الحياة اساسية وهو ما يضطرهم إلى القيام بهذه الاعمال الشاقة" ولكنني لم استطع النطق فقلت في نفسي متساءلا " الا يكون الثمن باهضاً عندما تتبعثر حولنا الجثث دائما بلا ذنب سوى التطلع لحياة افضل تليق بكرامة الانسان وحريته". همست عائشة بصوت مسموع على شبح آخر عرفت انه والدها قبل ان اراه أو اسمع صوته فمنذ ان وعيت عليهم وادركت بانهم اهلي والاثنان نادراً ما افترقا عن بعضهما.
-انه حي يا أبي ولكنه جريح لا استطيع تحريكه … غمغمت عائشة واجابها الشيخ ورنة من القلق تعلو صوته وهو يتحسس بدني المهشم بيد حاذقة ويسقيني شراباً مخدرا له طعم العلقم يخفف الألم ويطلق الخيال.
-اسرعي وانيخي الناقة يا ابنتي فسياتي بعد قليل من ياخذ الجرحى للعلاج أو يدفن الموتى وان تاخرنا فسيبطل عملنا.
-قالت عائشة وهي تسحب خطام الناقة لتبركها على الارض:
-اتخبر احدا ما بأننا اخناه معنا؟
-اجاب والدها بصبر نافذ:
-لناخذه اولا وقبل كل شيء. ومن جديد سقاني الشيخ مادة مخدرة لها طعم العلقم، تجرعتها بصعوبة وهو يهمس وكان هناك من يلاحقه بصوت قلق.
-تشجع يابني ولا تتكلم فسناخذك معنا إلى مضاربنا في الصحراء فانا عمك الشيخ سعد الله وهذا ما نقوم به الآن، فحياتك هنا في خطر ولكنك ستشفى عندنا باذن الله فهل تذكرتني؟
بصعوبة شديدة نظرت اليه ولم استطع النطق. وراح الشيخ يربط اخشابا مستوية حول بدني وهو يعمل بسرعة ومهارة ثم مر وقت ليس بالقصير عندما سمعت الشيخ يقول:
-حسنا يا بني ما دمت قد عرفتني …
-سألت عائشة والدها بقلق بعد فترة من الصمت، هل سيعيش ياابي؟ ان عينيه متورمتان وهو لا يتكلم.
-اجابها الشيخ: ان اصاباته كثيرة والاعمار بيد الله يا ابنتي.
تعاون الاثنان ومعهم اخرون واضجعوني على الناقة وبحبل متين راح الشيخ يربطني ربطا محكما. احتملت الامي بصبر وجلد وانا اطلق اهات ضعيفة. وما ان نهضت الناقة حتى احسست بان جسمي قد تمزق وصرخت من فرط الألم ولم اعد اعي أي شيء … وبين اليقظة والنوم راحت مريم وهي بملابس العروس تشجعني وتواسيني حتى لم اعد اشعر بمرور الوقت ثم جلست إلى جواري تمسح العرق عن جبيني وتحنو عليّ حنو الام الرؤوم على رضيعها فتهدهدني حتى انام كلما صحوت على حركة شديدة أو احساس بالالم مستشعرا باناملها تطوف على وجهي ويدي وتغمرني بحنان وحب لا ينتهي لم اكن اعرفه قبل الان فلم تكن من عادتها ان نظهر الكثير من هذه العواطف، فقد كانت تصرفاتها طيلة حياتها يشوبها الخجل والحياء.
وما ان يجتاحني الم جارف وانا بين اليقظة والنوم حتى كان الشيخ يسقيني شيئا من علقمه المر، وتحتضنني مريم مخففة عني الامي وينقطع سيل الدموع التي تختلط بالعرق واللعاب والرمل والدم المتجمد وفي لحظة ما احسست وكأن دموعها قد اغرقتني وانها تحتضنني بشدة لا أستطيع الفكاك منها، فرحت اصرخ بها ان تبتعد بعيدا فهي تكاد تقتلني فانتبهت رغم الألم على حركة الشيخ سعد الله وهو يتفقدني ويحكم رباطي على الناقة. وشعرت ولمرات عديدة وانا امسك بيدها مستمدا القوة والعزيمة من وجودها بقربي ولكنها لم تكن موجودة، فما اسمعه لم يكن صوتها بل اصواتا لاناس يتحدثون وهمسات عابرة من عزيف تصفر به الرياح كنت اناديها احيانا عندما تبتعد اناشدها ان تبقى بقربي فانا احتاجها في حالتي الآن. ورغم ذلك كنت لا اريد ان اجهدها بما انا فيه فكنت اسكت عما