المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
01/09/2007 06:00 AM GMT
في حوار أجرته معه جريدة (الحياة) قال الشاعر (محمود درويش) في سياق احد اجوبته: (مسوداتي الشعرية أتلفها لئلا ينفضح سري). وهذه المقولة على الرغم مما ترتديه من صراحة كبيرة تندرج ضمن الثقافة الايجابية الصحية التي نتمنى سيادتها.. إلاّ انها، وهنا يكمن جوهر المسألة، تكشف كذلك عن سلبية غير مبررة من الطبيعي ان تستدرج توقفا منقبا ومتأملا يستدرج بدوره تساؤلا مستغربا مفتوحا على مصراعيه يهدف الى نضو الثياب عن جسد الدوافع الاساسية الخفية التي أدت الى انبجاس تلك المقولة. فما هو ذلك (العيب) القصي والهادر الذي يدفع شاعرا كبيرا ومهما مثل محمود درويش الى الاحساس بخجل يحمله على اتلاف التشكلات الحميمة لتضاريس قصائده؟!. من النبض الغريب جدا لقلب شاعر محترف مخلص لذاته الشعرية ومنسجم مع (عادته السرية) الكتابية بكل مناخاتها.. ان يعتنق الخشية من نظرة الاخر التقليدي ليجاري بذلك نواميس هذا (الاخر) الثابتة والجاهزة والبعيدة عن الجمرات المعبودة والمعذّبة لمواقد الكتابة. وبما أن الكلام يدور حول (التقليدي) المتكاثر دائما لذلك فإن الامر يتطلب فتح افق شهي للاسترسال.. حيث لابد من الاشارة الى ان الثقافة العربية السائدة كانت وما زالت مكتظة بالكثير من الثوابت المخالفة للمنطق التي لم تستطع كل العواصف النوعية الهائلة الهابّة من خرائط المعرفة أن تزحزحها من مكانها العنيد. احدى هذه الثوابت هي الاعتقاد - وهو اعتقاد ما زال يتبناه الكثير من الناس - بأن الشعر عبارة عن هطول مفاجئ وسريع من غيوم (الالهام) لابد للشاعر أن يمتثل لتدوينه قبل أن يفقده الى الابد او على الاقل الى اجل غير مسمّى.. الى أن تحن عليه (غيوم الالهام) مرة اخرى!!. هذا الاعتقاد المكسو برومانسية وهمية وقصية السذاجة هو الابن الشرعي لخرافة عربية قديمة كبرى نسجتها الاخيلة السائبة لصحراء شاسعة وغير مروّضة، هذه الخرافة اسمها (وادي عبقر (وادي الجن المزعوم الذي كان يحج اليه العديد من شعراء العرب القدامى طمعا منهم للتزود بوقود القصائد عندما ترفع (قرائحهم) الشعرية رايات الجفاف. وبما أن جميع العوامل في وقتها كانت مساعدة في الصحراء العربية (هذا لا يعني ان هذه العوامل قد اختفت الان) لتوسيع دائرة الخرافة.. فقد تمادى بعض (المتخيلين) او كما أحب ان اسميهم بالطابور الخامس للخرافة.. بنسج ملامح جديدة لها.. حيث زعموا بأن لكل شاعر قرينا من الجن يقوم بصياغة الشعر نيابة عنه.. ليهديها بعد ذلك الى الشاعر (المصطفى) من قبله!! حتى انهم ابتكروا اسماء لشخصيات (جنيّة) نسبوا اليها العديد من القصائد التي كتبها شعراء معروفون!!. ان هذه الرؤية التي تتبنى لا معقولية لامتناهية تحتوي في متنها المتهرئ على معنى خطير وظالم ولاغٍ يتلخص في تجريد الشعر من جهده البشري ونسبته الى جهات غيبية تمثلت بالجن تارة وبالالهام المجهول المصدر تارة اخرى. اصحاب هذه الرؤية اللاغية لحرارة الجهد البشري يجهلون تماما مكابدات رحلة الكتابة.. الكتابة التي هي (اقسى مهنة في العالم) على رأي الروائي ارنست همنغواي.. فهم يجهلون مثلا بأنه قبل ان تولد القصيدة.. تكون قد قطعت بوصلاتها تذكرة لرحلة عارمة وعميقة ومرهقة في فضاءات الاحساس والمخيلة وخرائط الاوراق البيضاء المباغتة.
ان لحظة الشروع بتدوين الشكل النهائي للقصيدة والذي يسمونه (الهاما) ما هي بالحقيقة إلاّ ذروة الاستسلام لانسجام نفسي / خيالي / لغوي مهّد له الشاعر كثيرا من خلال احساساته باللغة وبالاشياء.. ومن خلال محاولاته المستمرة لازالة الحجب الكائنة بين ذاته والدقات القصية لقلب الكون. من المنطقي والطبيعي ان يكون هناك تخطيط مسبق اولي معين للقصيدة قبل كتابتها ومن المنطقي ايضا أن تنبثق عند كتابتها آفاق جديدة فيها غير مخطط لها.. فاحيانا قد تبنى القصيدة على ملامح معينة قد لايبقى منها الا القليل وقد تختفي ايضا في الشكل النهائي للقصيدة.. كما قد تكتب احيانا خاتمة القصيدة قبل تشكل بدايتها.. وهذا قد يصدم المتلقي التقليدي (السلفي) الذكر الذي يتصور بأن القصيدة تكتب من اول حرف الى اخر حرف دفعة واحدة وبشكل متسلسل يشبه معادلة رياضية جامدة خاضعة لتدرج متزمت او انها عبارة عن انثيالات لغوية بعيدة عن سلطة الوعي وأحكامه. الشعر هو صناعة هادئة ودقيقة تعتمد على المخيلة واللغة ، صناعة لاحقة للانفعالات الحسية.. وليست مواكبة لها.. لأن مواكبتها لتلك الانفعالات سيعرقل الاخيرة عن مسارها الطبيعي، وهذه الصناعة تتطلب تخطيطا اوليا مسبقا ووعيا كثيفا ومراجعة متأنية مضادة لمنطق الارتجال الذي هو تعبير شامل عن انعدام المسؤولية الدامس امام الكلمة. لاتشكل طريقة الكتابة امرا مهما بقدر أهمية ما تنتجه من نص ابداعي، لذلك فالكاتب حر في سلوك اية طريقة للكتابة بشرط الابداع، غير أن كتابا عديدين ما زالوا يشعرون بضرورة التكتم على اسرار كواكبهم الكتابية.. خوفا على صورهم من الاهتزاز في نظر متلق ما زال مؤمنا بمفاهيم رملية موروثة ما انزل العقل بها من سلطان.
|