المسافر |
المقاله تحت باب قصة قصيرة كان جلساً على أريكة جلدية مستديرة بنية اللون، موليّاً وجههُ ناحية النافذةَ الزُجاجية الكبيرة، التي ولجتها أشِعة الشمس الذهبية، في صباحٍ مشرقٍ، وهناك عند كلُ ركنٍ نبته ظليه كبيرة، قد تشابكت أغصانها وتفتحت أوراقها الخضر العريضة، كان يرتدي معطفاً أسودَ، ملقياً على رأسهِ قُبعة مستديرة غريبة الشكل، وينتعل حذاءً جلدياً قديماً، ويجلس على يسارهِ طفل صغير يصارع ورقة الحلوى واللعاب يسيل من فمهِ الصغير، لم يحرك موضع نظرهُ عن علبة الحلوى، وبجانبهِ رجل ضخم البنية أسود الشعر، أبيض البشرة، واسع العينين، كبير الأنف، يرتدي بزه كُحلية اللون، وبيدهِ كتاب صغير، كان يقرأ ويتصفح بهدوء، وعلى يمينهِ رجل طاعن في السن، أبيض الشعر، أسن الزمن لحيه البيضاء، والمصفرة في المواضع القريبة من أنفهِ وفمهِ، ودفن الزمان عينيه في جحر، تعابير وجهه توحي بالحزن والتعب، كان يرتشف ببطء شديد سيجارة، ثم ينفث الدخان من بين أسنانهِ المصفرة، وقد ترك الرماد أثراً بين أصبعيهِ الوسطى والسبابة المتيبستين، رفع رأسهُ ببطء ونظر إليهِ بعينين غائرتين، لم يستطع أن يتعرف أكانتا غائرتين بسبب انعكاس أشعة الشمس على وجههِ أم أن الزمن أكل شحم عينيه وقال له وهو يطفئ سيجارتهُ: - ما الذي حملك إلى هنا؟. - الهرب من هذه الأرض الثائرة. أحدَّ بصرهُ وأرسل نظرة ملؤها الغضب والاستصغار ثم قال: - أتترك أمك؟ لم يحر جواباً، أطبق الرجل صاحب البزة الكُحلية الكتاب بقوة ثم رماه جانباً وارتفع صوتٌ كأنه هديل: - هل سنرى أمي؟. (قال الطفل) قَّطب الرجلُ حاجبيهِ ثم أخذَ الحلوى وفتح الغلاف، وحرك رأسه بالإيجاب، طأطأ الشيخ رأسهُ وسحب سيجارة من العلبة التي كانت في جيبهِ العلوي، وجعلها بين شفتيهِ البنيتين المتشققين، أوقدها وشهقَ النفس الأول حتى ملأ رئتيه بالدُخان، وقال بعد أن دفع الدخان إلى الخارج مكوناً كرة كبيرة كانت واضحة تحت أشعة الشمس واسند ظهرهُ على الأريكة: - أيرى أمهُ كل من يدخلُ هذهِ القاعة الزجاجية؟. دوى صوت من مكبرات الصوت الملصقة بالأسقف، (ستنطلق الرحلة رقم3 إلى أميركا بعد عشر دقائق على المسافرين الأعزاء الاتجاه إلى البوابة رقم واحد)، نهض من مكانهِ، وأصلح قبعتهُ ورتب ثيابهُ ومدَّ يدهُ اليمنى إلى حقيبةٍ سوداءَ كبيرة ذات عجلات وجرها خلفهُ، لم يخطو خطوة واحدة حتى سمع الرجل العجوز يقول: - لن يجد كلُّ من يغادر هذه القاعة أماً. توقف متجمداً في مكانهُ والتفت إليه فوجده محنياً ظهرهُ ورأسهُ قد تدلى على صدره، ثم تقدم خطوه أخرى سمع الطفل يسأل عن أمهِ، نهره أبوه الذي كان يجلس بجانبه، كان يخطو منكس الرأس، كانت نظرات الناس موجهة إليه، أحس كأنهُ اقترف ذنباً لا يغتفر، بات بوده أن يعود ولكن إلى أين، شجع نفسهُ، وأقنعها.. ما هي إلا لحظات حتى تقلع الطائرة ويتخلص من الانفجارات والدم والخوف وصوت القنابل، ونوح الثكالى ودموع الأمهات والأطفال، تقدم قليلاً وقد غمرتهُ الحماسة والعزيمة، وصل إلى البوابة، حيث هناك خلف البوابة عالمٌ ثانٍ، خطوات ثم ارتقاء السلم ثم إلى السماء ثم في بلاد الأحلام إلى حيث راحة البال، ولكن عليه أولاً أن يجتاز الحارس الذي يسد البوابة، الضخم الجثة المفتول العضلات، الحاد البصر الطويل الشاربين، الذي يرسل نظرات الحقد عن بعد إلى كل من توجه معه في هذه الرحلة، ارتعدت جوانحه وخاف بادئ الأمر، ولكن لمَ يخاف؟ أنه مجرد حارس، وصل الحارس وبدأ يرتجف: - إلى أين؟ (سأله الحارس). - اهرب من الموت والانفجارات. - وتترك أمك وحدها؟. ثم تنحى قليلاً عن الباب وكأنهُ يقول لهُ لا تذهب، دلق من الباب بصعوبة؛ لأن الحارس كان يسد نصفه بجثتهِ، وصل السلم لم يتبق إلا أن يرتقي بضع سلالم ويكون قد تخلص من أرض الموت، في أول سلمة حطت عليها قدمهُ سمع نداءً من أعماقهِ (أتترك أهلك وأصدقاءك)، أطبق جفنيهِ وتوقف وقد كان آخر الركاب، فناداهُ منادٍ من أعلى الطائرة يأمره بالإسراع، ارتقى السلمة الثانية وسمع نداءً آخر (أتترك كُتبكَ ورسوماتك)، أمسك بكلتي يديه على جانبي السلم وكلما ارتقى سلمةً أحس بأن قلبهُ يقلع من مكانهُ، رفع قدمهُ ليصعد السلمة الثالثة وسمعَ صدى صوت العجوز يرتد إلى مسامعهِ (لن يجد كلُ من يغادر هذه القاعة أماً) ارتخت عضلاتهُ ولم يعد يقوى على الصعود، ولكن الصوت تكرر، صوت يحثهُ على الاستعجال في الصعود، فخطا خطوة أخرى تذكر كلام الحارس (وتترك أمك وحدها)، وفجأة دوى صوت انفجار سيارة مفخخة، اهتز المكان بأكمله، الوساوس والأوهام والذكريات، وأحلامه المتبددة تساورهُ، لم يعد قادراً على اتخاذ أي قرار ألتفتَ إلى الخلف فشاهد الحارس لا يزال واقفاً على الباب ينظر إليه، وهناك ارتفع دخان أسود مكوناً غمامة سوداء صغيرة، تحاول أن تسد الشمس بحجمها الصغير ولونها الأسود ورائحتها الكريهة، ولكن سرعان ما مزقتها الرياح، ثمة بالقرب من الانفجار أشجار نخيل باسقة بطولها وشموخها لم يحركها صوت الانفجار، ولم يردعها عن حملِ الثمار، وهناك بعيداً أعمدة دخان متصاعدة وسرعان ما ارتفع صوت عربات الإسعاف والإطفاء، وهرع الناس لإنقاذ الجرحى ونقل الشهداء..... ما هي إلا لحظات حتى كانت الطائرة في قلب السماء وتلاشت هناك في الأفق، وكان هناك من يدفع الحارس بأنامله محاولاً غرزها ألتفت الحارس إلى الشاب وقال: - أهلاً بك في أحضان أمك. ثم عانقهُ بقوة وشدهُ إلى صدرهُ العريض، وأحس بأنهُ قد احتضن شخصاً عاش معهُ زمناً طويلاً، وأنهُ يعرفهُ منذ طفولتهُ، مشاعر حقيقية تدفقت من صدر الحارس إلى صدرهِ، وفاضت عينا الصنديد كالطفل بالدمُع وقال: - أُمنا تحتضن كل الناس ولكن أمهم ترمي حتى بأولادها. وبعد العناق الطويل والصمت السائد، رأى الشيخ لا يزال يلازم مكانهُ تحت أشعة الشمس، خطا نحو الشيخ الهرم وقف عند رأسه، رفع الشيخ رأسهُ وحين رآه نهض بصعوبة متكئاً بيده اليمنى على حافةِ الأريكة وعانق الشاب، وكانت أشعة الشمس تغطي وجهه: - أنت أول من وصل إلى هنا ولم تغادر. (قال الشيخ). - عجباً تحب العراق وتريد أن تسافر؟. - أنا لن أخرج من هنا حتى لو أصبحت صحراء قاحلة وحتى لو متُ من العوز فلن أخرج، ولن يموت أحد هنا من العوز. - فما خطبك هنا؟. - أنا أنتظر ابني الذي سافر منذ ثلاث سنوات بحثاً عن أم جديدة، أم أجمل، ولكن آمالهُ خابت وأحلامهُ تبددت وأنا هنا منذ يومين بانتظاره. استدار ووقف تحت الشمس وسقطت قبعتهُ على الأرض، ونفخ صدره ورفع رأسهُ وشهق بصوت عالٍ واستدار إلى الشيخ وقال صدق من قال: (الشمس أجمل في بلادي من سواها - والظلام - حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق). |