| مسلسل "المواطن جي" انطلاقة درامية عراقية جديدة من نوعها - دراسة وتحليل |
|
المقاله تحت باب مقالات و حوارات مدخـل : كما هو فلاح شاكر في المسرح نقلنا إلى الدراما التلفزيونية بنفس الصياغة فمنذ البداية يدخل الذروة ثم فلسفة الحدث ثم النهاية المفتوحة ، ومهما احتدم الصراع داخل شخوص الحدث فهم يتحركون بلغة وشعرية حتى حين تستخدم الشخصية مفردات الشارع . وكما تصطدم عنده في المسرح الشخصية الواحدة بعدّة حالات فإنّه استطاع أن يجعلها هنا تتحرك بنفس الطريقة حسب متطلبات التلفزيون أي انّه نقل طريقته المسرحية إلى التلفزيون دون أن يفقده خصوصية التلفزيون ، إضافة إلى السلوك المتواضع بما يفهمه المتلقي البسيط . والملفت للنظر هنا هو الإيقاع السريع لفعل الشخصيات دون الإيقاع بها في مطب ضعف التركيز بل العكس جعلنا كمتلقي في شَد متواصل وتكثيف ذهني كان جديد حقاً على الدراما التلفزيونية بحيث إذا فقدنا التواصل مع حلقتين متتاليتين تضيع باقي تطورات الشخصية التي غابت ، وهذا كان له وقع ليس سهل على المتلقي بما يؤكّد سرعة استيعابه وشوقه لما هو جديد وقدرته على التواصل معه وحسبه انّه يطرح قضيته .
المتن : مسلسل (( المواطن جي )) بين احتراف السياسة درامياً وانحراف الدراما عن المألوف . فطوال ثمانية عشر حلقة من المسلسل لم تغب عن الأحداث الرؤيا السياسية وتأثيرها في بناء الشخصيات وتحركها وتوترها، فمنذ الحلقة الأولى تظهر شخصية ( أبو علي ) العسكري ليطرح قضية ( الجواز جي ) وما ترتب على القرار الصادر بشأنه من مشاكل ، ثم تأتي شخصية ( عمّار ) المهجّنة استرالياً بما يتيح لها التحرك والدخول والخروج بدون مشاكل وهذه ظاهرة سياسية أخرى ، وتظهر شخصية ( سهير ) الراقصة التي هربت من همّ الماضي الثقيل في العراق إلى مكان تنقل معه كلّ عقدها ولكن تمارس تلك العقد بسريّة مؤلمة وعلنية حاقدة ، وأيضاً شخصية ( يوسف ) التي اختار لها أن تكون مسيحية محبّة للخروج من مشكلة التطرّف الديني المزروع سياسياً أيضاً ... ومع توالي الحلقات تظهر الشخصيات الأخرى داخل المخيّم وهذا ناتج سياسي أيضاً ، وقد حرص المؤلف على زرع معادل موضوعي للشخصيات ليس فقط في العراق وهمّه السياسي ولكن أيضاً خارج العراق فأظهر شخصية ( المحقق أيهم ) وإصراره على ممارسة سلوك القانون داخل بلده ، وكذلك شخصية ( أبو ميلاد ) وأيضاً خضوعه للشروط القانونية التي يرتبط بها .. ولم يكن المعادل الموضوعي سياسياً فقط بل أصرّ المؤلف على وجوده داخل الأزمات فكانت شخصية ( جبار ) المعادل لشخصية ( أبو قاسم وقاسم وأبو علي ) وظهر ( سمير كمعادل موضوعي لـ ( أبو ميلاد وصباح ومرام ) وظهرت شخصية والدة سهير كمعادل موضوعي ثابت وغير متذبذب كما في شخصية ( سهير أو هلال أو منذر ) هذه المعادلات التي استعملها المؤلف تؤكد نظرية أن ليس هناك شرّير مطلق أو خيّر مطلق وليجعل بناء الشخصيات بناء الشخصيات منطقياً وتصبح الشخصية مقنعة وليس كما تعوّدنا أن نراها في كثير من الأعمال الدرامية التي تعرض والتي تبني الشخصية شريرة كاملة أو خيّرة مثالية ... الملاحظ أيضاً في هذا المسلسل أن المخطط العام تمّ تقسيمه إلى ثلاثة أقسام وهي : ـ الوضع داخل الوطن من الداخل كما برز في كل الإرهاصات التي قدّمتها شخصية ( رزاق وإيمان ) وارتباطهما ( بعمّار ) الذي جاء بالأزمة من البداية وهي متصارعة مع نفسها بين الحلم والشوق للوطن وعدم تصديق الواقع الجديد وبين بطولة هي الأخرى متصارعة داخلياً مع النقطة السوداء التي تلازم النفس البشرية ( حب الذات ) أو استخلاص التأريخ الوطني ليكون إرث ذاتي وكان هذا واضحاً من خلال محاولته أخذ حصّته من الخزنة التي خبّأ بها أخوه ( العميد علاء ) رواتب الجيش وترك الإرث الرمز ( رواتب الجيش ) ليتحمّل مسؤوليته غيره ( أبو علي وعبد الرزاق ) . وأيضاً وضع المؤلف شخصية ( العميد علاء ) صورة البطولة المتأتية من ربّما الميثولوجيا الشعبية وربّما حلم الدفاع عن الجيش العراقي لما ترتب من سمعة عليه خلال حرب السقوط .
ـ والقسم الثاني الوضع داخل مخيّمات المهجّرين وحياتهم المأساويّة فيها وقد ركّز المؤلف على الأفعال الصغيرة التي لن ينتبه لها كل المنظمات الإنسانية كحالة للمعالجة. وقد وقعت هذه الأفعال الصغيرة بيد مخرج ذكي فكبّر صورتها وأعطاها مداها الصوري الإنساني المؤلم ، كما حدث في تعليقات ( أبو علي ) على موضوع الحمّامات ، والوضوء ، والطين الملتصق بالأحذية ، وأن تتحوّل الطفلة جميلة إلى امرأة ولم تأخذ نصيبها من التوعية الطبية والنفسية ، وسقوط المعوّق في الطين ، والطبخ في العراء ، إضافة لما يعانيه أبناء الوطن الذين يقيمون داخل البيوت وليس في العراء كما جاء في حوار ( أم علي وأم قاسم ) عن الغاز وثبات أزماته ، وحرمانهم من ممارسة الحياة الطبيعية البسيطة كما جاء في الحديث عن التلفزيونات ومتابعة الفضائيات . وقد ركّز كلاًَ من المؤلف والمخرج على أحداث صغيرة في حياة هؤلاء الناس يمكن أن تسبب لهم الفرح أو الشعور ولو قليلاً بأنّهم أناس طبيعيّون وذلك من خلال طرح فوز ( شذى حسّون ) وحتى هذه الأحداث التي لا تضرّ في المعنى الوطني فهي خاضعة لاجتهادات وقناعات مراكز القوى الناظرة إليها وقد اتّضح هذا من خلال ما حدث لـ ( رزاق ) الذي احتفل بالفوز من وجهة نظره لكنّه خضع للاجتهاد السياسي والنفسي لبعض من مراكز القوى
ـ القسم الثالث كان الوضع خارج الوطن وهذا القسم لوحده مسلسل كامل لم يأخذ بعده ووقته ولكن يبدو أن المؤلف حاول أن يزجّ أهم القضايا الجوهرية التي يعاني منها العراقيون في الخارج وهي قضية السعي إلى اللجوء باعتباره وطن بديل للأحلام المؤجلة من خلال شخصية ( يوسف ) واليأس المتذبذب لهذه الأحلام من خلال شخصية ( سليمان ) . والقضية الثانية والتي تعتبر هي الأخطر وقد تناولها المؤلف ووظفها المخرج بجرأة غير معهودة في الدراما العراقية ألا وهي قضية الدعارة والتي حاول أن يؤكد المؤلف من خلال شخصية ( سهير وناجي وهلال ومنذر ) أنّها ثمرة طبيعية للانحلال الموروث بالحروب وبسبب الفقر وأحياناً الغنى السهل . وقد اعتمد في ذلك على تضافر العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في صنع السقوط وقد جعل لهما معادل موضوعي مهم وفي صميم الحدث وهو شخصية ( حمد وكوثر ) الرافضتين لهذا الموروث والمستقرّتين اجتماعياً . والقضية الثالثة وهي قضية المرض التي يمكن أن تنحدر حتى بالإنسان المثقف إلى هاوية الذل وأوضح ذلك من خلال شخصية ( وداد ) الخرّيجة المثقفة التي رضيت أن تعمل خادمة في بيت مشبوه في الغربة بالنظر لعدم توفر العمل وعدم السماح بالعمل في دولة أخرى ضمن قواعد تلك الدولة المحاطة سياسياً أيضاً ولكن جعلها أيضاً معادل آخر كشخصية بنّاءة تحمي سمعة النساء العراقيات من خلال محاولاتها للإصلاح في بيت ( سهير وأمّها ) .
بقي لنا أن نتحدث بكل فخر عن تقنية هذا العمل المميّز والذي ظهرت فيه براعة التصوير السينمائي وهذا يحسب للمخرج المبدع عدنان إبراهيم ، وما يحسب للمؤلف والمخرج أن هناك تقنية وجدت لأوّل مرّة في عالم الدراما التلفزيونية محلياً وعربياً وعالمياً ألا وهي تقنية الـ ( فلاش باك ) فلأوّل مرّة يكون الرجوع للماضي بطريقة تذكّر داخل تذكّر داخل تذكّر بما يكمل الحكاية من وجهة نظر عدّة شخصيات دون أن تتعثّر هذه السلسلة أو تربك أو تقفز بذهن المتلقي إلى ضياع الصورة وتسلسل الحكاية ، هذه التقنية جديدة حقاً على التلفزيون والمشاهد فقد تعوّدنا أن نعود بالصورة والحكاية للماضي من خلال شخصية واحدة تكمل وجهة نظرها ثمّ ننتقل إلى شخصية أخرى تكمل وجهة نظرها في موضوعة أخرى أو مقارنة ولكن أن يستمر سير الحكاية من خلال عدّة فلاشات ووجهات نظر في نفس زمن تحرك الحكاية وظرفها دون تضاد أو قفز في المعلومة هذا ما لم يستعمله الكتّاب والمخرجون من قبل . وأيضاً برزت ظاهرة أخرى وهي النهايات الصورية لا الكلامية وهذه الظاهرة الجميلة لها تأثير أكبر على المتلقي إذ ستترك له حريّة الاستيعاب بما يفقه ويحب أو يتألّم أو يكره أو ... أي انّها صورة تعتمد على ذهنية المتلقي وخياله وبناء النهاية بهذه الطريقة يترك الأثر على العين والقلب أكثر من الذهن المتعب والمزحوم بالكثير ..
ويبدو أن هناك ثنائي متناغم مستقبلي سيتشكّل بين المؤلف فلاح شاكر والمخرج الذي تبنّى هذا النوع الجديد في الدراما التلفزيونية المبدع عدنان إبراهيم وربّما سيقلب مستقبل الدراما التلفزيونية بما يخدمها نحو التميّز والتجدّد ..
وفي رأيي أن هذا العمل من نوع الأعمال التي لا يمكن أن يشعر بلذّتها المتلقي من المشاهدة الأولى وتحتاج إلى أن نفيق من صدمة الجديد فيها فندرك جمالها في المشاهدة الثانية التي تصبح ذات استرخاء أكبر .
نتمنى أن يرقى الفن دائماً بما هو جديد ومميّز . |