العراق الامريكي لحسن علوي |
المقاله تحت باب أخبار و متابعات السـني العــربي والســني العــراقي س : هل ترى فرقاً بين السني العربي والسني العراقي، اللذين قد يشتركان أو يتهمان بأعمال الذبح والانتحار!!؟ ج : إن الفرق بين السني العراقي والسني العربي، هو كالفرق بين الشيعي العراقي والشيعي الإيراني..
وكما تتذكر، فإني كنت أصر في أحاديثي وتصريحاتي، على أن عمليات التفجير التي تبنتها الحركة الإسلامية العراقية في بغداد، أنها لم تكن من صنع الإسلاميين العراقيين، فالشيعي العراقي كالسني العراقي، لا يفكر بالانتحار، حتى لو كانت الجنة تحت قدميه، فاعترض عليَّ إعلام الحركة الإسلامية قبل أن يقر الإسلاميون العراقيون الآن، أن عملية تفجيرية واحدة أو اثنتين فقط وجهت ضد مؤسسات رسمية في بغداد في تلك الفترة كان منفذها عراقياً. وأقول في العمليات الانتحارية السنية ما قلته في العمليات الانتحارية الشيعية، أنها ليست من فعل العراقيين. لكن العراقي قد يشترك في أعمال الذبح، وهذه قسوة على الآخر، وليست لديهم قسوة على النفس. إن السني العراقي في خلايا الدم العاملة حالياً، قد يكون مرتبط المخيلة نحو مشروع سلطة استحوذ عليها الأمريكان بالقوة ومنحوها للشيعة والأكراد، وهذا طريق قد يتقدم الماشون به أو يتقهقرون. فيختلفون ويساومون، ويتفاهمون حسب قوانين سياسية قابلة للاحتمال وعكسه، وقد تستخدم طرق لا تأتي على بال وإن هي معروفة في ميدان السياسة، لاستعادة الدولة التي كانت تدر عليه بالمواقع السيادية والعسكرية والدبلوماسية بنسبها المطلقة. إنه يشعر بالخسارة، وعليه أن يعوضها، أما السني العربي، فقد استقدم إلى العراق حاملاً نيته الصافية، وإخلاصه لمعتقده الإيديولوجي، خازناً في صدره فتاوى شيوخ الإسلام في استباحة دم المرتد. والشيعي عند هؤلاء الشيوخ في مقدمة المرتدين. إن السني العربي دخل العراق لكي يموت، لم يأت باحثاً عن عمل ولا مطالباً بسلطة ضائعة، ولا راغباً بالقصور، ولا مقاتلاً من أجل عيني المرحوم ميشيل عفلق، إنه مسكين استثمروا فقره وعقيدته وثقافة جعلته ينبذ الحياة الدنيا ليقيم في خلايا الدم. وعند تقسيم مسؤولية الذبح داخل خلية الدم عليهما، يظهر الفرق بين كل منهما، فالسني العراقي يأخذ على عاتقه مسؤولية ذبح الرهينة، ويأخذ السني العربي مسؤولية ذبح نفسه، وتمزيق جسده، لكي يمزق الأجساد الأخرى. والضحية قد يكون أكثر فقراً وعوزاً من هذا المستقدم، وقد يكون في صلته مع الله ونبيه وقرآنه صميمية وحارة مثل قاتله، سوى أنه لم يثقف من علمائه بقتل نفسه، حتى يقتل الآخرين معاً. إن السنة العرب، ومعهم الزرقاوي، تشخص عيونهم على حقول الجنة الخضراء يغذون إليها السير متنافسين، أما زعماء السنة العراقيون، فعيونهم على المنطقة الخضراء. لا يفوتنا أن السني العامل في خلايا الإرهاب والمقاومة والجهاد، سيفترق فريقين عن بعضه، فريق العرب في محفل الشهداء، والعراقيين في محفل الوزراء. ولك أن تفسر على ضوء هذا التقسيم، معاناة الزرقاوي وجماعته من الفريق الآخر، بتصريحه اليوم 17/5/2005 بتحذير السنة العراقيين من الدخول في لجنة كتابة الدستور، ومساومة كونداليزا رايس. فكيف ستنتهي الحال.. هل بانتصار فريق السلطة والدولة الذي سنراه في صورة تذكارية على أبواب القصر الجمهوري في المنطقة الخضراء، وتسليم الزرقاوي وجماعته من السنة إلى (العدالة الأمريكية) أم أن يسارع الزرقاوي، فيضرب ضربته بطريقة (عليّ وعلى أعدائي يا رب). اســـتقـدام الــزرقـاوي
س : ندري أو لا ندري أخذتنا أستاذ حسن وأخذنا هذا العرض إلى (أبو مصعب الزرقاوي)، هل نتوقف للتعرف على الزرقاوي؟
ج : تسميه الفضائيات السنية بالإجماع، زعيم بلاد الرافدين، وتضع عبارة تنظيمه القاعدة بين شارحتين!. س : عودة إلى جواب أسبق، يبدو أنك تتخيل صورة وفاق سني - أمريكي في العراق؟ ج : هذا من طبيعة البشر، عندما يتعرضون لمخاطر لا يستطيعون ردها، فيستنجدون بالقادرين على ذلك، وليس للمستغيث أن يسأل عن هوية المغيث، وما حدث للشيعة الذين استجاروا بالأمريكان بعد (80) عاماً من حكم أشقائهم الأحادي الشرس، ربما سيحدث للسنة بعد أشهر من انتصار الشيعة وسيادتهم البرلمانية على الدولة. س : تتحدث بلغة المرتاح، وبطريقة وبلغة مرتاحة قد أكون شخصياً أعرف جذورها فدعنا نكشفها للقارئ ج : أحاول أن أكون بعيداً عن البلاغة. البلاغة خطيرة وخطرها، أن حجم التعبير عن الأشياء والأفكار يظهر في الكلام البليغ أكبر من الحجم الطبيعي. أو قد يكون أصغر من حجمه الطبيعي بمرات. أحـمــد الجــلـبـي س : توقفنا في دردشتنا ليوم أمس عند أحمد الجلبي وسأنتزع منك شهادةً أو تعريفاً عنه وعن رجال يحتاج قارئو التاريخ في المستقبل ليعرفهم من خلال تجربتك الشخصية وتقييماتك التي تخرج في الغالب عن المألوف؟ ج : التقيت بأحمد الجلبي لأول مرة عندما كنا سعد صالح جبر وآخرون وأنا نصدر ونحرر أول جريدة معارضة للمستقلين والليبراليين في المنفى. عندما دعاني سعد إلى موعد في أحد فنادق لندن فإذا بأحمد الجلبي هناك ولم يكن لي سابق عهد بمعرفته لكني كنت أعرف والده وأشقائه رشدي وجواد وحسن والرائع أن عبد الهادي الجلبي الذي يملك إمبراطورية مالية بعضها موروث عن عائلته، أقام في الوقت نفسه إمبراطورية علمية، ولم يشغل أبنائه بالبيع والشراء ولا باللهو، حيث يلهو أبناء الوزراء والأثرياء، وإنما ربط كل واحدٍ منهم بإحدى أعظم الجامعات في العالم، وقد دخلت عليه في آخر شهور حياته في لندن، وهو محاط بأبنائه رشدي دكتوراه في الاقتصاد الزراعي، وجواد متخصص في الشؤون المالية، وحسن الفقيه الدستوري الذي غاب حتى الآن عن المشاركة في كتابةِ الدستور، وحازم وأحمْد المتخصص في فلسفة الرياضيات. وكان أول سُؤالٍ طرحه عليًّ أحمد في أول لقاء يدور، حَوَلَ كيفية الحصول على نُسخة من كتاب هادي العلوي «الحركة الجوهرية عند الشيرازي» وانطلق يَسرُدُ تفاصيل من هذا الكتاب النوعي الذي قد يكون أحمد الجلبي واحداً من بضعة أشخاص توفروا على فهم عميقٍ واستيعابٍ لهذا الكتاب. وكان قد صَدرَ كتابي «الجواهري ديوان العصر» في ذلك الوقت من عام (1986) وفيهِ تعريض بجدهِ عبد الحسين الجلبي، الذي كان رؤوساء الوزراء السنةِ يفضلونه ممثلاً للشيعة في المقعد اليتيم، لعدم تدقيقهِ في القرارات التي تصدر من قبل الوزراء وفي بعضها أضرار بمصالح الشيعيةِ. فعرفتُ أنًّ أحمد الجلبي كان قد أطلَعَ على كتابي. س : أرجو عدم المقاطعة لكني أود معرفة ما دار في هذا الاجتماع ولم عُقِد؟ ج : اتفق سعد صالح جبر معي على فكرةِ ترغيب أحمد الجلبي بالعمل السياسي والمشاركة بطريقةٍ وأخرى معنا، في وقتٍ كانت هنالك خلافات بين عائلةِ الجلبي وسعد صالح جبر تتعلق بعدم دعم العائلة المتنفذة في الوسط الشيعي لمؤسسات المعارضة. استعرض أحمد الجلبي في اجتماعنا معاناته في الأردن قبل أزمة بنك البتراء بسنوات طويلة. وما يعانيه من ضغوط لوبي صدام حسين في البلاط الملكي الأردني وبعض رؤساء الوزارات والوزراء ومسؤولي الأجهزة الأمنية. وكانَ متشائماً من صورة المستقبل، وأعطانا أكثر من مثل على تلك الضغوط لتمشية قضايا مالية وتسديد اعتماداتٍ لصالح المسؤولين في السلطة العراقية. نوّه الجلبي إلى أن استثمارهم العامل الطائفي لاتهام الجلبي به إذا ما تأخر عن تلبية طلب معروض عليه لصالح حكومة بغداد. وكشف في الاجتماع عن أساليب تتفق عليها الجهات الأمنية الأردنية والعراقية، لملاحقة معارضي نظام صدام حسين وتسليم بعضهم وإعدامهم في بغداد. وأتذكر أنه سمى شخصاً يدعى السبتي (السبتي: هو عبد الهادي السبيتي ـ أحد قادة حزب الدعوة الإسلامي سلمته المخابرات الأردنية لحكومة بغداد في الثمانينات). عرض عليه سعد أن يحسم أمره قبل تفاقم الأخطار عليه لكنه ترددّ وإن لم يقطع بموقف آخر. أما أنا، فقد عرضت في الاجتماع فكرة تأسيس تجمع سياسي، لضمّ مجموعات من المعارضة، حسب نظام الدوائر وفصلت لهم في ذلك. وقد دهشت أن أحمد الجلبي بعد خمس سنوات على هذا الاجتماع، عاد إلينا بفكرة المؤتمر الوطني وفي تشكيلاته ظلال واضحة لنظرية الدوائر. كما دهشت أن الولايات المتحدة الأميركية وإلى حد ما بريطانيا التي لا بد أن سعد صالح جبر قد عرفهم بأحمد الجلبي استبدلوه بسعد.وكنت دائماً أسأل سعد عن سبب ابتعاده عن المؤتمر وتصدي أحمد له. طبيعي أني أعرف أن جوابه يتعلق بمكانه الشخصي في المؤتمر الوطني، فلم يستسغ سعد أن يكون تسلسله في إدارة أي عمل سياسي ينزل عن المرتبة الأولى. وكان سعد صالح جبر قد أنفق الكثير على عمله السياسي حتى أعلن إفلاسه رسمياً واختفى فترة ثم اكتشفت أن سبب ذلك هو استحياؤه من أن نراه ساكناً في شقة على آخر سطح، كان قد اشتراها لسائقه اللبناني الذي تمرّد عليه وأقام دعوى ضده. فيما كانت قائمة هواتف منزله الذي خصص لعمله السياسي قد تجاوزت العشرة آلاف باون شهرياً. وإذا سألت عن تقييمي لشخصية أحمد الجلبي فقد سبق لي أن أشرت إلى رأيي فيه بحضوره أو في أحاديثي مع شقيقيه الأكثر قرباً إليّ وهما جواد وحسن. أحمد لا يعمل بروح جماعية، ويفضل على طريقة نوري السعيد، أن يفكر وحده سوى أن السعيد كان يشرك معه مسبحته أما أحمد فلا مسبحة ولا تسبيح. ثقافته أعمق من ثقافة أي سياسي آخر، وهو ينقصه حسن الحديث وحسن الإصغاء، ولطالما تحدث إليه البعض وأصابعه تتحرك في مكان آخر فوق كيبورد الكومبيوتر، ولا يملك الصبر على الجلوس مدة طويلةً للحديث أو الاستماع، لا يحمل شيئاً من التراث العراقي، فيما كان سعد صالح جبر بغدادي لم يخرج عن هذا العالم حتى في مفردات نسيها البغداديون منذ خمسين عاماً. وأحمد على العكس من سعد صالح جبر في التمسك بأصدقائه، وعلى العكس منه في أنه يعمل بجدية أكبر من سعد، وبصمتٍ، وأظن ذلك أنه هو الذي أغرى الأميركيين فيه. أحمد الجلبي شجاع في إعلان رأيه، وفي وجوده، وفي حضوره ساعات الخطر. حتى يبدو أقرب إلى المغامر. وله القدرة على استبدال تحالفاته، لكنه لا يستبدل قناعاته، وكنت أتعارك معه كلما التقينا عن شيء يتعلق باحتضاناته وتحالفاته، فتسارع إلى شفته (معليك.. معليك لتدير بال لح تشوف الأمور). وبالفعل كان يستخدم هؤلاء الأشخاص والتحالفات، ويأخذهم إلى مرحلة ثم يتركهم. وسواءً اتفقت معه أم لم تتفق، فإن قانون تحرير العراق الذي استحصله من الكونكرس الأمريكي، لم يستطع أن ينجز مثيلاً له معارض ليبرالي آخر من هؤلاء الذين لجأوا إلى أمريكا خلال المئة عام الأخيرة. وبقدر عجزه وفشله في محادثة العراقيين، فهو بارع في الحديث مع رجال الإدارة الأمريكية. وقد حضرت معه اجتماعات عديدة، كان الجلبي يسحب كرسيّه في مكانٍ ما فيضع ساقه اليمنى فوق اليسرى فيصبح وفد الكونكرس، وكأنهم تلاميذ يصغون إلى أستاذهم احتراماً وإصغاءً وشعوراً بالثقة، وقد يسارع بعضهم إلى ورقة وقلم لكتابة ملاحظاته. لم تكن الصورة كما يتخيلها معظم الناس، ولم يكن الأمريكان يتحدثون وهو مستمع ويملون عليه وهو يكتب. لم يحصل هذا أبداً. وكان صوته يعلو على صوتهم فتذكرت صاحبي صدام حسين عندما يجتمع مع موفد آخر ممن يعتقد صدام حسين أنه قدّم لبلده خدمةً سياسيةً كبيرة، فهو الممتن وهم الممنونون. إن علاقاته برجال الكونكرس والبيت الأبيض والبنتاغون، لا تشبه علاقات معارض أجنبي بدولةٍ أخرى. وقد يقف داخل الإدارة الأمريكية إلى جانب فريق ضد فريق، فيساجلهم في الاجتماعات والأحاديث الخاصة والمعلنة. ربما تكون خطيئته الكبيرة أنه اصطدام مع (السي أي إيه) في وقت مبكر، وأنه كان يتعالى على رجالها الذين هم كأي رجال مخابرات في العالم يشعرون بأنهم صانعو الزعامات. وكانت السي أي إيه تميل إلى فكرة الانقلاب فيقول لهم علناً: أنكم تنفذون الإرادة السعودية وليست الأمريكية، والمشروع السعودي يعتمد على تشجيع ضباط عراقيين على الخروج من مؤسساتهم والالتحاق بالمعارضة لتبرير انقلاب بإشراف السي أي إيه. فيما يستثمر أحمد الجلبي فشل المخابرات الأمريكية في تدبير انقلاب بعد عددٍ من المحاولات. وكان أحمد واثقاً من قدرته على إدارة تحرك شعبي يتوازى مع تحرك عسكري أمريكي لإسقاط صدام، وعدم الاعتماد على الجيش الأمريكي فقط. وهنا حدثت فجوة أخرى، وهذه المرة مع حلفائه في البنتاغون. فاتفقت البنتاغون والسي أي إيه على موقف ضده، وهو الذي ظهر في العراق بعد سقوط النظام، فيما كان الاعتقاد السائد، أن الجلبي سيكون رجل العراق الأمريكي الأول على الأقل، خلال فترة وجود وزارة الدفاع الأمريكية وقواتها في العراق. وقبل أن تتهيأ الظروف لعلاقات عراقية ـ أمريكية محكومة بالأعراف الدبلوماسية وسيادة وزارة الخارجية الأمريكية على غيرها في العراق. كيف يمكن للحلبي أن يعمل أو يحقق أهدافه وهو في خصومةٍ يوميّة مع السي أي إيه والخارجية الأمريكية ثم البنتاغون أخيراً؟. أظن أنه ظل حتى هذه اللحظة يراهن على أصدقائه في البنتاغون، وسيكون مثيراً للدهشة وقابلاً للتكذيب أن أحمد الجلبي عندما يدخل الكونكرس فإن الأغلبية تحييه وقوفاً ولم يتغيّر المشهد كثيراً داخل الكونكرس الأمريكي. س : لكنّ هذا الدور الكبير الذي تتحدث عنه لم نلمس من أحمد الجلبي شيئاً منه في السلطة؟ ج : أظنك لم تتذكر فقرات ساعتين خصصتها فضائية المستقلة لي متحدثاً عن تجربتي الثقافية وآرائي السياسية عندما قلت أن القائمة التي تنسب للسيد السيستاني هي قائمة الجلبي لا بمعنى التابعية والعائدية والنفوذ وإنما بمعنى الفكرة التي توصل إليها الجلبي للخروج من مأزقه الانتخابي وهو يعرف تماماً أنه قد لا يحصل على مقعد نيابي.. اسمح لي بالاعتراف وأقول أن الجلبي أخرج المتحالفين من مآزقهم أيضاً. ربّما لكن الطريقة التي تمت ليست بعيدةً عن الإسلاميين في اعتماد المرجعية. كان الائتلاف حركة بارعة أعطت نتائجها المثيرة وسيكون دورها في الانتخابات القادمة أكثر وضوحاً سواء كنت إلى جانب الائتلاف أو لم تكن. فأنا لا أتحدث من منطلق الأمنيات الشخصية أو كمنعكس لاجتهاد خاص بقدر ما أرسم رؤية أظنها علمية. ونعود إلى أحمد الجلبي باعتباره رجل أمريكا الأول وقد قلت له مرة إنك قد تكون نوري السعيد الذي لا يحب الناس ولا يحبونه، ولا يحبّ المثقفين ولا يحبونه، لكنه يتحمل انتقاداتهم وملاحظاتهم بصبر وله قدرة على التواصل حتى لم تعد بريطانيا ترى غيره. إن رؤيتي هذه لم تكن صائبة، فالذي حدث في العراق الأمريكي شيء آخر وأحمد الجلبي لم يكن نوري السعيد وأمريكا لم تكن بريطانيا. إيـــاد عـــــلاوي س : هل وصلنا إلى رجل العراق الأمريكي إياد علاوي وهل سنتعرف على هذه الشخصية بالطريقة ذاتها ؟ . ج : لم ألتق بالدكتور أياد علاوي في الفترة ما بين 1980ـ 1990، لأنه لم يكن مشاركاً آنذاك معنا في المعارضة الليبرالية، شأنه شأن أحمد الجلبي. فهما من الجيل الذي اندفع مع سياسة المعارضة العراقية بعد غزو الكويت، فيما كنا نجتمع في عقد الثمانينات مع عمه الدكتور عبد الأمير علاوي ومع الأستاذ عبد الكريم الازري، الذي كان يمد جريدة التيار الجديد، بشهادات ومقالات توقع باسم كاتب عراقي كبير. كان عبد الأمير علاوي طبيب أطفال، التقيته عام 1960 وأنا أحمل إليه ابني الكبير ولا أظن بغدادياً هو اليوم في الخمسين من عمره لم يُحمل طفلاً إلى عيادته. كان وهو وزير في العهد الملكي، يتحدث إلينا بلغة يسارية تقربنا إليه وتبعدنا عن عبد الكريم الازري المهموم في تعظيم دور الملك فيصل الأول، ثم اكتشفنا أن الازري خزانة عراقية للمعرفة والتجربة والحكمة والإخلاص شأنه شأن الدكتور عبد الأمير. التقيت بالدكتور أياد علاوي، عندما زارني لأول مرة في فندق الانتركوننتال في الرياض عام 1991 مع الأستاذ صلاح عمر العلي ومسؤول سعودي، عارضاً علي فكرة المشاركة في تنظيم يبدو لي أنه لا يبتعد كثيراً عن تنظيم البعث، وعندما فهمت أثناء الحديث أن رئيسه ـ أو هكذا تصورت ـ الأستاذ صلاح عمر العلي ـ قلت له، معذرة فأنا منذ أحد عشر عاماً أعيش في سوريا دولة حزب البعث ولا أعرف أين يقع مبنى القيادة القطرية ولا دخلتُ يوماً القيادة القطرية ولا صافحتُ أحداً فيها سوى المهمش في القيادة صديقي الراحل فاضل الأنصاري. وهو عهد قطعتهُ على نفسي منذ خروجي من العراق، وأبلغتهُ إلى الرئيس الأسد شخصياً مما أتاح لي أن أكتب عن عبد الكريم قاسم بلغة وديّة مهاجماً قاتليه وأنا في السنوات الأولى من لجوئي إلى سوريا. فهل أعود إلى مثلها لا وحياة رأسك! وتواصلتُ بالقول وبلهجة طائفية حادّة! أنا لا أعمل في حزب أو تجمع لا أكون فيه سيداً. وإذا كنتُ في العراق من أتباع المذهب المحكوم، فأنا في المعارضة أتصرف باعتباري من أتباع المذهب الحاكم. ولم أضَعْ أي اعتبار للمسؤول السعودي الكبير الذي كان حاضراً، ولعله هو الذي أبلغ فيما بعد المؤسسات التابعة للسعودية أو الممولة فيها بأن لا تستضيفني في برنامج أو تنشر لي مقالة أو تفتح هاتفاً معي. وربما أتخذ هذا القرار بعد وقت. وقد أثرت هذا الموضوع مع القيادة الأولى في الدولة السعودية التي تربطني بها حتى هذه اللحظة وشائج ثقة واحترام وتعاون وتشاور وأنا لا أمثل حزباً ولا طائفة ولم أدّع ذلك. وآخر من أبلغتهُ هذا الإجراء التعسفي هو الأمير تركي الفيصل سفير المملكة في بريطانيا فاستمع إلىًّ بشيءٍ من الذهول. وجرت الأمور هكذا وأنا لا أقترب من حركة الوفاق التي تشكلت في الرياض بزعامة العلي وعلاوي. وفي إحدى الأمسيات بالرياض، وكنتُ مَدعْوَاً في منزل الصديق الطيّب أرشد توفيق الذي تسلَّم مكالمةً هاتفيةً من شخص ما يُخبْره بأنًّ قراراً سيَصدُرُ بفصل الدكتور إياد علاوي ومجموعة من أعضاء المكتب السياسي من حركة الوفاق، وكان علاوي كما أظن مازال على الطائرة في طريقه من الرياض إلى لندن والسيطرة على جريدة بغداد في نفس الأمسية وهو أسلوب مستلخص من تراث المنظمة السرية في العراق، فشعرت بالقرف والاشمئزاز وقررت المجاهرة بإعلان صوتي وكان الجواب المذهل قد صدر من الأعضاء السنة في المكتب السياسي للوفاق الذين بايعوا وتمسكوا بإياد علاوي وتركوا الأستاذ صلاح عمر العلي مع أقليّة من مسؤولي الحركة الجديدة. لكني لم أقترب من حركة الوفاق ولا لغريمتها التي حملت نفس الاسم، وتنازعت عليه وكأنه من الأسماء القدسية. إلاّ أنني لاحظتُ في مؤتمر لندن في كانون الثاني 2002 وكنتُ أُتابع سير الاتجاهات في داخله وكأن العروبة أصبحت كلمة محرّمة، وكأن العراق ليس عضواً في الجامعة العربية، أو كأننا لسنا من جينات قحطان أو عدنان. وكنت أسعى لتجميع العروبيين في المؤتمر، فلم يكن سوى إياد علاوي يحمل هذه البذرة في جذوره السياسية. واجتمعنا بالفعل في لوبي خاص واستدعينا العروبيين سنة وشيعةً إلى حلقات جانبية كان لي فيها دور واضح إلى جانب الدكتور إياد علاوي، لكن المجتمعين تفرّقوا موزعين على جماعات وفئات أو معتكفين على أنفسهم. فانسحبتُ منذَ اليوم الأول من اجتماعات المؤتمر، وأعلنت سبب ذلك في لقاء مع فضائية الـ (A N N) وانتقدت مقررات المؤتمر التي خلت تماماً حتى من ديباجة اجتماعات الجامعة العربية. ولم يُشَرْ حتى إلى العرب كمكون في المجتمع العراقي. وبنفس الدافع بدأتُ أتصلُ بالدول العربية وأستثيرُ حميتها، وقد سُمًّيت مجموعة الستة التي ستقود العمل في المعارضة العراقية بعد سقوط النظام وهم جلال الطالباني مسعود البارزاني وأحمد الجلبي والشريف علي وممثل المجلس الإسلامي الأعلى وإياد علاوي. وشرحتُ لزعماء الدول العربية الذين بإمكاني التحدث معهم، أو مراسلتهم، بأن الوضع العراقي سيكون على هذه الصورة، وعليكم التعامل مع الواقع الجديد برضا، أو بغير رضا واقترحتُ عليهم دعم الدكتور إياد علاوي ليكون رئيساً للوزراء، وأن يدعموا هذا المقترح. قبل سقوط النظام بعام، وكنت واثقاً أن الخيار سيقع عليهِ فأشرتُ على دول عربية ومؤسسات بأن تتعامل معه باعتباره رئيس وزراء قادم وهذا موثق برسائل خطية. س : وأنا أشارك هذا البعض بالاستغراب نفسه ولذلك أريد أن أعرف كيف توصلت أن الرجل سيكون رئيس الوزراء القادم ؟ . ج : من خلال هذه الأسماء الستة صار واضحاً أن أول رئيس وزراء للعراق قد لا يكون كردياً أو أن أمريكا سوف لا تُغامر بمثل ذلك، وأن لا يكون وليس في المتوقع أن تبايع أمريكا عالماً أو فقيهاً في الحركة الإسلامية الشيعية لأسباب معروفة، وكان الشريف علي بن الحسين مهموماً بانتخابه ملكاً. ولم تكن ظروفه تساعد على ترشيحه. وكان أحمد الجلبي على خلاف مع معظم الدول العربية، وليس عليه إجماع داخل هؤلاء الستةِ، فلم يبق إلاًّ إياد علاوي، والاتجاه أن يكون رئيس الوزراء عربياً شيعياً علمانياً وهذه متوفرة في إياد علاوي ثم أنه يحظى بأغلبية أصوات هؤلاء الستةِ، وينظر إليه في الإدارةالأمريكية كسياسي مُعتدل لا يثير ظهوره مشاعر الاستفزاز في المجتمع العراقي. س : أشعر أنك لم تتوقف عند شخصيةِ مثلما توقفت عند الجلبي ؟. ج : هو قريب أحمد الجلبي، يتحدر عن عائلة وزارية شيعية في العراق الملكي وهو مثله يحمل لقب دكتور ومثله رجل أعمال ومثلَهُ منسجم مع السياسة الأمريكية، وكلٍ منهما في الأبجدية ينتمي إلى حرف واحد، فهذا إياد وهذا أحمد. إياد علاوي يحمل وجهاً طفولياً، يضفي على مشاهديه شعوراً بالطمأنينة والارتياح والثقة وكان هو كذلك طيلة تسلمه المسؤولية، فلم يعد كثيراً ولم يتحجج وكان متوازناً بين فعله وكلامهِ، وقد غلبه التواضع، فلا تشعر وأنت معه بأنك تتحدث مع رجل العراق الأول ورئيس الوزراء الذي يحمل مفاتيح قضاياه الأساسية. لا يحب حضور الاجتماعات، فكان ينيب عنه دائماً من يمثله ليس استنكافاً بل ضجراً من المناقشات العقيمة. ولم يُسجل عليه في تاريخه الحزبي مثلبةً مشينة أو فعلاً أو تصرفاً انفعالياً ضد الآخرين وهذا يعود إلى تربيتهِ العائلية، وانحداره من طبقة برجوازية شبعانة ومالاً وحالاً ووسامة. س : لكن السؤال الذي يدور هو عن أشخاص في الحكومة الكويتية يمتلكون قدراً معيناً من المناورة بتحويل الكويت إلى معسكر أمريكي ؟. ج : في السنوات التي كان الوضع الصحي للشيخ سعد العبد الله مريحاً، كان القرار الأهمُّ يصدر عن مكتبه باعتباره أكثر رجال العائلة إصراراً على معاقبة الاجتياحيين الذين اخترقوا حُرمة الكويت يوم 2/ آب 1990 ومن وقف معهم من دول سميت دول الضد، وكان نائبه الشيخ صباح الأحمد يميل إلى مواقف أكثر مرونة بحكم التأثيرات الدبلوماسية عليه كوزير عتيد للخارجية، لكن ذلك لا يعني أن الشيخ صباح المتساهل مع دول الضد سيكون متساهلاً مع دولة الاجتياح ورئيسها وحزبها. وإذا كان الشيخ سعد رجلاً على الطبيعة سريع التأثر بالمشاهد المزعجة، فإن الشيخ صباح يمتلك سايكلوجية كاظمية (أي له قدرة على كظم الغيض) وهذا جانب مطلوب في الشخصيات التي تحمل مشروعات خطيرة. كان صدام حسين لا يحبّ الكويتيين شعباً وحكومةً ومعارضةً وعائلة، ولا يفضل واحداً منهم على آخر، لكنه كان يعتقد أن أخطر شيخ عليه هو سعد العبد الله، ويعتبره مرجع الإنكليز، ويحسب لقدرته الأمنية أكثر من حساب، وحين سألته عن الشيخ صباح قال: هذا عنده شوية عروبة. أخذها من الجامعة العربية. وعندما كنت في الكويت استدعاني الشيخ سعد العبد الله، وكانت الحرب العراقية ـ الإيرانية في أيامها الأولى، فاستعرضت وجهة نظري في أن الحرب «اعتماداً على ما هو معروف من تاريخ الإيرانيين ستطول» وأسررته، بأني قد أختطف أو أقتل غداً وأنا في وضع حرجٍ فإذا قتلت فاعلم أيها الشيخ أني لم أمت على دين صدام حسين، وإنما أسعى لطمئنة الحكومة العراقية حتى يكتب الفرج وتصل عائلتي إلى الكويت، عندها ستسمعني في إحدى الإذاعات السرية متحدثاً عن مشروع صدام حسين لاحتلال الكويت، وهو ما فعلته حال وصولي إلى دمشق. فقال: أستر على نفسك، ايفجروننه تره بعض ذوي النفوس المريضة يفجرونه قنبلة هناك في الكويت بخمسين ديناراً. وحثني على الاستعجال بحفظ حياتي. فضــائيات ســنية في مـواجـهـة الشــيعة العــرب س : الإعلام ساحتك ومسبحتك تصول فيه وتجول لماذا لم يظهر في العراق إعلام علمي أو إعلام يتأثر بالإعلام الأمريكي لماذا لم تقم أمريكا إعلاماً أميركياً في العراق؟ ج : طبيعي أنك لا تقصد المحاولة المتواضعة المتمثلة بالشبكة العراقية، أو شبكة الإعلام العراقي، وإنما تريد أن تسأل عن فلسفة الإعلام وأدائه وتجهيزاته ومؤسساته. كتبت في جريدة المؤتمر قبل سقوط النظام بعام، مقالاً عن الأحزاب والإعلام في عراق المستقبل، قلت فيه إن الطابع العام للأحزاب وللصحف والمؤسسات الإعلامية، أنها ستكون كثيرة جداً وصغيرة جداً. بعد أن أخرجت من الأحزاب التيارات التقليدية المتجذرة من القوميين والشيوعيين والإسلاميين. إن الإعلام العراقي مرعوب ولم يعبّر حتى الآن عن إرادته الديمقراطية الحرة، بسبب التهديد المباشر من الإرهابيين ولأن تجربتنا الليبرالية بالأساس تجربة ناشئة. ولهذا فلم يستطع الإعلام العراقي أن يشكل قوة ضغط، أو قوة تعريف لمواجهة الإرهابيين ولا ضير عندي أن اعتبر الإعلام العربي قد انتصر لأول مرة في العصر الحديث على الإعلام الأمريكي. س : كيف..؟ ج : بإحصائية، أوعزت لمكتبي اعدادها تبين لي أن هنالك 700 ساعة بث تلفزيون يومياً، لإسناد منظمات الذبح، أو تقديم التبرير لها، أو ملاطفتها، بإيجاد تحوير لغوي ليصبح فيه الاعتداء على طلاب كلية الهندسة بقذيفة هاون هو هجوم، وهذه المفردة لمنح المهاجم حقاً لأنه يهاجم معسكراً آخر، وليس حرماً جامعياً، فيما المعسكر هو صف دراسي، لأبناء العراق الذين يشتركون في إعمار العراق في المستقبل لقطع دابر الكفاءات العراقية التي قد تساهم في إعمار البلاد، ومنهم المهندسون، وهم طلاب على مقاعد الدرس. وتسمي الفضائيات العربية، ذبح صحفيين في قناة الراي أمس الأول، بأنه ـ كما تقرأ أمامك على شاشة العربية والجزيرة والال بي سي اللبنانية ـ مفردة (مقتل صحفيين جنوب العراق) والقتل قد يكون في حادث سير، فيما هو في الواقع أكبر من القتل.. لأنه الذبح. فقد وجد رأس في الجانب الأيمن على الطريق، والجثة على الجانب الأيسر. في (700) ساعة بث، هناك تحريض على الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الشيعة، وعلى السلطة أياً كانت، وتشهير شخصي ضد رئيس الوزراء، عبر صحف ممولة من الجوار العربي. ما الذي يقابل هذه الحملة الشاملة الكاملة؟ إن الفضائيات العراقية أما أن يكون بعضها جزء من الإعلام العربي، لأنها ممولة من ذات المصادر، أو أنها شبه بدائية وشبه عاجزة عن أداء وظيفتها، حتى تلك التي تدافع عن حق الحياة للعراقيين وتدين الإرهابيين بأسمائهم. س : لكن ظهرت من ناحية أخرى فضائيات عراقية عن أحزاب وجماعات إسلامية. ج : مع تقديري للدوافع النبيلة وراء تأسيس هذه الفضائيات، لكنها لا تقوم بدور يُذكْر في الصراع الإعلامي، لاسيما أن هذه الفضائيات ذات طابع ديني، وهو طابع شيعي أيضاً، محكوم بقواعد وتقاليد الإعلام الإسلامي، وكان ممكناً أن يخصص بث مستقل من زمن الفضائية الطويل، لما هو إعلامي محض، مثلما تفعل الفضائيات العربية الفاعلة والمؤثرة. س : لكن هناك فضائيات أخرى مثل سحر (1) وسحر (2) والمنار والعالم وهي وإن لم تكن عراقيةً لكنها معروفة بتشيعها وتمويلها الإيراني الواضح؟. ج : ما دمت تفترض أن تمويلها إيراني أوافقك فيما يتعلق بسحر (1) وسحر (2) فهي تخدم سياسة الممول، وما دام الممول إيرانياً فالإيرانيون يعملون لحساب دولتهم وأمتهم وشعبهم، وهم مخلصون ونزهاء وهم في معركة مع أميركا، ومصالحهم مهددة بالاحتلال الأمريكي للعراق، فلماذا تتوقع أن ينتصروا للعراق الأمريكي، رغم أنه شيعي، أنهم يحاولون أن يدقوا إسفيناً ما بين شيعة العراق والعراق الأمريكي، حتى لو تحول هؤلاء الشيعة إلى مطاردين، منزوعي الهوية، كما كانوا في عهد النظام السابق. أنها فضائيات إيرانية قبل أن تكون شيعية، ألا ترى بعض الفضائيات المسيحية تدافع عن طالبان وعن الملا عمر والزرقاوي، فيما هي ليبرالية من المفترض أن تكون مفتوحة على العصر، وأن يكون لها موقف ليبرالي واضح من التجربة المتخلفة للطالبان في أفغانستان؟.. س : هل تعتبر من واضعي أسس الإعلام العراقي المعارض؟ ج : أصح أن نقول من الإعلاميين الذين واجهوا نظام صدام حسين منذ عام 1980. س : لكني أعرف أن الطابع العام آنذاك كان إسلامياً. وأنت تصر على إعلام ليبرالي. ج : ندما كنت أتهيأ لمغادرة السلطة نهائياً بعد مغادرتي العراق إلى الكويت، كنت حسمت أمري واضعاً أمامي شطراً من بيت لشاعر الصعاليك عروة بن الورد: أوزع جسمي في جسوم كثيرة. ولم أخرج عن هذه القاعدة، وأنا أوزع، جهدي الإعلامي على جميع صحف ومؤسسات الإعلام الذي يتسع لمعارضة صدام حسين، فساهمت في أعمال تحرير وتطوير صحف معارضة إسلامية وديمقراطية وليبرالية مثل: 1ـ جريدة الغد الديمقراطي. 2ـ الجهاد الناطقة بلسان حزب الدعوة، وكانت أيامها الذهبية مرتبطة بتلك الأمسيات التي أقضيها مع الدكتور علي التميمي في سوريا، ونحن نصمم للجريدة عناوينها الرئيسية، ومقالاتي الأساسية فيها، وقد نشرت كتابي (قتلى في طور الانتظار) و(قتلى في طور التنفيذ) مسلسلاً على إحدى صفحاتها. 3ـ التيار الجديد، التي أصدرها السياسي العراقي سعد صالح جبر، وزميله المرحوم صادق العطية وكنت أكتب في بعض أعدادها أكثر من عشرين عموداً وخبراً وتقريراً. 4ـ لواء الصدر التي يصدرها مكتب السيد محمد باقر الحكيم. 5ـ نداء الرافدين التي وضعنا مع الصديق بيان جبر لبناتها الأولى وقد أصبحت جريدة المعارضة بلا منافس. 6ـ تشرين السورية. نشرت فيها كتابي ديمقراطية الموت. ثم انفتحت أبواب النشر بعد غزو الكويت في المناطق المحرمة سابقاً على المعارضة العراقية. فنشرت على فصول في مجلة المجلة اللندنية كتابي العراق دولة المنظمة السرية. وكتبت في السياسة الكويتية، والرياض السعودية والراية القطرية، ومجلة اليمامة السعودية، ثم عموداً يومياً في جريدة الشرق الأوسط، قبل أن أستلم مهمة الإشراف على جريدة المؤتمر في لندن، والتي أترك أمر تقييمها للقراء. إن القاسم المشترك للنشاط الإعلامي الموزع على ما يقرب من ثلاثين جريدة ومجلة، كان يعتمد الطريقة الليبرالية التي أوصل فيها أفكاري إلى القراء، وهي هذه التي تدون إجاباتي على أسئلتك فيها. الليبـراليــة الطـــائـفـيـة س : أنت تعرف أستاذ حسن أن لا مجال للمقاربة بين الليبـرالية والطائفية…إننا نشهد اليوم اقتراباً قد لا يكون بالضرورة منهجياً بين الليبـرالية والطائفية بصور ومظاهر مختلفة في المجتمع العراقي.. هل تشاركني توصيفاً كهذا؟ ج : الطائفية هي القانون الذي يحكم العراق والمنطقة منذ العهد العثماني، وهي التي جعلت من المحرم على العربي إذا كان شيعياً أن يكون وزيراً أو رئيسياً للوزراء أو سـفيراً بنسبة تزيد على الـ 5 بالمئة في الفترة ما بين عامي 1921 إلى 2003، وهنا أدعوك إلى مراجعة جداول كتابنا (الشيعة والدولة القومية). لكن بعض العمل الطائفي كان في باطن الأرض، فخرج إلى ظهر الأرض مستفيداً من الجو الجديد الذي وفره العراق الأمريكي، فاعتقد بعض الناس أن الطائفية دخلت العراق مع دخول قوات الجنرال فرانكس. الطائفية في العراق أقدم نظام سياسي في المنطقة. وليس بإمكان الأميركان أن يغيروا من اتجاهاتها بسهولة. والطائفية ليست خطراً بل الخطر في التمييز الطائفي، الذي يوزّع الامتيازات على فئة ويحرمها على الأخرى. والتمييز الطائفي، يرتبط دائماً بامتلاك قوة السلطة، ومن هنا فقد لا يجوز أن يسمى أبناء المذهب المحكوم من الشيعة بأنهم طائفيون. لكنهم في العراق الأمريكي وقد أتيحت للشيعة فُرص السيادة فقد يصلح أن يكون الشيعي طائفياً لأنه يمتلك السلطة وأدواتها وامتيازاتها. ولم يعد الشيعة مذهباً محكوماً في العراق الأمريكي. ولا أتمنى أن يصبح السنة هم أبناء المذهب المحكوم، بعد تلك المعاناة الطويلة للشيعة عندما كانوا محكومين حتى في كمية الدم النازل من عيون الثكالى!!. س : إنني كإسلامي أشعر بخدش حين تتحدث عن الليبرالية في الإعلام بإعجاب واضح وانسجام؟ ج : الليبرالية ليست عقيدة أو أفكار، وإنما منهج يعترف بالآخر، فهي ليست كالماركسية ومشتقاتها بل حتى الماركسي يمكن أن يكون ليبرالياً، وكنت ترى أن الحزب الشيوعي العراقي وكثيراً من الأحزاب العربية ذات منهج ليبرالي، وكان الإسلاميون في عصر النهضة، هم الذين وضعوا لنا أسس الليبرالية الحديثة، قبل ظهور الأحزاب الثورية، والأنظمة الشمولية، التي صادرت الآخرين. كان الكواكبي ليبرالياً وجمال الدين الأفغاني زعيم الليبراليين، وكان محمد سعيد الحبوبي والشيخ النائيني وهم فقهاء كبار ليبراليين. أما السيستاني فهو يختزن جميع هؤلاء الفقهاء، الذين تحدثوا عن الليبرالية، ولم يكونوا يمتلكون قدراً من السلطة والحكم، بينما السيستاني أثبت ليبرالية في الدعوة لمشاركة الجميع في الانتخابات، وفي صياغة الدستور، وفي إدارة الدولة. س : يتحدث مشاهدو الفضائيات ذات الطابع الإسلامي الشيعي أنها أقرب إلى الحسينيات منها إلى المؤسسات الإعلامية والثقافية؟ ج : كانت الحسينية مدرستنا الأولى. تعرفنا من خلالها على تاريخ مدرسة أهل البيت، وزودتنا بحس نقدي يتعامل مع التاريخ بمنهج غير مقدس، وقد أصدم القارئ إذا أشرت إلى أن بعض كتابات في مثالب حدثت في التاريخ الإسلامي وانتبه إليها كتاب علمانيون في السنوات الأخيرة لم تكن تساوي أكثر من أسبوع من الأمسيات نقضيها في الحسينية للاستماع إلى قارئ مطلع على التاريخ. إن الشيخ الوائلي هو ابن الحسينية وابن المنبر فأية فضائية يمكن لها أن تنجب وائلياً آخر؟ وتذكّر كاظم نوح ومسلم الحلي وحميد المهاجر وهادي العلوي نفسه خرج من الحسينية، وأنا من هذه المدرسة. إن الحسينية أدت دوراً في تشكيل وعينا الأول وصورة وجدان نقي خالص يترسم نقاء الدم في بطاح كربلاء. البغدادي : إنني يا أبا أكثم لم أكن سوى ناقل وجهة نظر لي تحفظات عليها لكنها وجهة نظر كثيرين من الإسلاميين على أداء تلك الفضائيات. العلوي : قل إنها تشبه أي شيء، لكنها لن تشبه الحسينية. لأن الحسينية والمشرفين عليها كانوا يتحركون بالدور المخصص لهذا المكان، وهم يحاسبون على ما أنجزوه أو ما لم ينجزوه داخل هذه المساحة وإمكاناتها وتجهيزاتها يوم لم يكن هنالك مايكرفون. إن الفضائية شيء آخر، وعليها أن تلتحق أو تؤدي دورها التكنولوجي على الأقل. الحسينية تقاس بمعيار الحسينية والفضائية تقاس بمعيار فضائي. الفـــردي والدكتــــاتـور س : كيف ترى الفرق الجوهري بين الفردي والدكتاتور ؟ ج : إن الديكتاتور العربي، هو وطني وبطل قومي عند فريق، وهو عميل عند فريق آخر، سواء كان صدام حسين أم غيره. أعتقد أن هذا الالتباس يعكس مسالك الديكتاتور الذي قد لا يكون عميلاً لكنه ليس وطنياً وهذه مفارقة. إن الزعيم الوطني يعمل لحساب وطنه وشعبه ناذراً حياته وجهده لهذا الهدف كما هو معروف، وأن العميل يشقى لحساب غيره دولة ثانية أو جهة. أما الديكتاتور، فإنه يعمل لحسابه الشخصي، ولتكريس سلطته وسطوته، وقد يحتاج في مرحلة من مراحله إلى إصدار قرارات وإجراءات، وربما الدخول في مواجهات مع الدول العظمى، وتحالفات مع القوى الشعبية والاشتراكية، لكسب مشاعر الناس ونيل ثقتهم. إنه يفعل كل ما يفعله البطل الوطني والقومي، لكنه فعل مرضي، فقد يرى الديكتاتور إن حماية سلطته واستمرار حكمه يرتبط برضا قوة خارجية، حتى ولو كانت استعمارية، فيسعى لخطب ودها ونيل ثقتها. الحق أنه عندما يتحالف مع القوى الوطنية، فقد لا يكون مقتنعاً بمشروعها، وإلا لسار معها إلى النهاية. وأنه وبالقدر ذاته فقد لا يكون عميلاً خالصاً، ويتحالف مع القوى الأجنبية. ما دام مؤمناً أن التحالف مع هذا المعسكر أو ذاك، سيعود بالفائدة عليه وعلى سلطته. البغدادي : أطمح بمواصلة هذا التوصيف للديكتاتور قبل أن أعرض سؤالاً آخر عليك. العلوي : بلغة تراثية أقول: إن الديكتاتور لا يرضى بالقليل، إن سمعه ثقيل ولسانه طويل، مقتحم غير متردد ونسيجه محبوك غير قابل للاختراق، وهو دائماً ضحية قراره فهو إن قرر لا ينثني، وقراراته تتصاعد بوتائر عالية. إنه لا يعود إلى نقاط البداية، والمرحلة التي يغادرها تصبح رخوة أمام المرحلة التي هو عليها. إنه لا يخدع نفسه، ولعله مثال للانسجام مع الذات المنفصلة عن المحيط حيث الاتصال هنا يُضعف فرديته ـ ومن هنا يصدر عن الديكتاتور قرار بغلق الأبواب. س : هذه الصفات قد تكون أقرب لديكتاتورية صدام لكن صدام ليس وحده من تميز بهذه الخصائص. ألم يكن السعيد ديكتاتوراً يعمل بلا برلمان. ألم يكن ياسين الهاشمي كذلك.. ألا يدخل عبد السلام عارف بنفس هذا السياق..؟ ج : حتى الآن لا أعرف ماذا تريد. س : ما أريده بالتحديد هو إحراجك أو إخراجك من التناقض. فأنت في هذا المقام دافعت عن قاسم مثلما جرى ذلك في محاضراتك وكتاب خاص عنه وكأنه لم يكن ديكتاتورياً أو كأنك تتستر على دكتاتوريته التي كنت تتحدث عنها عندما كنت حزبياً يوماً ما مثلما تتحدث عن ديكتاتورية صدام حسين. ج : التناقض الذي تعتقد أنني وقعت فيه سبق لي أن فككته عن عبد الكريم قاسم، وأنت إسلامي لا تميل كثيراً إلى عبد الكريم قاسم، ولهذا لا أظن أنك قرأت كتابي عنه، ولو كنت قرأته لوجدت فيه مقارنة تسبق كلامي هذا في 22 عاماً عند أجريت مقارنة بين الديكتاتور والفردي، وهي مقارنة بين صدام وعبد الكريم قاسم. والفردي قد لا يكون ديكتاتوراً، وإن كان لابد للديكتاتور أن يكون فردياً. إن الفردي نرجسي بسيط يعتقد أن جميع الناس يحبونه، وهذا ما لا يعتقد به الديكتاتور الذي يشك في ولاء من هم حوله، ولهذا يفتك بالحاشية دائماً. إن الفردي نسيج مهلهل قابل للاختراق من أي السواحل جئته، فيما الدكتاتور كما أسلفت نسيج واحد متماسك. إن الفردي ربما يقدم وينثني ويقرر ويلغي القرار، وهو مطمئن النفس والبال إن ثناء الآخرين عليه يصدر من قلوبهم وإنه سيستميل قلوب خصومه بالعفو، فيما الديكتاتور يرى في العفو عن الخصوم فرصة لهم لترتيب أوضاعهم ومعاودة الكرّ عليه. والديكتاتور رهين قصره إلاّ في سيناريوهات سينمائية معقدة ومفبركة، فيما يحاول الفردي أن يفهم الناس أنه جزء منهم يحبهم كما يحبونه. قلت مرة عن صدام حسين أن الألف أغنية التي أعدت للثناء عليه لم تحرك نبضاً في قبله ولم يُخدع بها. فهو يعرف أنها لم تصدر عن قناعة، ولهذا ترى الديكتاتور دائماً يضرب صانع الأناشيد وصانع مجده وإن كان صادقاً. إذا ما تذكرت مصطلح التخادم السياسي الذي استخدمته أول مرة في كتابي أسوار الطين، وهو جزء من نظرية العمل لنظام صدام حسين، فربما ستشكل انطباعاً أولياً أو ربما تتراءى لك ملامح لهذا المشروع. كنت في ذلك الكتاب أجيب على سؤال فيما إذا كان صدام حسين عميلاً للمخابرات الأمريكية وهي جملة قرأتها قبل أيام منقولة على لسان صهره المغدور حسين كامل يخاطب ابن عمه علي المجيد في آخر لحظات من حياته وهو يقول: لا ينبغي أن تدافعوا عن صدام حسين لأنه عميل أمريكي. وإذا كان حسين كامل قد صرح بهذا الاتهام فمن المتوقع أن يكون كثيرون قد وصموا صدام حسين بالعميل الأمريكي. قلت في أسوار الطين: إن بإمكان أتباع صدام حسين أن يشيروا إلى الكثير من مواصفاته كزعيم وطني مثلما يمكن لفريق آخر أن يصمه بغير ذلك. معنى هذا أن شخصية صدام حسين قابلة لأن تكون في هذا الموضع أو ذاك. وقد يكون فيه كل ما في الزعيم الوطني من سمات. وقد يكون فيه كل ما في العميل من تلك السمات. صــدام حســـين العميــل والــوطـني س : هل تعتقد أن صدام حسين له وجهان أو عملتان أو شخصيتان!. ج : دعني اكمل استطرادي وإن وافقتك أن تقييم الشخصيات المهمة قابل للقراءة المتعددة. أما أنا شخصياً وعلى حدود معرفتي به التي تمتد إلى أربعين عاماً أكثر من نصفها قضيتها متابعاً لنشاطاته السياسية بعين المعارض، فأرى أن شخصية صدام حسين لا تصلح أن تطوع لشخصية العميل لكنها بالتأكيد ليست شخصية الزعيم الوطني. إنه أقرب إلى ياسين الهاشمي وليس لعبد الكريم قاسم الوطني القح ولا لنوري السعيد الذي مازلت أؤكد أنه لم يكن يعمل لا لصالح العراق ولا لصالح نفسه بقدر ما كان مخلصاً ومجاهداً في السياسة البريطانية ومازلت أعرض استعدادي لمناظرات علنية مع أي فريق سياسي وعلى أي مستوى. لتأكيد قناعتي هذه. لم يكن ياسين الهاشمي يعمل لصالح بريطانيا لأن شخصيته لم تكن طيعة، وهو غير سهل التدجين وكان أقرب إلى الجانب الوطني لكنه ليس كشخصية جعفر أبو التمن الواحدة غير القابلة للتجزئة. فقد كشفت وثائق بريطانية عن أسرار لقاءات خاصة للهاشمي مع مسؤولي العراق البريطاني عرض فيها استعداده للسير في مشروعهم لكنه سرعان ما يعود إلى نفسه ونفسه تواقة لأن يكون بطلاً. وحتى يكون كذلك فالبطولة المرجوة لا تصنع مع المس بيل وبريس كوكس وولسن وإنما مع الناس. وصدام حسين كذلك لكنه أكثر مهارة من ياسين الهاشمي في الحرص على أوراق اللعبة. إنه يعمل بما أسميته بنظرية التخادم السياسي، وهو يعتقد أن بالإمكان تبادل الخدمات بما يشبه المقايضة بين طرفين سياسيين أو دولتين. إنه مستعد. وقد فعل ذلك. أن يبدو رجل السوفيات في الشرق الأوسط، ويكون أول دولة عربية تعترف بألمانيا الشرقية ويقيم تحالفاً مع الحزب الشيوعي العراقي، ويعقد معاهدة خطيرة مع السوفيات. بعد أن يكون قد أعاد الشيوعيين المفصولين إلى وظائفهم، وإشراك الحزب الشيوعي لأول مرة في حكومة عراقية. وهو ما لم يتحقق لهم رسمياً حتى في سلطة عبد الكريم قاسم. فهل كان صدام حسين كريماً إلى هذا الحد مع الشيوعيين والسوفيات، وهل هو من هؤلاء الذين يمكن أن يعطوا كل شيء لوجه الله دون مقابل؟ إن الناس ربما يعرفون هذا الوجه الذي أغرى الحزب الشيوعي، وأغرى السوفيات واليسار العربي لكني أشك وأشك أنهم لا يعرفون الجانب الآخر من الالتزامات السوفياتية تجاهه، كلجم أي معارضة له وتمكين حكمه والاعتراف بقيادة البعث للمجتمع والسلطة وتشكيل سور سوفياتي حول العالم لحماية سلطته. وهو ما التزم به الاتحاد السوفياتي حتى ساعة تفكيكه. هذا هو التخادم السياسي. بدأ مع السوفيات وكنت ألمسه فقرة فقرة أثناء وجودي في الحزب وكنت معجباً بهذا النمط وربما يعجب آخرين. لما فيه من ندية وبراعة وقدرة على تعريف العمل السياسي. وبهذا الفهم كنت أراقب نمو العلاقات العراقية الأمريكية بعد خروجي إلى المنفى. وقد تيسّر لي الكثير مما يمكن أن أمنحه إلى نظرية التخادم السياسي. كنت واحداً ممن يفضلهم صدام حسين في المحادثة الثنائية، مما لا يتاح لأعضاء في القيادتين القطرية والقومية حتى بدأ عدنان الحمداني عضو القيادة القطرية ـ المقرب إلى صدام حسين يسألني بما يثير استغرابي. وحيث كنا ـ صدام حسين وأنا والمصور محمد علي حسن ـ على الحدود العراقية ـ الإيرانية في الأسبوع الذي وصل فيه الإمام الخميني إلى طهران في رحلة أسطورية وقد نزل من الطائرة وكأنه يهبط من السماء. فأثار إعجاب صحفيي العالم وصانعي القرار وأثار حفيظة الشعراء حتى إني وجدت بعد دُخولي إلى السعودية لأول مرة في أعقاب غزو الكويت أربعة شعراء من الوهابيين المتعصبين ولكل واحد منهم قصيدة عصماء يصف الإمام الخميني بأنه إمامُه. في تلك الرحلة سأل صدام حسين القائد العسكري للمنطقة عن أي مكان هش في هذه الحدود يمكن الدخول منه إلى إيران؟ فارتجفت ارنبتا أنفي ونزل الدم في أذني وأنا أردد مع نفسي: لعله سيفعلها ويدخل في حرب ضد إيران؟ مما دفعني إلى التلميح لهذا التصور فسألته عن الثورة الإيرانية والموقف منها. كان جوابه ملتبساً غير واضح فسألته بسذاجة متناهية: هل نحن جئنا هنا لكي يرى الآخرون هذه الشعبية التي تستقبل فيها؟ فامتعض صدام وقال: لسنا في سباق مع الآخرين لعرض عضلاتنا، ولكل واحد منا شعبه وخصائصه لكنه لم يذكر الثورة الإيرانية بخير!.. أريد أن أقول إن الأمريكان لم يكلفوا صدام حسين بشن الحرب على إيران. لأن أمريكا في ذلك الوقت الذي يسأل فيه صدام عن منفذ لدخول قوات عراقية لإيران كانوا في زمن المراقبة والانتظار ولم يكونوا حتى إلى جانب حليفهم التاريخي بهلوي الضائع على ظهر سفينة ولا يدري أين يتجه لولا حمية الرئيس أنور السادات. كان في ذهن صدام حسين والعراق مدجج بالسلاح السوفياتي والجيش الإيراني الإمبراطوري وقادته أما مهزومون، أو تحت أحذية الثوار، أن يقوم بضربة شبيهة بالضربة الإسرائيلية لمصر 1967 ولم يضع في حسابه على الإطلاق أكثر من أسبوع لانتهاء الحرب. والدليل أن صدام حسين بعد الأسبوع الأول للحرب أعلن في التلفزيون العراقي أن الحرب انتهت وعلى إيران قبول شروطنا. ثم يفرض شروطه ويصبح شاهنشاه العرب بعد زوال إمبراطورية أريامهر الإيراني. وقد يطلب آنذاك ثمن انتصاره ممن تتعارض مصالحهم الوطنية والأمنية مع الثورة الإيرانية. سواءً كانت الولايات المتحدة الأميركية أم دول عربية أو خليجية. إن المدة ما بين تلك الرحلة على الحدود الإيرانية وشن الحرب استغرقت سنة وثلاثة أشهر، أعد نفسه فيها لإزاحة الرئيس أحمد حسن البكر والانفراد بزعامة الحزب والسلطة، ولابد أن أموراً حدثت وقد كشفت الثورة الإيرانية عن استراتيجيتها في المنطقة، وكان ذلك خطأ قاتلاً حيث أعلنت أنها ستسقط العروش وتحرر الخليج وتصدر ثورتها لإقامة دول إسلامية على غرارها. وقد حدث كل ذلك بعد تلك الرحلة التي أشرت إليها والتي أشهد أن صدام حسين اتخذ قراراً مع نفسه بشن الحرب على إيران بسنة وثلاثة أشهر. وأغلب الظن أن صدام حسين كان يريد أن يباغت العرب بالنصر السريع المؤكد، مما يعني أنه لم يكن قد تشاور معهم بقرار شن الحرب وهذه من مزايا المغامرين!!. س : أعود إلى سؤالي الأول عن علاقة ذلك كله بمشروع العراق الأميركي؟ ج : إن الحرب العراقية ـ الإيرانية أوجدت ظروفاً لم تكن تدخل في التدرج التاريخي لتطور الأحداث والوقائع في حركة درامية ضخمة، وكان التقادم فيها يخلق علاقات جديدة وتحالفات غير متوقعة، ومن هنا دخلت الولايات المتحدة فبدأت ترسل ضباط السي. آي آيه للعراق لتقديم الخدمات الفنية والإيعاز لزعماء الخليج بتغطية النفقات المالية للحرب. أتذكر أن أمير قطر السابق والد الأمير الحالي، قد سرني أن السفير الأميركي في الدوحة طلب الالتقاء به على وجه السرعة، وعرض عليه رسالة أميركية تطلب دعماً مالياً عاجلاً بكذا مليون خلال ثلاثة أيام لدعم صدام حسين بمواصلة الحرب. وقد استجبنا للطلب برضا وغير رضا. وهنا يمكن أن تفتح أمامنا أبواب التخادم السياسي الذي لا بد أن يكون صدام حسين قد أخذ به مع الطرف الأميركي الذي يحتاج في هذه الحرب بديلاً للطرف السوفياتي الذي كان النظام العراقي في سباق مع سوريا واليسار العربي للانفراد بالخطوة الأولى معه. وكما تبادل العراق والاتحاد السوفيتي فقرات التخادم السياسي بأمانة ودقة وخلال عقد السبعينات وفي الثمانينات، بدأ عقد التخادم السياسي مع الولايات المتحدة الأميركية. وإذا واصلنا السير في مدارج التخادم السياسي فسنكون وجهاً لوجه أمام حقائق ولا أقول أسرار ـ هذه المفردة التي أمقتها وأمقت من يستخدمها ـ عن بدايات نشوء العراق الأميركي. إن الولايات المتحدة الأميركية تقدم الرغيف للعراقيين بمعونة سنوية من القمح المجاني، وتقدم المعلومات الاستخبارية للعراق في الحرب، وتضع القدرات المالية للنفط العربي تحت تصرف صدام بحيث كان العراقيون وما زالوا يتغنون بأيام الرفاه في الحرب العراقية ـ الإيرانية. حتى نسوا شهدائهم!! وكأن الولايات المتحدة الأميركية في هذا السياق ظهرت وكأنها هي التي تقدم خدماتها للعراق ولصدام حسين وليس العكس. وهنا أسال كما سألت عن التخادم السياسي مع السوفيات. عن الالتزامات التي على العراق أن يؤديها مقابل هذه الخدمات الأميركية الكبرى والخطيرة والتي كان منها مثلاً توفير سياج إعلامي آمن لصدام حسين من أي انتقادات صحفية ليس في أميركا بل في الصحف الأوروبية الغربية أيضاً، وأن لا تقدم الولايات المتحدة أية تسهيلات لمعارضي النظام وأن تبرر ـ إن أمكن ـ بعض الموبقات الواضحة في السياسة العراقية، وقد فعل الأميركان ذلك في حملة الإبادة الحكومية ضد أكراد حلبجة. وسأدوّن شهادتي هنا لتأكيد التزام الجانب الأميركي والأوروبي بعقد التخادم السياسي حتى الشهور الأولى لتوقف الحرب العراقية ـ الإيرانية وإعدام الصحفي الإيراني بازوفت وقد كنت أشارك الصحفية الباحثة الأوروبية البريطانية السيدة هيلغا كراهام في كتابة أبحاث عن الشأن العراقي، وكان حسين حامد قاسم يترجمه لي ولها عندما هزتنا حادثة إعدام بازوفت المحرر في نفس الجريدة، وبدأنا بحملة صحفية ضد صدام حسين تدخلت رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك السيدة مارغريت تاتشر بطريق وأخرى، لإيقاف هذه الحملة من أجل المصالح البريطانية كما فهمت إذ لوحت بأهمية عدم إزعاج الرئيس العراقي. وكنت ساعتها أشارك في برنامج قدمه ريتشارد كلاس (ريتشارد كلاس. صحفي أميركي معروف اختطف في مطار بيروت مع صديقه نجل وزير الدفاع اللبناني آنذاك السيد علي عسيران وأطلق سراحه فاكتسب شهرة عالية أهلته لتقديم برنامج في التلفزيون البريطاني) للتلفزيون البريطاني عن العراق، فأوقفت العمل في هذا البرنامج وقلت له، أننا لسنا أدوات تستخدم في المصالح البريطانية متى شئتم، واتصلت بمحاميي لإرسال إنذار إذا ما بث هذا اللقاء. |