رحيل عبدالرحمن عارف ، رجل لم ينصفه شعبه فانصفه ربه |
المقاله تحت باب في السياسة بوفاة الرئيس العراقي الاسبق عبدالرحمن عارف تنطوي صفحة حاكم عراقي ، حكم في مرحلة هامة من تاريخ العراق السياسي لم تأخذ نصيبها من الكتاب والمؤرخين ويمكن ان يكون السبب هو ان الفترة التي تلت حكمه اتسمت بمحاولة حزب البعث العربي الاشتراكي اختزال تاريخ العراق المعاصر بتاريخ الحزب واعتبار ماسبقة ( انظمة فاشلة ومرتبطة بالخارج ) ، رغم ان محاولات جرت في سنوات الثمانينات لكتابة لمحات من تاريخ العراق المعاصر داخل العراق ولكنها ظلت محاولات حذرة تاثرت بالمناخ السياسي القائم . ويعد ماكتبه الشاعر والمفكر العراقي فاضل العزاوي من لمحات في كتابه ( الروح الحية ) جيل الستينات من افضل ماكتب ونشر ( خارج العراق ) عن تلك المرحلة ( نشرته دار المدى عام 1977 ) لسببين اولهما انه شكل نقطة تحول في الوعي السياسي العراقي فالعزاوي كمفكر وكاتب أتى من مدرسة يسارية معروفة لينصف مرحلة اشبعها اليسار التقليدي شتما وذما ولم يرى فيها اية ملامح ايجابية وهنا نسجل له انه خرج من الشرنقة التي تضع السياسي على ( سكة الحزب ) مبكرا ، فكتب بلغة الانصاف عن نظام سياسي عاشه بعكس اولئك الذين انتظروا ان ياتي غورباتشوف ويطيح بمقدسات الفكر الشيوعي ممن كانوا يكيلون المديح للنظام السوفيتي ليتبارون في اظهار اخطائه وخطاياه . وللاسف فأن هناك من كتب عن مرحلة حكم الفريق عارف ممن لم يعيشها .... كتب على السمع والصق بالمرحلة تهما لم نلمسها نحن الذين عشنا تلك المرحلة بكل شجونها وهناك من كتب عنها من على ( سكك الاحزاب ) فركز على اخطائها دون ان يؤشر ايجابياتها ، العزاوي وحده انصفها فاطلق عليها مسمى لم ينتبه له احد فهو اسماها ( نهاية اسطورة الرئيس الاله وانها كانت اخطرتطور في الحياة السياسية ) وللاسف فانها مرحلة لم تدم طويلا . جاء عبدالرحمن عارف الى السلطة كما كان يقول العراقيون البسطاء ( بدل ضائع ) فقد حمله العسكر الى السلطة للوقوف بوجه السياسي العراقي الليبرالي د . عبدالرحمن البزاز الذي ظل يحلم باعادة السلطة للمدنيين حتى وهو يتعرض لابشع انواع الاهانات والتعذيب في قصر النهاية ( وهو مارواه عنه بعض من كان معه في السجن ) ... كان من بقي من عسكر تموز يرون انهم ( الشرعية الثورية ) بمواجهة فكر البزاز المدني و هنا ايضا لا اجد وصفا اكثر دقة من وصف العزاوي لعارف الذي قال عنه ( كان يكره الانتقام وسفك الدماء ) وهي حقيقة تسجل للرجل . اتسمت مرحلة حكم عبدالرحمن عارف باتساع هامش الحريات الصحفية وصدور صحف تركت اثرا في تاريخ الصحافة العراقية ويمكن ان يلاحظ المرء سعة ذلك الهامش في اشارة العزاوي بكتابه انف الذكر الى حادثة تناوله في زاويته بجريدة ( الثورة العربية ) الحكومية للاستشهاد من زاوية فلسفية واشارته للاستشهاد الحقيقي والاستشهاد المزور وكيف نقل الموضوع للرئيس الذي كان يتابع مايكتب عن اخيه باعتباره شهيدا وتصوير العزاوي بانه يقصد الشقيق بمقالته وكيف نقل الامر للرئيس؟ وكيف قابل الرئيس ذلك النقل بان استدعى رئيسا تحرير الجريدتين التي كان يعمل فيهما العزاوي معاذ عبدالرحيم وعبدالعزيز بركات لمناقشتهما في تفاصيل المقال وليس ( لابعاده عن العمل الصحفي ) كما كان يعمل من سبقه في الحكم ومن لحقه ، وهنا اذكر حادثة عشتها شخصيا كنا نعمل يومها في مجلة ( الفكاهة ) التي كان يصدرها الفنان حميد المحل الذي كان معتادا على السفر سنويا الى باريس لزيارة زوجته واولاده هناك وكان يصر حين سفره على ترك رسوم لعدة اغلفة يستخدم في التعليق عليها امثلة شعبية ، كنا ندير المجلة بغيابه كان اكبرنا سنا وتجربة يومها الشاعر الصديق تركي كاظم جودة وكانت المجلة تضمني مع الزملاء ابراهيم محمد علي ورواء الجصاني ووعدالله البستاني ورياض عبداللطيف وعلي حيدر صالح وسالم العزاوي وشكرية العقيدي ونوال يوسف كمال نعد المواد ونضيف لها مقالة الباحث الراحل فؤآد جميل التي تنشر تحت عنوان ( لكل فولكلورية اصل ) وكان حميد المحل يوكل لشقيقه جهاد الادارة والاعلان وصادف ان اصدر عبدالرحن البزاز قرارا بتعديل رواتب الموظفين فدفعنا للمطبعة غلافا كان قد اعده حميد عن المثل الشعبي العراقي ( الركعة صغيرة والشك جبير ) يومها اكتفى وزير الثقافة والارشاد بعتاب تلفوني للمجلة . أن من يراجع اليوم مجلدات جريدة ( النصر ) التي رخصت في حينه لسجاد الغازي وعطا شهاب والتي حررها فعليا مؤيد الراوي وشريف الربيعي وعارف علوان وقيس السامرائي ( ابو ليلى ) (عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية اليوم واحد رموز تنظيم حركة الكادحين العرب يومها ) وجليل العطية او جريدة ( المنار ) التي كان يصدرها عبدالعزيز بركات والتي ضمت فريقا من خيرة الكفاآت المهنية في حينه عبدالله الخياط فاضل العزاوي ومحمد كامل عارف ومنير رزوق ورشيد الرماحي وحسام الصفار وآخرين او جريدة ( صوت العمال ) التي كان يصدرها اتحاد نقابات العمال برآسة هاشم علي محسن او جريدة ( الشعب ) التي اصدرها شاكر علي التكريتي وجريدة ( التاخي ) التي رأس تحريرها صالح اليوسفي يلمس حجم مساحة الحرية التي تمتعت بها الصحافة في ذلك العهد والتي سمحت باعادة تشكيل الرأي العام العراقي واطلاق الطاقات الابداعية في مختلف الانشطة الثقافية ومازلت اذكرالمقالات التي كان يرسلها عزيز الحاج للصحف وتنشر موقعة بقلم ( راء ) الذي كانت السلطة تعرف جيدا انه اختصارا لاسم رمزي الذي عرف به الحاج في حينه ، ومن المفارقات التي اذكرها في تلك المرحلة ان الصحفي والمحامي فوزي عبدالواحد الذي كان محسوبا على بعض العسكريين القوميين في السلطة كتب مرة سلسلة مقالات هاجم فيها الصحف التي اسمها غير شرعية بحجة ان رخصها ثقافية وانها تحولت لسياسية وكان يقصد ( النصر ) والصحف التي صدرت دون موافقات وكان يقصد ( الشعب ) التي صدرت بموجب نص في القانون كان يعطي للمتقدم بطلب الرخصة الصحفية الحق في الاصدار اذا لم يبلغ بالرفض خلال فترة زمنية حددها القانون واستغل شاكر علي عدم ابلاغه بالرفض نتيجة اهمال اداري فاصدر جريدته وفق القانون ( ويلاحظ هنا احترام الدولة لقوانينها في ذلك العهد ) ، وشمل هجوم عبدالواحد الاحزاب السياسية التي كانت تعمل بصورة شبه علنية في اوساط الطلاب والعمال فماكان من جليل العطية الذي كان يحرر زاوية بعنوان ( حكايات جهين ) الا ان كتب ردا على ذلك الهجوم بسطور قليلة تحت عنوان ( برقية جوب ) السيد فوزي عبدالواحد جريدة صوت العرب – الميدان نؤيدكم في هجومكم على الاحزاب والحزبية والصحافة العراقية سيروا قدما ونحن من ورائكم التوقيع نعيم الجواهري صاحب ملهى الحرية كان مقر جريدة ( صوت العرب ) في الميدان وهي منطقة عرفت بانها كانت تضم ( المبغى ) المرخص في العهد الملكي ويقع خلف وزارة الدفاع وكان فوزي عبدالواحد يمارس المحاماة وهو وكيلا لنعيم الجواهري الذي كان يملك كباريه في شارع السعدون خلف سينما النصر اسمه ( ملهى الحرية ) مما جعل فوزي عبدالواحد يستشيط غضبا ولكنه لم يلجأ لعسكرييه لضرب جليل او ابعاده عن الصحافة . اذكر ايضا ان جريدة ( صوت العمال ) تلقت برقية من سجن نقرة السلمان حيث كان يقبع عدد من الشيوعيين تعزي العالم باستشهاد جيفارا وكان موقع البرقية الراحل سليم الفخري فكتب هاشم علي محسن على النص ( المناضل سليم الفخري نزيل سجن نقرة السلمان ) تلك الجريدة التي تميزت بعمود يومي كان يكتبه زهير الدجيلي باسم ( عبود البيدر ) ولايوفر في انتقاداته احدا من اركان السلطة . ان افضل وصف لحقبة حكم الرئيس عبدالرحمن عارف هو ايضا ماكتبه الشاعر والمفكر فاضل العزاوي في كتابه فقد قال : ( صحيح ان بنية النظام كانت دكتاتورية اذ ظلت الهيمنة العسكرية قائمة ولكن روحا جديدة من التسامح والترفع عن الصغائر والضغائن والابتعاد عن الوشايات كانت قد ظهرت في البلاد تلك الروح التي ادت الى تفجير طاقة ابداعية كبيرة في المجال الثقافي ) . رحم الله عبدالرحن عارف الحاكم الذي لم ينصفه شعبه وانصفه ربه فلم يمت ( سحلا ) كنوري السعيد او ( قتلا ) بمحاكمة صورية كعبدالكريم قاسم او اغتيالا ( باسقاط طائرة كشقيقه او ( اعداما ) بالطريقة التي اعدم بها صدام حسين ، مات بين اسرته على سرير في مستشفى وتلك نعمة ميزه بها ربه عن حكام العراق . |