| الجدران |
|
المقاله تحت باب قصة قصيرة أراك تعيشين بين أروقة ذكرياتي، تجوسين شوارع خاطتها قدماي شبراً، شبراً، وارصفة تقافزت خطواتي فوقها وتخطت السنوات، أراك تتنفسين هواء أحداثي يوم كنت أبحث عن شبابي المنتظر عبر طفولة بدأت أحاول تهريبها قسراً دون ان أفكر ان يوماً سيأتي وسأحاول فيه استرجاع بعض ثوان منها فأفشل بكل ألم الأرض . أسمع صوتك يمتزج بأصداء صوتي الذي ما زال عالقاً في فضاء تلك الازقة الباردة. بعض الحروف أكاد أسمعها وهي ملتصقة فوق جدران البيوت الواطئة التي اصطدت فوق طابوقها المزركش فراشات ملونة وهي تعيش وهما جعلها تتخيل تشكيل تلك الألوان أزهاراً متفتحة، فتصطدم بصلابتها، وأضحك منتشية لسقوطها وأقتنص غيبوبتها القصيرة لأصطادها. ولم أكن أدري أن يوماً سيأتي لأبحث أنا أيضا عن ارتطام لم يحصل لساعاتي تلك التي لم أحسب فيها غربة الإنفصال القسري هذا. ألملم هواء المسافات التي أعرفها وأتوسل بها أن تعطيني ذاكرتي التي احتكرتها، بكل ماغلفته الأيام فوقها من نسيان، من أين لي تلك الصباحات البريئة التي كنت استفيق فيها مرغمة، متثائية، متلذذة بدفء أغطيتي التي أغادرها ملولة إلى عالم يومي ينتظرني ويشعرني بالملل والرتابة، وأحس به اليوم كحلم كان متخماً بكل عنفوان وحيوية حياة لم أمسكها جيداً، أجاهد لاستذكار كل الحوارات القديمة التي شاركت فيها مع الاخرين، كل ألم، كل.ضحكة، كل تعب، كل لهفة، كل نامة، كل خوف كل رغبة، كل صوت، كل شهقة، كل لقمة، كل ثوب، كل لمسة، بكل شوق الأرض والسماء، أتلهف لذكرياتي التي أحسدك الآن على أنك تعيشين فيها مالكة مطلقة من دوني. استرجع صخبي المتذبذب بالخوف من إيقاظ الآخرين في قيلولة الظهيرة. فأنتفض من جمودي الذي تسحبينني اليه بتسلطك اللئيم، وأتسلل متلصصة إلى الحديقة كما كنت افعل وقتها، إلا أنني لا أمسك المتعة ذاتها بين جوانحي، لا أشعر بطعم الإنتصار من هروبي غير المكتشف، لا المس لذة هروبي إلى الأزقة الصامتة، وانا احاول أن اجد رفقة تائهة تشبه بحثي، فيما تنامين ملء جفنيك غارقة بالبرودة الهادئة لجدران غرفتي ـ غرفتك التي اصبحت، كيف تجرؤين على الإستحواذ على هوائي وامتلاك مشاعري فوق جدراني، تقتطعين اجزائي وأنت تزيلين بيديك ذكرياتي من طابوقها المتراص على سنوات عمري. أفتح الأبواب وأراك تتربعين فوق وسائدي، تحاولين تغيير شراشفي المزينة بالدمى الراقصة، يسخر صوتك من طفولتي التي تستحوذين على أشيائها. ـ شراشف قبيحة، أشعر انها تراقبني. تحملين أجساد الدمى فوق نسيجي، وتلقين بها بإهمال مقصود خارجاً، خارج سريري الذي أمتلك ـ تمتلكين اليوم. استجمع كل ما تبقى من قوتي واحتمل ضغط عكازي على باطن ذراعي، وأخشى من صوت ارتطامه فوق أرضية نزعت عنها سجادي ـ سجادك الآن الذي أعشق ألوانه وجعلته عارياً يستجدي ألواني، أنحني لألتقط تلك الدمى فوق أغطيتي، تتطلع نحوي، وظل ابتسامتها يبهت فوق أطراف شفتيها، اتخيل أن صوتها يأتيني. ـ لاتنحني أكثر ـ ستسقطين. أشعر بالرغبة في البكاء وانا أشعر بها تحاول أن تساعدني انها تتكور عالياً لأصل إليها، تلملم أطرافها وتتكور أكثر فأكثر، فيما أحاول التوازن قبل أن أسقط فوق رائحتها ـ التي ارتشفتها قبل أن أشمها، نسقط معاً انا بين رائحة شبابي وهي بين أشلاء شللي، ويضج صوتك ضاحكاً ورائي بكل صلف. إحملي عتق ماضيك وغادريني. ألملم نفسي واتأبط شراشفي، آخر ما تبقى لي من ذكريات لم تسحقيها، امتلئ بصوت شبابي بين خيوطها يوم ركضت فرحة وأنا أحادثها، ويخيل اليّ انها تصغي، وتعيد ترتيب كلماتي. كنت اعلمها كل يوم كلمة وكانت لا تنطقها حقاً بقدر ما تزيد من إغراقي بدفء تلك الكلمات التي اسمعها إياها يومياً. تحملين أيامي وتمضين بها إلى سلة مهملات لا أعرفها ـ تطردينني من سنواتي وتحتلين أيامي. امرأة خلقت من قسوة الارض جاءت لتسكن بيتي وتتسلط على حياتي وتغتال شيخوختي، امرأة من حرمان حملتها بين أرصفة مهجورة، لا جذور، بلا آباء، بلا أمهات.وتخيلت أنني أسقيها لتورق حباً وحناناً وأسعد بقربها في وحدتي، لكنها مزقت وجودي ونشرته فوق جدران بيتي ـ بيتها وهي تحاول تقريب موتي فيما احاول اقتناص بعض ما نسيته من وجودي ولم تلوثه بعد ببصماتها وأنفاسها المعطرة برائحة كنت يوما ما أحبها، ويعرفني الآخرون من شذاها، حتى إذا حملتها عني ضاعت رائحتي ورائحتها. تتحشرج الحروف في شفتي وانا ألوذ بجدراني هربا من يديها القادمتين نحوي. واسمع صوتها يفح قريبا مني: ـ أكره جدرانك، أصواتها ترعبني، ليتها تنهار عليك. وازداد حبا بتلك الحواجز التي تفصلني عنها، امتنان يغرقني نحوها، أعرف أنها ستحاول أن تساعدني، أن تثأر لي، وبنثار لايسقط إلا فوق رأسها، ازحف باتجاه حديقتي الصامتة وارتجف بحثا عن فراشات تظلل رأسي الملتهب بالظهيرة الخانقة ـ أتطلع إلى بيتي ـ بيتها وأخفي وجهي بشرشف بال متهرئ إلا من دمى تقاوم السقوط حولي. يحملني شذى أزهاري إلى رائحة عطري، ويصل إليّ من بعيد من بيتي صوت يتضخم كل قليل ـ تصطفق الأبواب بغضب أعرفه، فيما تتقارب جدراني ـ جدرانها عليها ـ تنتفض ذكرياتي فوق الطابوق الذي لم تستطع ان تمحو حروفه أبدا. تنطبق سقوفي ـ سقوفها وتتناثر سلال مهملاتها ـ يحمل الغبار صوتها الصارخ بعيدا عني ـ فيما يمتلئ الفضاء حولي بضحكات الدمى وهي تتراقص حولي ـ انهض بسهولة رائعة فوق عكازي ـ خطواتي تقودني إلى (بيتي) وأشارك الدمى ضحكاتها، وأنا أرى كل جدراني تحتفي بذاكرتي وسنواتي وصدى صوتي القادم عبر مسافات مترعة بصفاء عجيب. |