عمر و التشيع . . . ح 2

المقاله تحت باب  قضايا
في 
15/09/2007 06:00 AM
GMT



يبدو تحليل العقاد من البساطة في هذه النقطة، وليس في غيرها، وكأنه يدخل في صالة النادي العسكري ويتطلع إلى لائحة التعليمات المعلقة عن أخلاق الجندي وشروطه، فيمليها فقرة بعد أخرى بتسلسل يبدأ من الشجاعة والشهامة واللياقة البدنية وطريقة المشية العسكرية شديدة الوطأة على الأرض، وتنتهي بالطاعة وحسن أدائه للواجب.

إن واقع عمر والمرويات عنه وخطوط شخصيته لا تؤشر على كثير من شروط النادي العسكري. فهو يكره الوطأ الشديد على الأرض خشية أن يكون المشي مرحاً وقد تعرض لعمرو بن العاص لما رآه يمشي مشية الضباط فخفقه بالدرة، لكنه يمشي سريعاً لأنه أروح القدمين، وهذه حالة طبية معروفة لسكان البادية. من جانب آخر، لسنا نعرف أن العسكريين في العالم إلاّ أقلية تحتفظ بما تصفهم لوائح الثكنات العسكرية، نخوة ونجدة وشهامة.

إن مزاجية عمر القائمة على الحيوية والانفتاح، تتعارض وجمودية العسكري وبواعث الإبداع في المرويات عنه، وتتعارض مع إلزامية ترسم حياة الجندي وعقله، وتضعه على سكة إن مال عنها سقط على الأرض، وليس كالجندية حقل تتكرر فيه المشاهد الرتيبة والكلمات والحركات.

من الثابت والبديهي أن صاحبنا على سكة صاحبيه، لا يحيد عنها لكنه قد يتزود من وقود شخصي وطاقة ذاتية، ليستمر على مواصلة سيره، وقد يفتح للسكة فروعاً عندما تصل به إلى حافة مغلقة. وإذا ما منع عمر مشية الخيلاء، فقد جلد رجلاً أقبل مرخياً يديه طارحاً رجليه يتبختر، بعد أن عجز عن ترويض مشيته بصورة طبيعية، فكأنه رأى فيه ميوعة الأنثى!.

أغلب الظن أن العقاد، وقد استمالته الجندية فالبسها قميصاً لعمر سمع قول الشّفاء بنت عبد الله:

إنه كان إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهو الناسك حقاً. والعقاد الأديب والشاعر عانى ويعاني مما تفعله القافية، وما يفعله السجع وضروراته، فيملي على الساجع مفرداته ليستقيم الصوت الواحد، وإن جنح به المعنى على غير قصده.

صحيح أن عمر كان إذا تكلم أسمع، وكانت لقريش قبل الإسلام مؤسسة خاصة تشرف على كلام الحجاج، فلا تترك أحدهم يعلو الضجيع، وهي التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وتدعى عمارة المسجد، ولم تكن العرب تهمس في الكلام، بما لا يسمع لأنه من فعل النساء أو من فعل الوسواس الخناس.

أما أن يكون عمر إذا ضرب أوجع، فهو غير صحيح، إلا إذا كان الضرب أقامة لحد، وهو متروك لغيره عادة. أما أن تقصد الشفاء درة عمر فلم تكن توجع، ولهذا عرفت في استخدامها جملة (علاهم بالدرة) أو (خفقهم).

ولم تستخدم الدرة للإيذاء والايجاع أو للعقوبات، بل كانت عصا الإشارة والتنبيه فلم يضق بها كبار الصحابة الذين علاهم بها.

ولو استمر سجع الشفاء بنت عبد الله لقالت مثل ما نقول اليوم، وإذا أكل شبع، يوم لم يكن عمر يصل حدّ الشبع في وجبة زهيدة.

أسلم على طريقته البرية: بالصوت أم بصدمة الصوت

يقول العقاد: وقد تعددت الروايات في إسلام عمر واختلف بعض هذه الروايات في اللفظ واتفق في المغزى، وجعل أناس ينظرون فيها، كأنما الصحيح منها لا يكون إلا رواية واحدة وسائرها باطل لا يشتمل على حقيقة، فلم لا تكون صحاحاً كلها؟. ولم لا تكون أسباباً متعددات في أوقات مختلفات؟. فمن المستطاع المعقول أن نسقط منها قليلاً من الحشو هنا وهناك ثم نخلص منها إلى جملة أسباب لا تعارض بينها في الجوهر، وقد يعزز بعضها بعضاً في نسق السيرة وفي لباب النتيجة.

الرواية الأولى:

روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (كنت للإسلام مباعداً، وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها، وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش. فخرجت أريد جلسائي أولئك فلم أجد منهم أحدا. فقلت: لو أنني جئت فلانا الخمار!. وخرجت فجئته فلم أجده. قلت: لو أنني جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين!. فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل الكعبة بينه وبين الشام واتخذ مكانه بين الركنين: الركن الأسود والركن اليماني، فقلت حين رأيته: والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول، وقام بنفسي أنني لو دنوت أسمع منه لأروعنه، فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها ما بيني وما بينه إلا ثياب الكعبة، فلما سمعت القرآن رق له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام).

وبتنجيم سيرته واستقراء قراراته وانعطافاته، وما يروى عنه نتوقف عند لحظة يتوقف فيها عمر أو يتحرك منها، وهو في هذه وتلك يخضع إلى ما نسميه بنظرية الصدمة.

إن إسلام عمر يقترن في الروايتين المختلفتين باستماعه إلى الصوت القرآني مثلما هي حالة الكثير ممن أسلموا تحت التأثير البلاغي والروحي لهذا الصوت.

في الرواية الأولى دخل عمر إلى الكعبة مختفياً وراء ثيابها والنبي يقرأ القرآن فاستهواه ذلك فأعلن إسلامه. لا نرجح هذه الرواية لافتقارها إلى عنصر الصدمة.

إن عمر من مثقفي الجاهلية وهو واحد من (17) رجلاً كان يكتب ويقرأ وهو المعروف بمناقضة الإسلام ومناضلة القرآن، فهل يعقل أن لا يكون سمع القرآن في ست سنوات خلت ولم يرقّ له قلبه فيبكي ويسلم؟.

الرواية الثانية:

وروى ابن اسحق في سبب إسلامه: (أن عمر خرج يوما متوشحاً بسيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطا من أصحابه قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين بين رجال ونساء، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين رضي الله عنهم. فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له: أين تريد يا عمر؟. فقال: أريد محمداً هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفّه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فأقتله. فقال نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر!.أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟. أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟. قال: وأي أهل بيتي؟. قال: أختك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمداً على دينه.. فعليك بهما..

قال: فرجع عمر عامداً إلى أخته وختنه، وعندهما خباب في مخدع لهم أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟. قالا له: ما سمعت شيئاً!. قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها..

فلما فعل ذلك قالت له أخته: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك، فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى، وقال لأخته: أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأون آنفا، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد.. وقرأ سورة طه، فلما قرأ منها صدراً قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه، لما سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له: ياعمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم ابن هشام أو بعمر بن الخطاب، فالله الله ياعمر!. فقال له عند ذلك عمر: دلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم، فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا معه فيه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضرب عليهم الباب، وقام رجل من أصحاب رسول الله فنظر من خلل الباب فرآه متوشحاً بالسيف، فرجع إلى رسول الله وهو فزع، فقال: يارسول الله!. هذا عمر بن الخطاب متوشحاً السيف، فقال حمزة بن عبد المطلب: تأذن له، فإن كان يريد خيراً بذلناه له، وإن كان يريد شراً قتلناه بسيفه!. فقال رسول الله: ائذن له. ونهض إليه حتى لقيه بالحجرة فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة وقال: ما جاء بك يا ابن الخطاب؟. فو الله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة، فقال عمر: يارسول الله!. جئتك لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله!..

هاتان الروايتان هما أجمع الروايات للأسباب (المباشرة) التي قربت بين عمر والإسلام. وتتفرع منهما روايات منوعة يزيد بعضها تارة أن عمر قد أوفد لقتل النبي من قبل قريش، ويزيد بعضها تارة أخرى آيات من القرآن الكريم قرأها عمر في بيت أخته غير الآيات التي تقدمت الإشارة إليها في سورة طه. وأشبهها بالتصديق أنه لما أطلع على الصحيفة قرأ فيها اسم " الرحمن الرحيم " فذعر وألقاها. ثم رجع إلى نفسه فتناولها وجعل كلما مرَّ باسم من أسماء الله ذعر. فلما بلغ ".. ومالكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم أن كنتم مؤمنين.." قال: أشهد أن لا اله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. وهذه على اختلافها روايات متقاربة يبدو لنا أنها قصة واحدة.

إذا كان ذلك صحيحاً، فما الذي كان يستفزه في كتاب لم يسمع منه آية واحدة، فإذا استبعدنا الرواية الأولى، فالثانية التي أوردها ابن إسحاق تنتهي هي الأخرى باعلان عمر إسلامه لحظة قراءته الآيات الأولى من سورة طه.

مناقشة الرواية

يبدو منهج العقاد هنا وكأنه يستخدم مهاراته الأدبية وآليات الجدل الصوري ومحاورات المناطقة للتوفيق بين المتعارضات وجمع النقيضين وجعلهما واحداً مع اختلاف الرواية. ولعله يتحاشى الوقوع في منزلق الشكوك الخاصة بمصداقية رواة ثقاة. أما منهجنا في فحص الروايات فيعتمد على استيعاب الموحيات النفسية التي نتذوق بها الخبر العمري.

إذعاناً لنصيحة الأستاذ العقاد نسقط الحشو في هذه الرواية بمناقشتها أولاً على ضوء التحليل النفسي لشخصية عمر ونظرية الصدمة وملائمة الرواية للواقع الاجتماعي آنذاك.

1- لا نظن أن عمر خرج ليقتل النبي. إذ كيف سيتمكن من ذلك وهو يتوجه إليه والنبي في بيت محاط بفرسان الصحابة أمثال الحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعدد كبير منهم.

2- لا نعتقد أن نصيحة نعيم بن عبد الله وتهديد عمر بما سيفعله بنو عبد مناف به في حال قتله للنبي قد غيّر فيه لأن ذلك سيعزز من عزيمة عمر المعروف بعنفوانه وإقدامه.

إن قارئ عمر وعارف سايكولوجيته سيرفض رواية يبدو فيها عمر وكأنه شخصية مهزوزة يثني إرادته تخويف عابر سبيل، فكيف والأمر يتعلق بمسألة على مستوى اغتيال النبي محمد؟.

المرجح هو أن عمر كان في زيارة روتينية لشقيقته فاطمة وزوجها سعيد ابن عمها وفي بيت فاطمة واجه عمر عدداً من الصدمات المتلاحقة.

µ الصدمة الأولى: سماعه هينمة أو صوتاً خافتاً.

µ الصدمة الثانية: وجود الصحابي الخباب بن الأرت.

µ الصدمة الثالثة: إحساسه السريع بأنهما قد أسلما. أي أن الإسلام أصبح في عقر داره. ومن أسلمت هي أخته وابن عمه، فأين هو مقام عمر ومكانه في العائلة؟. الصدمة، أن تصبح أخته وابن عمه وهما عدويان من قريش تلميذين بإمرة ألقين مولى أم انمار بنت سباع الخزاعية الذي أهداه والدها إليها.

إن الخباب في تلك اللحظة لم يكن بالنسبة لعمر العضو السادس في أول خلية إسلامية شكلها أبو بكر، وإنما هو عبد لسباع بن عبد العزى.

µ الصدمة الرابعة: أنه أهان ابن عمه سعيد أمام زوجته، وأهان أخته أمام هذا المولى الغريب.

وعليك أن تقترب من وجدان عمر ومنظومته القيمية ليرتسم أمامك حجم ردّ فعله، وهو الخاضع دائماً للشعور بالإثم وعتاب الضمير لأعمال هي أقل مما حدث له في بيت أخته. فإذا نهض نهضت من لاوعيه احتجاجات ضاربة وصراعات متضاربة، فماذا كان عليه أن يفعل؟.

لقد أستفرغ شحنة الغضب بوطأه ابن عمه على الأرض، ونفحه أخته في وجهها فبدا يستعيد توازنه، فيأخذ الصحيفة ويقرأ ثم يصاب بالذعر، ويتوقف بعد ذكر البسملة قبل أن يستعيد عزمه لقراءة الآيات الأولى من سورة طه.

في ظننا أنه أسلم عند قراءة البسملة وإذا كان اسم الله معروفاً، وليس له ذلك الوقع فإن (الرحمن الرحيم) استلت من عمر جبروت القسوة، وكأنها علاج عاجل لأزمة الشعور بالذنب فانحلت عنده عقدة وانزاح عن صدره تأنيب الضمير، فهو الآن في بطن الرحمة والرحمة في بطنه تحت ظلال الرحمن الذي تنتشر رحمته على وجه فاطمة المدمي وظهر سعيد المعفر بالتراب وامتعاض الشاهد.

فعسى أن يغفر الله لنا إن نحن استبعدنا جملة قيلت حقاً في حوار عمر مع أخته طالما أن إنكار بعض فقرات الحوار يبقى ملحاً على أصابع الكتابة. ننكر أن تجرأ أخت لعمر صفعه بكلمات مثل إنك نجس أو إننا أسلمنا رغماً عن انفك، لأن مثل هذا الكلام لايصدر لا عن فتاة جاهلية شقيقها عمر بن الخطاب، ولا عن سيدة مسلمة نبيها بعث بمكارم الأخلاق، ولا نكاد نصدق أن عمر استجاب لها كالطفل فغسل يديه وتوضأ قبل أن يمسك بالصحيفة، وهو بعد لما ينطق بالشهادة، ولم يكن الإيمان قد ملأ قلبه ولم يكن الرجل من صنف الذين يستجيبون لأوامر امرأة، وكأنه طفل بين يديها.

لكن الرواية أرادت أن تمنح شقيقة عمر هذا الامتياز الإسلامي.

أجل، لقد أسلم عمر بالصوت القرآني عندما أحدثت البسملة فيه تلك الصدمة.

رقم اسلامه 67 :

المشهور أن عمر بن الخطاب اسلم بعد 45 رجلاً وإحدى وعشرين امرأة فيكون رقمه في اللائحة الأولى للمسلمين 67.

وقيل: إنه أسلم بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة، وكانوا تسعين بين رجل وامرأة، فيكون رقم عمر في تلك اللائحة يتجاوز المائة.

وفي رواية أقرب إلى مزاجه وواقع حياته، وتسند إلى عمر نفسه أنه كان يقول: كنت للإسلام مباعداً وكنت صاحب خمر في الجاهلية، أحبها واشربها وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش، فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم فلم أجد فيه منهم أحداً، فقلت لو أني جئت فلاناً الخمار وكان بمكة يبيع الخمر، فخرجت إليه فلم أجده.. وبقية الرواية تنتهي بالكعبة ولقائه بالنبي وإسلامه.

لاتتعارض هذه الرواية مع قولنا بإسلامه بالصدمة وبالهاتف الوجداني، بل هي تؤكد أمرين: الأول أن بيئة عمر "الخاصة" ومحيط صداقاته صار للانحسار حد شعوره بالوحدة والغربة وهم ذهبوا إلى الدين الجديد. والثاني أن هذه الحالة لا تكون وعدد من أسلم هو 45 رجلاً لم يكن معظمهم من رواد ذلك الوسط وهم معروفون بانتماءاتهم الاجتماعية، فيكون رقمه في الإسلام تجاوز المائة كثيراً، وإن كان حب المؤرخين له يجعلهم يختزلون في زمنه الجاهلي لصالح زمنه الإسلامي، فيستعجلون عليه بأرقام متقدمة لاينتقص من دوره طولها، ولايطيل في قامته قصرها. فحيث تقفر الحانات والمحلات ويهجر الخمار حانته فمعنى ذلك أن غالبية المجتمع قد أسلم. ومجتمع مكة لم يكن يتكون من 45 رجلاً وإحدى وعشرين امرأة ولا من تسعين هاجروا إلى الحبشة، فإذا أسلموا وهاجروا أقفرت مكة من أهلها!.

إن رقم عمر في لائحة المسلمين قد يرتفع إلى ضعف أعلى رقم حدده المؤرخون لو أخذنا بروايته. وعمر فيها كما كان في غيرها صادقاً مع نفسه واضحاً مع الناس، فصدقت مروياته ووضحت ملامحه.

دولة الـمشروع الـمحمدي

التجانس بعـدالـة التوازن

عبقري السقيفة:

ليس من شأن هذا الكتاب الولوج في بطون العقائد،ولا الاقتراب من هوامشها وحواشيها، وليس في منهجنا الوقوف بين مشتجر الخلاف وسطاً، ولا نذهب إلى سوق الاشتجار براية الهلال الأحمر.

وكقارئ يفزعني ما تقع عليه عيني من محاولات التوفيق التي تصفق لها الصالة، وتبتسم لها المنصة، حتى إذا انفرط الجمع وولوا الدبر، عاد أي منهم إلى كهفه القديم.

ولا نخرج في هذا الكتاب عن أفكار تضمنتها كتبنا المطبوعة، لا سيما الشيعة والدولة القومية، الذي لم نتعرض فيه لخلاف المذاهب وتفضيل مذهب على آخر أو الترويج لمذهب ضد آخر. فمثل هذا الحقل سيكون خاصاً بالمشتغلين في العلوم الدينية والفقهية. ونحن نشتغل بعلوم الفكر العام والسياسة العامة. فإذا اهتزت مشاعرنا لرأي أو لموقف أو لإجراء، فلأن في ذلك قرباً عاطفياً أو إنسانيا أو اجتماعياً لما نبغيه وليس لطابعه المذهبي الخاص.

وبهذا المنظور ندخل سقيفة بني ساعدة التي لم يكن للنص الديني رأي فيها. فقد كانت من اجتهاد الصحابي سعد بن عبادة وجمع من الأنصار.

والسقيفة سقف ليس تحته نوافذ. مشرع لرياح الجنوب والشمال. وزمان محتقن مأزوم في يوم قد ينقطع عن يوم قبله، أو يتصل بيومه السابق، فتمتد السلسلة الزمنية والروحية للمشروع الإسلامي إلى حيث نحن الآن في اليوم الأول من الشهر الأول للعام الهجري السابع والعشرين بعد الاربعمئة والألف.

عرب مسلمون ومسلمون عجم نختلف في الاختلاف، ونتفق في الاتفاق، وننشق بأنفسنا فرقاً وطوائف، لكن مشروع ابن آمنة آمن متماسك، واحده الله ونبيه محمد والشهادة قائمة والصلاة قائمة.

إن دور عمر في المكان المفتوح منحه دوراً مفتوحاً في زمان دائم. أنجبته تلك اللحظة الحضارية التي أغرب ما فيها وما في ذلك المكان غياب المقدس عنها. فلم ينص عليها في قرآن، ولم يشر إليها في حديث شريف. ولم يكن لعمر دور في تأسيس ذلك المكان الذي قدح فكرة خاطفة لصحابي من الأنصار، فأجتمع إلى جمع من قومه مدفوعاً بالنية الطيبة وبإحساس استراتيجي وشعور بالمسؤولية في وقت قضى الله فيه أمره، وتوفي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسيحدث فراغ في إدارة المشروع المحمدي إن تركت الأمور على غاربها. فكانت دعوة الأنصاري سعد بن عبادة إلى اجتماع السقيفة، هي اللبنة الأولى لاستمرار المشروع المحمدي في غياب صاحبه. ثم جاء دور عمر بن الخطاب ليختطف اللحظة ويحدد أطار المؤسسة الجديدة ورجالها الذين سيتحملون المسؤولية.

وقد ضرب عمر ضربته وكأن لم يقل قائلنا اليوم إلا فيه وعنه.

فتى خبط الدنى والناس طراً وآلى أن يكونهما فكانا

لم يكن الوحي حاضراً في غياب الرسول. وليس للقرآن رأي في السقيفة، فهي فكرة بشرية خالصة، وقرار سياسي ورغبة جماعة من الصحابة صيرها عمر بما أوتي له من حيوية قريش ومهارتها في تصريف الأزمات حدثاً لايزال الرجل يواجه المعترضين عليه!. فبدا مُجيل اللحظة، وقابض الزمن برغبة ليس لها سقف، لجعل يوم السقيفة هو اليوم الأول والأخير لفراغ السلطة، فيتقدم اليوم التالي متصلاً باليوم السابق حين كان للمشروع صاحبه منذ أربع وعشرين ساعة. ولم يحدث الفراغ، ولا حتى الفجوة ولم تترك فرصة لأسباب الخلاف أن تتنفس في حينها لكنها ظلت تلاحق تاريخ عمر وتاريخ الإسلام، فتصير السقيفة مكان الكيد عند فئة، ومكان الفتح عند باقي المسلمين.

إن السقيفة كانت المكان الذي غاب عنه المقدس، فكان بداية الزمان لحياتنا المقدسة بعد أربعة عشر قرناً. وكان عمر قامع الفرقة في ذلك اليوم وحَقَّ له أن يحظى بلقب قفل الأمة.

حركة عمر في السقيفة أنجبت حركة حضارية لأمة كانت تتشكل على الأرض، فصارت حركة خلاف مذهبي يتصاعد مع التصاعد الحضاري للأمة، ومشكلة دينية تقوم على رفضها عقائد وعلى احترامها عقائد. وبالاحتكام إلى المعايير السياسية في نشوء الدول والحضارات، تصبح السقيفة بأعمدتها الأربعة التي أنجبت أربعة خلفاء لم يتكرروا في التاريخ. قراراً وليس مؤتمراً بأن لا تموت الدولة الناشئة بموت مؤسسها.

الحذر من شبح القيصرية

لم يخطط عمر لمفهوم دولة كبرى بالامتداد الذي وصلت إليه. وهي تنساح إلى أبعد مما كان في ذهنه. وحتى الوطن العربي، كان في تصوره لايمتد الى ماوراء الحدود الفلسطينية – المصرية عند معبر رفح الحالي، والذي تجاوزه عمرو بن العاص، وهو يشاغل مبعوث عمر إليه، حتى يدخل إلى الأراضي المصرية فيفتح كتاب الخليفة وعند ابن العاص إحساس ومعرفة سابقة بعدم رغبة عمر في توسع الفتوحات والعبور إلى مصر، فلم يفتح الكتاب إلاّ بعد تأكده من اجتياز الحدود، فأبلغ الخليفة أن جيش الفتح في الأراضي المصرية ووضعه أمام الأمر الواقع ووضع نفسه تحت مراقبته المستمرة وملامة مكاتيبه ومبعوثيه. أما عبد الله بن أبي سرح، فكانت قواته تمرح في سهول ليبيا.

وعلى جبهة البصرة، كان عمر يرغب بعدم ذهاب قواته إلى ما بعد الاحواز (عربستان الحالية) متمنياً جبلاً من نار يفصله عن بلاد فارس، فلا يقاتلهم ولا يقاتلونه، لكن قادة الفتوح تحملوا مسؤولية إقناعه بالتوغل في بلاد فارس وملاحقة مراكز القيادة الكسروية المتنقلة والمستقرة آنئذٍ في خراسان، وتبنى الأحنف بن قيس هذه المسؤولية في الدبلوماسية مع عمر والعسكرية في الانطلاق إلى خراسان بعد أن اقتنع عمر بأن وجود كسرى في جوارهم سيثير الكثير من المتاعب وقد انتقضت مدن كثيرة في بلاد فارس فأعاد عمر فتحها ثانية. وفي ظننا أن شبح الكسروية والقيصرية والخوف من الوقوع في نموذجها، هو الذي كان يحدد رغبة عمر في الوقوف عند مشارف ماكان يعتبره وطناً عربياً ولا يتجاوزه.

وكان القليل من الخروقات القيصرية والكسروية يدفع الدولة الراشدة للتفكير ببناء مؤسسات وتقاليد، واستخدام مهارات ليس للجزيرة العربية عهد بها. وكان بعض قادة الفتوح يتحركون في فسحة قيصرية، محدودة لكنها مفيدة، وناجحة، فضلاً عن أمثلة الانسياح إلى أبعد من المشارف القصوى لحركة الفتوح عند عمر.

كانت الدبلوماسية تجرب أولى نشاطاتها في وفد يبعثه الخليفة إلى سعد بن أبي وقاص في طريقه لمناظرة كسرى يزدجرد، فيضيف سعد إليه آخرين أختيروا بمواصفات دولة قيصرية وكسروية تأخذ بالقيافة واحجام الطول وعرض المناكب، وسعة التجربة. وملاحظة انحدار المبعوث من أسر ذات تقاليد "ارستقراطية " بمصطلح يومنا، وكان ذلك من بعض أسباب نجاح الوفد في كسب المناظرة.

كان عمر يأخذ بمبدأ الضرورة فيلتقط برامج وآليات العمل الإداري من دولتي كسرى وقيصر، فيستحدث مكاتب الديوان والسجلات وتأرخة الأحداث بعام هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، بعد مناقشة مستفيضة انتهت بترجيح مقترح الإمام علي.

إن النبي محمد (ص) أنكر في الكسروية والقيصرية، زخارفها البيروقراطية وترفها السلطاني وأموراً دينية، وسياسية، لكن ذلك النقد لم يستهدف رفض تجربتها التكنوقراطية وتطور أساليب الإدارة. وتوزيع العمل وتوثيق السجلات. وتنظيم وسائل الاتصال في البعوث الدبلوماسية، ومؤسسات البريد.

وكان عمر يجرب أولى محاولات الاستفادة من ذلك أو بعض ذلك، فاستطاعت الدولة الراشدة مع حذرها البالغ، من اختراق هذا الشبح الذي كان من الأسباب التي عرقلت نمو مؤسسات الدولة الراشدة بما لم يجعلها قادرة على الاستجابة لاحتمالات المستقبل، فلم يتحول اجتماع المسجد النبوي إلى مجلس شورى كامل العضوية والصلاحية وبناء هيكل للدولة شاسعة الأطراف وضوابط لاتعتمد فقط على شخصية الخليفة.

إن النبي (ص) الذي رفض استبدال الحصير بمقعد وثير في جوابه الخاص بعمر وانتقال الحديث عن طريقه، حمّل عمر مسؤولية نبوية بعدم استبدال حصران النخيل بعروش قيصر وكسرى.

وهذا بعض سرّ نزوع عمر في زهد الدولة، كي لاتصل أو يصل بها إلى مشارف كسروية ففضلها محمدية على غرار بري وطبيعي وعفوي. وهنا المشترك الأوثق والأوضح بين سايكولوجية علي وعمر وروحية كلٍ منهما وسرّ مبدأ المشاركة، وكلٌ منهما قد نَفِس الآخر على النوم فوق التراب.

لقد كان الإمام علي وعمر يشتركان في هذا الحذر بدرجة أكثر حساسية مما لدى أصحابهما الآخرين، الذين لو أتيح لبعض منهم إدارة دفة الدولة في المقام الأول لأخذوا الكثير مما تجنب عمر وعلي أخذه من تجربة الدولتين الكسروية والقيصرية.

وكان متوقعاً وشبه حتمي سيرورة الدولة الراشدة إلى الكسروية والقيصرية فوقع المحذور النبوي وحصل الانقسام بين المفهوم الراشدي للدولة والمفهوم القيصري للأمويين، وكان مفترضاً وقوع النزاع بين العمريين والأمويين، وفي أكثر من مرة، كان الأمويون يخشون تجربة عمر، فإذا اكتشف أحد زعمائهم في خليفة منهم، ميلاً إلى الزهد أو المساواة أو رجوع الدولة إلى بعض ماكان في عصرها الراشدي خرجت عبارتهم الشهيرة.. اتريدها عمرية؟.

لكن أسباباً لسنا بصددها هنا استدارت بالخلاف العمري الأموي إلى ثنائية الخلاف العمري والعلوي. فخرج الأمويون من هذا الصراع بمهارة عالية وساعدهم على النجاح تيار القطيعة الذي استجمع الأوصاف والأحداث والمسالك الأموية ونسبها إلى عمر، فأصبح ابن الخطاب أموياً بمفهوم أهل القطيعة وباجتلاب الأمويين لاسمه يحصنون به دولتهم من الطعون. ونسبتها إلى عمر بن الخطاب لترسيس طعنه باحتضان القادة الأمويين وهو مايتمناه الآخرون من سعيهم الذي لم ينقطع إلى يومنا هذا، باجتلاب تاريخ عمر وسيرته إلى جانب دولتهم يحصنون به سيرتهم من طعون الفقهاء وتيارات المعارضة عند الشيعة والخوارج وسواهما.

سـياسة التعيينات:

وفي تحليل سـياسة التعيينات، استخدم عمر أسلوب البريد في مراقبة الولاة, إذ يكلف رجلاً بالسـير في أحياء الولاية، مُنادياً أنّ من له بريد إلى الخليفة فعليه أن يسلمه إليه، وهذا يحمله بدوره إلى عمر مختوماً لا يطلع عليه أمراء الولاية ولا عاملها، فيعرف عمر ماذا يجري في الأمصار يوماً بيوم.

وهذه الطريقة بمصطلحنا الحاضر، تحمل طابعاً إستخبارياً اعتدنا أن نسميه التقرير الحزبي. والرسالة في لغة المسلمين سوى أنّ عمر بن الخطاب جعل الاستخبارات علنيّةً وليست سرّية. حتى لا يكيد الناس لبعضهم ويتحولوا إلى جواسيس ولعل هذا هو الفارق بين الاستخبارات العمرية وبين مفهوم التجسس.

اعتاد عمر أن يقرأ البريد وحده ويجيب على مُرسليه باستحضار الوالي أو بإرسال ممثله الشخصي الذي هو في العادة الصحابي محمد بن مسلمة الأنصاري، والذي كان يتمتع بصلاحيات التحقيق مع العمال واعتقالهم وتجريمهم، ويعتبر قراره نهائياً على الأغلب.

كان عمر يدعم جهاز الولاية بصحابةٍ من الرعيل الأول ومن هم في مدارج الإيمان أعلى درجة من أمير الولاية وبعض قادتها.

بعد أن أخفقت تجربته الأولى بتعيين هؤلاء الصحابة ولاةً، كسلمان الفارسي في المدائن، وبلال في بعض ولايات الشام، اكتشف أن الأعلى في درجة الإيمان والأقدم في الإسلام، قد لا يكون هو الأقدر على إدارة الأزمات وتصريفها في فترة التأسيس الأولى للدولة، والعرب مازالت على لقاحيتها تنفر من الإذعان للسلطة المركزية، فكيف وهي سلطة عمر الصارمة إزاء الاختلالات الاجتماعية؟ مما دعاه إلى اختيار أسلوب إداري آخر يقضي بالتفريق بين درجة الإيمان ودرجة الكفاءة والأهلية، ففضّل من نسميهم اليوم بالتكنوقراط وحين ينفّذ هذه الفكرة فسيكون رجال قريش عمالاً وأمراء وقادة إداريين في المرتبة العليا.

وفي إحدى الروايات أن عمر بن الخطاب استقبل سيد بني كلب امرؤ القيس بن عدي بن أوس، وكان لا يزال على نصرانيته وبحضور الإمام علي بن أبي طالب وولديه الحسن والحسين، حيث أعلن إسلامه، فلم يتردد عمر كما تقول بنت الشاطىء في كتابها (سكينة بنت الحسين) أن يعقد له اللواء على من أسلم من قضاعة بالشام ودعا عمر برمح وقلّده إياه، وليس للرجل سابقة في الإسلام لكن له سابقة في الزعامة والإدارة والسمعة الطيبة.ومن المصادفات في ذلك اللقاء أن امرأ القيس بن عدي قد زوّج ثلاثاً من بناته لكلٍ من الإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين، وكانت بنته الرباب من نصيب الإمام الحُسين، وهي التي أنجبت له سُكينة.

أشرنا أن عمر كان يكلف في مثل هذه الحالة صحابةً من الرعيل الأول ليكونوا مراقبين، فاختار مثلاً عبد الله بن مسعود للقضاء وبيت المال في الكوفة وعثمان بن حنيف على سَقي الفرات، وعمار بن ياسر على الصلاة وأرزاق الجند. وكان عبد الله بن مسعود حرفياً، يتصرف مع سياسة الإنفاق من بيت المال، وكأنه مدير مكتب للمحاسبة القانونية في وول ستريت، فلا يتساهل بدينارٍ، وقد ترتجف يداه وهو يأخذ من بيت المال ليوزعه خشية أن يذهب المال إلى غير مستحقيه. ولو كنا نصنع مصطلحنا، وننتج لغتنا ولا نستعير المنتوج اللغوي والاصطلاحي من صانعيه الأوربيين، لكان مصطلح المسعودية كافياً للدلالة على ما يعنيه مصطلح المحاسبة القانونية.

وفي أكثر من مرة كلّف عمر بلال الحبشي للتحقيق مع العمال والولاة وشملت واحدة من تلك المهمات التحقيق مع خالد بن الوليد لمنحه الأشعث بن قيس عشرة آلاف دينار، فوضع عمر له سيناريو التحقيق بأن ينزع بلال قلنسوة خالد ويربط بها يديه إلى الخلف، بحضور أبي عبيدة بن الجراح، فاستسلم من لم يستسلم للأباطرة فحنى رأسه لتكون العمامة بين يدي بلال وأرسل يديه إلى الوراء ليشدهما بها إلى بعض. يقول المؤرخون الإسلاميون والفقهاء والدعاة من بعدهم إن مبادىء الإسلام هي التي أذعن لها خالد بن الوليد وهذا صحيح، فما يمنع من أن يكون إلى جانب هذه المبادىء سببٌ أخر أو عامل آخر يُدعى عمر بن الخطاب. لأني أشك أن يحدث هذا الذي حصل لخالد مع رجلٍ غير عمر لا قبله ولا بعده إلا في استثناءات لم يكن المتهم هو خالد ولا المحقق هو بلال. أقول.... هل كان خالد بن الوليد سيذعن لأمر بلال، لو كان أبو ذر بدلاً من عمر ودرجة إيمان أبو ذر وأسلوبه لا تقاسان بالمقاسات التقليدية؟.

هل كان غير عمر قادراً أن يقاضي شرحبيل بن حسنة ويسحبه إلى المدينة، ويضع سعد بن أبي وقّاص موضع المتهم فيحقق معه محمد بن مسلمة؟.

كانت لعمر في سياسة التعيينات جرأتان وسابقتان وقوتان:

جرأته في تكليف رجال قريش السابقين ورجال مكة شديدي المِراس، وبعضهم ممن أسلم قبيل الفتح قليلاً أو بعده ليعودوا من قادة في معسكر قريش إلى قادة في دولة الإسلام.

وجرأته الثانية في المحاسبة والمكافأة واستبدال الولاة والعمال بسهولةٍ ويسر. ويسرد أكثر من راوٍ بأن أبا بكر سنّ أول محاولات الإفادة من خبرة قريش ولكنه لم ينزع نزعة عمر في شدة المحاسبة والرقابة والإقالة، وإن كان شديداً على أهل الردة وحازماً.

ويتمتع عامل البريد باستقلال إداري ولا يرتبط إلاّ بالخليفة، وكانت قرارات عمر تشمل العاملين في إدارة الولاية من الحاشية ليس صعوداً إلى الوالي بل بدأً منه وبه. إن الولاة الذين أطيح بهم هم من ذروة قريش أو من قادة الفتوحات ومن مصّروا الأمصار ووسعوا دار الإسلام. وعمر يعلن بعد عزل الوالي عن سبب عزلِه حتى لا تُنسج عنه الروايات، وكان يقول في عزل سعد بن أبي وقاص إنه لم يعزله عن سخطةٍ.

وكان يكرر أن من الخير له أن يعزل كل يوم والياً من أن يبقي ظالماً ساعة نهار. وبالغ عمر في تطبيق هذا المبدأ، فعزل ولاة لأسباب طفيفة كأن لا يخرج لزيارة مريض وإسعاف ضعيف، أو يحتجب الوالي في مكتبه، وكان أكثر ما يغضبه خبرٌ ينم عن نيّة لنظام الحجابة، فيتحسس من وضع الأبواب الكبيرة في بيوت الولاة والأمراء ويُعَدُّ ذلك تأسيساً لنظام القِلاع والقصور الامبرطورية. وقد أرسل مبعوثه الشخصي محمد بن مسلمة الأنصاري، ومعه قادحة النار لحرق الأبواب التي قيل لعمر إن واليه ســعد بن أبي وقّاص قد أقامها على بيتٍ بناه بعد فتح فارس، وسُــمي بقـصر سَـعَدْ وجرى بين المبعوث الشـخصي وسعد حوار. وعزل عامله على ميسان (العمارة) النعمان بن عدي. يقول علي محمد بن الصلابي في كتابه عمر بن الخطاب: إن عمر عيّن النعمان بن عدي أميراً على ميسان، وهي مدينة العمارة العراقية. فذهب إليها وامتنعت زوجته أن ترافقه، فأراد أن يبعث في نفسها الرغبة في صحبته مما يعرف عن غيرة النساء، فكتب إليها أبياتاً من فضل القول لا تمثل حقيقةً في كثيرٍ وقليلٍ

فمن مُبلغ الحسناء أن حليلها بميسان يُسقى في زجاجٍ وحنتمِ

إذا شئتُ غنّتني دهاقينُ قريةٍ وصناجـةٌ تحدو على كل ميَسْمِ

لعَّـل أمير المؤمنين يسـؤوُهُ تنادُمنـا في الجوسـق المتهدمِ

فلما سمعها عمر عزله.

الاستبطان العمري وتوزيع المسؤوليات:

وُهبَ عمر القدرة على معرفة الرجال وقراءة نفسياتهم،بما كان يسمى آنذاك بالاستبطان. وشيءٌ من الهارمون الاجتماعي والتجانس في الحركة والأداء يربط أهل الإدارة ببعضهم وبعمر، ولا ينفي ذلك أنّ رجلاً فيهم كان لا يرتاح للآخر، وأن بين هذا وذاك ما ينغّص تلك العلاقة، فإذا اختلف اثنان أو فريقان استحال الخلاف بحضور عمر إلى وفاق. وفي عمر روح جامعة وهبَهَا الله لناسٍ معدودين وإلآّ كيف اتفق رجاله مع بعضهم فتفرقوا في غيابه؟.

أمامي قائمة برجال الإدارة والقضاء وضع عمر كل واحدٍ منهم في موضعه الدقيق وصُولاً إلى تحقيق التجانس بمبدأ التوازن.

إن مبدأ التجانس بالتوازن مأخوذٌ به في عصرنا هذا، فالاتحاد لا يعني اتحادَ المتجانسين وفقَ أحادية الجنس والعُنصر والدين والمذهب والطبقة ومثل هذه الأحادية نادرة الوجود في معظم المجتمعات البشرية والطريق إلى تجانس المختلفين هو في تشكيل إداري متوازن بالقدر والألوان.

ولهذا اختار عمر عبد الله بن مسعود لقضاء الكوفة وبيت المال وعمار بن ياسر لصلاةِ الكوفة وسلمان بن ربيعة لقضاء البصرة وقيس بن أبي العاص القريشي لقضاء مصر ونافع الخزاعي لولاية مكة ويُعلى بن أمية لولاية صنعاء وسفيان بن عبد الله الثقفي لولاية الطائف وأبو موسى الأشعري اليمني لولاية البصرةِ وأبقى زيد بن ثابت قاضياً على المدينة.

أمّا رؤساء أركان الجيوش وقادة الفيالق والألوية فهم طراز آخر لم يأخذ فيه بمبدأ التوازن ولما عُرفت قريش بقدرتها العسكرية الإدارية كان نصيبها كبيراً وإن لم يكن غالباً.

فكان من قادته خالد بن الوليد قبل عزله وعبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان والنعمان بن المُقرن والمثنى بن حارثة وشرحبيل بن حسنة. ولآن هؤلاء عسكريون أقحاح وهو يدرك أن علاقة العسكري بقوانين الفكر والفقه وعلوم التفسير والحديث هي في مرتبة أدنى مما اعتنى به فقهاءٌ ودعاةٌ دأب عمر على إرسالهم مع الجيوش فتشكلت ما يسمى الآن مؤسسة التوجيه المعنوي.

وكان يستبطن أصحابه فإذا اكتشف في أحدهم جانباً خاصاً به ذخره لمهمة ستأتي وكان قد عرف في بعضهم قوة الحضور الشخصي وقوة الحجة في الحوار آخذاً بعين الاعتبار أن لا يكون الموفودون إلى محاورة الملوك والقادة الأجانب من ذوي الأصول المتواضعة ،فكأنه يعالج النوع بنوعه ـ النظير الطبقي بنظيره الاجتماعي ممن يسمون عند العرب بأهل الأحساب فشكّل وفده لمناظرة ملك الفرس من النعمان بن المقرن وبسر بن أبي رُهم الجهني وحنظلة بن الربيع التميمي والفرات بن حيان العجلي وعدي بن سهيل والمغيرة بن زرارة.

الاستفادة من الخبراء

كتب عمر إلى أمراء الجيش في العراق أن يستفيدوا من خبرة العسكريين القُدماء في الجيش الساساني وإن كانوا على دين المجوسية لأنهم متدربون وخبراء في الشأن العسكري والاجتماعي، وكان بعض هؤلاء العسكريين، إن لم يكن معظمهم، مخلصين في نصائحهم، فساعدت خبرتهم قادة الجيش الإسلامي على رسم الخطط العسكرية في ضوء الخرائط والمعلومات والأساليب الفنية التي يختزنها العسكريون الفُرس.

إنّ رغبة عمر في الاحتفاظ بالخبراء الفرس قد تدعم ظننا أنه لم يكن في أعماقه راغباً في قتل الهُرمزان وقد يكون فكّر في الاستفادة من خبرته الكبيرة في شؤون فارس فقبل إسلامه، وهو أدرى أن النطق بالشهادتين يجعل المرء مسلماً ولا يجعله في الحال مؤمناً.

لنعتمد في هذا الاستنتاج على أن من يأمر بالاستفادة من العسكريين الصغار بسبب خبرتهم فما الذي يمنعه من أن يستفيد من خبرة الكبار؟.

في هذا السياق نضع رغبة عمر في الاستفادة من قادة عسكريين شاركوا في تزعم حركة الردّة في خلافة أبي بكر، ولم يُوافق الخليفة آنذاك رغم إعلان توبتهم على إرسالهم في الجهاد أو تعيينهم بمراتب عليا. فرأى عمر غير ذلك وأرسلهم إلى الثغور حيث كشفوا عن مهارات قيادية عالية ساعدت في فتح بلاد فارس، ومن هؤلاء طليحة الأسدي وعمرو بن معدي يكرب.

إلزام الوالي بالكشف عن أمواله:

تنفرد الأنظمة الدستورية الحديثة بالزام رئيس الوزراء المنتخب والوزير عند تعيينه، وعلى رؤساء البنوك المركزية والمحافظين وشاغلي الدرجات الخاصة الكشف عن حساباتهم قبل توليهم المسؤولية لقياس نمو ثروته بعد التولية وقياس أمانته بها.

وكان عمر في مطلع التاريخ الهجري، قد سبق الدستوريين المعاصرين بإخضاع الولاة والقادة والأمراء بالإعلان عن حيازتهم من الأموال السائلة والأموال الجامدة. وعمر يراقب نمو هذه الأموال.فيستدعي من يرتفع عنده الرقم على المعدل المعقول، ويشاطره نصف أمواله. أو أن يرسل مندوبه الشخصي، مراقب الحسابات العام محمد بن سلمة الأنصاري، إلى مراكز الولايات فيعقد مع الوالي جلسة للتحقيق في أمانته. وينزع نصف ماله إذا كان النمو غير طبيعي.

وكان ممن شمله التحقيق وقرار المناصفة أبو هريرة وعمرو بن العاص وآخرون.

يمنع دخول الولاة والأمراء ليلاً

وكما قيّد عمر حركة الصحابة الأوائل ومنعهم من السفر، منع دخول العمال والأمراء والقادة إلى المدينة ليلاً قافلين من الأمصار، واوجب عليهم وعلى رواحلهم الناقلة أن تدخل نهاراً حتى يتسنى لعامة أهل المدينة أن يروا ما تحمله وتنقله رواحلهم من متاع وأموال، فإذا عثروا على ما يزيد عن المعقول أحالوا القادم إلى المساءلة وقد تصادر الزيادات أو يشاطرها الخليفة في نصفها إلى بيت المال.

ولما لم تكن البنوك والحسابات السرية معروفة، وعيون الخليفة تراقب حركة الوالي في سكنه ولباسه وخيوله وهو في الخارج، فليس لمن يجور على بيت المال أو يكسب بطرق غير شرعية إلا أن يحمل موجوداته إلى المدينة،فيلقي عمر القبض عليهم وهم في الجرم المشهود.

وتسمى هذه الحالة في أيامنا بالرقابة الشعبية على السلطة ولم يؤخذ بهذا الأسلوب في خلافة عثمان.

يحول الوالي إلى راعي غنم:

كان عمر يعالج الولاة بإدخالهم في ميدان العمل، مثلما فعل الصينيون مع آخر إمبراطور قبل نجاح ثورة ماوتسي يونغ، عندما عينوه بستانياً في حديقة عامة. فقد بلغه أن عياض بن غانم واليه على إحدى مدن الشام قد اتخذ لنفسه زمرة من الأصدقاء يسامرونه ويسهرون عنده، وقيل إن هذا الوالي قد أخذه ترف القصور وجعل لنفسه ولزمرته حمامات خاصة، فاستدعاه إلى المدينة وتركه ينتظر ثلاثة أيام ثم أذن له بالدخول، وكان قد أحضر له جبّة صوف مما يرتديه الرعاة وعصا وثلاثمائة شاة من أموال الصدقة، وطلب إليه أن يرعى بها في البراري وليسمنها، وتركه هكذا ثلاثة شهور ثم استدعاه وأعاده إلى عمله.

جرى ذلك وعياض ينفذ أمر عمر صامتاً، ولعله فهم أن العناية بأغنام المسلمين هي أكثر أجراً وأسلم له من رعاية زمرة من المترفين.

نظرية منع التراكم

عمر مستعجل فالأحداث أسرعت في زمنه، وأسرع الزمن، وتراكضت الخيول، وعابرات الجيوش تطوي المسافات والمعارك الكبرى تحسم بأيام، والقادسية التي لم يكن لها نظير لم تدم أكثر من ثلاثة أيام.

فكيف لا يستعجل الرجل وهو أروح القدمين ومن طبيعة الأروح أن يُغذِّ السير بخطوات أسرع وأقوى من رجل بقدمين عاديتين.

وكان على مبدأ (تنظيف يومه من أزماته) فلا يدع لأزمة أو ثروة أو ظلم فرصة للتراكم. فيطفئ قدحة الفتنة ونفوذ المتنفذ وبارقة الظالم. فلا تبيت شكوى من فساد ليلتها تحت مخدته ولايؤجل مخالفة يأتي بها البريد، صغر المشتكى عليه أم كبر، صغرت الشكوى أم كبرت. وهو يعالج الهفوة بالدرة، والخطيئة بجلسة قضاء على قارعة الطريق، وإن كان المتهم صحابياً كبيراً. فقضى بسياسة عدم التراكم على الفساد. الذي تراكم بعده ولم يستطع الخليفة من إطفائه. ولم يذكر عنه أنه توسّد حصيرة، وافترش رملته وأخذه النوم، وبجانبه أزمة ساهرة.

وتجتمع عنده السرعة وروح العدل، فكان القضاء عنده سريعاً وعادلاً، ورفع عدل عمر خراج العراق إلى مائة مليون درهم وانزله ظلم الحجاج إلى ثمانية عشرة مليوناً.

إن النظام الذي أقامه عمر بن الخطاب، كما يقول طه حسين في "الفتنة الكبرى" لم يكن مستلهماً من أمة أخرى. لم يكن نظام الحكم الإسلامي في ذلك العهد نظام حكم مطلقاً ولانظاماً ديمقراطياً على نحو ما عرف اليونان ولانظاماً ملكياً أو جمهورياً أو قيصرياً مقيداً على نحو ما عرف الرومان وإنما كان نظاماً عربياً خالصاً، بيَّّن الإسلام له حدوده العامة من جهة وحاول المسلمون أن يملئوا ما بين هذه الحدود من جهة أخرى.

ولايحتج أحد بشدة عمر، فالرجل بالتأكيد كان شديداً لكنه لم يكن عنيفاً. وكان ليناً ولم يكن ضعيفاً.

عمر والمعارضة السياسية:

تتقلص الروايات وتشح المعلومات الخاصة بنشاط سياسي معارض لعمر بن الخطاب في ولايته، لكن ذلك لا ينفي وجودها، وقد تكون صامتة أو أن ردّ الفعل عليها كان صامتاً. فلم يكن لتلك المعارضة شعراء ناطقون بلسانها حتى تسمع أصواتهم، ولم يكن لعمر جهاز قمع مزود بسلاسل الحديد حتى يسمع صريرها، ولم يتأسس سجن سياسي بعد، ولم تتشكل أجهزة الشرطة التقليدية، لكنه كان يمتلك آلية استخبارية تعرف ماذا في حمامات الأمراء والولاة، وهذه أول دولة في التاريخ توجه نشاطها الأمني نحو إدارتها الرسمية ومقاماتها العليا، وليس لها عيون على الناس ولم نسمع عن جلسات تحقيق ومحاكمة، أبطالها من عامة الناس بل كانت مثل هذه الجلسات تعقد لمحاكمة قادة من طراز خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وأبي هريرة الدوسي.

لابد أن زعماء قريش وأصحاب المصالح الذين رأوا عطاء العبيد السابقين في الإسلام أكثر من عطائهم وجدوا فيه إخلالا في القانون الاجتماعي الذي نشأوا عليه.

وكانت بعض فروع قريش لاسيما الأمويين غير مرتاحة لسياسة عمر المالية والإدارية، ولم نقرأ في المصادر أن للإمام علي بن أبي طالب الذي وضعه الموروث المذهبي غريماً وخصماً في جدول الصراع مع عمر، رسالة احتجاج ضد تلك السياسة.

يقول هاشم معروف الحسني وهو مؤرخ شيعي معاصر في كتابه سيرة الأئمة الاثني عشر:

" إن أحداً من المؤرخين لم ينقل عن الإمام علي أنه وقف موقف المعارض لخلافة بن الخطاب وبدا منه ما يسيء إلى صلاته به، بل رضي لنفسه أن يكون كغيره من الناس، ولا ينطق إلا بلسان البررة الأطهار بمنحه النصيحة ويزوده برأيه، كلما أشكل عليه أمر من الأمور ". وكانت قريش والمتنفذون منها هم الذين ينادونه فيما بينهم بابن حنتمة أو الأعيسر ويعيبون عليه لبس القطوانية وهي عباءة يصنعها الكوفيون، ولم ينقل المؤرخون عن الإمام علي أنه تهاوش الكلام مع عمر، أو تساجل معه كما يتساجل المعارضون.

منا شـير عمرية ضد أمراء الدولة:

لم يكتف عمر باستخدام مبدأ الكفاءة والاستفادة من أصحاب الخبرة وإن لم يكونوا من المهاجرين الأولين بإصدار مراسيم التعيين وترك حبالهم على غواربهم.

ففي مراسلاته إليهم وهم قادة في الثغور أو ولاة في الأمصار يظهر عمر صرامة إذا ما وجد بعضهم ميلاً عن نهجه السياسي.

فإذا كان القائد من طراز عمرو بن العاص وخالد بن الوليد ردواً عليه بما يحفظ لهم ارستقراطيتهم ودينهم.

فيكتب إليه عمرو: أما بعد، فأما ما ظهر لي من مال، فإنا قدمنا بلادا رخيصة الأسعار، كثيرة الغزو، فجعلنا ما أصبنا في الفضول التي اتصل بأمير المؤمنين نبؤها، ووالله لو كانت خيانتك حلالاً ما خنتك، وقد ائتمنتني، فإن لنا أحساباً إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك. وذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير منّا، فإذا كان ذاك فو الله ما دققت لك يا أمير المؤمنين باباً، ولا فتحت لك قفلاً.

فكتب إليه عمر: أما بعد، فإني لست من تسطيرك الكتاب وتشقيقك الكلام في شيء ولكنكم معشر الأمراء قعدتم على عيون الأموال، ولن تعدموا عذراً، وإنما تأكلون النار، وتتعجلون العار، وقد وجهت إليك محمد بن مسلمة، فسلم إليه شطر مالك.

فلما قدم محمد صنع له عمرو طعاماً ودعاه فلم يأكل، وقال: هذه تقدمة الشر، ولو جئتني بطعام الضيف لأكلت، فنحّ عني طعامك، وأحضر لي مالك، فأحضره، فأخذ شطره. فلما رأى عمرو كثرة ما اخذ منه، قال: لعن الله زماناً صرت فيه عاملاً لعمر، والله لقد رأيت عمر وأباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية لاتجاوز مأبض ركبتيه، وعلى عنقه حزمة حطب، والعاص بن وائل في مزررات الديباج. فقال محمد: أيها عنك ياعمرو!. فعمر والله خير منك، وأما أبوك وأبوه فإنهما في النار، ولولا الإسلام لألفيت معتلقاً شاة، يسرك غزرها، ويسوءك بكؤها. قال: صدقت فاكتم علي، قال: أفعل.

مظاهرة على بابه!

يمكن أن تكون أول مظاهرة سياسية في تاريخ العرب وبمعناها الحديث قد اجتمعت بباب عمر قادمة من أحياء العرب، احتجاجاً على شدته، لكن المظاهرة انقسمت إزاء هذا الشعار، فرأى بعضهم في هذه الشدة حزماً يثير الإعجاب، وأصل خروج المظاهرة العفوية يرتبط برد فعل شعبي ضد موقف عمر من جبلة بن الأيهم، وهو من ملوك بني غسان في الشام أسلم بعد أن رأى مصير هرقل فتوجه إلى المدينة مع (500) من أهل بيته، واعد له عمر استقبالاً شعبياً كان الأول في تاريخ المدينة والأول في تاريخ عمر خروجاً على عادته وتساهلاً مع ما تعارفت عليه نفسه وهو المعروف بكراهة المظاهرة والمهرجانات ورؤية الملوك على خيول مطهمة معقودة الأذناب، وتاج بن الأيهم يأخذ بأبصار الناس فتنبهر المدينة وعمر صامد حابس لمشاعره، خاضع لأول مرة لرسوم الاستقبال الملكي، مقدراً أن ضيفه مازال طري الانتساب للإسلام، تليد الانتساب إلى طقوس الملكية.

ولاشك أن مقبض الدرة قد ترطب بعرق يده. وقد يكون تذكر لحظتها مشهد أمراء الشام يزيد بن أبي سفيان وخالد بن الوليد على خيولهم فحصبهم بالحجارة، وهم بلاشك أعلى مقاماً عنده من جبلة. كان عمر يراقب هذا الملك كيف يخرج ويتبختر؟. ويتحدث من زاوية الفم أو بأطراف الأنف، فدعاه إلى زيارة الكعبة وأظن أن عمر أعد سيناريو الزيارة مسبقاً، وإذ هما يطوفان بالبيت الحرام وطيء أزار الملك رجل من بني فزارة، فضرب وهو يقيل عثرته، وجهَ الفِزاري بكفه فشكا الرجل إلى عمر، فعقد كعادته جلسة محاكمة للملك الزائر الداخل في الإسلام حديثاً!.

قال عمر لجبلة: عليك أن ترضي الرجل أو أن أقيده منك، فأنكر جبلة ماسمع وكيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك وهنا كان على عمر أن يلقن ضيفه الدرس الإنساني الأول في نظرية السواء الإسلامي.. وأنت لاتفضله بشيء إلا بالتقوى والعافية.

قال جبلة.. لقد ظننت يا أمير المؤمنين أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية.

قال عمر: دع عنك هذا، فإنك أم لم ترض الرجل عقدته منك. قال جبلة: إذن سأعود نصرانياًَ!.

فطلب جبلة أن ينتظره هذه الليلة، وتقول الرواية انه خرج في جنح الظلام متسللا ووصل بلاد الروم حيث استقبله هرقل وأقطعه ربوعاً ملكية شاسعة.

ولما علم الناس بأن الملك الغساني فرَّ هارباً مرتداً عن الإسلام حمل بعضهم المسؤولية على شدة عمر معه، فاصطدم المتظاهرون أمام بيت الخليفة، وكادت أن تحصل فتنة.

الطبـاق العمري

حركته تشبه حركة الناس العاديين، ولهذا رأى الناس فيه صورةً منهم، ولم يشعر أحد أنه محكوم بحاكم، فقلص المسافة بين الحاكم والمحكوم وهذه سمة تلقّاها الإمام علي مثلما تلقاها عُمر عن النبي، تجعلُ الحاكم محكوماً. وهو محكوم بالنصوص، فعاشَ سنوات حكمه العشر وكأنه يقود حركة معارضة. لاحركة سلطة فحسب، وعرض مقطعاً كما عرض الإمام علي في تاريخ السياسة العالمية يستحيل فيها رئيس الدولة، زعيماً للمعارضة في آن. فيراقب سير الإدارة بعين المعارض ويبعث برسائله إلى الولاة وكأنها مناشير المعارضة السرية.

وعمر لا يعد نفسه من الأمراء وأهل السلطان وهو أمير المؤمنين، وأغلب الظن أن إضافة الأمير إلى المؤمنين أخضعت ولو على مستوى الإيحاء النفسي هذا الأمير إلى المؤمنين وفقاً لمنطوق المضاف إليه الذي يعد المالك والمضاف مملوكاً.

لم يصطنع لنفسه طقوساً خاصة، ولاعالماً يتعرف الناس عليه بهِ، لكنك إذا تابعت تاريخه، وحدقت في حركته اليومية، فستشكل أمامك صورة عالمٍ خاص، واضح الملامح والسمات، يقوم على العفوية والبساطة وعدم التصنع والسهولة، فينعكس هذا على طقوس العبادات عنده لا تَكلف فيها ولا اصطناع.

كان يمنع جلبة المظاهر الدينية، ويقاوم السابقة قبل أن تتفشى، ويأخذ على بعضهم الغُلو في العبادات، «فمن أدركته الصلاة فليصلِ وإلاّ فليمضِ إلى سبيله"

ويمنع أن يضفي التقديس على غير المُقدس، والمقدس عنده قرآن وسنة ويبقى من هو خارجها خُلواً من القداسةِ. ومع بساطته كان رجل الإستراتيجية.

ولعمر كاريزما كما نقول في أيامنا هذه، وأجمل ما فيه عندي، أن أراه يُسرع في أمَرْ من هامش الأمور فيندفع لحظة ثم ينسحب قبل مرور اللحظة التالية، فيتأثم وهو غير آثم، وتتحول حركة خاطفة من درتهِ يعلو بها كتف رجلٍ أو امرأة إلى حركةٍ ضد نفسه، فيطالب المُخفَقين خطأً أن يخفقوه، وهو ممن يمارس النقد الذاتي على نفسهِ بمرارة... ثكلتكَ أمك يا ابن الخطاب أأفقه منك امرأة، ثكلتك أمك يا ابن الخطاب إن لم تقلها، وأراه لحظتها يسارع إلى رأس الإمام علي فيقبله ولا أقامني الله في أرضٍ ليس فيها أبو الحسن.

وعمر ليس له باطنٌ وظاهر، وليست له سياستان سرية ومُعلنة، وليست له جملتان واحدة لنفسه وأخرى للناس.

ليس لعمر مثنيات، وقد أتاحت له عشر سنوات من الخلافة المستقرة تنفيذ البرامج الإسلامية واجبة التنفيذ فأطبقت النظرية على الحياة.

إن مناهج الدعاة قد تغري السامع والقارئ بجاذبية الرواية، وجمال الاستشهاد، مما تزهو به النظرية الإسلامية، فتنسب إلى صحابي وخليفة أو تابع وفقيه، وكأنها حسمت بالاستشهاد النظري، إشكالاً لمستشكل، أو اعتراضاً لناقد. لكنك وأنت في المشاهد العمرية، قد تتوقف عن ترتيب الروايات، وصياغة الاستشهادات وأمامك حركة الناس تتحد بحركة القرآن، فتتيسر الاستجابة من طرفيها...استجابة النظرية للحياة، واستجابة الحياة للنظرية.

وكأنك ترى عقيدة السماء تتمشى فوق أديم الأرض، وتمر مع المارة. أو كأنّ الناس عرجوا إلى السماء معلقين على تعاليمها.

في عصره، اختفى الخلاف الأبدي الذي كان بين أهل الأرض وسكنة السماء!. والأرض تسمو والسماء تدنو أو تتدانى، ليولد ما نسميه الطباق العمري. وشخصيته مكشوفة حيَّ على الصلاة.

لايكيد والكيد سلوك باطني، ولا يحبُّ في السرِّ ما لا يحبه في العَلَن. إذا ضاق بموقف أو مشهد، فهو لايكتم ضيقه ولا يصبر على المخالِف.

إن علماء النفس يسمون هذه الشخصية بالانبساطيّة.

منبسط النفس مثل الأرض التي خرج منها وعاد إليها لا التواء فيها ولا زوايا ولا يحجبَ الرؤية حاجز من تضاريس النفس. والعين تمتد حتى الأفق، فإذا ارتفعت أخذت من صفاء السماء في نجدٍ والحجاز صفاء النفس والرُوح.

وأخذ من وضوح الصحراء والسماء وضوح العقيدة وتسهيل الحياة للناسِ. عاش جاهلية واضحة، وأسَلَم في وضح النهار، وهاجر في وضح الشمس، وحكم في وضح الشريعة، وغُدرَ به قبل أن يتوضحَ الصُبحُ وكان غادره من أهل العُتمة.

فتساءل بعد أن استعاد وَعيه: أعن ملأ منكم؟.

فذكروا له اسم الغادر. والحمد لله الذي لم يجعل موته على يد رجلٍ سجد لله ولو سجدة.

وعُمر لا تقتله العرب.

كيف صُيِّر الرجلُ زعيم فرقة ورئيس مذهب وعنواناً لطائفة، وهو الذي كان يُنكر على الناس اختصاصهم بمجالس خشية أن يدعوهم ذلك لأن تكون لهم آراء متفرقة متباينة تنتهي بالتحزب والانقسام.

روى ابن عباس أن عُمر قال لناس من قريش: بلغني أنكم تتخذون مجالس، لا يجلس اثنان معاً حتى يُقال من صحابةُ فلان؟ من جلساء فلان؟ حتى تحوميت المجالس أي تحاشاها الناس.

وأيمَ الله إن هذا سريعٌ في دينكم. سريع في شرفكم. سريع في ذات بينكم.

ولكأني بمن يأتي بعدكم، فيقول: هذا رأي فلان، قد قسموا الإسلام أقساماً. أفيضوا مجالسكم بينكم، وتجالسوا معاً، فإنه أدوم لألفتكم وأطيب لكم في الناس.

أتُراه أصدر فتوى بتحريم العمل السري؟ لعله فعل، ولو أصاخ الناس سمعاً لفتواه لتجنبوا الكثير من كوارث الأحزاب والمنظمات السرية والأسماء المستعارة بالآباء والأبناء زوراً وبهتاناً.

خلا فـة السلم الأهلي

كانت خلافته نزهة في زورق على بحيرة زرقاء، لا ريح اليمين تزعجها ولا الشمول تضربها، فكانت الحياة والإجراءات والأيام وحركة التاريخ تسيل بهدوء وسلامة وسلاسة. وبصيغة اسم التفضيل، ستأخذ خلافته منّا أجمل المفردات فهي: أسهل خلافة في انتقالها إليه من أبي بكر وحركة سيرها. وهي أسلم خلافة فلم تسفك فيها دماء ولم تواجه احتجاجات، ولعلها الفترة الذهبية التي عزَّ تكرارها في تاريخ الخلافة الإسلامية، كونها جداراً لم يتشقق ونسيجاً لم يتهلهل.

فصارت الخلافة الأولى في التاريخ العربي التي تخلو من التمرد، وانفرد عهد عمر بعدم ظهور معارضة مسلحة أو انشقاق، بينما واجه أبو بكر في أيامه الأولى عدم مبايعة الإمام علي وانشقاق الردة وتمرد القبائل العربية على خلافته.

وفي خلافة عثمان كان الانشقاق اجتماعياً وطبقياً، اتخذ صيغة المعارضة السياسية والفكرية التي انتهت بالهجوم على داره وقتله بوحشية.

أما الإمام علي فقد تكالبت على عهده ثلاثة انشقاقات كبرى، فعالجها مرة بالسيف ومرة بالسلم كانشقاق أصحاب الجمل، وانشقاق معاوية، وانشقاق الخوارج، لقد شنت على الإمام علي حرب استنزاف متعددة الجبهات، لكنها موحّدة العوامل والأسباب.

أما عمر بن الخطاب فقد حصد ثمار السلم الأهلي وغنائم الفتوحات في بلاد كسرى وقيصر ورضى الصحابة، فأتيح له أن يقدم أوضح تشكيل لخارطة الإسلام على الأرض، لكن رأياً يقول: إن المعارضة في زمن عمر كانت مؤجلة، فانفجرت في عهد عثمان.

ونقول: ان ذلك سيكون صحيحاً، لو أن البنية الاجتماعية والشخصية لحركة المعارضة في عهد عثمان هي نفسها التي كانت صامتة في عهد عمر، ولم يظهر في تاريخه المكشوف الزوايا والأبعاد، أن الأقاليم أو الأعراب، والفقراء، وبعض الصحابة وأبنائهم، قد احتجوا على سياسته، إنما صدرت إشارات عن بعض رجال قريش وقادتها بما يعني ضيقهم من شدة عمر وجرأته بمنعهم من السفر ومساواتهم بمن كانوا من عبيدهم ومواليهم، وهذا الاتجاه وجد انفراجاً لأزمته في عهد عثمان.

مفهوم جديد للدولة ونظام سياسي خاص

إنه بالتأكيد نظام غير مسبوق كما يقول طه حسين، فلا يشبه أنظمة الرومان واليونان، ولا يتصل بشكل الأنظمة المعاصرة.

لم يكونوا يعرفون ما اصطلح عليه اليوم بالنظام الديمقراطي، لكن جوانب كثيرة منه تقوم على ما قامت عليه أساليب الحكم الديمقراطي.

ولم يكن المؤسسون، قد تعرفوا على مشكلات النظام البيروقراطي، عندما عزفوا عن البيروقراطية. وسارت العلاقة بين السلطة والمجتمع على شيء من التواحد من جهة واختزال الوسائل في المخاطبات من جهة.

كان النظام الإسلامي يحمل نزعات اشتراكية واضحة وهو يأخذ باقتصاد السوق، ولا يعرف تحديد الملكيات وبالكثير مما عرف في النظام الرأسمالي لاحقاً بنظام الضرائب على الدخل. ولكن اقتصاديات الأرض مزيج من النص والإبداع والتأثر بالتجارب القديمة للإمبراطوريات المفتوحة.

وطبيعي ألا يعرف عصر أبي بكر التوزع السياسي بين السلطة والمعارضة ولا أن يعرف الناس آلية العمل عندما يكونون معارضين، فكانوا يلجأون إلى آلية السلاح، قبل أن تظهر الجمعيات الباطنية والفرق السرية، وكانت هذه بشكل عام تنتهي بحمل السلاح ضد السلطة تعبيراً عن رفضها الانضواء في النظام السياسي القائم عندئذ، ويمكن أن يسجل للتشيع في أصله الإمامي الأوسع – أن الإمامية اتجهت بعد مقتل الإمام الحسين إلى نبذ العنف الثوري، واعتماد أساليب تربوية وثقافية وإعلامية في نشر أفكار مدرسة أهل البيت.

ولم يتزعم أي إمام بعد الحسين، حركة مسلحة أو يقف وراءها، واستقل الفرع الزيدي بزعامة زيد بن علي بن الحسين بالعمل المسلح والثورات الشعبية المسلحة عند الشيعة.

في العصر الإسلامي الأول يتحول الصحابي الكبير والرجل البسيط والمرأة العادية إلى معارض في مجلس الخليفة ضد قرار أو رأي يصدر عنه، فإذا تطابق رأي المعترض مع النص، أخذ به وتنازل الخليفة عن قراره أو رأيه في ذات اللحظة.

لكن عمر بن الخطاب كان يعترض على قرارات وإجراءات معمول بها في زمن سابق لزمنه، وقد يتوقف عن الأخذ بما صدر عن أبي بكر ذاته.