عمر و التشيع . . . ح 1 |
المقاله تحت باب قضايا إلى ابن أعظمية النعمان بن ثابت إمام الساحل الشرقي عثمان بن علي العبيدي إليه رجلاً أنقذ سبع أرواح من الموت غرقاً من بين الحشود التي سقطت في النهر على طريقها إلى إمام الساحل الغربي وعند الثامنة تعانقت الروحان وهبط الجسدان معاً تحت مياه الجسر المشترك. وحسبك أنك حبر هذه السطور. حسن العلوي دمشق ـ الشام 1/1/2007 تدافعت حشود عابرة على جسر في بغداد لإقامة المهرجان السنوي لذكرى استشهاد الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق المدفون في مقبرة خصصها لقريش أبو جعفر المنصور عام 150 للهجرة، سميت بمدافن قريش، فدفن فيها ابنه ثم الإمام موسى بن جعفر وحفيده، وعندما توفي الإمام أبو حنيفة النعمان دفن في مقبرة الخيزران، على الجانب الشرقي من دجلة، وهي لعامة الناس، فسميت الأولى بالكاظمية نسبة إلى الإمام الكاظم على الساحل الغربي، وسميت الثانية بالاعظمية نسبة للإمام الأعظم أبي حنيفة، وعلى الجانب الشرقي من دجلة، خرج الشاب عثمان العبيدي، وهو من السكان الأصليين، فرمى بنفسه إلى النهر سبع مرات، أنقذ في كل مرةٍ طفلاً أو رجلاً أو امرأةً شيعية، وفي المرة الثامنة أمسكه الغريق وقد أرهقه التعب، وخارت قواه، فلم يقدر على حمله إلى الشاطئ، وغرق عثمان بثقل من كان يستنقذه!.
أول الكـــلام عابور النهر وصاعود المألوف
الكرادة والكتاب ما لابن السبعين مرميّاً إلى العباب مختاراً، وأكثر من نصفه معطل عن العمل؟ لماذا لا يركن إلى دعة الضيعة عند أصغر صغاره، أوفي دمشق الشام وأكبر كباره، وبينهما ثلاث يتقحمّن الحياة بعد الجامعة بشجاعة العالم؟. ما الذي يغريه في تعب المواجهة وهو في هذه السن؟. أقول: لو كان الأمر بيدي لركنت إلى صُلبي وسكينتي، لكنّي خلقت غير مُوادع ولامُساكن، والأمر أمر ضاحية الكرادة وبساتينها التي ولدتُ وترعرتُ فيها على ضفة دجلة اليمنى، حيث هي اليوم بساتين المنطقة الخضراء.. والحياة على ضفاف الأنهار والمغامرة صنوان، فأنت صاعود نخلة عيطاء في الخامسة، وعابور دجلة سابحاً في العاشرة، وقاحوم ليل البساتين التي لم تعرف نور الكهرباء إلا في السنة الأخيرة من الدراسة في ثانوية الكرخ. وأشجار البساتين حرة وشبه مشاعة، وكان أيُّ منا ينتقل في لحظات من قعر النهر إلى قمة نخلة مترامية في السماء، أو فوق غصن توت. ولنا القدرة على التقاط الناضج، وانتظار موسمه الذي نعد أيامه على الأصابع. كان النهر مصدر التحدي.. يأكل منا بعضنا ونأكل منه جميعاً. وبواسق النخل تتحدى قممنا الصغيرة، وكان علينا أن نعانق قممها فنصعد وتصعد الأيام، فإذا جَرَفَ النهر شقيقاً عُدنا إليه وكأن من ذهب كان قرباناً يضحي به الصيف للنهر الذي فقد نصف قوته. فإذا سقطتُ من أعلى نخلة، فقد سقط جدي وخالي، ولا يموت من يسقط من فوق نخلة. ولم نعرف سرّ هذا السر؟. لا أظن الأمر قد اختلف عليَّ كثيراً. والإبحار لم يكن في المجهول. ولاشيء مجهولاً في بساتين الكرادة حتى مكامن الأفاعي ومتارب العقارب، فلم يحدث أن لدغ أحدنا وهو شبه حافٍ في ليلٍ دامس يبحث في البستان عن شيء في لعبة الليل، بل المخاطرة وأكبر المخاطرة أن تعبر المألوف الاجتماعي أو تصعد فوقه وهنا الشجاعة والإقدام. أظن الكتاب أصبح مفهوماً،.. سباحة فوق نهرٍ عريض وصعودا على جذعٍ طويل، وبحثاً في بستان الأفاعي والعقارب عن مفقودٍ بين البساتين والماء. أما صاحب الكتاب فكان من ذلك كله وهو فوق ذلك كله، لم يأنس العيش في مقطع زمني حددته له الأقدار، وأقعدته فيه العقائد، فصار ابن الكرادة المفتوح على الماء والسماء والمتحرك مابين قعر النهر وقمة النخلة كاتباً، وكان لابد إلاّ أن يكون هكذا مفتوحاً على ثلاثة أجيال وسبعة أطياف. فإذا هَرُم جيل فله جيلان. وإذا نكث طيف فعنده الأطياف الستة. وسلامٌ على النخل ذي السعفات الطوال وسلامٌ على التشيّع. وعلى ابن حنتمة ألف سلام. حسـن العلـوي بغداد - الكرادة 26/7/2006
ثنائية الكتاب هذه كتابة حرة مفتوحة الاتجاهات في عمر بن الخطاب، وفي سياسة الخطاب الشيعي إزاءه، ولا أبتغيها كتاباً موصد الأبواب، وبحثاً مشروطاً مكبلاً بسلاسل الايدولوجيا وشروط الانتماء. وهي في ناتجها كتابة تاريخية في إشكال سياسي راهن، نطل منها على الطوفان العراقي، في وقت ختم الخاتم أن لا نبي بعده، ولا أمل لتقي في دعاء نوح المستجاب، ولا سفينة للنجاة ولا جبل يعصمنا، حتى الجودي مغمورٌ تحت طوفان الدم، وماء الأهوار يغور، وليست في مستوطنة الطيور السومرية مهاجرات قادمات من أقاصي الهند في طريقها إلى أقاصي أوربا. والعراق منقسم على ثنائية عمر وعلي، التي تسلّكت في قنواتها السرية إلى السياسة الدولية، منذ مطلع القرن الماضي، فيخطط إستراتيجيون بريطانيون طريقهم إلى البصرة آملين كسب المنبوذين الشيعة في الحرب على الأتراك السنة. وتغير الحرب الأمريكية على دولة الفقيه الشيعي، الذي حجز في طهران على موظفي أكبر سفارة أمريكية في خليج العرب والمنطقة. ليكون العراق وليس باكستان وتركيا السنيتان والحليفتان مكان الإغارة في حرب تستمر ثماني سنوات، فتتخم أسماك نهر كارون وشط العرب بلحوم الجنود قبل أن يحين الوقت المجهول لحرب أمريكية على السنة. فجاءهم الغيث من كهوف طورا بورا وهجوم تنظيم القاعدة على نيويورك بطائرات مدنية قطرت الرؤوس العليا لمعماريات مانهاتن قبل انهيارها مع ثلاثة ألاف أمريكي أعلن عن هلاكهم في الهجوم. وكان المتوقع، وقد حددت الولايات المتحدة الأمريكية، مساقط رؤوس المهاجمين، أن تبدأ الحرب الأمريكية على السنة في بلد هم فيه أغلبية مطلقة. لكنهم وجدوا في العراق موطناً للحروب لا يضيق بحرب أمريكية رفضت تركيا اندلاعها على أرضها وكذا الباكستان والسعودية ومصر رغم اختلافها السياسي مع شيعة إيران، ولا بحرب أمريكية على سنة العراق سترفض دول العالم الإسلامي والعربي وهي سنية بالإجماع الاستسلام لها. لكن ثنائية علي وعمر، شكلت جاذباً لوجستياً مغرياً ومضمون النتائج يوفر المناخ الصالح لحروب البيت الأبيض على الشيعة والسنة وحروب الباب العالي وغريمه الصفوي، مادام قصر يلدز حافلاً بحروف عمر المنقوشة على جداريات القصر، ومادام شاه تبريز قد أقام مصنعاً للكاشان الممهور باسم عليًّ، وستجد السياسة البريطانية وحليفتها الأمريكية، ما وجده الشاه والسلطان شعباً في بغداد يهلل للمنتصر على ساحلها الغربي وشعباً يستقبل الشاه المنتصر، وقد وسع في الصحن الشريف غرفاً جديدة بعد أن قذف على الساحل الشرقي جثثاً ضاقت بها بساتين الأعظمية. أما أسماك دجلة، فلم تعد تأكل صغيراتها، ففي ثنائية عمر وعلي، الأسماك تأكل البشر، مابين بغداد وخرّم شهر، ومابين القرن العاشر والقرن العشرين. هو ذاته حقل اهتمامنا التليد يأتيك طارفاً وطرياً في كتب ربع القرن الأخير. ففي الشيعة والدولة القومية عالجنا ثلاث قضايا أساسية: أولها تعجيم الشيعة بما يجعل العرب في العراق أقلية أمام الأكثرية غير العربية، لو نجح مشروع التعجيم هذا، وبإبطالنا تعجيم الشيعة إنما ندعو لأغلبية عربية تحفظ الوجود القومي في العراق. والثانية أن كتاب الشيعة والدولة القومية، يستهدف نقد تمذهب الدولة، وظهور مذهب حاكم يستأثر بالسلطة وامتيازاتها، ومذهب محكوم ومحروم في دولة واحدة، تطرح خطاباً قومياً في الداخل والخارج. ومن العدالة انتصار. كتابنا للمذهب المحكوم والمحروم. والثالثة أن الشيعة والدولة القومية لم يتحدث على الإطلاق عن حقوق طائفية بل عن حقوق مدنية. وقد جاء في مقدمة الكتاب الصفحة 11 الطبعة الثانية أن الكاتب لا يرجّح، حتى هذه اللحظة مذهباً على آخر، وأنكر أن يكون الخلاف في العراق خلافاً بين أبي حنيفة وجعفر الصادق وأعطى مثلاً أن السلطة التي سميت سنية لا تعرف شيئاً عن مذاهب الإسلام، ولم تحترم رئيس المذهب الحنفي الإمام الأعظم النعمان بن ثابت، فأقامت على أمتار من مسجده دار سينما حرة في عرض الأفلام، وعلى شاطئه صالات تسمح باحتساء الخمور والرقص المختلط في الوقت المناسب. إن كتاب الشيعة والدولة القومية يدعو لإلغاء فكرة التمذهب، أما وقد سقط النظام القديم، وظهر نظام أعطى للشيعة دوراً أساسيا في صناعة القرار السياسي وبرلماناً هم فيه الأغلبية شبه المطلقة، فقد أوشك أن يكون الشيعة هم المذهب الحاكم وأهل السنة هم المذهب المحكوم. وبسبب نفوذ حركات إسلامية شيعية، شاعت في الخطاب الشيعي السياسي لغة تضعف موقفي في مواجهة مشروع تعجيم الشيعة الذي اعتنى به وتعهده سنة السلطة في نطاق نظري على الأقل، بينما أوشكت الاتجاهات الراهنة لبعض السياسات الشيعية في العراق أن تكرس عجمة التشيع بأفكار ومشاريع وخطاب كان بعضه رد فعل لممارسات نظام قومي عربي استأثر بالسلطة طائفياً ونكّل بمواطنيه في الأغلبية العربية الداعين لقيام نظام حكم مشترك، غير أن تبريراً لميل شيعة السلطة الحالية نحو عزلة خارج المحيط العربي سيجد معارضة الأغلبية العربية ومثقفيها المستقلين. في هذا الكتاب يستمر منهجنا من منطلقه العربي والعراقي واعتماد منهج تاريخي يؤصل للصراع ويحيله إلى القائلين أولا بالقطيعة التامة والكاملة والمؤبدة بين الإمام علي وسلطة الخلفاء الراشدين الثلاثة واستخدام خطاب تقليدي يتعرض فيه الدعاة والخطباء لمقامات الصحابة فيثيرون حفيظة الأغلبية العربية والإسلامية، في وقت لا يشكل فيه الشيعة نسبة قادرة على تحمل أعباء العزلة والقطيعة وهي تنتقل من تخوم التاريخ إلى درابين الحاضر. والكتاب يروج لنظرية المشاركة في سعيه لرفع الحصار عمن ينحدر الكاتب من أصلابهم... وجداً بعمر وسيراً على طريق السلم الأهلي الذي يبدأ عندي من لحظة التصالح مع التاريخ حتى يسهل لدعاة المشاركة أن يتصافحوا في الحاضر. وبئس كتاب يزعم الدفاع عن عمر... فمن يحتاج إلى هيئة لكتب الدفاع هم الذين لم يكتشفوا عمر حتى الآن. وجزء من الكتاب هو ليس الكتاب،وان كان التجزيئيون من أهل القطيعة سيفعلونها، مثلما جّزأوا التاريخ المشترك لعلي وعمر في القرار وروح المسؤولية التي أدير بها المركز الجديد لإدارة الشرق القديم على حصيرة من سعف النخيل فوق تراب المسجد النبوي. السفر إلى ابن حنتمة ليس في ذاكرتي القروية جديد يستحق التدوين، فكأي طفل في محيطه، يرتسم عمر في مخيلتي الصغيرة، شخصاً يشتغل في وظيفة مسؤولة عن عذاب الإمام علي وعائلته. ولم يكن لعمر في ذهني من عمل غير صب الأذى على ابنة الرسول وزوجها وولديها. وربما أمتد دوره إلى نهاية العهد الأموي، مشفوعاً باسم يزيد قاتل الحسين في سجع شعبي يكرره الطفل، كلما أكل ثمرة لأول مرة، أو لبس جديداً، (إلبس جديد والعن عمر ويزيد!). وقد يكون عمر في أذهاننا هو الذي قتل الإمام علي!. ولم نكن نعرف أن الإمام علي توفي بعد وفاة عمر!. وعلى كراهة محيطنا ليزيد، فإن "العدو"الذي كان اسمه يتردد بكثرة، هو عمر. فقد كنت أراه في ليلة محددة من كل عام شخصاً من سوقة المحلة، يجري خلفه الصبيان، وقد لفت بطنه بمخدة فوقها ثياب نسوية مما ترتديها الحامل، مصحوباً بزفّة من شعر الزجل الشعبي في يوم يسمى "فرحة الزهرة". فإذا سألنا الذين هم أسنُّ منا قيل: إنه اليوم الذي قتل فيه عمر بن الخطاب ففرحت الزهراء بمقتله. ولم نكن نعلم أن فاطمة الزهراء توفيت قبل مقتل عمر بثلاثة عشر عاماً. كنت أعيش في ضاحية كرادة مريم حي العباسية، مابين مبنى المجلس الوطني العراقي والقصر الجمهوري في المنطقة الخضراء حالياً، حيث بستان جدي لأمي، حتى إذا دخلت المدرسة الثانوية في الكرخ، التي يؤمها الطلاب من (أبو غريب) واليوسفية والمحمودية والكرادة، فضلاً عن أبناء جانب الكرخ، اتيحت لي فرصة العيش مع طلاب معظمهم من السنة، فصحبني أحدهم وكان يتدرب على ترتيل القرآن إلى جامع مجاور يرتل فيه الحافظ خليل إسماعيل الذي صدمني بسؤال عن أهل الكرادة، ولماذا هم يكرهون عمر؟. فلم أملك جواباً، لكنه أيقظ في ذهني عدداً من التساؤلات الممزوجة بالاستغراب أحياناً. فنحن لا نحب عمر لأنه عمر وهل يوجد هناك من يحب عمر؟!. وفي أيام أخرى صحبني صديق أخر في المدرسة إلى مركز حزب الاستقلال المجاور لمدرستنا، وكان الطالب توفيق المؤمن، الذي يكبرنا بعدة سنوات مسؤول الحزب في ثانوية الكرخ، قد سبقنا إلى المركز. فاستمعت إلى محاضرة عن القومية العربية فيها إشارات إلى تاريخ الأمة ورجالها الأوائل أمثال عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد!. كانت المحطة الأولى ثانوية الكرخ، والحافظ خليل إسماعيل والمركز العام لحزب الاستقلال، وتوفيق المؤمن، والعروبة في أيامها الأولى تحملني طفلاً إلى أحضان عمر قبل أن يأخذني عمر إلى العروبة لاحقاً. بدأت علامات التحول واضحة على قناعاتي في حينّا الفقير، وكان شقيقي هادي العلوي الذي يكبرني بعامين شبه معتكف في صومعة دينية، جعلت بيتنا الصغير حوزة علمية صغرى. فكان يمنعني من الاستماع إلى أغنية في الراديو، ويأخذ عليَّ عدم قيامي بالفرائض الواجبة، ثم صرت أتمرد على المشاركة في مهرجان " فرحة الزهرة " فيما انخرط شقيقي بكل وجدانه واهتماماته في النشاط الحوزوي رغم مواظبته على الدراسة الأكاديمية، ولم تمض سوى شهور حتى توفيت والدتي ولم تبلغ الأربعين من عمرها، فكان من تأثير هذه الصدمة على شقيقي هادي العلوي أن شرع يتحول عن أسلوبه الديني يوماً بعد آخر، احتجاجاً على المقادير والآجال، حتى تجرد نهائياً من أي أثر ديني وإن كان مازال على صلة بمراجع التاريخ العربي والإسلامي كالمسعودي والطبري واليعقوبي وابن خلكان وابن الأثير والجاحظ. وهو مع موقفه السلبي هذا لم يبرح دائرة الحضارة العربية الإسلامية، حتى أواخر حياته(*) عندما تصدى بعنف لسليمان رشدي، فانعكس ذلك على علاقاته القديمة مع كتاب اليسار الماركسي ومع الليبراليين الذين انتصروا لرشدي. وبالعودة إلى الخمسينات الميلادية، كان هادي يلقنني تلقين الأستاذ لتلميذه مايقع عليه في المراجع والكتب من تقييم لشخصية عمر المتماهية بشخصية علي. أمّا والدي، وقد صار وعيي أكثر نضجاً، فقد أثار استغرابي، وهو سيد علوي، أنه لم يكن يحمل ضغينة على عمر كضغينة والدتي، وكان من الذين يحيلون الأمور إلى النوايا وإلى الله الذي سيحكم بين الناس. وعن الخلاف المتداول المشتعل في أروقتنا بين علي وعمر، كان والدي يفضل الإمام علي بلا شك، إذا ماقورن بغيره من الصحابة، وفيما عدا ذلك كان ينظر إلى عمر وأبي بكر باحترام. وقد شغلني موقفه فيما بعد، وما إذا كان اعتداله غير المتوقع موروثاً عن أبيه السيد سلمان فقيه الكرادة وإمامها، فاكتشفت أن عاملاً آخر هو الذي أثر فيه، فقد كان صديقاً حميماً للقاضي مصلح الدين الدراجي، عضو المحكمة الكبرى في الحلة، وهو من أهل السنّة وقد يكون هذا الصديق الذي كان والدي يجله ويسرف في الحديث عن عدالته وعلمه هو الذي أوجد هذا الانعطاف فيه. كان العام يمضي فأقترب خطوة إلى موقع متقدم في رحلتي إلى ابن حنتمة، فإذ دخل عامل مهم بعد تحولات هادي العلوي، كانت مفاجأتي كبيرة فيما سمعت من والدي، ولم اكتشف حتى ذلك الحين تلك العلاقة بين عصا الخيزران بقبضتها الجلدية البنية التي لا تفارق يمنى والدي في المنزل والزقاق والعمل، وبين دِرّة عمر. ظل والدي حتى أيامه الأخيرة يخفق المارة بدرته، إذا مارأى في بعضهم خروجاً على الذوق العام، أو خروجاً على ما هو شرعي. وكان الناس في تلك المحلة(*)، يتقبلون الخفق عن طيب خاطر، وكأنها رحمة!. ولم أكن حينها قد اكتشفت درة عمر، لكن صديقي الجديد في الثانوية الشرقية التي انتقلت إليها فهد السعدون قد عرفني على والده وهو عقيد طيار متقاعد له اهتمامات تاريخية وحماسة قومية، جعلته يكرر القول، بأن العروبة أهم من الإسلام، لكنه يستثني عمر بن الخطاب وينظر إليه بطلاً قومياً وليس خليفة. وكان يعزو نجاحات الإسلام إلى درة عمر، وإذ نمت قدراتي الفكرية وصرت أستقي المعلومات من مصادرها، اكتشفت أن المرحوم عبد الخالق السعدون إنما كان يشير إلى ما نقله ابن الجوزي عن العامة أنها كانت تسخر بحكامها، وتقول (لدِرَّة عمر أهيب من سيوفكم)(*). وفي كلية الآداب انشرحت أمامنا أبواب التاريخ العربي، وحضرتْ مراجع الأحداث إلى صفوف الدرس اللغوي والنحوي في فترة كانت بغداد الملكية والجمهورية الصق ببغداد المأمون، فاستمعنا إلى أستاذنا علي الوردي عالم الاجتماع يكتب لمحات من التاريخ بمنهج شعبي ولغة مفهومة، ونختلس مجلس مصطفى جواد يحدثنا عن درابين بغداد وأيامها العباسية، وعرفنا منهج عمر الاقتصادي من المؤرخ المختص بالنظم الاقتصادية في الإسلام عبد العزيز الدوري وعرفنا عروبته من عروبة ناجي معروف. واستمعنا إليه يحاور الإمام علي على لسان الدكتور الوردي، وهو من عائلة شيعية تسكن حول ضريح الإمام موسى بن جعفر، لكنه يخترق محيطه خارجاً بعمر إلى رحابة إنسانية تتسع له ساخراً من المشعوذين، فيرد على كتابه وعاظ السلاطين ثمانية أدباء وفقهاء، خمسة منهم كانوا من رجال التشيع. وخرجت إلى بلدة فوق جزيرة على الفرات مدرسا في ثانوية حديثة، فصرت أحدثهم عن عمر، وهي مدينة لم تلتق بشيعي قبلي على ما أظن، لأن بعضهم كان يسأل عن الشيعة وكأنهم من أهل الأمازون. وعند أهل حديثة تأكدت أن كتابات على الوردي تعيش في هذه المدينة النائمة على حضن الفرات، ويعيش عمر وعلي مثلما كان صالح الحديثي وكاتب السطور، فشغفت بعمر الذي تشرف ابني الثاني بحمل اسمه، وكان هادي العلوي يهديه النسخة الأولى من أي كتاب يصدر له ويلقبه بعمر الثالث. وعند عمر ألتقي بشقيقي الذي طالت خلافاتنا منذ الطفولة حتى الكهولة، وكان مما يجمعنا في رأي واحد، انتهاؤنا من قراءة طه حسين، أو علي الوردي، وهما من المعجبين بالإمامين علي وعمر، ونحن هادي وأنا من المعجبين بهذين الباحثين الكبيرين. وقبل وفاته بثلاث سنوات أسررت هادي بأني بدأت بوضع دراسة عنوانها (الفتوح السفيانية) حيث يجلس العليان أو العمران على صفحات البحث متقابلين باعتبارهما من ممثلي الخط المحمدي الأول، فبارك لي مشروعي هذا ولم أشأ طبعه ونشره لما يثيره عليَّ من صخب واحتجاج قد لا أكون قادراً على صده، فرأيت أن أتوسع بما يتصل منه بعمر وأمامي مشاهد يوم القيامة في العراق المحروق. ويدفعني إلى تدوين كتاب فيه وازع من حب الأمة واحترام التاريخ وتجميع الناس من بني قومي عرب الشيعة في مراكز الكتل الكبرى والانسجام معها كي لا يكونوا أقلية ملومة وصوتاً غير مسموع. إن الموقف من الصحابة ومن عمر بالذات تتوقف عليه في عصر ثورة الاتصالات أمور لم تكن محسوبة قبل هذه الثورة، وسنواجه بتجريح الصحابة إشكالات اجتماعية حادة في مناخ يسمح بنشر أحكام التكفير والترويج لها في الفضائيات. يدفعني إلى كتاب عن عمر حاجة الأمة إلى "حاد يحدوها لا يتعالى عليها ولا يجلدها وفي الوقت نفسه لا يتملقها أو ينافق حادٍ يحب قومه و"قبيلته"، ويريد لهم الخير والتقدم، لكنه لا يكره الغير ولا يحتقرهم "(*). وإني لأرجو الله أن أكون في صف هذا الحادي الذي ينكر على بعضهم هجاء الأمة وتاريخها ولغتها وعقيدتها، ولا يرى في الأمة خيراً لا في قديمها ولا في حاضرها. يدفعني إلى عمر حاجة الأمة إلى شيء من بعض عمر.
البــاب الأول
l كونية عمـر
l البرية .. والدولة .. والرعية
فـي وضـح البـريّة دِرّة الإبـل وقـانون الســماء
جاذبية المعروض التاريخي بين منثور العناوين وتشابك الأفكار، وانفلات السيطرة على حركة الوجدان وفي لحظة الانسجام مع جاذبية المعروض التاريخي في شخصية عمر وسياسته، تترابط برية النشوء ونشوء الدولة بنشوء الضمان القانوني للبشرية الإسلامية، محكومة بمصير إيديولوجي وروحي واحد، يتصل في نهايته العليا بالإرادة الإلهية وفي نهايته الأرضية بالذراع المحمدية، وتحت ظلالهما وبوحيٍّ منهما تفسح النشأة البرية لعمر أن يسوح بنفس تتطلع إلى حرية الخلق المطلق، وتشكل الدولة الجديدة منّظماً قانونياً لجموح البرية في نفسه، فيتحقق قدر من التوازن في شخصيته وسلوكه بين الحرية والقانون، وبالمجانسة بينهما يتحقق الاستجمام للمخلوق البشري في هدفه السامي. نظن أن هذا المزيج أنجز عصراً عربياً، هو زيت العصور الإسلامية. وفي الطريق إلى هذه الكونية يتدفق ذهن عمر وتُعتصر أذهان الصحابة لانتاج علاقات نموذجية بين السلطة والناس، وقبل ذلك بين السلطة وذاتها. وكان الإمام علي الشريك الأول، وليس المستشار الأول، في صياغة مشروع الدولة الناهضة وإدارتها، فيما منعت سياسة عمر، القائمة على التمثيل الموسّع للمجتمع الإسلامي الأول وتوزيع دقيق وذكي للمواقع الأساسية بما يشبه حكومات الوحدة الوطنية والجبهة الوطنية في أيامنا هذه، حصول توترات داخلية كالتي حصلت بعد رحيله المبكر، وقد ساعد على تجاوز ما لم يظهر من الإشكالات حق الاجتهاد في تدبير شؤون دولة ناشئة لم تقم على سابقة من النظم القديمة. وبانفتاح ثقافي على تجارب الشعوب، لم يجد رئيس الدولة الجديدة ما يمنعه من استعارة تجارب الأمم وتطويعها لصالح الإدارة الجديدة. المكون البري السماء فوقه ناعمة ممتدة إلى نهاية القدرة على النظر، والأرض تحته ناعمة منبسطة ممتدة إلى نهاية القدرة على البصر. فإذا أخذته الرمال، وقد ضاعت الصوى شد حركة قدميه بمواقع النجوم، وأعاده السرى إلى ماء لبني عدي فيرتوي، ويرتوي القطيع الصغير الذي عهد الخطاب إلى صغيره رعيه ورعايته. والأرض لا تستغني في مرابع الجزيرة عن السماء، وإلاّ ضاع القطيع، وانقطع السبيل ودخل الناس في التيه!. أظنها ذاتها عناصر الجدلية في فكرة الوجود الإلهي عند العرب، الذي يهدي التائهين بضوء النجوم قبل أن يغمرهم نور الله. فمن الصعوبة إذن، تنكر العربي في باديته للسماء، وصدوده عنها، فهل توصلنا إلى قاعدة لسنا حذرين في الإعلان عنها، وتقضي بصعوبة انتشار الإلحاد في الجزيرة العربية؟. وإن كان ذلك لا ينسينا برية الإنسان في الجزيرة وفهمه للمطلق، وحصره المطلق بالحرية والحركة والانتقال. والانطلاق بالقليل من الضوابط والأقل من القواعد القانونية العليا، فهو يؤمن بفكرة الله وينتفع بها، ولا يؤمن بما يترتب عليها من ضوابط في مجتمع غير ممتثل إلا لحاجاته القبلية والمعيشية. وعمر بن الخطاب من هذه البيئة، وعليها ربا ونما، وربت سريرته ونما وعيه، فوق برية ليس فيها حواجز وتضاريس، فنشأ مخلوقاً سهل النفس، منبسط السريرة، بعيد النظر. ولم تكن الحياة خاضعة لسلطان يتزلف إليه. ولا ذهبت به طبيعة العيش إلى المداورة والمداجاة. فانكشفت سايكولوجيته عن وحدة لا ازدواج فيها، مشرقة واضحة. وليس عنده لأحد حاجة. ومعه ضرع المعزى، وظهر الدابة، وشكيمة النفس فوق شكيمة المقادير. لقد تعاشق عمر والبرية، بما لم يتوفر مثاله لرجال سينتمي لاحقاً إلى محيطهم. فهو لا يشبه أبا بكر الذي تشايخ صبياً فثقلت حركة يديه ورجليه. وليس له مثله عشرةً سابقة مع محمد بن عبد الله بن عبد المطلب المهموم بمصير البشر قبل اتصال الوحي وبعده. ولم يكن كعثمان ابن المدينة وسليل الإمارة، المجرب العارف بحياة الشعوب وأنظمة الدول في تجارته مابين الجزيرة والحبشة وبلاد الشام. ولا كان عمر كعلي بن أبي طالب، وارث النبالة الهاشمية في بيت قضت الإرادة الإلهية أن يقام فيه بيت النبوة. كان عمر في حي متواضع من أحياء قريش، ليس له تاريخ من الحروب، ولا أساطير يرددها الشعراء، ولا أطلال يمر عليها أصحاب المعلقات. لكنه خرج إلى ما وراء الخيمة بعيداً في عمق الحياة، وإلى ما وراء الديار المحصنة قريباً إلى الأسواق كاسباً لا تاجراً، خابراً نوايا الناس، عاركاً دروبهم، فارتبطت برية الطفولة في ضنك العيش. عاش عمر بريته الجاهلية على فرس اجرد، وترك للطبيعة الحرة أن تطبع اتجاهاته نحو الحرية في مفهومها الجاهلي المطلق، قبل أن يتداركها في إطارها الإسلامي المنظم. والبرية تنتج إنساناً طبيعياً، خلواً من شائبة المداراة صفواً من كدر النفاق. ولم يكن يوم إسلامه آخر عهد له مع البرية. وسلوكه مع أخته وزوجها كان برياً خالصاً في لحظة إسلامه. فصرع ابن أخيه سعيد كما لو كان في حلبة عكاظ. وأدمى وجه أخته كما اعتاد في بريته. ثم عاد إلى صفاء النفس. وعادت رجولته البرية في هاتف من الضمير. واستمر الرجل بعد إسلامه على برية واضحة في سلامة القصد وسهولة الحياة، ومزاجية شفيفة لا تثقل على الآخر وقع كلامه. وكانت من آثار البرية عليه معترضاته الشهيرة التي في أعلى مراحلها موقفه من نص في صلح الحديبية. وكان عمر بري الحياة، وهو رئيس أكبر دولة في الشرق القديم، في هزئه بالترف، وافتراشه الأرض، وزهد عيشه، وبساطة لباسه. وفي مهابة التباسط بعض منعكسات حياته البرية الأولى. ولا أجد تفسيراً لعلاقة عمر بالبّرية دون غيره من الخلفاء سوى الدرة من صلة مع بريته الأولى يوم كان مسؤولاً عن رعي إبل وأغنام، وقد تحول إلى مسؤول عن رعية، محتفظاً بدور الراعي وهو يردد: لو أن جدياً مات بطفّ الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر. وقيل في الرواية صيغة: لو أن عناقاً "أنثى المعزى" أخذت لأخذ بها عمر. ويلاحق بعيراً ندّ "أي هرب" من إبل الصدقة وهو على قتب يعدو، ويسأله الإمام علي ولمّا عرف سره، قال لقد اذللت الخلفاء من بعدك. وكان متيسراً لعمر أن يكلف أحداً غيره بالبحث عن ذلك البعير، لكنها مسؤولية الراعي وحده، وحيداً في البرية، وكأن الحياة لم تتغير، ولم يكن عمر ساعتها أميراً يحكم أعظم دولة ناشئة في الشرق. فلعل في قولنا هذا ماتلين له قلوب بعض الكتاب في العلمانية ومن أهل القطيعة، المتسائلين باستهجان: عن سبب ملاحقة عمر بنفسه لكثير من القضايا الصغيرة، وتحت سلطته ملايين الاتباع. وعدّوا ذلك من الغلو والمبالغة في تعظيم عمر. وفي ظننا أن الأستاذ عباس محمود العقاد لم يرسم شخصية عمر بدقة في منهج استقراه واستقاه من حياة الجندية. إن عمر ليس نتاج مكوّن وحيد، وإذا كانت البرية من بعض صغرى مكوناته. فلم تكن جندية العقاد ذات صلة بتلك الشخصية. إن البرية، ولا بأس أن يحدد مصطلحها العلمي الحديث، أي الطبيعة، تعطي إحساساً فطرياًً بالولادة الحرة لإرادة الكائن البشري محضونها الأكرم المتجول في جغرافيا اللامحدود، وتحت سيادة شبه مطلقة لمطلق الحرية، على حساب القانون الذي يتنحى في البرية إلى المراتب الدنيا، أعرافاً وتقاليد، لا تؤسس قواعد قانونية عامة. وما هو قانوني في العرف القبلي قد لا يكون كذلك في مفهوم دستوري واسع، والطبيعة سعة إلى ما وراء الممكن للحرية، وضيق إلى حد قطع النفس في المساحات المخصصة للقانون. وفيما يقترب من الحاجة المادية في التطور البشري لقانون ينظم الحياة وعلاقات الإنسان مع بعضهم ومع الكائنات العليا، كان ظهور الإسلام في الجزيرة العربية استجابة متوقعة لتحقيق التوازن بين الحرية والقانون. إن شخصية الصحابي إلى ما بعد عصر الصحابة بقليل يتعاون على تشكيلها وصياغتها عنصرا الطبيعة والإسلام، أي الحرية والقانون وإذا كان البشر مختلفين في الاستعداد الذهني والنفسي للانجذاب نحو أحد هذين القطبين، فإن النفوس المقدر لها النهوض بأدوار في التأسيس الحضاري ستنزع نحو القانون بجدية قد تثير حفيظة المستقرات الطبيعية في المجتمعات البرية. إن عمر بن الخطاب شاخص مادي وروحي لاجتماع الحرية والقانون. ولكون القانون طارفاً أو ناشئاً في تلك المجتمعات، ولميل عمر نحو إلزامية القانون، كانت ولايته صعبة وثقيلة على قطاع من المتمرسين على الحياة بالقليل من القانون. وكان القانون في شخصيته يتكلم بأطراف الدرّة في قضايا المخالفات العابرة والصغيرة ويأخذ مداه في مؤسسة القضاء، التي كتبت المقادير أن تنتعش بمستخرجات هذا البري النادر. إن درة عمر، وسيأتي حديث عنها، تشبه الإشارات الضوئية في أيامنا في تنبيه المارة إلى حق الحركة والتوقف، فكانت بداية بسيطة لعصر سيدخل المجتمع العربي فيه إلى عالم القضاء الإسلامي المتشابك في عروق الاحتمالات والإشكالات ومزدحم الحلول المطروحة في مذاهب الفقه. ودرة عمر الأجلى تعبيراً عن مشترك الذاكرة البرية وقانون المدينة. فتى عكـاظ التقى رجل راعياً،ً فقال له: أشعرت أن ذلك الأعسر أسلم؟. فقال الراعي: إنه الذي كان يصارع في سوق عكاظ. فلما أجابه الرجل أنه هو ذاك. قال الراعي: أما والله ليوسعهم خيراً أو شراً. وسبب شهرته في المصارعة، أن له طريقة خاصة في منازلته الخصم على الحلبة. فيتركه زمناً يحاوره ويحتال لصرعه وهو منه في موقف المدافع لا يبذل من الجهد، ما يبذله خصمه، فإذا شعر أن صاحبه قد هاضه ونال منه الجهد انقض عليه فركب أكتافه وألقاه على الأرض صريعاً، وهو الأسلوب الذي يستخدمه الملاكم العالمي محمد علي كلاي ذاته. فيتوجه عمر وسط ترحيب المراهنين عليه وكثرة منهم من النساء إلى إحدى الخمارات حيث الجميلات يتهنّ دلالاً وعمر يشرب بالكبير وهو الكاسب الرهان، ويشرب غيره بالصغير، وكان له شاربان مفتولان من نهايتهما إلى الأعلى على الطريقة التقليدية للرجل الدرزي. وقد اعتاد عمر أن ينفخ ويفتل شاربه قبل نزول الحلبة، وهو يقول: لست للخطاب إن لم أصرعه لأول مالقاه. كما عرف في مسابقات الخيل، وكانت له شهرة في المصارعة. وكان لسان حاله يقول ماقاله أبو نؤاس بعد أن تاب فصام وصلى.
قامته تربو على مترين يوصف عمر بن الخطاب بانه ضخم جسيم، مديد القامة، تعلو هامته هامات الجمع كلها. فإذا كانت أعلى قامة في المعدل تزيد على المائة والتسعين سنتيمتراً في قياساتنا فإن هامة تعلو هامات الجمع كلها ستربو على المترين إلاّ قليلاً. وسيكون تقدير وزنه، مابين مائة وعشرة كيلوغرامات الى مائة وخمسة وعشرين تقريباً وهذا ظن لانقطع به. يروى أن الناس جمعوا في مكة على صعيد واحد، فإذا رجل قد علاهم جميعاً فكان هو عمر بن الخطاب، وفي رواية لابن سعد في الطبقات أنه علاهم بثلاثة اذرع! وهذا من المبالغة غير المعقولة. يقول محمد حسين هيكل في كتابه الفاروق عمر:" لقد بلغ من إكبار المؤرخين لسيرته أن أضافوا أموراً أدنى إلى المعجزات التي خصّ بها الانبياء، وإن ذكروا ما لا يستطيع المؤرخ اثباته، وعمر في غير حاجة الى شيء من ذلك يضاف الى سيرته، ولو أن المؤرخين الأقدمين لم يضيفوا هذه الخوارق إلى عمر لأغنوا من جاء بعدهم عن بذل الجهد في تمحيصها ولجنّبوهم الاختلاف على مبلغ صحتها. ولما طفف ذلك من قدر عمر. هل وأد ابنته؟ أصحيح أنه وأد ابنته على طريقة بعض قبائل العرب في بعض أماكنهم والمجهول من أزمانهم..؟. لعلها فرية كبرى أراد بها أتباعه ومحبوه أن يبرهنوا على ما أحدثه فيه الإسلام من انعطاف وما كان هو عليه في جاهليته من جهل وقسوة تكون ذروتها أن يدفن الأب ابنته حيّة وكأنها ظاهرة يومية وعرف لا تحيد عنه، فيما يروى أن عمه عمرو بن نفيل كان بسبب إحساسه الإنساني ونبذه لتلك العادة التي فرضت أخبارها علينا يدفع ثمن من يراد وأدها فيتبناها أو أن يترك لأهلها مالاً يعيلون به الموؤدة. فلماذا لم يدفع لابن أخيه جملاً أو جملين ثمناً لشراء ابنته لتبقى حية؟ إذا كان عمر لا يجد في قبيلته من يعيل طفلة؟ كما يقول العقاد. ولماذا لم يئد ابنته حفصة التي ولدت قبل البعثة النبوية، وهل عرف عن بني عدي أنهم يئدون بناتهم، أم أن المعروف والسائد في الروايات أن زعماءهم كانوا على سُنة عمرو بن نَفَيل.؟ عندما أمرُّ على هذه الرواية أتذكر المرحوم حندش ابن عمة والدتي محمد بن محمود وهو دليمي من قرية الكرابلة هذه التي صارت اسماً يتداوله صحافيو العالم لرفضها الوجود الأمريكي، أقول أتذكر حندش بطيبته وفطرته ونقائه يبارك لصديقه الحاج مهدي عودته من أداء فريضة الحج قائلاً بين حشد من أهل الكرادة: سبحان الله سبحان الله، كيف يتغير الإنسان بالحج وماذا يفعل الإيمان، أتذكر يا حاج مهدي قبل ثلاثة شهور كيف كنت تسرق الدجاج من بيت جوري؟؟. إن المؤرخين الذين يتحدثون عن وأد عمر لابنته، لا يختلفون عن رأي حندش بالحجي مهدي. إن التشهير بعمر الجاهلي، لا يخدم عمر الإسلامي، وخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام. أما حياة عمر بأسلوب الحياة الجاهلية، فهو لا ينتقص منه مثلما لا ينتقص من أي صحابي قادم إلى الإسلام من العصر الجاهلي. البرية أم الجندية يقول عباس محمود العقاد في عبقريته: " إن طبيعة الجندي في صفتها المثلى، هي أصدق مفتاح للشخصية العمرية في أهم الخصائص التي تجتمع لطبيعة الجندي في صفتها المثلى، كالشجاعة والحزم والصرامة والخشونة والغيرة على الشرف والنجدة والنخوة والنظام والطاعة وتقدير الواجب والإيمان بالحق وحب الانجاز في حدود التبعات أو المسؤوليات. هذه الخصائص تتجمع في ألوف السنين من تجارب الأمم في تعبئة الجيوش، حتى عرف الناس أخيراً أنها لازمة للجندي في أمثل حالاته، وكل هذه الخصائص عمرية لا شك فيها. وعمر وحده واضح بين أمثاله في جميع هذه الخصائص ". ونقول: إن هذا التشخيص لا يتسق مع ما عرف عن موسوعية العقاد وتنوع أدواته في التحليل العلمي، فيدور بعمر حول فرضية جعلها مفتاحاً لشخصه، وهي لا تشكل في مراتبها العليا سوى سلك دقيق غير مشع في الشخصية العمرية المنسوجة بما يصعب إحصاؤه من خيوط الحرير الناعمة والصوف الخشنة والكتانية المتينة. شخصية مركبة في نسيج مركب ومنشور بألوان البرّية والعقيدة والحياة والمزاج والضرورة والطموح والاستجابة والتحدي والتطبيقات المفتوحة للنصوص وإبداع ما اعتبر في ما بعد نصوصاً سارت عليها الأمم والشعوب الإسلامية، مما لا يصح اختزاله بوضع الإبهام والخنصر على رأس خيط منها ليكون ذلك مفتاحاً لشخصية عمر. والعقاد شاعر كبير وناقد لا غيره يفهم شخصية الشاعر. لكنه ابن مدينة القاهرة لم يخرج إلى البرية ليرى عمر هناك يرعى إبلاً للخطاب، وينشأ على يومياتها وخلائقها. وأعجب منه أنه لم يكتشف في عمر شخصية الشاعر، ليس بمعناها السائب، بل بإحساسه وقدرته على الالتقاط ورهافته. شاعر له عشق الحرية والعدل والناس. فأي جندي هذا الذي يشبه عمر وإن كان المقصود من جندية العقاد الفروسية بمعناها الواسع؟. * - أخبرني الدكتور عبد الساتر الرفاعي الذي أشرف على فحص ومعالجة هادي العلوي في مشفى الشامي بدمشق أن آخر كلمة نطق بها قبل دخوله في الغيبوبة التي انتهت بوفاته يوم 27/9/1998 أن المستقبل للحضارة الإسلامية وليس للغرب. * - الزوية: محلة ملاصقة لما يسمى الآن بالجادرية، وهي تقع على ضفة دجلة اليسرى مقابل مبنى القصر الجمهوري، حيث يجلس الجسر المعلق على كتفها حالياً، وكانت تسمى زاوية السيد خلف جدي لأبي، ثم حذف المضاف إليه بمرور الزمن، كما هي العادة عند العرب وفي هذا الحي كان السيد خلف يستقبل الفقيه الشاعر المجاهد محمد سعيد الحبوبي في بعض أيام الصيف وقد أعطت هذه المحلة ما يقرب من ثلاثمائة رجل وامرأة في عهد الرئيس صدام حسين. * - الدِرة: بكسر الدال وتضعيف الراء عصا تسمى عندنا في العراق شطبة كانت تستخدم لخفق البقرة برفق على ضروعها لاستدرارها فسميت بالدرة على ما نعتقد وهي نفسها التي يستخدمها الآن فرسان الخيول في السباقات. * - العبارة بين الهلالين وردت في رسالة إلى المؤلف بعثها الدكتور نعمان السامرائي زعيم الحزب الإسلامي عند تأسيسه عام 1960 والداعية الإسلامي والمفكر الكبير نزيل الرياض حالياً والمؤرخة في 30/1/ 2006 |