المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
13/09/2007 06:00 AM GMT
الماضي حصيلة فعل الأنسان والطبيعة في الزمن الفائت ، وهو نتاج الحضارة والفعل الجمعي للأمم والشعوب ، كما هو مسار الزمن على طريق التاريخ ،.. وهو عند البعض قاعدة الحاضر التي يقوم عليها وهو العبرة والرؤى والدرس والحكمة التي نستقيها من أجتهاد الأنسان بخطأه وصوابه منذ أن عاش والى يومنا هذا . وللماضي على حياتنا تأثير كبير ، فنحن نجده في كل زوايا المعرفة والتقاليد والقيم والأعراف والسلوك البشري ، ونلاحظ بصماته واضحة بين صفحات الكتب وفي الدساتير والقوانين والنظم ، .. بل ونجدها في الأغاني والمواويل وأناشيد الأطفال ، وفي أقوال الحكماء والمبلغين والوعاظ ،.. ويكاد لا يخلو منه حديث ولا دردشة ولا مقولة ، ويعود اليه الكهان في خطبهم والقادة في أحاديثهم والأدباء والمفسرين في أستشهاداتهم ، .. والمظلومين لتفسير أسباب ظلمهم ومتى أستباحهم غيرهم فأستعبدهم ، والباحثين لبيان أستنتاجاتهم والمؤرخين لكي يصولوا في ساحته ، واللغويين حتى يثبتوا أعرابه وصرفه ونحوه ، والعلماء لكي يؤسسوا عليه والحكواتي ليتباهى به وشيخ العشيرة ليتكيء ويستند اليه في مجلسه ، والناقمون عليه ليبينوا مساوئه وكوارثه ، والأبطال لينتخوا به ، .. ووو... فأصبح الماضي يعيش في كل جنباتنا ويسدد أغلب خطاوينا ويؤشر آفاق عملنا ، وغدا نبراسنا في الطريق وزوادتنا في السفر عبر الزمن ، وآهنا الجريحة لو كان قد كبا ، وشدونا لو كان قد أنتصر ،.. ونبعا ينهل منه الكثيرون ويعيشون حوله فيغرفون منه متى عطشوا ولا يسمحوا بأمتهانه ، وفما ً مفتوحا على أيامنا ، يُسمعنا فنطيع في أغلب الأحيان . وبدوره فقد تسيّد بيوتنا ومجالسنا وبات الحكم بيننا ، لا بل فنحن الذين أخترناه لهذه المهمة ، .. هو ثالثنا حين نكون مع نساءنا ، ويلازمنا كالظل لنا ينهينا عن عمل هذا وترك ذاك وأستحسان تلك ونبذ أولئك والتقرب لهؤلاء ، .. يقتحم علينا خلوتنا ويصول في عقولنا ، حاملا سيف الدين تارة ، وصولجان الفتوى تارة أخرى ، دكتاتوري لا يقبل النقاش ، شمولي ،.. كوني ،.. حكمه ماض ٍ فينا ، له أزلامه التي تتوعدنا إن خالفناه ، وأحكامه وتشريعاته التي تكفرنا إن جادلناه . ومن منا لم يعاني من آثاره ، ،.. يُلبسنا قفطانه متى شاء ،.. ويعرّينا متى يريد ، هو جبار مُريد . ولا أريد الأطالة في وصفه ، وبيان جبروته وسطوته ، ولكني أطلق صرخة بوجهه ، لأقول له كفاك تتلاعب بمصيرنا وترسم ملامح مستقبلنا ، آن الأوان أن نضعك في محلك دون أن نبخسك قدرك ، سنحترمك ونحبك ، ولكننا لن نسمح لك بعد اليوم أن تعيش بدلا منا ، ولا يمكننا أن نترك زمنا ً طازجا ً لنعيش زمنك الذي يبس وتصلب ، وفي بعض جنباته قد تعفن ، .. نريد أن نراك بتجرد ، وأن نفهمك بموضوعية ، وأن نقف منك بحيادية ، وأن نستفيد منك ببراغماتية ،.. سنضعك في متحف بهيج ، سنحتفي بك ، ونشجع أبناءنا لزيارتك والأطلاع عليك والأعجاب بك ، وسوف لن نسمح بأهانتك ، وسنقوم بالتنقيب والبحث والدراسة فيك وأنت مقيم في متحفك الذي سيقع في قلب مدينتنا المعاصرة ولا يحتلنا بجيوشه التي وهن عظمها وفت في عضدها وأختفى صهيل خيولها في صحراء زمن ولـّى ، كفاك تحتلنا وتصدر فينا أحكامك ، وتهيج علينا المدفونين فيك لينفضوا غبار لحودهم وينهضوا رميما يسابق رميم كخفافيش الليل البهيم ، وبعضهم يقول لبعض ( لاتدعوا الشمس تشرق عليكم ففيها فناءكم وفي ساحتها ستنكشفون ) . سنبقيك مكرما ، بعد أن نحكم أغلاق الباب عليك في متحفك ، الذي سيضج حتما بالدارسين والمولعين بك ، ليعطونا خلاصتك التي تذكرنا بأننا أبنائك وأحفادك ولكننا لسنا أسراك وعبيدك ، وسوف لن نسمح لك بأن تسقط نظرياتك وقيمك كالمطر المنهمر علينا فتغرقنا بها ، بينما يثقب معولك سقوفنا ، فلا يعود يقينا منه شيئا ، .. وثق أننا نريدك مزنا خفيفا يلطف أجوائنا في صيفنا إن أجدب ، وليس سيلا يأخذ معه زرعنا وضرعنا ويجعلنا نندب . نريد أن نعيش يومنا وننظر الى مستقبلنا بعيون صافية ونهل عليه خفافا غير مثقلين ، لا نريدك أن تحدد طريقنا سلفا ، فتؤثـّر على قراراتنا ، فالمستقبل أبننا الذي نرعاه وغرسنا الذي نبذره ويحتاج أن نتفرغ اليه ، ولا نخفيك أننا في سباق مع الزمن ، فحياتنا ليست سوى لحظة عدمية تمر وقد لا تتكرر ، .. نريد من الحاضر أن يكون صورة المستقبل في اللحظة ،.. ولا نريده أن يكون غرس الماضي ، فكما اللحظة تموت حين تمر ، فكذلك الحاضر يموت حين يلفه الزمن ، .. والمستقبل آت ونريد أن نفتح ذراعينا لأحتضانه ، أما الماضي فهو مغادر ودعناه ولايجوز لنا اللهاث خلفه ، بل علينا الأستعداد لتسريع الخطى ومد الأكف بأتجاه القادم علــّنا نختصر المسافة اليه ، لأنه سيكون غدنا الذي علينا صنعه بأيدينا وسيحمل أسمنا نحن ، لا أسم آبائنا أو أجدادنا ، فهو نتاجنا الذي نفاخر به ، وفعلنا الذي أجتهدنا به ، وقولنا الذي تقيأته ذواتنا وباحت به أساريرنا . لسنا ، أيها الماضي الحكيم أناسا جحودين لكي نتبرأ منك ، ولا بالحاقدين لكي نتقول عليك ، ولكننا نريد حقنا لنمارسه ونكون مسؤولين عنه ، .. سنفخر بك إن أشاروا أليك ، وسندافع عنك أن تحاملوا عليك ، ولكننا لن نعيش فيك أو نجعلك تعيش فينا ، فتحتوينا وتصادر طاقتنا على العمل بحجة قولك أنك محفزنا ، .. ومعروف حافزنا ، فهو ضروراتنا وحاجاتنا .
|