المقاله تحت باب في السياسة في
13/02/2007 06:00 AM GMT
نقرة سلمان ، ذلك المكان الذي أخفاه البعث في سياسات القيامة وقطع عنه الطرق الصحراوية التي كانت تؤدي إليه ، لإبقاء الرهينة فيه على حاله حتى الموت أو إشباعها بالإذلال ، أصبح اليوم منسياً ، متروكاً ،لا يتذكره سوى الذين عادوا منه مهانين . كان " نقرة " مكاناً لجعل الضحية كائناً بلا ذاكرة وبلا جغرافيا ، و"كانــ " ـــت قلعة عسكرية أيضاً - لا يُعرف إن بناها البريطانيون أو الروس - صنعت من الذين أُدخلوا فيه يوماً ،بشراً يحلمون بالريّ أبداً ، ذلك ان الجسد كان يجفف في ذلك المكان ويعبد له الرمل من صيف لآخر . كان " الملازم حجاز " حاكم القلعة المحصنة بالمجهول والكلاب المدرّبة على أكل لحوم بشرية عام 1988 ، الحارس والمعذِب والرث (في التعابير والكلمات والسلوك )، يروض عطش الجميع بسوط واحد في ظهريات صيفية متكررة . تالياً ،كان الفتى الذي سمي بـ "حجّاج" نقرة سلمان يرتوي لؤماً وعنفاً إذا عطش رهائن المكان ذاك . كان " المستبد " الطليق نموذجاً واضحاً لقسوة المكان والسياسة والسلطة ، ورجلاً أميناً في صناعة الروتين اليومي للتعذيب . لقد استحوذ المكان عليه واصبحت صورته تعبيراً له ، فالضحايا لا يتذكرون زاوية من نقرة سلمان إلاّ وتشكل حضور ذلك الرجل الطويل الأسمر بشاربيه الكثين وملابسه العسكرية الزيتونية وسوطه وصوته ورغبته الجامحة لعقاب النساء في الشمس ، جزءاً حيوياً منها ومن أي شيء يجسد قسوتها . ان التعذيب في المكان ذاك ، كان يتم كجزء من المتعة وليس للإعتراف كما كانت تقتضيه شروط دولة صدام ، ذلك ان المعتقلين كانوا من الشيوخ والنساء والأطفال . ولو عدنا لمعطيات تلك الظروف (الخارج- إنسانية ) التي اتسمت بها قلعة " نقرة " ، نستنتج بأن التعذيب أُفقد من مكوناته التجريدية التي تضع " المُعَذًب" أمام عملية إستنطاق إجباري ،وتحول بالتالي إلى نشاط " سخروي " مُفرّغ من أي بعد سياسي ، إجتماعي ، إقتصادي أو أمني . إنما الملاحظ في جوهر شهادات العائدين من " أُوشفيتز الصحراء " حول سلوك " الملازم حجاز " ، هو في شكله الغالب ، صناعة اللذة في مكان لم تتوفر فيه أية شروط أُخرى غير التعذيب وتوسيع الخيال فيه . كانـ "ت" نقرة سلمان " حامية " من حاميات كثيرة إنتشرت في جميع أنحاء العراق ، شكله المعماري مربع ، زواياها الأربع نصف دائرية وفيها منافذ صغيرة يراقب منها الحراس العالم الخارجي للحامية أو القلعة .كانت الحامية في عهد صدام تعنيفاً مفرطاً لشكلها القاسي أساساً ، ارتسم في دهاليزها نموذج المستبد الصغير أو " الرجل الصغير " المٌدَجن إن صح التعبير. ففي داخل كل مدينة وفضاءها الخارجي المتصل بالمدن الأُخرى كانت هناك قلاع وحاميات مدججة بوسائل العنف والسيطرة والفضائح دون أن يعرف عنها أحد شيئاً . ولا يفهم معنى " الحامية " بالتالي إلاّ بوصفها مكاناً للإختفاء واللاعودة ، مكاناً للنحت على الجسد وسحله في كل زاوية . آمنة خورشيد كانت واحدة من معتقلات تلك القلعة الواقعة على الحدود العراقية - السعودية ، مات اثنان من أولادها فيها عام 1988 ،وهما سعاد وبيستون . ابنتها الصغيرة " هيرو" التي كانت تبلغ من العمر عاماً ونصف عالم حينئذ لا تذكر شيئاً عما ترويه الأُم من الحكايات . أما كبرى بناتها " آوات " فهي تتذكر كل شيء وتنظم حكايات شعرية عما رأته من الذل رغم أنها لا تقرأ ولا تكتب . يداي مقيدتان بشجرة كاليبتوز عيناي مربوطتان بصناع الأبواب أبواب تستند على الفولاذ يفتحها العدو بإبتسامات هازئة أخاف الموت في هذه الغربة لأني وحيدة هنا تقول الأُم " آمنة " : في نقرة سلمان كانت الحياة جحيماً وقد وصل طعم الإهانة إلى عظامنا. كان مدير سجننا يسمى الملازم حجاز، وهو الذي منعني من دفن ابني وابنتي الصغيرين، وأخذ جثتيهما مني مع الحراس الآخرين وقال: نحن ندفنهما . ثم تتابع وتقول : بقيت في الغرفة وبكيت وأنهارت أعصابي . حسب رواية آمنة خورشيد فإن الطعام في ذلك السجن كان عبارة عن طحن الخبز العسكري " الصمون " وخبزه للمرة الثانية على " الصاج " . لأن الصمون كان قاسياً ، تفوح منه رائحة الغاز كما تقول السيدة خورشيد والعائدات الأُخريات من ذلك السجن . كان يعاقبنا كيفما يشاء ، بعد منتصف الليل وفي الظهريات أو صباحاً إذا أراد . أتذكر الآن كيف ضربني بالسوط " الكيبل " لأني تجرأت وذهبت مع نساء أُخريات إلى قاووش الشيوخ المسنين وتكلمنا معهم حول ما إذا كانوا يعرفون شيئاً عن مصيرنا . وربط في ذلك اليوم ست نساء تحت أشعة الشمس لمدة ساعات لذات السبب ومنع الجميع من الإقتراب منهن . وكان هناك شخص آخر في السجن يسمى الملازم أحمد ، لم تكن قساوته مثل قساوة حجاز وكان يرحمنا أحياناً بكلمة واحدة وهي " خلاص " بما معني انتهت " الفلقة " لذا كنا نسميه " عمو خلاص " . كان حجاز يسكر كل ليلة ثم يأتي إلينا ويختار منا واحدة أو اثنتان أو مجموعة للتعذيب ، غاب مرة ولم يبن أسبوعين من الزمن ، عرفنا من خلال عمو خلاص انه تزوج ولما عاد كان قرار إطلاق سراح مجموعات منا قد صدر فانزعج وقام بضربنا بكيبله الخاص . عائلة أُخرى كانت تعيش مع السيدة خورشيد هناك وهي عائلة آفتاو صالح بك وأولادها وبناتها ( نشميل وليلى وبخشان وستابة ونجيب ودارا وحسيب ) . تتذكر أفراد هذه العائلة كل التفاصيل المتعلقة بدهاليز نقرة سلمان وأساليب الملازمين حجاز وأحمد " خلاص " في التعذيب والفلقة ، باستثناء حسيب الذي كان صغيراً في ذلك الوقت فلم تساعده ذاكرته في رواية الأشياء . عند طرح أي سؤال عليهم حول أوضاعهم آنذاك ، يسارع الجميع للحديث عن الملازم حجاز وتلك الظهريات الصيفية التي كان يعاقبهم فيها وبشكل خاص عن عقاب " النساء الست " والذي كانت نشميل البنت الكبرى في العائلة واحدة منهن . أصغر أفراد العائلة اسمه " حسيب " وكان عمره ثلاث سنوات وقتئذ ، لا يتذكر شيئاً عن تلك الأيام ولا يتذكر وجه الملازم حجاز ولكنه يقول : ( كنت أخاف منه كثيراً وألتجئ إلى أُمي كلما ضرب واحداً منا ). في صور عن نقرة سلمان ، أهداها لمؤسسة الذاكرة العراقية الصحفي الكردي "سالار محمود" ، نقرأ رموز كثيرة عن ذلك المكان ، شعارات عن صدام ، بساطيل عسكرية ، كتابة إسم المطبخ في إحدى الغرف التي لا تشبه سوى مكان للتعذيب ، وصورة عن مراحيض تلك الحامية المغروسة على جثث وذاكرة الضحايا
|