عمر و التشيع . . . ح 3 |
المقاله تحت باب قضايا ســيا سـته القُرشـــية السيادة منزوعة الحلاقيم
عمـر وعثـــمان هما في المنهج السلفي واحد، وعند منهج القطيعة الشيعي واحد. لكنهما مختلفان في مناهج التحليل العلمي المستقل. لا أظن عثمان بن عفان مرَّ بأيام الفتوة ولا مرت عليه فترة الصبا، على مافيه من جاه ووسامة، ووجاهة الثراء والانتساب الارستقراطي،وكان وزنه الاجتماعي أرزن من أقرانه، وشخصيته أقرب إلى مسالك الشيوخ، فأضفى عليه ذلك هالة من الوقار في سن مبكرة. وبالمقارنة مع شخصية عمر ستبدو جلياً حيوية عمر التي رافقته إلى فجر اغتياله. كان عمر واحداً من أبناء البرية مشرباً بتقاليدها، وحياته متصلة بحياة الناس البسطاء. وهم يعيشون على سطح طبقي واحد، وحركته تشبه حركة الناس العاديين، وحركة عثمان تشبه حركة أبناء الأمراء، فرأى الناس في عمر بعد استخلافه صورة منهم، وقد قلص عمر المساحة بينه وبين الناس، ولم يكن سهلاً على عثمان أن يترسم خطى عمر، فيعسّ في الليل ويخفق بالدرة ويلتحف الرمل ويجلس على قارعة الطريق أو يقوم يهنأ بعيره بالقطران أو يعدو على قتبٍ باحثاً عن بعير ند من إبل الصدقة، أو ينفي شاباً وسيماً لأنه وسيم، ولايمر ببال عثمان أن يسأل عن طفل يبكي طارقاً باب أمه لمعرفة أسباب بكائه، ولا كان ممكناً لعثمان حتى مجرد التفكير بمسك ستارة معلقة على نافذة أحد ولاته فيمزقها. لقد نشأ كل منهما على إحساس طبقي واجتماعي وتربوي، فصار عمر الحاكم الوحيد في التاريخ، الذي ليس له معارضة سياسية أو سجون سياسية. أما جهازه الأمني فكان مخصصاً لمراقبة الأمراء والقادة والولاة ورجال السلطة ولا يخرج عنهم إلى الناس. أما عثمان، ففي القسم الثاني من خلافته تكاملت أسباب الدولة القائمة على فكرة التعالي كما يقول هشام جعيط في كتابه (الفتنة) الصادر عن دار الطليعة. ويرى أن عثمان كان في أعماقه مسكوناً بفكرة تعالي الدولة، المرتبطة بفكرة تعالي الله. وأنه لم يكن مجرد ألعوبة بين يدي مروان. لعله التقاط ذكي وسيكون ميسوراً لنا السؤال عما إذا كانت فكرة التعالي إذا ارتبطت بفكرة تعالي الله غائبة عن النبي وأبي بكر وعمر وعلي. وأغلب الظن أن فكرة التعالي هنا ترتبط بطفولة عثمان وارستقراطيته ولاصلة لها بغير ذلك. كان عمر بن الخطاب كاسباً، وكان عثمان تاجراً كبيراً تغني له النساء في تنويمة الأطفال. وكان تاريخ كل من عمر وعثمان مختلفاً في الجاهلية. إذ لم يذهب عثمان إلى حلبات الملاكمة ولم يشترك في سباقات الخيل، ولم يعرف عنه كثرة المشروب. وفي التحليل السيكولوجي، كان عثمان بعد إسلامه يعاني من أزمة وحرج اجتماعي، وكان في مأزق قيمي. إذ خرج وحيداً من بني أمية إلى الإسلام في أيامه الأولى، فخذل قومه، وكانت آيات القرآن تصب اللعنة على المشركين والمنافقين، والمسلمون يعرفون أسباب النزول ومن هو الفاسق والمنافق ومدى قرابته من عثمان. وكانت قبيلة عثمان تقود قريش في حروبها ضد الإسلام، وعثمان يمول الجيش الإسلامي بمعدات القتال والانتقال وإن بلغت أرقاماً ليس لغير عثمان بن عفان أن يسدد قيمتها. إن شعوراً كهذا لم يدخل إلى نفس عمر، فهو من حي متواضع من أحياء قريش، وقبيلته عدي لم يكن لها دور كبير في الحروب ضد الإسلام، وأن عمر نفسه أعطى جهده للدفاع عن معتقدات قبيلته، فلم يسلم في وقت مبكر. ولم يترك أقرباءه يقاتلون الجيش الذي انتسب إليه كما هي حال عثمان. حتى إذا أسلم لم يكن هو من أوائل الخارجين على قبيلته، وقد أسلم قبله ابن عمه زيد وأخته فاطمة. فليس لديه شيء من الإحساس بالذنب والإثم أو من عتاب الضمير فيما يتعلق بمرحلتيه الجاهلية والإسلامية. وكان من الطبيعي، وعثمان تحت ضغط هذا العامل النفسي، أن يعوض بني قومه عما فاتهم ليرضي نفسه قبل أن يرضيهم، فكان سخاؤه عليهم يوازي به سخاءه على الجيش الإسلامي. ولدى عثمان مسوغ. فأقرباؤه قد أعلنوا إسلامهم والإسلام يجب ما قبله. فتيسرت أو لعله هو الذي يسر الوسائل المادية والشرعية استناداً إلى موقعه وصلاحياته لتسيير المال وسواه لمن يعتقد أنه مطلوب ولو نفسياً لرد ماعليه من ديون أدبية أكثر منها مادية. ولم يكن عمر قد مرَّ بذات التجربة. ومن مخطوء الأحكام والتقويمات التاريخية شيوع القول بضعف عثمان، وكأنه لم يخلع ولاة قريش الأقوياء مثل المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص، وسيعد عثمان أكثر جرأة أدبية وقوة إرادة عندما يعين عبد الله بن أبي سرح والياً على مصر ووليد بن عقبة والياً على الكوفة ويعبر مشاهد ورسوماً لعمر فعطل قراره بإمساك قريش والصحابة الكبار عن مغادرة المدينة، والانتشار في البلاد المفتوحة، وفتح أمامهم آفاقاً جديدة. ومنعت عثمان عن النزول إلى الإحياء والصفق في الأسواق نزعة ارستقراطية بتعبيرنا المعاصر، تقابلها نزعة شعبية لعمر هيأته لسن قوانين في الضمان الاجتماعي ورعاية الأطفال الرضع ومنع الاجتماعات السرية. كان عمر من طبقة أو من حي بلغة العرب هو دون حي أمية، وكانت له أعرافه وملاعبه وكان عثمان ينحدر من سلالة لها أعراف صارمة وليست لها ملاعب مفتوحة. الإسلام وقريش: خرج منها الإسلام إلى العالم وخرج عليها وخرجت عليهِ، وحين قرر النبي الهجرة التحق منها نفر معدود وعاد إليها بعد ثماني سنوات وعديد جيشه الألوف، فخُيّل لبعض أنصاره أن فتح مكة سيكون نهاية قريش فيما كان الفتح بدايتها الجديدة ونَصرها المؤزر (وهي المكسورة) وخيوط حلمها في دولة ليست لأوثان الكعبة بل على أرض الجزيرة بمشاركة خاصة ورقابة صارمة من السماء والحاكمون هُمُ هُمُ. والخلافة في قريش، وهذا بعض سرِّ مما وراء قرار القائد القرشي حامل المهمة السماوية والمكلّف الإلهي، بإصداره عفواً عاماً عن مقاتليها وزعيمهم، ولم يستثن سوى أحد عشر رجلاً وجدوا طريقهم فيما بعد إلى الحرية وصوت النبي يعلو والفرح يملأ قلبه...لا يُقتلُ قرشيٌ صَبراً بعد اليوم. ومنذ الهجرة والكتاب المنزل يقدّم المهاجرين في تسلسل الآية قبل الأنصار. ولم يهجرُ النبي انتسابه القرشي في محتدم الصراع مع قريش، فيسأل شاعره حسان بن ثابت... كيف تهجو قريشاً وأنا منها؟. فيقول حسان: أَسلُّكَ كما تَسِّلُ الشعرة من العجين يا رسول الله. وفي نفس النبي لو كان هذا العجين بلا شعرة. صافياً للإسلام. وقد تحقق ذلك في فتح مكة. إن قريشاً لاتُحشَرُ في مصنفات القبائل، وهي شعبٌ مترامي الأحياء والبيوت ينفرد بخصائص لم تتوفر لغير شعب قريش في الجزيرة، وتقوم على المهارة في السياسة والاقتصاد. وتحتاج السياسة إلى الدبلوماسية، فإذا أخفقت كانت الحرب وقريش تعرف هذا الفن وذاك. وهي في اقتصاد الجزيرة مثل وول ستريت في أمريكا والِستي في لندن. وشخصية القرشي أميلُ إلى الواقعية بفعل السياسة والاقتصاد وأفصح في التعبير عما يسمى بالبراغماتية مع شيء من الوعي الاستراتيجي والقدرة على التكيف والتأقلم مع الواقع. وهذه من خصائص التُجار، وقد يُفسّر منحى قريش هذا أنها كانت تفتقر إلى الشعراء، وأن أبناءها لم يُهيموا لا في وادي عبقر ولا في وديان عذرا. فإذا ظهر منهم شاعر كبير كعمر بن أبي ربيعة بعد عقود، كان الرجل زعيم الواقعية في الغزل. إن الإسلام وُلِدَ في قريش، لكنها لم تكن الحاضنة الأوفى، مثلما كانت الأوس والخزرج وقبائل المدينة، فإذا انتصر الإسلام حصدت، وهي الخاسرة، ثمار الانتصار. إن قريش منذ فتح مكة وتحوّل زعمائها وقادتها إلى الإسلام صارت المالك الرسمي للمركز الأول في الدولة. لا يقترب من هذا الموقع قرشيٌ غير مُعتقد بحق الأرومة، حتى أقرّ عُمر وهو في منعطف تأسيسي بعد وفاة الرسول وثيقة خطيرة بإعلان سيادة قريش في الدولة الإسلامية والخلافة فيها وليس في غيرها. أمّا الإمام علي، وهو من زعماء قريش وفرعها الأسلم بني هاشم، فقد استوعب معنى العفو المحمدي عن قريش بعد فتح مكة، لكن قريش لم تستوعب رؤيته على منصة الزعامة. ومما ساعد قريشاً في استرجاع مكانتها إلى جانب العفو النبوي تلك القاعدة الفريدة في الإسلام الذي يجب ما قبله. أي يدفن ماضي المسلم ليس في حفرة بل في جُبٍ عميق وتدفن معه موبقات الفعل والقول وأدوار وصراعات، فقطع النبي على مجتمعه الجديد أية محاولة لتذكير بعضهم بتاريخ بعض. أما علاقة عمر الخليفة بقريش فقد اتجهت نحو منحىً آخر، فبعد قرار منع السفر الذي أحال بين رجالها والانتشار في البلاد المفتوحة حُلماً في بناء إقطاعيات ومراكز تجارية، مما يضعف قوة المراكز في دولة مترامية الأصقاع وفي آليات اتصال بدائية، توترت العلاقة بين عمر وقريش، فوقف في منفذ حدودي هو شِعب الحرة قائلاً: إنه سيأخذ قريشاً من حلاقيهما. وكان رد قريش عليه بالفخر في انتسابه لحيٍ متواضع منها وعدم مشاركة قبيلته عدي بدور كبيرٍ في الحروب، وهي تعبّر عن نيةٍ غير صافية عندما تكنّيه بابن حنتمة بأحاديثها الخاصة. ذكرنا أن عمرو بن العاص بعد فتحه مصر قد تعرض لمساءلة ماليّة، وكان مندوب عمر إليه محمد بن مَسلمة، فاستكثر ابن العاص ذلك، فغمز عمر قائلاً: كنت أراه وأباه وعلى كل واحدٍ منهما عباءة قطوانية لا تستر ركبتيهما، وكان العاص بن وائل (والده)على مزرارة الديباج. وكان آخرون يكررون عليه كلاماً مشابهاً: فقد كنت وضيعاً فرفعك الله، وراعياً فحملك على رقابنا. إن انتقادات قريش لعمر لم ترتفع نبرتها بعد إعلان إسلامه، وإنما بعد إعلان خلافته. أمّا موقفهما من الإمام علي فقبل استلامه الخلافةِ وبعدها. لاسيما وقد مال نحو أحياء وقبائل لم يكن لها نفوذ قريش. كان عُمر يستخدم طريقتين لم يشأ الإمام علي السير فيهما. رغم أنه لم يعترض عليهما، ينقل طه حسين في (الفتنة الكبرى) حواراً بين الإمام علي وعثمان يحتج فيه الإمام على تقريب الأخير أقرباءه في الإمارة والولايات، فيقول عثمان لعلي: إن عمر ولّى المغيرة بن شعبه على الكوفة والبصرة، وولّى معاوية على دمشق، فقال له الإمام علي: إن عمر كان يراقب ولاته ويخيفهم وإن ولاتك يستبدون بالأمر من دونِك. وعندما قيلَ: إن الإمام علي عيَّن ثلاثاً من أبناء عمه ولاةً قال طه حسين: إن سيرة علي مع ولاتهِ من بني عمه هي سيرة عمرُ، فكان شديداً عليهم، مراقباً لهم، لا يتحرج عن عزلهم إن قصرّوا. على حين لم يعزل عثمان والياً من بني أمية وآل أبي معيط إلاّ حين أكرهته الأمصار على ذلك. كان هدف عمر تطويع قريش بإشراكها في إدارة السلطة والإفادة من مهاراتها في السياسة والاقتصاد والحرب والإدارة، فأخذ منها ما يستفاد منه في بناء الدولة الجديدة في الوقت الذي كان فيه زعماء قريش تحت إمرته وطوّع يديه. وإن كان التذمر القرشي واضحاً في رؤيةِ من كانوا في عداد العبيد، أصحاب قرار وأمراء وولاةٍ وقضاة ومندوبين عن الخليفة مُخولين بنزع عمامة خالد بن الوليد وربط يديه بها من الخلف كما فعل بلال بأمر من عمر الذي كان يقدّم اسم بلال أو سلمان الفارسي على أبي سفيان عند المقابلات. لم ينهج علي نهج عمر في الاستفادة من قريش، ولا كانت قريش لينةً طائعةً معه، كما كانت مع عمر ولا هي ستخضع لقرارٍ يصدر من الخليفة علي بن أبي طالب بعزل أحد رجالها عن ولاية أو إمارة وليس لأحدٍ منها أن يستسلم لعمار بن ياسر في ولاية الإمام علي، كما استسلم زعماء قريش لمحمد بن مسلمة الأنصاري، عندما كان يشاطر بعض أموالهم لصالح بيت المال. إن مرونة عمر مع قريش أوسع من مرونة الإمام علي معها، وشدة عمر عليها أكثر من شدة الإمام، ولم يكن الإمام علي يوافق على مرونة واسعة كهذه، ولم تكن قريش ستقبل منه شدة كتلك عليهم. ومُختصر القول: إن الإمام علي ما كان يرضيه رؤية المتنفذين من قريش نافذين في الإسلام ولا كانت قريش قد استكانت لإمامته منذ الأيام الأولى، فلم يتهيأ للإمام علي الاستعانة بهم فيستخدم المرونة أو الشدة، وليس أمام الإمام قبل انشقاق قريش عليه، متسعٌ شرعي وقد أعلنوا إسلامهم وتقبله النبي (ص) بعد فتح مكة. والإمام علي مُريد قبل أن يكون وبعد أن يكون حاكماً أو ثائراً. حلاقيم قريش عُمر منها لأنه قرشي، من القائلين بدور أساسي لها في إدارة الدولة الجديدة، وهو ليس منها في النزوع القرشي نحو السيادة والاستحواذ مما يتعارض مع مبدأ العدالة، حينها سيكون مع العدالة على قريش. فرضيت على سياسة عمر حيناً وغضبت عليه أحياناً. إنّ عُمر الذي وَضَعَ موضعَ التطبيق شعارَ الخلافة في قريش، فجال على بيوت الصحابة، وخاض أخطر معركة في تاريخ الإسلام بعد وفاة النبي (ص)، ليأخذ البيعة للقرشي أبي بكر، ويُفِهمَ الأنصار أن الخلافة ستبقى في قريش، هو الذي قال: (سآخذ قريش من حلاقيمها). وإذا كان يُعزز من نفوذ قريش، أو على الأقل لا يُهمل رجالهَا من الذين تأخر إسلامهم، فإنه كان يُحذر من فتيان قريش ذوي الأرومة فيها، وهو الذي حجرَ عليها وعليهم، ومنعهم من مغادرة المدينة في أول قرار يصدر في تاريخ العرب بمنع السفر. غير أن عمر لم يكن على وفاق تام مع هذه الفئة وممثلها الأقوى الفرع الأموي وسياسة عمر إزاء قريش أن يُرخي ويَشدُ،يُعطي ويُراقب حتى إذا امتلأت بالثروة أقسَمَ:" لئن عشتُ لهذه الليلة من قابلٍ، لألحقنّ أخرى الناسَ بأولاهم، حتى يكونوا بالعطاء سواء". وفي رواية أخرى يقول: إن رسول الله قدَرَ فوضع الفضولَ في مواضعها، وتبلغَ بالتزجية، وإني قدرت فو الله لأضعنَّ الفضول مواضعها ولا تبلغنَّ بالتزجية. أي أن يأخذ الأموال الزائدة ويتبلغ بالتزجية كنايةً عن عيش الكفاف. وقد خَبُرَ عُمر حياة قريش ورجالها، وعَرَفَ ما يستبطن رجالها فاستبطنهم، وتحدث فيهم حديث عالم النفس، ورسم شخصياتهم بأسلوب الروائي المعاصر، وكان أميناَ على علمهِ وخبرتهِ، فيعطي الرجلَ منهم في السلب والإيجاب، فعنيت فئة بسلبه وأخذت أخرى بالإيجاب. ولم يمت عمر حتى ملّته قريش كما يقول الشُعبي. وعمر كما يقول الوردي يتهم أشراف قريش بأنهم لا يخلصون في الجهاد للإسلام ولايعرضون أنفسهم للموت في سبيله. يقال: إن خالداً بن الوليد رأى عكرمة بن أبي جهل (وهو ابن عمه) مصروعاً في إحدى معارك الشام فوضع رأسه على فخذه، وأخذ ينظر إليه ويقول:" زعم ابن حنتمة أننا لا نستشهد ". يقول الطبري: إن قريشاً ملت عمر بن الخطاب، فهو قد حصرها في المدينة ومنع عليها التجول في الأمصار، وقال بصريح العبارة: ألا إن قريشاً أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده. ألاّ فأما وابن الخطاب حي، فلا، أني قائم دون شعب الحرة آخذ بحلاقيم قريش. وحجزها أن يتهافتوا في النار. ومن الغرائب التي قام بها عمر، والكلام للوردي، أنه عيَّن عمار بن ياسر والياً على الكوفة، وعيَّن سلمان الفارسي والياً على المدائن، ولم يكن ذلك هيناً على قريش. يقول طه حسين: كان زعماء قريش وسادتهم يحسون أنهم الطلقاء، وأنهم أقل درجةً من الذين سبقوا إلى الإسلام وأبلوا فيه بلاءً حسناً، فكان ذلك يغيظهم ويحفظهم ويشعرهم بشيء يشبه ما نسميه عقدة النقص أو مركب النقص. ثم كانوا يعرفون رأي عمر خاصة فيهم، فكان ذلك يغيظهم من عمر، ويدعوهم إلى أن يحسنوا البلاء في الجهاد، ليظهروا لعمر أن رأيه فيهم جائر، عن القصد، وليظهروا ذلك للناس، وليظهروا ذلك لأنفسهم قبل أن يظهروه للناس. وهذا هو تأويل ما روي من أن خالد بن الوليد أتى بعكرمة بن أبي جهل، وقد صرع في يوم من أيام الشام، فوضع رأسه على فخذه وجعل ينظر عليه، ويقول: زعم ابن حنتمة أننا لا نستشهد! وابن حنتمة عمر. كان عمر إذن يسوس قريشاً هذه السياسة العنيفة على علم بدخائل نفوسها وبعد همها وحرصها على الاستمساك بما بلغت والوصول إلى ما تبلغ، حتى ولو خاضت إليه الغمرات خوضاً. وقد روي أن النبي رخص لعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكّة كانت به، فيُقبل عبد الرحمن ذات يوم على عمر ومعه فتى من بنيه قد لبس قميصاً من حرير,فينظر إليه عمر، ثم يقول: ما هذا؟ ثم يدخل يده في جيب القميص فيشقه إلى أسفله. قال عبد الرحمن: ألم تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قد رخص لي في لبس الحرير؟. قال عمر: بلى! لشكوى شكوتها، فأما لبنيك فلا. وعلى هذا النحو، كان يشفق على المهاجرين أن يتوسعوا فيما رخص لهم فيه النبي (ص)، ويشفق على غير المهاجرين من قريش أن يتوسعوا حتى فيما لم يرخص فيه النبي (ص). وقد قام عمر دون معاوية يأبى عليه غزو البحر إشفاقاً على المسلمين من هوله. وأكبر الظن أنه كان يرى غزو البحر هذا الذي كان معاوية يلح فيه مغامرة من هذه المغامرات، التي لا تترد قريش في ركوبها، وكان يرى أن الحق عليه للمسلمين أن يجنبهم مغامرات فتيان قريش. نستنتج من لائحة عرَضَها طه حسين لعمّال عُمر في الأمصار أنه أعطى لقريش ثلاثة عُمّال من بين (12) عاملاً، ووزّع المسؤوليات الأخرى على عمّال، واحدةٌ لخزاعة، وثلاثة لثقيف، وواحدة لليمن، وواحدة لبني سَهْم، وواحدة للأنصار وواحدة لكنانة. لكن أياً من هؤلاء العُمّال عندما يسمى، فسنكون أمام الأسماء ذات الأدوار الكبيرة في معسكر قريش سابقاً ومعسكر الإسلام لاحقاً ممن نصفهم اليوم بالتكنوقراط كعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وأبي موسى الأشعري.. وقد أقرهم عثمان على أعمالهم لمدة عام بوصية من عُمر، فقد أشفق عُمر كما يقول طه حسين أن يتعجل الإمام بَعَده في الاستمتاع بالسُلطان، فيعزل ويولّي ويقطع بذلك ما استأنف العمال من أعمالهم، ويضطرب لذلك أمر الإسلام والمسلمين في الأمصار والثغور. وفي استقرائنا للأسباب المعتمدة في سياسة العزل والتعيينات لم نعثر على حالة واحدة كان سبب العزل فيها سياسياً، ولا عثرنا في أسباب التعيين على دافع سياسي أو شخصي وكانت مسافته واحدة مع رجال الإدارة عند ترشيحهم للتعيين وعند عزلهم لسببٍ ما. وفي سياسة التعيينات تبرز ثقة الرجل بنفسه، وهو يحيطها بقادة عسكريين من الطراز الأول، ودهاة يصعب على غير عمر ترويضهم!. ويردّ علي الوردي على من ينكر على عثمان سياسة التعيينات، لأن عمر هو الذي عيَّن معاوية، فيقول: إن معاوية مع عمر هو غيره مع عثمان " أوشك الوردي أن يرى معاوية في زمن عمر محكوماً ومع عثمان حاكماًً عمر وخالد بن الوليد لشيوع الرواية بعزل عمر بن الخطاب خالداً بن الوليد مرتين، كنا نؤثر عبورها وقد اشبعت نقاشاً ونقداً ودفاعاً. فالمدرسة السلفية تنفي أو على الأقل لا تقترب من قصة زواجه من زوجة قتيله مالك بن نويرة في حروب الردة. وقد تحسبها من فعل أعداء الإسلام، وتحصر الإشكال بين الاثنين بما نصح به عمر بن الخطاب أبا بكر الصديق بتقليص صلاحيات الولاة والأمراء ومنهم خالد بن الوليد، وأن لايعطي شاةً مالم يرجع إلى الخليفة. فرفض خالد بن الوليد تحديد صلاحيات. ولاتتعرض الكتب السلفية لرواية تقول: إن عمر بن الخطاب أبلغ بواسطة بريده الخاص أن خالد بن الوليد يتدلك بالخمرة، فكتب عمر: "أن الله قد حرم ظاهر الخمرة وباطنها ومسّها، فلا تمسوها أجسادكم". فأجابه خالد "إنا قد فتناها فعادت غسولاً، غير خمر". ولم يعجب عمر هذا الجواب، فرد عليه مغضباً، كما يقول محمد حسين هيكل: "إن آل المغيرة ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه ". وفي قصة تبرعه للأشعث بن قيس بعشرة الآف درهم اعترض عمر أن هذا المال يجب أن يحبس على ضَعَفةَ المهاجرين وليس أعطيات لذوي البأس والشرف واللسان. فيما كان عمر يفرض عليه أن لايعطي شاةً أو بعيراً إلا بأذنه. فكان جواب خالد أما أن تدعني وعملي وإلا وشأنك وعملي. وسمح عمر لبلال أن يأخذ عمامة خالد ويشد بها يديه من الخلف. ولا نظن أن عمر بن الخطاب قد فعل ذلك مع عامة المسلمين، ومازلنا نتذكر غضبه على أبي موسى الأشعري لأنه شهر بشارب الخمر الذي شكا الأشعري عنده، وكان والياً على البصرة. فطلب إلى الوالي الاعتذار منه وقبول شهادته إن تاب وعوضه بمال عما لحقه من إهانة. فكيف يهان خالد بن الوليد بسلسلة من الاتهامات تتدرج في لائحة الاتهام على الصورة التالية: تهمة قتل مالك بن نويرة، ولم يكن من أهل الردة. زواجه من أرملة مالك. استحمامه بالخمرة. تبرعه بعشرة الآف درهم للأشعث بن قيس. فإذا أضفنا إليها لائحة أخرى من هذا الغرار يستعرضها خليل عبد الكريم في كتابه إياه واتهامه بقتل النساء وحرق البيوت في غزواته، فسيكون خالد بن الوليد نموذجاً لضابط إفريقي أو من أمريكا اللاتينية وما إلى ذلك ممن لا يلتزمون بأخلاقيات العسكر. وفي اعتقادنا أن الكثير من هذه الروايات مردود لتعارضه مع طبيعة الحياة في تلك المرحلة المبكرة من بدء التطبيقات التجريبية للإسلام وتحت إشراف عمر شخصياً. ولعلي أنفي بعضها على الأقل، لاسيما رواية استحمامه بالخمرة والحوار بين عمر وخالد حولها، وكأن خالد ناشيء لم يعرف موقف الإسلام من الخمرة، أو كأن صاحب الرواية يصوّره على صورة أباطرة الشام في وقت لم يكن لهؤلاء الأباطرة حمامات من هذا القبيل. وانفي عن خالد أن يقتل امرأة ضعيفة. أما ما حدث في قتل مالك فالقاعدة الفقهية تقول: إن السلب للقاتل. لكن عمر لم يقتنع بهذه المسوغات. أما من قتل خطأ في غزوات خالد، فالمعروف عسكرياً حتى في المناورات، سقوط عدد من القتلى بالنيران الصديقة. ولا يأسف القائد العسكري على قتلى يقعون من قبل جيشه، وفقاً لقاعدة النيران الصديقة. إن رجلاً عسكرياً بحجم خالد بن الوليد يتقبل إمارة من يصدر الخليفة قراراً بتأميره حتى لو كان طفلاً فيطيعه، هو طراز محترف من الذين وهبوا عبقريةً عسكرية تهون أمامها أخطاء القادة. يروى عن خالد بن الوليد بعد أن عزله عمر بن الخطاب، وكان أميراً على قنسرين في بلاد الشام: لقد استعملني على الشام حتى إذا كانت بثينة وعسلاً عزلني. فقام إليه رجل فقال: أجد أنها الفتنة فقال خالد: أما وابن الخطاب حي فلا. والبثينة هي الحنطة. وعلى لونها سميت النساء بهذا الاسم. المغيرة وأم جميْل: نعتمد على مصْدر من مؤسسي المدرسة المصرية المعروفة بمرجعيتها العادلة ومنهجها العلمي وتساميها عن شطحات الفِرق وغلّ الرواة، فيقول محمد حسين هيكل في كتابه الفاروق عمر بطبعته العاشرة: "إن أم جميل كانت إحدى نساء بني هلال وأنها كانت تغشى الأمراء والأشراف فغشيت المغيرة بنِ شُعبه، وهو على ولاية البصرة فأطعنه فيها قوم عند عمر فعزله عن ولايته.ِ والطبري يسوقُ قصة أم جميل هذه، وأنها كانت تغشى الأمراء والأشراف ويقول: وكان بعضُ النساء يفعلنَ ذلك في زمانها، أي في عهد عُمر. فأُستدعي المغيرة لمحكمةٍ عُليا برئاسة عُمر، فشهد ثلاثة ضد المتهم، وارتبك الرابع وتلجلج حتى قيل في ذلك كلام خطير أن الشاهد رأى في وجه عُمر ملامح من عدم الرضا ومن الحرج إذا ما ثبت ذلك على بن شعبة وأقيم عليه الحد، فصدر القرار ببراءةِ المتهم وما يترتب على كذبِ الشهود من حد، لكن عُمر لم يوافق على إعادة المغيرة إلى ولاية البصرة وأبقاه في المدينة. يقول علي الوردي في عدالةٍ كهذه، وهي وجهة نظر لمفكرٍ خالص النية لوجهِ العلمانية "إن الذي يريد أن يعدل بين الناس يجب عليه أن يراعي مشاعرهم قبل أن يراعي نص القانون، فالنص القانوني قد يستخدمه العادل والظالم معاً". عمر ومحكمة نورنبرغ لأبي سفيان: خرجت محكمة نورنبرغ التي شكلها الحلفاء ضد مجرمي الحرب النازيين بعد سقوط برلين، تنفيذاَ لتصريح أصدرته أمريكا وفرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفياتي ضد مرتبكي الحروب العدوانية،من كونها خاصة بالظرف الذي ظهرت فيه إلى سابقة دولية. وقد أوشك عمر بن الخطاب أن يعقد محكمة على هذا الغرار، لو ترك له الخيار عند فتح مكة، لمحاكمة مجرمي الحرب من قريش، وفي المقدمة منهم أبو سفيان بن حرب. لكن شفاعة العباس بن عبد المطلب أو دوره حال دون ذلك. كان العباس يخشى أن يدخل الرسول مكة عنوة قبل أن يستأمنوه حتى لا تهلك قريش آخر الدهر. فخرج على بغلة رسول الله البيضاء. وطلب إلى الإمام علي أن يبعث بعض الصحابة أو المارة فيخبر أهل مكة بمكان رسول الله ليأتوا إليه ويستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة. وإذ كان يسير عليها ويلتمس ما خرج له، فإذ سمع صوتاً لأبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: مارأيت كاليوم قط نيراناً ولاعسكراً. فعرف العباس صوته، وقال: ويحك يا أبا سفيان. هذا رسول الله في الناس، قال: فما الحيلة؟. قال العباس: لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب معي هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله، فأستأمنه لك. فركب أبو سفيان خلف العباس، وكلما مروا بنار من نيران المسلمين، قالوا: من هذا؟. فإذا رأوا بغلة رسول الله قالوا: عمّ رسول الله على بغلته. حتى مروا بنار عمر بن الخطاب (والنار تعني الحاجز العسكري). فقال من هذا؟. وقام، فلما رأى أبا سفيان على عجز البغلة، قال عمر: أبو سفيان عدو الله. الحمد الله الذي أمكن الله منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله، وركضت البغلة فسبقته. فدخل العباس على الرسول. ودخل عمر، فقال: يا رسول الله. هذا أبو سفيان. فلأضرب عنقه. فاعترض العباس قائلاً: يا رسول الله إني أجرته فجلس إلى جانب الرسول. وأقسم أن لا يناجيه رجل دونه. وكان عمر يكثر في شأن أبي سفيان ويفصل القول، وكأنه مدع عام. يتلو حيثيات الجريمة. فأوقفه العباس وغمزه قائلاً: أما والله أن لو كان من رجال عدي بن كعب ما قلت هذا. ولكنك عرفت أنه من رجال بني عبد مناف. فقال عمر: مهلاً يا عباس. والله لإسلامك يوم أسلمت أحب إلي من إسلام أبي لو أسلم. فأمر النبي (ص) بإرسال أبي سفيان مع العباس، وبات عنده. ولم يكن أبو سفيان قد أسلم حتى صباح اليوم التالي. أقول: لو جرى تثقيف الناس بتاريخهم لعلم خلق مهموم بربط عمر حتى هذه اللحظة بتاريخ الأمويين أن الرجل وحده عند فتح مكة كان مهموماً بإنزال القصاص بأبي سفيان وجماعته. لكن لرسول الله رؤية إلهية. عمر والسلفية: السلفية مدرسة أخلاقية أكثر منها علمية. وتاريخية أكثر منها سياسية. ومحافظة أكثر منها متحركة. ومن يتعامل مع جانبها الأخلاقي سيكتشف فيها دعوة للسلم الأهلي، لكن في بطون التاريخ. فهي تميل إلى التسوية بين الفرقاء وتدعو إلى نظرية وحدة الصحابة وعدالتهم ولا تتساهل مع اختلاف الناس على رأي يميل لهذا عن ذاك. في السياسة الإسلامية كانت السلفية منهجاً وفكراً ورجالاً هي الفضلى عند أهل السلطة، مادام السلفيون لا يتحرشون بأمن الدولة، خوف الفتنة. وفي الحق أنهم يحرصون على أن لا تضيع الدولة، وليس على السلطان ذاته. فكيف هي مع السلطان الظالم مادامت لا تقرُّ بظلمه؟. وجوابها أن ظلم السلطان لا يلغي إسلام الدولة، فالسلطان قد يكون ظالماً، وقد يكون بعيداً عن التزاماته الشرعية، لكن المجتمع إسلامي. والحياة إسلامية، والقضاء إسلامي والدولة إسلامية. إن أحكامهم منعكسات لقناعات إيمانية. وهم حسنو الظن برجال صدر الإسلام وإن اختلف بعضهم عن بعض. وقاتل بعضهم بعضاً. وليس صحيحاً أن السلفيين أعداء للإمام علي وكارهون لأهل البيت، إلا من كان منهم ناصبياً سفياني الهوى، وليس منهم من يفضل معاوية على الإمام علي، وهم ملتزمون بقاعدة التراتب الرباعي. ومن خرج عن هذا التراتب خرج منهم. وقد لا يرضيهم في كاتب السطور أنه ممن لا يأخذ بنظرية التراتب الزمني للخلفاء. أما منتقدو المنهج السلفي، فهم ليسوا فقط الآخذين بالمنهج العلمي الحديث، في دراسة التاريخ. بل هم أولاً المنتمون إلى المدارس الثورية في الفرق الإسلامية، ومنهم مفكرو التشيع. لقد واجهت السلفية أربعة اتجاهات نقدية صارمة في البلاد العربية. كالمنهج العلمي الليبرالي لمدرسة طه حسين. والمنهج الماركسي الذي سار عليه اليسار العربي كحسين مروة وهادي العلوي وأحمد عباس صالح وصادق العظم وآخرين. ثم منهج العلمانية النزقة التي ظهرت مؤخراً بتحريضها على المقدس. واستخفافها بالدين والروح والغيب، ثم مدرسة التشيع وهي الأقدم في التاريخ. ولو أريد لي أن أفصح عن ميل لمنهج أرجحه فليس سوى منهج طه حسين والمدرسة المصرية. وواقع الحال أن الحركات الدينية والسياسية في أيامنا هذه لم تخرج عن الفهم السلفي للتاريخ الخاص بها، فإذا كان السلفيون السنة يرون في الصحابة سلفهم الصالح، فالأئمة الاثنا عشر عند أهل التشيع هم السلف الصالح المقدس المعصوم. كما للاسماعيليين والزيديين سلفهم الصالح. وللماركسيين سلفهم اللينيني الماركسي الصالح ويحاول أصحاب المشروع القومي العربي أن يتفقوا على سلف صالح لهم. ولو اعتنى هؤلاء القوم بميراثهم العربي الإسلامي الذي أغفلوه، لاكتشفوا في عمر بن الخطاب ما توصل إليه أبو عمرو الجاحظ في كتاب (العثمانية) وقد بدا له الرجل متعرباً. والمتعرب في لغة عصر الجاحظ هو محب العرب، والنافح عنهم كيد أعدائهم. ومانع السبي عن نسائهم. وراسم خارطتهم القومية الأولى. والمتعربون غير المستعربين، ولو كان دعاتنا متعربين لجعلوا عمر بن الخطاب سلفهم الصالح.
هموم العقيدة والكينونة البشرية
كان لعمر والٍ على الحيرة يكثر من الهزل، وقد حدث مرة، أن دعا رجلاً، فأمال عليه بالطعام والشراب، مادعا به، فمسح بلحيته، فركب الرجل من العراق إلى المدينة ليشكو عمر قائلا: لقد خدمت كسرى وقيصر فما أتى إليّ ما أتى في مُلكك. قال: وماذاك؟ قال: نزل بي عاملك فلان فأملنا عليه بالطعام والشراب مادعا به، فاحتبس الهزل فدعاني فمسح بلحيتي. فأرسل إليه عمر، فقال: هيه؟ أمال عليك بالطعام والشراب مادعوت به ثم مسحت بلحيته؟. والله لولا، أن تكون سُنَّةً ماتركت في لحيتك طاقة إلاّ نتفتها. ولكن اذهب فو الله لا تلي عملاً أبداً. وأبلغ عمر أن قائداً عسكرياً كان يجمع رجاله ويطلب إليهم أن يخبروه بكل ذنب أذنبوه، وهم يعترفون بذنوبهم طاعة له، فقال عمر: ماله لا أم له يعمد إلى ستر ستره الله فيهتكه؟ والله لا يعمل لي أبداً. وكتب عمر لرجل كتاباً بتعيينه والياً. فدخل الرجل عليه، فرأى بعض أولاد عمر في حجر أبيهم يُقبلّهم، فقال الوالي المرشح مستغرباً: تفعل هذا يا أمير المؤمنين؟ فو الله ما قبلّت ولداً لي قط!. فقال عمر: فأنت والله بالناس أقل رحمة، لاتعمل لي عملاً، وردّه، ولم يستعمله.. أي ألغى قرار تعيينه!. وعزل قائداً عسكرياً أمر أحد جنوده أثناء فتح فارس بالنزول إلى النهر في يوم شديد البرد لينظر للجيش مخاضة يعبر منها، فتوفي الرجل بعد دخوله الماء، وكان عمر يتجول في سوق المدينة حينما بلغه الخبر، فاستدعى أمير الجيش، ووبَّخه قبل عزله. إعفاء المعيل من خدمة العلم: أعفى عمر بن الخطاب المعيل الوحيد لأبيه من الذهاب إلى الجهاد إلا بموافقة أبيه، وكان قانون التجنيد الإلزامي العراقي قد أخذ بهذا المبدأ بإطلاق، واستمر العمل به إلى أن استلم السلطة الرئيس صدام حسين فعطّل هذا الاستثناء العُمري الخلاّب، ومازال العمل مستمراً به في نظام التجنيد الإلزامي السوري حالياً. وملخص الرواية أن شاباً اشترك في فتوح الشام تاركاً والده كهلاً عاجزاً، فالتقى مع عمر بن الخطاب وقرأ له أبياتاً كتبها إلى ابنه خراش. ألا من مبلـغ عنّي خراشـاً وقـد يأتيـك بالنبـأ البعيد ألا فاعلم خراش بأن خير الـ مهاجـر بـعد هجرته زهيد رأيتـك وابتغـاء البرِّدونـي كمخضوب اللبـان ولا يعيد فتأثر عمر وكتب بعودة خراش إلى أبيه وأمر بأن لا يغزو من كان له أب شيخ الا بعد أن يأذن له. أبو العيال يخاطبُ الذاهبين إلى الثغور: " ولكم عليَّ ألاّ ألقيكم في المهالك ولا أجمركم " أي أبقيكم مدةً طويلة " في ثغوركم، وإذا غبتم في البعوث، فأنا أبو العيال. حتى ترجعوا إليهم " ولأنه أبو العيال أصدر قراراً بنفي نصر بن الحجاج فاتن النساء، حرصاً على نساء المجاهدين. وهو يقول: " لو سَلمني الله لأدفعنّ عن كل أرملةٍ بحيث لا تحتاج لأحدٍ بعدي." والأرملة كما هو المعروف عندنا، هي من فقدت زوجها، وكانت المرأةُ في العصور التي صُنعت فيه اللغة العربية تلتصق بالرمال عَوزَاً وفقراً لفقدِ مُعيلها فيعلوها الرمل... و تترمل! يجوع ما جاع الناس اشفق عليهم بسّري وعلانيتي مااستمرأوا الترف وما رددوا اسم عمر، وهم سلاطين الحاضر، الذين يتدللون على الزمان كما اشتهت شهواتها قبُّ البطون وحام على قول القائل، فإذا حاربوا فقراء شعبهم شهروا، عليهم سيفاً ينسبون لعمر، وادعوا شهادة لا يحفظونها حباً لعمر ضد الخارجين عليه! وعمر ألصق بمن وقع عليهم سيفه المسروق، واسمه المنتحل، وإلاّ فما الذي يجمع المترفين بجانب من شخصية عمر، وهم يرفعون لافتة شد الحزام على البطون في سنوات الحصار والجوع وعمر يجوع ماجاع الناس ولا يشبع بشبعهم. حدث بعدما اشتدت المجاعة أن جيء عمر بخبز مفتون بسمن، فدعا رجلاً بدوياً فأكل معه فجعل البدوي يتبع باللقمة الودك إلى جانب الصفحة، فقال له عمر: كأنك مقفر من الودك؟ وأجابه الرجل: أجل! ما أكلت سمناً ولا زيتاً ولا رأيت آكلاً له منذ كذا وكذا إلى اليوم. فحلف عمر لا يذوق لحماً ولا سمناً حتى يحيا الناس، وظل على هذا العهد حتى أذن الله فعاد المطر وزال عن الناس الجدب. وقد كان جاداً في هذا العهد كل الجدّ. قدمت عُكّة من سمن ووطبٌ من لبن، فاشتراها غلام له بأربعين درهماً، وذهب إليه الغلام فقال له: قد أبر الله يمينك وعظم أجرك. قدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن فابتعتهما بأربعين. قال عمر: أغليت فتصدق بهما فإني أكره أن آكل إسرافاً. وأطرق هنيهة ثم قال: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسني ما يمسهم. قال عمر لرسوله الذي بعثه يلتقي عير الشام:" أما ما لقيت من الطعام فمل به إلى أهل البادية. فأما الظروف فاجعلها لُحفاً يلبسونها، أما الإبل فأنحرها لهم يأكلون من لحومها ويحملون من ودكها ولا تنتظر أن يقولوا ننتظر بها الحيا. وأما الدقيق فيصطنعون ويحرزون حتى يأتي أمر الله بالفرج". لم يبعث عمر جباته عام الرمادة ليقبضوا الزكاة، بل أخّرهم إلى أن ارتفع الجدب. فلما أطمأن الناس إلى العيش وكثرت عندهم مادته أمر الجباة أن يسيروا إليهم وأن يأخذوا من كل قادر حصتين: حصة عن عام الرمادة، وأخرى عن العام الذي بعده، وأن يقسموا إحدى الحصتين على المعوزين، ويقدموا عليه بالثانية. بذلك زاد في تخفيف الفقر عن الفقراء، ثم لم يرهق غيرهم ولم يحملهم ما لا طاقة لهم به. عزل المصابين بأمراض معدية رأى عمر امرأة مجذومة تطوف بالكعبة فقال لها: يا أمة لو تقعدين في بيتك لا تؤذين الناس فقعدت فمرّ بها رجل بعد ذلك فقال: إن الذي قد نهاك قد مات فأخرجي فقالت: والله ما كنت لا طيعه حياً وأعصيه ميتاً. أهدى أبو موسى الأشعري لامرأة عمر عاتكة بنت زيد طنفسة فرآها عمر عندها فقال: أنى لك هذه؟. فقالت: أهداها لي أبو موسى الأشعري، فأخذها عمر فضرب بها رأسها حتى نفض رأسها وطلب الأشعري وأوتي به وقد أتعب وهو يقول: لاتعجل عليّ يا أمير المؤمنين. فقال عمر: ما يحملك أن تهدي لنسائي ثم أخذها عمر فضرب بها فوق رأسه وقال: خذها فلا حاجة لنا فيها. يحفظ عروبة المسيحي حتى لا ينفّره من الإسلام: يقول محمد حسين هيكل في الجزء الأول من كتابه "الفاروق عمر" وإنما أصر نصارى بني تغلب على ألا يؤدوا الجزية إن كان في قومهم عزّ وامتناع يرون في أداء الجزية آية خضوع ومذلة لا تليق بهم ولا تتفق وما عرف الناس لهم من إكرام وكرامة. وكرامتهم وقوتهم هما اللتان جعلتا الوليد بن عقبة يريدهم على الإسلام ليكون لهم به قوة ومنعة. ولقد كان تشدد عمر معهم في أمر الجزية بادئ الرأي ثم قبول صدقتهم مضاعفة بعد مشورة الإمام علي بن أبي طالب، سياسة منه يحمد عليها، مع مخالفتها لموقف أبي بكر من أهل الردة، ومخالفتها لموقفه هو من أعدائه الأقوياء في فارس والروم. فبنو تغلب عرب، وكان عمر حريصاً على عزة العرب. ولئن أقام على نصرانيته منهم من أقام ليرجعن هؤلاء جميعاً إلى الإسلام ولو بعد حين. والرفق في هذا الموقف أبلغ. وقد دلت الأيام على حسن فراسة عمر وبعد نظره إذ نصرت تغلب المسلمين من بعد نصراً عزيزاً، وأيدتهم على أعدائهم في مواقف كثيرة. لم يكتف عمر بقبول الصدقة من هؤلاء النصارى! بل رأى أن ما بينهم وبين الوليد بن عقبة من خلاف قد يدفعهم إلى إخراجه فيضعف صبره فيسطو عليهم. لذلك عزله عنهم وأمر عليهم فرات بن حيان كيما يطمئن إلى استتباب الأمن واستقرار الطمأنينة في ربوعهم. تم ذلك كله في السنة السابعة عشرة من الهجرة فتم استقرار السلطان للمسلمين بالشام من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال. عهد عمر إلى النصارى في بيت المقدس " بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان: أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، إنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيليا معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيليا أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيليا من الجزية ومن أحّب من أهل إيليا أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلى بيعهم وصلبهم فإنهم على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم أن يبلغوا مأمنهم. ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيليا من الجزية، ومن شاء سار مع الروم ومن شاء رجع إلى أهله. فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية". وختم عمر الكتاب بتوقيعه. سفط نهاوند عثر المسلمون في غنائم نهاوند على سفطين(*) مملوءين جوهراً نفيساً من ذخائر كسرى فأرسلهما حذيفة بن اليمان أمير الجيش إلى عمر مع السائب بن الأقرع، فلمّا أوصلهما له، قال:" ضعها في بيت المال، والحق بجندك". فركب راحلته ورجع، فأرسل عمر وراءه رسولاً يخّب السير في أثره حتى لحقه بالكوفة فأرجعه. فلما رآه عمر قال: مالي وللسّائب، ماهو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها، فباتت الملائكة تسحبني إلى السفطين يشتعلان ناراً؟ يتوعدوني بالكيّ إن لم أقسمها، فخذهما عنّي، وبعهما في أرزاق المسلمين. فبيعا بسوق الكوفة. وبعد معركة نهاوند تسارع زعماء الفرس من همدان، وطبرستان، وأصبهان، وطلبوا الصّلح، وتمّ لهم ذلك على التوالي. خضيراء الوالي حذر النبي (ص) في واحدة من أبلغ صور الكلام العربي الرجال من الاطمئنان للمرأة الجميلة في منبت سيء قائلاً: إياكم وخضراء الدمن، وشاعت كلمة الخضراء في الدلالة على المرأة الجميلة الزاهية الجذابة المغرية التي تعيش في حمأة العفن، مثلها مثل العشب الأخضر الزاهي الذي ينبت عادة فوق المزابل والدمن فتنجذب الإبل إليه فإذا اقتربت من أنوفها عافتها الإبل لزفرة فيها. أما الخضيراء عند عمر فهي الزوجة أو المرأة المدللة أو التي لها على زوجها تأثير وغنج. لقد بلغه أن زوجة مجاشع بن مسعود كانت تجدد بيتها أكثر من مرة فعّد ذلك من السرف والتبذير وربما دلَّ ذلك عند عمر على أن لمجاشع فضلاً من المال، فكتب إليه: " بلغني أن الخضيراء تُحدّث بيوتها فإذا أتاك كتابي هذا فعزمت عليك ألا تضعه من يدك حتى تهتك ستورها ". أي تزيل الديكورات والإضافات التي أحدثتها الخضيراء. فأتاه الكتاب وهو في مجلس فانطلق بالكتاب إلى داره ومعه بعض مجالسيه فهدموا ما جددته الخضيراء. يمنع زوجاته من السياسة: وكان عمر يمنع أزواجه من التدخل في شؤون الدولة. فعندما كتب على بعض عماله فكلمته امرأته فيه قائلة: يا أمير المؤمنين فيم وجدت عليه، أي ما الذي أغضبك منه؟. قال: يا عدوة الله، وفيم أنت وهذا إنما أنت لعبة يلعب بك ثم تتركين. وفي رواية: فأقبلي على مغزلك ولا تعرضي فيما ليس من شأنك. ولعلي أقرب إلى تصديق الرواية الثانية، حيث يحدد عمر مهمة المرأة في ذلك الوقت أما أن تكون لعبة فهو مما لا يتوافق والذائقة العمرية. لكن الراوي أراد ألا يغال في عزل المرأة لأغراض الفراش، فيما عمر أعطاها المغزل ويعني به الوظيفة الإنسانية وليس التحديد. وهو القائل: والله لئن سلمني الله لادعّن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى أحد بعدي أبداً. ويستمع إلى امرأةٍ برزت على ظهر الطريق، وهو خارج من المسجد، فسلم عليها فردت عليه السلام، وقالت: ياعمر. عهدتك وأنت تسمى عميراً بسوق عكاظ تذعر الصبيان بعصاك فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر. ولم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين. فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد. فقال جارود العبدي وكان مرافقاً لعمر: أكثرت يا امرأة على أمير المؤمنين. فقال عمر: دعها. أما تعرف هذه؟ هذه خولة بنت ثعلبة التي سمع الله قولها فوق سبع سنوات. وعمر أحق أن يسمع لها وكان يشير إلى آية كريمة نزلت فيها: )قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها(. يمنع التشهير بشارب الخمرة قضى أبو موسى الأشعري والي البصرة على رجل شرب الخمرة بضربه وتسويد وجهه والتطواف به في المدينة، ونهي الناس أن يجالسوه. فأوشك الرجل أن يهم بقتل الأشعري، لكنه رأى من الحكمة أن يتوجه إلى المدينة ليشكوه عند عمر، فقال عمر للمشتكي: إن كنت ممن شرب الخمر فلقد شرب الناس الخمرة في الجاهلية، وأمر له بكسوة ومائتي درهم. وكتب لأبي موسى الأشعري بأن يأمر الناس ان يجالسوه ويخالطوه، حتى قبل التوبة فإذا تاب فاقبل شهادته. وكانت الخمرة قد شاعت في المجتمع أثناء الفتوحات. وهي مشكلة جعلت عمر في أول قضاء شرعي لحد الشارب، أن يعقد مجلساً يستفتي به الصحابة حيث لم تُحَدّ شارب الخمرة لا في زمن الرسول ولا في ولاية أبي بكر، فاقترح الإمام علي حده بثمانين جلدة، وهذا هو حد القذف. إذ اعتبر الإمام كل شارب خمرة خارجاً عن إرادته فاقداً للسيطرة على عقله ولسانه فيأخذ بالشك والقدح والقذف. إن القضاء عند عمر يفرق بين الحد القانوني للعقوبة، وبين التشهير باعتباره مساساً مباشراً بكرامة الإنسان. ينفي الوسيم البطران! سمع عمر، وهو في العَسِّ، امرأة تتغنى ببيت من الشعر، عن فتى يدعى النصر بن حجاج، ولو أن الله أعطاها رجلاً على تمامه!. وفي اليوم التالي استفسر عمر عن هذا الاسم، وأمر باستدعائه فشخص الفتى أمامه وهو على جانب من الوسامة، فسأله عن عمله، ولما أيقن أن الفتى بطران، يعتاش من العطاء، ويتجول في حارات المدينة. وكانت أوصافه أقرب إلى وسامة المغني الأمريكي الشهير " إلفس برسلي"، قضى عمر بحلاقة شعره المتهدل. فإذا به أكثر وسامة !. فقرر نفيه إلى البصرة، ليكون قريباً من ثغور المجاهدين، بعيداً عن نسائهم اللائي قد يُفتنَّ به، ولم يوافق عمر على توسلاته بالعودة إلى المدينة قائلاً: أما وأنا حي... فلا!. ولا ندري إذا ما أعاده عثمان بن عفان في خلافته، مع من أعيدوا من المطرودين إلى المدينة؟. إن قصص عمر وحركته واجتهاده، تكسر القول بوحدة الصحابة، وتمنحه فرادة هي مزيج من صلابة المعتقد، وانفتاح الحياة، وطول التجربة، والشجاعة في الرأي،.. والإلهام الخاص، والحرص على مصالح الناس.. وامتلاك المزاج الجميل. ينزع ثياب الحيطان في زيارته إلى الشام دخل عمر إلى بيت أحد ولاتِهِ هناك يزيد بن أبي سفيان، فرأى قماشاً يتدلى على الحائط، فاستغرب أن تلبس الحيطان ثياباً زاهية من مصنوعات حلب أو دمشق، فاتجه إليها قبل أن يأخذ مكانه في الجلوس وشرّعَ يُقطع أوصالها قائلاً: "ويحك أتلبس الحيطان ما لو ألبسته قوماً من الناس لسترهم من الحرِ والبرد". يفضل لغة الصحافة: وأنت تصغي لرواية عن عمر تطوي القرون والتواريخ، فتراه على شاشة التلفزيون قاضياً يتحدث في الحقوق الدستورية للمتهم، وداعية اشتراكياً مهموماً بالمسحوقين، وتراه قائداً عسكرياً يشرح على خارطة الحائط حركة الفيالق ويؤشر على منافذ التسلل خطوط الرجعة. أمّا أن يفرق هذا الرجل بين مفهوم الأديب ووظيفته والصحفي ووظيفته بما يلتبس الأمر علينا في عصر الثورة الإعلامية والانترنت، فهو الصدمة لي شخصياً كوني أمتهن الصحافة. تقول الرواية: إن رجلاً يدعى صحّار العبدي بُعِثَ إلى عمر عندما فتح المسلمون أرض مكران في بلاد فارس، فوصله مع أصحاب الغنائم. وكان من عادته أن يسأل القادم من الأرض المفتوحة عن أهل تلك البلاد وعاداتهم وطبيعة الأرض، وكيف يعيش العرب خارج الجزيرة. فانطلق العبدي قائلاً:أرضٌ سهلها جبل. وماؤها وشل. وثمرها دقل(*). وعدوها بطل. وخيرها قليل وشرّها طويل. والكثير فيها قليل. والقليل بها ضائع وما وراءها شرٌ منها. فقال عمر: أسجَّاع أنت أم مخبر؟. أجابه: بل مخبر!. والسجاع هو الخطيب الذي يتحدث ساعة قبل أن يصل إلى البضاعة، فيأخذه السجع وينسيه التحليل العلمي، أو الوصف الطبيعي للأشياء وهذا فعل الصحفي الذي عرفه عمر آنذاك ومن نسميه اليوم بالمندوب المحلي والمخبر في الجريدة. لقد أستكثر عمر على المتحدث خروجه من الواقع إلى البلاغة. وطالبه بأن تكون لغته مثل محرر الأخبار المحلية في وكالة الأنباء العراقية سابقاً. فكتب عمر إلى أمير الجيش أن لا يجوز مكران وأن يقصر إلى مادون النهر. جرائم الجنس في عهده.. أحصينا لدى محمد الصلابي في كتابهِ العمري الجامع المانعَ خمساً وعشرين جنحةً وجناية من هذه التي تنشرها الصحافة العربية عن سجلات الشرطة اليومية في أيامنا هذه وهي تعكس جانباً من حركة الجريمة اليومية في عهد عمر خلواً من جريمةٍ سياسية لأن تعاليم الخليفة لم تتحدث عن حظر النشاط السياسي أو مراقبة الناشطين، فَلم يُسجن أو يعاقب شخصٌ يحتفظ برأي مخالف لرأي الحكومة، ولم تُراقب حركة أبي لؤلؤة مما سهّل له فعلَ الاغتيال المشين على تلك الصورة السهلة. ومن بين (25) حادثة مسجلة احتلّ الجنس المرتبة الأولى واستقلّ بإحدى عشرَ قضية يشكلُّ الزنا محورها الأساسي أو أن تتصل بقضية زواج غير شرعي، وتشير الحالات المدونة إلى مفارقات جريئة لا يملك القارىء المعاصر إلاّ أن يقدرَ الأمانة العلمية والصحفية للمؤرخين العرب، الذين لم يغفلوا تدوينَ أخبار الزنا ولو كان المتهم بها صحابياً كالمغيرة بن شعبة. إن أخبار الجنس في عصر الصحابة في الكتب الإسلامية لا تُوردُ إلاّ إذا كان المتهم قد أخذ حكم البراءة فيما تُسِرفُ مناهجُ البحث الأخرى في استعراض تفاصيل الجرائم الجنسية بما يُخرجها من التاريخ إلى التشهير السياسي. من طرائف هذا السجل أن امرأةً قد تسرّت بغلامها أي عاشرته المعاشرة الزوجية فلما سُئلت قالت، أليس الله يقول ما ملكَت أيمانكم فهذا مُلك يميني. ورُفع الأمر إلى عُمر فقال لها: لا يحلُّ لكِ ملكُ يمينك. وفي رواية أخرى: وفرّق بينهما وجلَدَها مئةَ جلدة تعزيراً لا حدّاً واسقط عنها الحد لجهلها بالتحريم. ومعروف شرعاً أن الرجل وَحدَه له حق التسري والمعاشرة الزوجية مع ما ملكت يَمينُهُ من النساء. والذي يبدو أن هذه المرأة أرادت أن تتساوى في هذا الحق مع الرجلِ. ولا أظنها جاهلةً مادامت أشارت إلى النص. وأوتي عمر بمجنونةٍ قد زنت فاستشار الناس فأمر بها أن ترجم لكن القدر أنقذها عندما مرّ بها الإمام علي بن أبي طالب، فقال: ارجعوا بها وقالَ لعمر أما علمت أن القلم قد رُفع، فذكر الحديث وفي أخره قال عمر بلى، فقال الإمام علي ما بال هذه تُرجم. فأرسلها وجعل عمر يُكبّر، لكنّه أي عمر صَلَبَ رجلاً غير مسلم اغتصب مسلمةً واستكرهها على الزنى. وكان عمر لا يُعاقب المُستكرهات على الزنى. وقد أُتي بنساء من إماء الإمارة استكرههن غلمان من غلمان الإمارة فضرب الغلمان ولم يضرب الإماء. وتدخل الإمام علي مرةً أخرى فأنقذ متهمةً بالزنى كانت استسقت راعياً فأبى أن يسقيها إلاّ أن تمكنه من نفسها ففعلت، ورُفع أمرها إلى عمر فقال لعلي: ما ترى فيها يا أبا الحسن. قال الإمام: إنها مضطرة فأعطاها عمر شيئاً وتركها. وكما يتزوجُ الرجلُ أكثر من واحدةٍ في وقتٍ واحدٍ، تزوجت امرأة رجلاً على زوجها وقد تكتمت على زواجها فرجمها عُمر ولم يَرجِمُ الزوج لعدم عِلمِهِ بزواجها. الجنس والمشاهير: كما تطارد عدسات المصورين حتى الموت زوايا الحياة الخاصة بالمشاهير لتنشر أخبارهم الشخصية مكبّرةً بمانشيت عريض في صحف التابلويد الفاضحة. كانت عيون الرواةِ تُحصي على مشاهير الصحابة ومجتمع المدينة عثراتِ القدم وشطحات اللسان ولو حدَثَ ما هو أفضحُ لغيرهم تُسِترَ بالإهمال وعدم الاكتراث. وبأسباب تتصل بثراء الفتوحات واتساع المجتمع وتلون أطيافه، أُثقل هذا العصر بقصص الجنس والمشاهير مما التقطه مؤرخون محترفون ثقاة كالطبري والبلاذري وابن الأثير ولو كان الملقوط صحابياً أو قائداً عسكرياً بحجم خالد بن الوليد والمغيرة بن شُعْبَه. فماذا كان موقف عمر من قصص الجنس في عهده؟ تبدو لي أن سياسته تشبه السياسة البريطانية والأوربية بشكلٍ عام حالياً باعتبار الحديث في أسرار الحياة الشخصية مُباحاً عندهم إذا كان صاحب القِصة ممن يعملُ في الخدمة العامة كالرؤساء والأمراء والوزراء ورجال الأعمال. ويُحرّمُ الحديث في هذه القصص إذا شملت ناساً بُسطاءْ من عامة المجتمع. وبهذا يمكن أن نخلص إلى حل الإشكال بين موقفين لعمر: أحدهما ينحو منحى الإشهار وإقامة المحاكمة وتنفيذ الحكم. وآخر هو الإستار وقد عزل والياً على مدينةٍ صغيرةٍ حين بلغه أنه كان يَجمعُ الجندَ ويطلب إليهم الكشف عن أسرارهم الخاصة وما يفعلونه وراء الكواليس. فقالَ له عمر: أتكشف ما ستره الله؟ وفي حادثةٍ أخرى عرضَ عليه رجل قصة ابنته التي جنحت والموقف منها وبعد أن فصّل له الرجلُ فروعَ القصة فَرَدَعُه قائلاً: أتكشف ما ستره الله: انكحها نكاح العفيفة. ولا ينبغي أن يُفهم من كلامنا أن عمر كان يتساهل مع الجريمة الجنسية. إنّه إنما يمنع الإشهار وتداول الخبر الجنسي، لكنه لا يسكت عن جريمةٍ جنسية. وفي السياق ذاته يورد الفقهاء مسائل الجنس في كتبهم إلى حدّ طغيانها على مسائل الحقوق المدنية والسياسية في المجتمع الإسلامي، مما أنكره الإمام الخميني على فقهاء عصره احتجاجاً على انشغالهم بما اسماه بقضايا الحيض والنفاس. وتُدرس جرائم الجنس في كتب القضاء الإسلامي وما صدر فيها من أحكام. أربعة خلفاء وأربع دعاوى: وجد الخلفاء الراشدون الأربعة أنفسهم أمام إشكال قانوني سياسي إزاء متهمين بالقتل، فماذا عليهم أن يفعلوا إزاءهم، وكان أي منهم يواجه من شركائه الصحابة رأياً مختلفاً. إن عمر بن الخطاب كان مصراً على معاقبة خالد بن الوليد المتهم بقتل مالك بن نويرة، لكن الخليفة أبو بكر رأى غير ذلك فقبل تبريراً لخالد لم يقبله عمر، ومازالت التهمة ملتصقة بابن الوليد في كتابات جميع المؤرخين عدا أصحاب المنهج السلفي، لكن عمر يواجه إشكالاً مماثلاً مع الهرمزان القائد الفارسي الذي غدر بعد إعطائه الأمان، ثم ألقي القبض عليه وهو متهم بقتل اثنين من الصحابة فعرض إسلامه الهش فقبل به عمر. أما عثمان فهو الآخر يواجه في اليوم الأول لاستخلافه مشكلة عبيد الله بن عمر الذي قتل الهرمزان ورجلاً مسيحياً وابنة أبي لؤلؤة. وكان رأي بعض الصحابة ومنهم علي بن أبي طالب أن يقتل عبيد الله بهم. فعفا عثمان ودفع الدّيات من جيبه وكانت تلك بداية مشكلة مع عبيد الله ضد الإمام علي الذي كان يصر على معاقبته كإصرار عمر على معاقبة ابن الوليد، وترسم المقادير وضعاً مماثلاً لوضع عثمان عندما استخلف الإمام علي بعد مقتل عثمان فطالبه الصحابة بقتل قاتله، والمتهم هذه المرة هو محمد بن أبي بكر، فالتبست الأمور واشتبكت الآراء قبل اشتباك السيوف في معركة الجمل وماتلاها من انشقاق معاوية على مركز الخلافة. العفو عن الهرمزان: لما أسر الهرمزان حمل إلى عمر من تستر إلى المدينة، ومعه رجال من المسلمين، منهم الأحنف بن قيس، وأنس بن مالك، فأدخلوه المدينة في هيئته وتاجه وكسوته، فوجدوا عمر نائماً في جانب المسجد، فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه، فقال الهرمزان: أين عمر؟ قالوا: ها هو ذا، قال: أين حرسه؟ قالوا: لا حاجب له ولا حارس. قال: فينبغي أن يكون هذا نبياً، قالوا: إنه يعمل بعمل الأنبياء. واستيقظ عمر، فقال: الهرمزان؟ فقالوا: نعم، قال: لا أكلمه أو لا يبقى عليه من حليته شيء، فرموا ما عليه، وألبسوه ثوبا صفيقاً، فلما كلمه عمر، أمر أبا طلحة أن ينتضى سيفه ويقوم على رأسه، ففعل. ثم قال له: ما عذرك في نقض الصلح ونكث العهد؟ - وقد كان الهرمزان صالح أولاً – ثم نقض وغدر – فقال: أخبرك، قال: قل، قال: وأنا شديد العطش! فاسقني ثم أخبرك. فأحضر له ماء، فلما تناوله جعلت يده ترعد، قال: ما شأنك؟ قال: أخاف أن أمد عنقي وأنا أشرب فيقتلني سيفك. قال: لا بأس عليك حتى تشرب، فألقى الإناء عن يده، فقال: ما بالك؟ أعيدوا عليه الماء. ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش، قال: إنك قد أمنتني، قال: كذبت! قال: لم أكذب، قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، قال: ويحك يا أنس! أنا أومن قاتل مجزأة بن ثور والبراء بن مالك! والله لتأتيني بالمخرج أو لاعاقبنك، قال: أنت يا أمير المؤمنين قلت: لابأس عليك حتى تشرب. وقال له ناس من المسلمين ذلك فأقبل على الهرمزان وقال خدعتني والله لا أخدع إلا لمسلم فأسلم فعرض له على ألفين أي خصص له راتباً وأنزله المدينة. * - السفط: وعاء من قضبان الشجر، أو خوص النخيل، توضع فيه المجوهرات والنقود، وبعض الملابس إذا كان كبيراً. وهو اسم شائع في العراق ومنه قول الجواهري في امه: تعالى المجد ياسفط العِظام!. * - الدقل: يقول الدكتور الصلابي في هامش له أن الدقّل هو التمر الرديء ونقول نحن العراقيين أن هذا النوع من التمور مازال موجوداًومعروفاً باسمه وتنطق القاف (بالكاف) على لهجة أهل العراق وهو من الأنواع الممتازة على عكس ما كان عليه دقل مكران من رداءة وباعتقادي فإن سبب جودته في العراق ورداءته هناك أنه ومن اسمه ينسب إلى دجلة ولا يزرع بعيداً عنها فإذا أبتعد جفت طراوته وتقلص حجمه وانكفأ على نفسه انكفاء العاشق عندما يبتعد عن حبيبه. وقد رأيت في بلاد عربية أخذت الدكل من العراق مثل تونس والمغرب والجزائر، فحدث له هناك ما حدث له في مكران. |