حوار مع الشاعر العراقي علي الشلاه |
المقاله تحت باب أخبار و متابعات علي الشلاه شاعر عراقي من مواليد بابل سنة 1965، فيها أتم دراسته الثانوية وأتم دراساته العليا في جامعات بغداد واليرموك وبيرن في الأدب الحديث، أصدر مجموعة من الكتب الإبداعية والنقدية والترجمات: ليت المعري كان أعمى، شرائع معلقة، التوقيعات، كتاب الشين، العباءات والأضرحة، البابلي علي، البياتي في مدن العشق، البياتي برومثيوس الشعر العربي، أسئلة المأساة، كربلاء في الشعر العربي الحديث، دفتر السفينة. رأس عدة مؤسسات وصحف ومجلات ثقافية عربية ودولية، مدير عام المركز الثقافي العربي السويسري، رئيس مهرجان المتنبي للشعر العالمي، كتب عن تجربته عدد من كبار الشعراء والنقاد، ترجمت نصوصه إلى الألمانية والانجليزية والفرنسية والإيطالية والاسبانية واليوغسلافية والصينية…
* اقترن اسم علي الشلاه في المشهد الثقافي العربي والعالمي بمهرجان المتنبي العالمي للشعر، إلى أي حد استفاد منك الشاعر بهذه الصفة التنظيمية؟ - استفاد الشاعر كثيرا في اطلاع واسع على تجارب شعرية عالمية وعربية بدرجة دقيقة، لأن اختيار الشعراء ومن ثمة المساهمة في اختيار النصوص والترجمات والتعارف الشخصي كلها خبرات ومعارف تتراكم في الذاكرة لكنه في الحين نفسه أكسبني عداوات أنا في غنى عنها خصوصا لدى بعض الزملاء والأصدقاء من الشعراء العرب الذين لا يدركون آليات العمل وطريقة الاختيار فنحن مؤسسة مسجلة في سويسرا منذ عام 1997 ونخضع في كل فعالياتنا للمقاييس السائدة هناك لدى المؤسسات الرسمية الداعمة للثقافة فقد فشلنا والحمد لله حتى الآن في أن نحصل على أي دعم عربي في حين أننا نجحنا في تحقيق حضور ثقافي كبير حد أن دائرة اليونسكو في سويسرا قد عدت مهرجان المتنبي لهذا العام من أهم الفعاليات الثقافية التي شهدتها سويسرا يمكنك أخذ نسخة منها، ويهمني هنا أن أوضح للزملاء العرب بصفتهم معنيين أساسين بهذا المهرجان أن الجهات الداعمة للمهرجان وهي كلها مؤسسات ثقافية سويسرية كبرى أغلبها حكومي تشترط في أن يكون عدد المساهمين العرب لا يزيد على ثمانية والسويسريون أربعة وباقي دول العالم ثمانية وأن تكون نسبة النساء هي النصف تماما وأن لا يكون المشاركون من جيل شعري واحد عمرا، ولذا فإننا نراوح بين الأجيال والدول العربية كل عام وكمثال بسيط فقد شارك ثلاثة شعراء من ليبيا في دورات المهرجان الست وهم من ثلاثة أجيال مختلفة وبينهم شاعرة شابة. وهم كذلك في غالبية الدول العربية مع اختيارات مختلفة كل عام حتى نحافظ على تمثيل كل الأجيال وكل المدارس لكن مهرجان المتنبي ليس كل ما نقوم به فنحن نستضيف طوال العام مثقفين من عدة بلدان عربية وبحكم العلاقات مع المؤسسات الثقافية والمهرجانات العالمية نرشح ونتبادل الشعراء منهم كما يحصل مع مهرجان مدلين في كولومبيا ومهرجان فنزويلا وروزاريو في الأرجنتين علاوة على المؤسسات السويسرية والألمانية والنمساوية. كما أننا في العام القادم وبمناسبة مرور عشرة أعوام على تأسيس مؤسستنا سنقدم برنامجا استثنائيا إذ من المؤمل أن تكون هناك فعاليات مكثفة طوال العام. من 1-6-2007 إلى 1-6-2008 وأنا هنا أوجه دعوة لكل المؤسسات الثقافية العربية التي ترغب بالتعاون سواء بإيفاد مبدعين إلينا أو باستقبال مثقفين ممن استضفناهم بأن يتواصلوا معنا فذلك سيدعم عملنا وعملهم. إن أكثر من مئتي وخمسين مشارك في مهرجان المتنبي ثلثاهم من الأجانب هم بكل الأحوال أصدقاء جدد للثقافة العربية ويمكن أن نساهم بتقديم ترجماتهم التي أنجزناها إلى العربية مجانا إلى أي مؤسسة ثقافية عربية تود استضافتهم وأن نسهم في إقناعهم. إننا نقدم مهرجانا شعريا بمواصفات عالمية يقام في خمس مدن سويسرية ويترجم المشاركون فيه إلى ثلاث لغات هي الألمانية والفرنسية والإيطالية وغير العرب للعربية. وذلك يحتاج عملا شاقا أخسر وبعض الزملاء أربعة أشهر كل عام لكي يتحقق. * لكن لا يمكن أن تنكر أنك استفدت كثيرا من التملق والتقرب الذي يمارسه البعض من المثقفين العرب للفوز بميدالية سويسرية تختم على جواز سفره؟ - على العكس من ذلك تماما إنني محرج تماما من هذا الطموح الموجود لدى الكثير من أصدقائي وزملائي، إنك لا تعرف ماذا يعني أن تصرف ساعات من الاعتذار والإيضاح أو أن تضيع وجهك من هذا الصديق أو ذاك عندما تلقاه هنا أو هناك في العالم العربي، ثم إنك في كثير من الأحيان مطالب بأن تقدم صكّ براءة من عداوات شخصية بين هذا المبدع أو ذاك إذا ما استضفت أحدهما، إني أقول بلا تردد أن هناك في الوطن العربي أكثر من ألف مبدع يستحقون أن يحضروا في فعاليات ثقافية هامة، لكننا غير قادرين على أن نستضيفهم حتى في عشر سنوات ولذا فإن هذا التملق الذي تتحدث عنه والذي أنا لا أحتاجه فأنا بطبعي أخجل من المديح، هذا التملق سرعان ما يتحول إلى نقمة وشتائم عندما يدرك هؤلاء الأصدقاء أنني غير قادر على أن أحقق هذه الرغبة. كما أن هناك مشاكل أخرى غير منظورة فقد تجد نفسك متهما من سفير عربي في سويسرا لأنك تتعمد عدم دعوة الشعراء من بلده أو من شاعر يزعم أنك تحاول التقليل من شأنه أو من آخر يزعم أنك تتخذ موقفا منه بسبب آراء سياسية سأضرب لك مثلا على هذا الأخير فقد استضفنا عام 2005 الشاعرين موفق محمد من العراق ومحمد بنيس من المغرب وقد شتمني بعض الشعراء العراقيين لأني استضفت بنيس الذي كتب مقالة أساءت إلى ضحايا المقابر الجماعية في العراق كما اتهمني بعض الشعراء العرب بأنني استضفت موفق محمد لأثبت أن المقابر الجماعية قد وقعت فعلا وأن ابنه عدي كان أحد ضحاياها وفي الحقيقة أننا استضفنا شاعرين عربيين كبيرين ولا علاقة لنا في هذا الموقف بآرائهما السياسية. * أعتقد أن مهرجان عالمي مثل “المتنبي” يختلط فيه الأمر بين النقد والنقود؟ - سأقول لك دون تردد إننا لا نتعامل مع النقاد ولم يكتب عني أي من من دعي إلى المتنبي نقدا، وسأضيف أيضا وأقول في موضوعة النقود ما دمت قد فتحتها إني قد عملت عاما كاملا في تجارة السيارات المستخدمة في سويسرا لندفع خسائر مهرجان المتنبي وثمن اللوحات التي أعدناها إلى متحف الفنون في بغداد، وأكثر من ذلك لقد بقيت أكثر من ثمانية أعوام أنا في بناية المركز لأننا لا نستطيع دفع إيجارين إلى أن اختارتني رئاسة مدينة زيوريخ لتمثيل الأجانب لديها وأننا مضطر لهذا العمل البعيد عن الثقافة لكي أوازن وضعي المادي. ولك أن تعرف بعد ذلك كم أثر ذلك على حياتي الخاصة إلا أن النجاح له طعم آخر ينسيك كل هذه المرارات، إنني سعيد وفخور بأننا نؤسس لكي يكون اسم المتنبي رديفا للثقافة العربية في الغرب كما هو شكسبير للانجليز ودانتي للايطاليين وغوته للألمان ولوركا للأسبان وطاغور للهنود. وسأضيف لك حادثة مرة لنختم بها هذا السؤال فقد سألني ذات مرة مسؤول عربي بدرجة وزير لماذا سميتموه مهرجان المتنبي هل لأن المتنبي عراقي فأجبته إذا كان المتنبي عراقيا فهذا يعني أن الرسول محمد عليه الصلاة والسلام سعودي وعلينا أن لا نصلي. من هنا يمكنك أن تفهم كم من الأشواك علينا أن نتقي فإذا ما عبرناها تعبّد الطريق بالجمر. * بيني وبينك ألم تسحب مرة مشاركة أحدهم فقط لأنه يكتب شعرا كلاسيكيا ميتا ؟ - هذا سؤال إشكالي معقد، المشكلة في الشعر الذي ينشد في مهرجان المتنبي أنه يترجم وكثير من الشعر العمودي والكلاسيكي يفقد رونقه عند الترجمة ما لم يعتمد اعتمادا كليا على الصورة الفنية ومثلما تعرف فإنني شخصيا بدأت شاعرا عموديا ومازال جل نتاجي في قصيدتي التفعيلة وأومن أن الإبداع غير محكوم بالشكل دائما، لكن بصراحة أيضا أقول أن الزملاء الذين يترجمون معنا في المهرجان من الأجانب لا يفضلون ترجمة الشعر العمودي وإذا ما ترجموه تحول إلى نثر وبما أن القصائد تنشد أمام التلقين في الحين نفسه باللغتين فإن البون يكون شاسع بين الشاعر والمترجم، إلا أننا وبغية تمثيل المشهد الثقافي العربي بصورة موضوعية قد دعونا بعض الشعراء العموديين وإن كانوا لم يزيدوا عن شاعر واحد كل عام. * باعتقادك ألا تنجح مثل هذه التظاهرات الثقافية الكبرى إلا على أرض غربية ؟ - أعتقد أننا نجاحها في عالمنا العربية سيفقد شيئا من أهميته، فهذه التظاهرات نتائجها متعددة فهي رسالة إلى الآخر وفرصة لترجمة مبدعينا إلى لغات أخرى كما هي فرصة لم ليروا دولا وحضارات أخرى ويتعرفوا على نمط المعيشة الذي يتمتع به زملائهم الكتاب في تلك الدول ولو أقيمت هذه التظاهرة في بلد عربي لأمكننا أن نلتقي بمثقفين من حضارات أخرى بشكل مختصر وقد تتعذر أيضا دعوة بعضهم ممن لديه صورة مرتبكة عن واقع الحال لدينا إلا أنني أجد من الضروري أن تقام هذه التظاهرات هنا وهناك أيضا وأن لا نلغي إحداها بحجة الأخرى. هناك أيضا مصاعب تتعلق بالترجمات وأفق الحرية المتاح في الحوار إذ أننا في مهرجان المتنبي مثلا لا نقتصر على القراءات الشعرية فهناك حلقة دراسية مصاحبة للقراءات كل عام وبموضوع مختلف. * أعتقد أنك بدأت تثق كثيرا بقصيدة النثر بعد إقامتك في أوروبا ؟ - كنت أثق بها منذ البداية وكتبت ذات مرة أن الكتابة فيها أصعب كثيرا من كتابة قصيدة العمود والتفعيلة حيث تعينك الموسيقى وتواطؤك مع الذائقة السائدة على أن تلج إلى قلب المتلقي لكنك في قصيدة النثر عاريا إلا من موهبتك وبهذا المعنى لا يمكن أن أكون ضد قصيدة النثر وأريد أن أنبه إلى مسألة لم ننتبه إليها نحن في العالم العربي عندما أثرنا إشكالية قصيدة النثر بوصفها جنسا أدبيا فقد كنا ننطلق من فهم عربي يقدم الشاعر على كل المبدعين الآخرين منذ العصر الجاهلي حتى اليوم ولو كانت حرفة الكتابة محترمة لدينا مثلما هي في الغرب لما توهم بعضنا بأن قصيدة النثر أدنى من قصيدة الشطرين. هل يعلم هؤلاء المنظرون العرب بأن فن الرواية هو الفن السائد في الغرب وأنك يمكن أن تطبع عشرات آلاف النسخ من عمل روائي واحد دون عسر ويوزع ويلقى رواجا لكن أهم شعراء العالم لا يستطيعون تسويق ربع رواية من روايات بعض الكتاب المعروفين. وإذن فإن علينا أن ننظر إلى الأجناس الأدبية والإبداع بمنظار اليوم وأن لا نشترط شرائط لم تعد موجودة. * في فاتحة كتابك الشعري “غروب بابلي” أهديته إلى بابل: الرمز والمدينة. ماذا بقي الآن في ذاكرة الشاعر ألم تتحول تلك المدينة نفسها إلى رمز؟ - لقد كانت بابل رمزا دائما إلا أنني وبحكم ولادتي في مدينة الحلة وعلى بعد أمتار من آثار بابل التاريخية فقد أردت الإشارة إليهما معا، في بابل تعددت الألسن وهي تتناسب كما رأيت مع ديوان مطبوع باللغتين العربية والألمانية كما أن حاضر العراق ورؤيتي لهوية ثقافية عراقية تعيد إلى الذاكرة الحضارات الهامة التي نشأت بأرض الرافدين هي التي جعلتني أختار هذا الإهداء الذي أردت أن أقول من خلاله إن العراق الذي تسمعونه في نشرات الأخبار هذه الأيام ليس العراق الذي كان طوال التاريخ وأن هذه الأيام السود على مرارتها ستمر فقد انتصرت بغداد وبابل قبلها وأور على عشرات الغزاة والطغاة. من هنا يمكن أن أقول إنه ليس مجرد احتفاء بالمدينة التي ولدتني مكانيا فحسب بل إنه احتفاء بالمدينة التي تولد كل يوم. * من خلال خبرتك واطلاعك المباشر على المشهد الثقافي الغربي، هل أصبحت الترجمة لعنة لا بد منها لأي كاتب عربي – مهما كانت تجربته- للوصول إلى العالمية، وبالتالي النوم في أحضان نوبل؟ - لا أدري إذا كنا سنرى نوبل عربية قريبا فكل مقاييس لجنة الجائزة في السنوات الأخيرة لم تكن موضوعية وقد أثارت نقدا مباشرا في كبريات وسائل الإعلام في الغرب حتى أن إحدى السويسرية الكبرى قد كتبت افتتاحية عدت فيه محكمي الجائزة بأنهم باباوات محنطين في الستينات من القرن الماضي وأن هناك عوامل سياسية تلعب دورا كبيرا في الاختيار، ولذا لا أريد الربط بين الترجمة ونوبل إنما أصرّ على أنّ الترجمة ضرورة وأننا في العالم العربي اليوم لا نستطيع أن نقدم إلى العالم تكنولوجيا متطورة ولا نجاحا سياسيا يشار إليه لكننا قادرون على أن نقدم ثقافة وإبداع مميز يستحق الحضور والإشهاد إلا أنني مثلك مازلت مترددا أمام فكرة الاختيارات وماذا يترجم وماذا ينبغي أن يترجم فالمقاييس التي تحكم هذه الترجمات هي مقاييس غير موضوعية في الغالب، وصورة المشهد الشعري العربي في ألمانيا مثلا لا يشابه ما نعرفه نحن عن المشهد العربي بأكثر من أربعين بالمائة ولكنه أيضا أفضل من قطيعة معرفية لا يدري فيها كل طرف ماذا يكتب الطرف الآخر. لقد ولّى زمن الانعزال والتقوقع وقد دخلت الثقافة الغربية إلى أقصى قرانا وليس من المنطقي أن نهرب من المواجهة الثقافية ولذا فإن علينا أن نمضي بالترجمة إلى آخر الشوط حتى نكسب وضوح الرؤية على الأقل ولا ندع لأطراف أن ترسم صورتنا وتقدم أدبنا وتراثنا كما نريد. *كمثقف عراقي معروف ماذا قدمت لثقافة بلدك خصوصا في السنوات الثلاث الأخيرة بعد كارثة إحراق المكتبات ونهب المتحف؟ - لقد افتتحنا فرعا في بغداد منتصف عام 2003 وابتدأنا تنفيذ ثلاثة مشاريع الأول هو مركز ثقافي اعتيادي يقدم الندوات والأنشطة الفكرية والأدبية والفكرية، والمشروع الثاني هو دعم مكتبات بغداد حيث اشترينا آلاف الكتب وأهديناها إلى مكتبات الجامعات ومكتبة اتحاد الأدباء أيضا وأثنائها اشترينا أكثر من مائة عمل فني ولوحة تشكيلية كانت قد سرقت من مركز الفنون في بغداد يوم 9-4-2003 وفيها لوحات هامة جدا للرواد العراقيين فائق حسن وجود سليم وغيرهم من التشكيليين وقمنا بإعادتها إلى مكانها الأصلي ثم أنشأنا منشورات بابل التي طبعت حتى الآن أكثر من عشرين عنوانا لمثقفين عراقيين في الداخل والخارج لتجسير الهوة والخروج بثقافة عراقية موحدة، إلا أننا وبفعل الوضع الأمني الآن اختصرنا فعالياتنا إلى أضيق نطاق وواصلنا مشروع الإصدارات ذلك ما قدرنا عليه في هذه الظروف الاستثنائية وهو ليس كافيا ولكنه ليس قليلا أيضا. * هل يستطيع المثقف العراقي النجاة من السؤل السياسي؟ - لا أعتقد أن هناك مثقفا يستطيع النجاة من السؤال السياسي، فحتى أولئك العازفون عن السياسة إنما يتخذون موقفا منها، فكيف إذا كان المثقف قادما من بلد أتخم جراحا وانكسارات سياسية، غير أني أجد المثقف العراقي اليوم الضمانة الأخيرة للوحدة الوطنية، فلم يبق إلا الثقافة والمثقفون ليوحدوا هذا العراق وينبغي أيضا أن أشير إلى أن التنوع الفكري والحضاري في العراق هو موضع لرهان فالذين يراهنون على الوحدة إنما يراهنون على هذا الغنى والتنوع كدليل على التعايش الذين يراهنون على الفرقة يتخذون هذا التنوع والغنى سمات ودلائل على الاختلاف والتمزق ومن هنا فإن الثقافة في عمق الإشكال السياسي والوطني في العراق اليوم إلا أني عندما تجول في بغداد وأرى المعارض التشكيلية والعروض المسرحية والندوات الثقافية تتحدى الطغاة والغزاة معا أدرك أن الثقافة والعراق سيبقيان وإننا إنما نمر في مرحلة مرتبكة وعلينا أن لا نتجه باتجاه بوصلة معطوبة. * ألا تعتقد أن دور المثقف العراقي اليوم أصعب مما كانت عليه؟ - إنه أصعب وأخطر عندما تقرأ أسماء المثقفين الذين استشهدوا عل يد الإرهاب وتعلم أن بعضهم قتل لأن في هويته مثبت أنه شاعر أو كاتب أو لأنه عدّ خارجا عن القطيع الذي يساق إلى القرون الوسطى تدرك عندها أن كلمة المثقف العراقي هي محكّ الحياة أو الموت إني أجد في المثقفين الذين يصرون على الحياة وبغداد وبابل والبصرة والموصل أبطالا حقيقيين يحاربون السيف بالوردة والماضي المتحجر بالتراث المتسامح والمستقبل المنتج أولئك هم من يحملون اليوم هوية العراق ووحدهم يحق لهم أن يقرروا ألوان الطيف الشمسي وأن لا يلتفتوا إلى الظلام القادم من كل صوب. * كثيرا ما تغنى المثقف العراقي بالعراق أرض التاريخ والحضارات لكنه سريعا ما احتمى بالمستعمر مغلبا المصلحة الشخصية الضيقة على وطن وتاريخ بأسره؟ - لا أعتقد أن هذا لسؤال موضوعي تماما ذلك أن العلاقة بالوطن لا تحد أولا بالداخل والخارج وليست السلطات التي تحكم بلداننا ملائكية أو حتى معقولة كما أن الآخر ليس واحدا إنني لا أعتقد أن علينا أن نرضى بأن نكون أدوات لمشاريع غير وطنية سواء أكانت هذه المشاريع ترتدي أسماء عربية أو أسماء كما أسميته المستعمر، لقد كانت تجربة العراق مأساة مركبة فقد رأى العراقيون أنفسهم وقودا دائما لحروب غير مبررة وغير شريفة فلم تكن الحرب على الأكراد منتصف السبعينات ولا الحر العراقية الإيرانية ولا احتلال الكويت حروبا بالاتجاه الصحيح إنني أزعم دون تردد قدمت أكبر خدمة للمستعمر ولإسرائيل تحديدا وكان علينا أن نصدق أن تحرير فلسطين يبدأ من طهران مرة ومن الكويت مرة أخرى، ثم أن القمع الداخلي لم يكن مبررا ولم يكن يقف عند حد متصور، إن اعتراضي على السؤال يكمن في تحديد خيارين اثنين هما في الحقيقة خيار واحد، خيار القبول بطغاة الداخل أو الارتماء في حضن الغزاة إننا كمن يخير شخصا بين الأسود والأسود، إن المشاريع الوطنية في العالم العربي ومنها العراق هي الخيار الثالث الحقيقي خيار وطني ديمقراطي متسامح لا يكون الوطن فيه عبارة عن سجان وسجن وأحجار بل الوطن هو الإنسان الشعب الحر القادر على التفكير والحب والغناء والصلاة معا. * هل يمكن لمن خرج من الحرب سهوا أن يعود إلى ما يشبه السلم قصدا؟ - أولا لا أؤمن أن هناك سلما في العراق اليوم إن الحرب مفردة صغيرة على ما يحصل من صراع في العراق وعليه والذي يجرحني أيضا أن الأشقاء في العالم العربي لا ينظرون إلى الصورة بأجزائها الحقيقية ليس هناك فرد في العراق اليوم مع لاحتلال أو المشروع المحتل لكن الأمريكان ليسوا الشر الوحيد في العراق على أن ذلك لا يبرئهم من أنهم قد أعانوا خلافا لما زعموا من نزوع نحو الديمقراطية والتعددية في العراق أنهم قد أعانوا الإرهاب أن يتخذ من العراق مركزا فاعلا حيويا بعد أفغانستان. وقد كانت هذه – حسب رأيي – الذريعة التي عوق بها الأمريكان المشروع الديمقراطي لأن نتائجه لم توافق هواهم ولا صورتهم التي رسموها لعراق يسير في القاطرة الأمريكية وفق نماذج عربية معروفة. لقد فاز المشروع الإسلامي بثلثي البرلمان العراقي تمام كما حل في فلسطين فكانت هذه صدمة كبيرة أجبرت كثيرين في المنطقة والعالم على إعادة حساباتهم وبغض النظر عن موقفنا من التطرف الذي احتل ديننا السمح العظيم فإن هؤلاء المتطرفين قد قاموا بعمد أو جهل بتوفير الذرائع لأمريكان كي يبقوا في العراق فما مبرر وجود قوات محتلة في بلد أنجز انتخاباته واختار قياداته وكتب دستوره. من هنا كان الإرهاب الذي يسمى جهلا بالمقاومة أحيانا هو المبرر الوحيد لبقاء المحتلين. لقد فشل المشروع الأمريكي حتى من خلال الأدوات التي اعتمدها ولذلك لم يكن مسموحا أن ينجح المشروع الوطني العراقي وترك البلد بين فكي طالبان جديدة حولت الصراع إلى طوائف وملل ونحل ولم يجد المواطن العراقي الأعزل أي خيارا أمامه سوى خيار الدفاع عن نفسه ضد أعداء كثر لا يعرف من أين جاءوا ولا ماذا يريدون. ومن هنا فإن العودة إلى العراق قد تبعتها هجرات جديدة بعد أن صار الأمن مفقودا والوطن تتجاذبه مشاريع دول الجوار حتى الشقيقة منها. * كثيرا ما تغنى الشاعر العراقي بالمنفى حتى صار تيمة قدرية اقترنت به، لكن الكثير أغوتهم هذه الفكرة فاختاروا منافيهم بأنفسهم ليستدلوا بها على تجاربهم وأصواتهم؟ - إن غالبية العراقيين هم أولئك الذين أرادوا أن يعيشوا في وطنهم وأن يسافروا سياحا أو طلبة ويعودوا إليهم بعد أشهر أو أيام ولكن قدرا مَا قد جعل المنافي خيارا وحيدا في كثير من الأحيان، ولعلها ليست مصادفة أن أول شاعرة في التاريخ هي السومرية إنخدوانا ابنة سرجون قد كتبت أشهر قصيدة لديها بعنوان النفي من أور قبل ستة آلاف سنة. واليوم هناك منفى يتسع رغم أن الخوف فيه ليس من الحكومة بل من سلطات مافيوية أخطر وأعتقد أن مفترق الطريق هذا الذي يمر به العراق لن يطول لكن المثقفين الذين اختاروا تجربة المنفى قد تعبوا منها فكل الأسماء التي خرجت منذ نهاية السبعينات حتى اليوم تحن إلى العودة والدليل أن بعضهم صار يختار الدول العربية ليعيش فيها محتميا بجواز أجنبي. كنا نتمنى أن يستطيع المثقفون العرب أن يعيشوا في دول عربية أخرى عندما لا يكون بوسعهم البقاء في وطنهم الأول لكننا نصدم كل يوم بأن هذه الأوطان العربية تضيق بمثقفيها ذرعا سواء بجرأة آرائهم أو بقوت عيالهم فكيف ستوفر للمثقفين الأشقاء الوافدين متنفسا وتترك لهم حريتهم إنني لا أثق بمثقف عراقي يرضى أن يعيش شاهد زور في بلدان الأشقاء حيث يتخذ مواقف تمالئ السلطات هناك وهو يعلم أن آراء مثقفي هذا البلد العربي ليست مثل آراء السلطان وأنه في النهاية مجرد مهرج مضاف إلى قائمة مستهجنة. * لكن كيف ترضى أن يضاف هذا المثقف إلى مهرج عالمي بوسام الجنسية البريطانية أو الأمريكية مثلا؟ - نعم ذلك تناقض غريب إني مثلك أتعجب من مثقف عراقي يزعم الدعوة إلى مقاومة الاحتلال عنفا ويكتب عن الفلوجة متكئا أخيرا ثم يحتفل بحصوله على الجنسية البريطانية، لكنني لا أريد أن أقول ليس من حق العرقيين ككل شعوب الأرض أن يكون لهم جاليات تعيش في كل دول العالم وتأخذ جنسياتها شرط أن لا يكون ذلك مزايدة على من بقي في الداخل من العراقيين ودفعا بهم إلى أتون مهالك جديدة وصاحبنا بمنأى عنها. إن النرجسية وحب الذات لا ينبغي أن تصل بنا إلى حد الرقص على جراح الضحايا والشهداء والتوهم أننا أبطال يركض التاريخ خلفنا ليسجل لنا وحدنا بطولة ورقية ليست موجودة أبدا. إنني أدعو إلى مثقف عراقي وعربي حرّ لا يكتب نصوصا هجينة تفقده سماته أو احترامه لذاته فليس مطلوب ممن يعيش في دول الغرب أن يكون غربيا تماما بل إن تجربتي تقول أن محافظتي على هويتي وانفتاحها وتسامحها ورموزها الثرية الجميلة هي التي تمنحني التميز بين آلاف المثقفين حيث أعيش. وليس الغرب كله أمريكا مثلما أن الشرق ليس كله واحدا. إن ملايين المواطنين في أوروبا يجدون معنا مشتركات في مقاومة الهيمنة الأمريكية عالميا لكن علينا ألا نطلب منهم أن يكونوا نسخا تماثلنا تماما كما يسعى بعض الجهلة عندنا أو يتصور. إن لهم هويتهم مثلما نحن لنا هويتنا وهم يعبرون عن اختلافهم عن المشروع الأمريكي وفق لآليات حياتهم وقيمهم ودساتيرهم العريقة. إن المظاهرات التي تخرج ضد صندوق النقد الدولي والاتفاقيات التجارية العالمية في روما مثلا هي أكبر من كل المظاهرات التي تخرج بها الجماهير العربية لإدانة الجرائم الإسرائيلية في فلسطين وذلك ما ينبغي أن نعمل على تفهمه والاستفادة منه وليس تجهيز التهم وإطلاقها دون تمييز. |