المقاله تحت باب رواية في
01/02/2007 06:00 AM GMT
قضيت النهار نائما في الملجأ. لم اتناول الغداء مع الجنود، ولم اهتم للقصف المدفعي ، أو اصوات القنابل المتساقطة هنا أو هناك. في المساء أفقت على دوي عاصف، راعد. اشتد الرمي المدفعي، وجاءت ساعة الإنذار المسائي. حين هبط الظلام، تراءى لي القمر يبزغ من خلف الأسلاك الشائكة، وحقول القصب ، والحلفاء، والبردي. كل شيء تراءى كما لو انه حلم خاطف وكثيف . تذكرتها بقوة وحنان، عصف بي شوق ، استبدت بروحي مشاعر حارة. بعد العشاء كان علي ان أتهيأ للنزول الى الأرض الحرام كأحد أفراد الكمين الليلي، مع هبوط أول خيوط العتمة على الحقول الخضر. كان على كل واحد منا ان يفحص سلاحه، و يتعرف على عتاده، وعلى زمرته، وعلى خط المسير الذي سيكون بين حقول الألغام والمستنقعات. كان الدرب ضيقا، ونحيلا، بحيث كان في وسعنا رؤية الألغام بأنواعها ممتدة على طول الدرب.جفل طائر لوقع أقدامنا الخفيف، وخفقت أجنحة في الهواء. اندلعت صليات من بندقية مقابلة، وكان الرصاص قد مر تماما بيننا. بعد مسيرة حذرة، جلسنا في حفر معدة لهذا الغرض. قال آمر الكمين ان علينا ان نظل هنا، كالعادة، حتى الفجر. توزعنا على جانبي السدة. كل مجموعة ثلاثة جنود، على جانبي الطريق الذي هو سدة ترابية قديمة وشارع متروك( بصرة ـ الفاو) حفرته القنابل والألغمام. جلست في الحفرة. كانت دافئة. الرصاص من الجانبين يعبر فوقنا. في الليل كانت المدافع الثقيلة تواصل الرمي المتبادل. كان يمكن رؤية اللهب الحاد المتولد من الإنفجار. كان يمكن رؤية اللهب قبل سماع صوت الرمي، لأن الضوء أسرع من الصوت، هذا يعرفه جنود الخطوط الأمامية جيدا. على السدة الترابية، في أعماق الليل، ظهرت القنافذ والجرذان على ضوء القمر. ضحك الجندي الذي يقاسمني الحفرة وهو يراقب قنفذا يتنقل من مكان الى آخر، وهمس:ـ لا نمتلك حتى حرية قنفذ. ضحكت، سألته:ـ هل وقعت أحداث مهمة في الإسبوع الماضي؟ ـ قتل بعض جنودنا من جراء القصف. لا شيء غير ذلك. هل كنت في الإجازة؟ ـ نعم. ظهر قنفذ آخر على ضوء القمر. استطعت رؤية بعض ألغامنا على نور أحد المشاعل الليلية، أومصابيح التنوير الصناعية التي تطلق من بنادق أو مسدسات أو باليد. ظهرت حشرات صغيرة، واعشاب، وأسلاك رفيعة منصوبة كشراك، ومنظومة الأسلاك الشائكة، وكتل الأسياخ الحديدية المعرقلة، والغام الدبابات. مع تقدم الليل، شعرت برغبة عارمة في النوم. سألته:ـ هل أستطيع النوم قليلا ؟ ـ تستطيع. كنا نمارس هذه العادة، خلاف الأوامر ، حين نخرج الى الكمائن الليلية، لأن الجلوس الطويل في حفرة دافئة، والتعب، والترقب، يؤدي الى النعاس أو النوم. كنا نتبادل الحراسة والليل والنوم. نمت، سريعا. حلمت بفندق سيوان: تراءت الغرفة لي ساطعة، مشعة، واضحة، كقاعة مرايا. كانت جالسة امام سجادة الحائط. ظهرت الجياد هذه المرة منهكة، وغاضبة.كان المطر يهطل عبر النافذة. في الحمام كان كل شيء على مايرام. لكن الفندق تراءي كما لو انه محاط بالأسلاك الشائكة. في ممرات الفندق جنود يطرقون الأبواب على النزلاء بحثا عن شيء أو شخص. طرق أحد ما الباب وهرب. فتحت الباب فرأيت آزادا مقتولا في الممرر. صور شبحية على حيطان الممر. في الحافلة صعد شخص ملثم وأطلق علينا النار من رشاشة أتوماتيكة. تمكنت من ان أصرخ رغم الرصاص. شعرت بأحد يوقظني بهزي من كتفي بقوة: ـ ارجوك لا تصرخ. قلت بعد أن أفقت:ـ كابوس. همس، ضاحكا: ـ كل هذا لا يكفي؟ حتى في النوم؟ ـ نعم لا يكفي. من اين انت؟ ـ العمارة.وصلت هذه الوحدة قبل اسبوع من مركز التجنيد. وانت؟ ـ الصويرة. وسأل :ـ هل ستنتهي هذه الحرب؟ ـ لا أدري. لا أدري أبدا. ـ يبدو انها ستستمر الى ما لانهاية. ـ ربما. ظهرت جرذان كثيرة قربنا. قال:ـ هل أستطيع النوم قليلا؟ ـ تستطيع. دخل القمر في غمامة، ثم خرج . كان من الواضح انها ستمطر بعد لحظات. كانت نسائم باردة قد بدأت تهب علينا من جهة شط العرب . كانت قوات كثيرة مختبئة تحت الأشجار على طول الشط. أخذ المطر يهطل. كان الضباب كثيفا. مع المطر والريح الباردة شممت رائحة أخرى عفنة. ربما لقتلى معارك سابقة في المياه الموحلة أو طحالب متعفنة. رأيت ان الماء قد بدأ يدخل الحفرة التي لا بديل عنها. كان آمر الكمين يزورنا بين وقت وآخر . كان عريفا مجندا ، وكان متذمرا، وعصبيا:ـ كل شيء الا النوم. ارجوكم. لا من اجل احد ، بل من أجل أرواحنا. هل من نهاية لهذه الورطة؟ ـ لا بد ان تكون هناك نهاية. وسألني:ـ هل صاحبك ميت؟ ـ لا. انه متعب. ـ اعرف. لكنه لا يتحرك؟. كيف حال الناس في المدن؟ قلت، بلا روح: ـ كل شيء حسن. كنا نتحدث همسا. قال: ـ هل تبللت الحفرة؟ ـ نعم. ـ هذا يحدث دائما. أنت جندي قديم ؟ ـ نعم. منذ اول رصاصة في هذه الحرب. ـ أستطيع ان افهم. يجب ان نكون حذرين من التسل. لم أعلق. قال: ـ اتصل بي الضابط قبل لحظات وقال لي انهم يشكون بوجود دورية معادية في الأرض الحرام. ـ هم يقولون ذلك دائما. وجلس ، متبرما، وهو يقول: ـ هذا صحيح. انهم يقولون ذلك لكي لا ننام. لكي تنام خنازير الخطوط الخلفية. لماذا لا تعمل في الخطوط الخلفية؟ ـ لم يسألني احد. ـ هل تعرف كيف تطبخ؟ ـ لا. ـ تتجسس على الجنود؟ ـ لا. ـ تكون قوادا للآمر أو الضابط؟ ـ ولا هذه. ـ اذن ستدفن معنا يوما في هذا الوحل. ـ أعرف. قال ، بهمس: ـ هل جلبت معك اي نوع من الخمور؟ ـ لا. ـ كان يجب ان تفعل. ـ في المرة القادمة. قال:ـ حين انزل الى الأهل ساجلب معي عدة زجاجات من العرق. ـ يجب ان تحترس. ـ هل تعتقد ان خنازير الخطوط الخلفية لا يشربون. قال الجندي النائم، هامسا:ـ كلهم يشربون. قال آمر الكمين:ـ وينكحون الجنود الجدد. قال الجندي الاخر:ـ خفضوا اصواتكم قبل ان نعدم. تواصل هطول المطر. قلت لآمر الكمين:ـ متى ننسحب ؟ ـ أول خيط للفجر. الخامسة تقريبا. ارتفع ضباب كثيف سبحت فيه الأشجار، والحقول، والسواتر، وهدأت الأسلحة الخفيفة. جاءت اللحظة التي يتعب فيها الجنود من الطرفين . اللحظة التي يحلم فيها كل جندي في الفراش ، والوسادة، والنوم، وليس مهما النصر أو الهزيمة. ان هذه الإمور لا يفكر فيها عادة جنود الخطوط الأمامية. انها أفكار المقرات، والقيادات العليا، وكل خنازير الخطوط الخلفية. بزغ الفجر عبر الأسلاك، والأسياخ، والألغام، والبردي. فجر لم يكن في أي يوم آخر غير ذاك الفجر الرصاصي، المحمر، والشاحب قليلا. انه فجر الخطوط الأمامية. فجر الأحلام المحرمة، والرغبات المؤجلة، والتي لا تنفذ الا في السر والإهمال، كأزهار الخنادق القديمة، المتروكة، والمحطمة. ليس ثمة ديك يصيح في هذا الفجر. وحدها المدفعية، والضباب، والبرد، وعيون الجنود المحمرة كعيون الثيران ، ولا شيء آخر. خلف هذه الخطوط ، كل شيء قابل للنسيان، بما في ذلك الجنود. كنا ننحدر عائدين عبر الدرب الضيق، قبل ان تكون الرؤية واضحة. كانت صليات الرصاص تتباعد. والضباب يكسو الأشجار، والخنادق، ومواقع الرمي عبر الساتر، ويغطي الشاحنة التي تدور على الملاجيء بالطعام. أسوأ ما في هذه الشاحنة هو هدير المحرك المسموع في الفجر. علينا ان نسرع قبل ان يبدأ القصف المدفعي. من الظلم الفادح ان تموت في هذا الفجر من أجل صحن حساء مليء بالغبار. كان الجنود يتصايحون في الضباب ، عبر مزاغل الرمي في الخنادق:ـ قل لهذا ابن الكلب ان يجلب الشوربة قبل القصف. حين بدأ قناص بالرمي على الأصوات والحركة والضجة، سمعت أحدهم يصرخ: ـ هذا القناص أخ القحبة.. سمع الضجة. صاح آخر:ـ هل انتم في اسطبل؟ هذا الكلام يتكرر في خطوط النار، حتى صار مالوفا ، وعاديا. مرة صرخ احد الضباط في الفجر، حين وجد الجميع نائمين في نقاط الحراسة:ـ لماذا تنامون ، يا أولاد الكلاب؟، فرد عليه جندي ايراني من أقرب نقطة تماس: ـ كل هذا العذاب وتشتمهم ياحقير؟ في الحرب لا يتحطم الجسد والاشياء بل اللغة. نمت نوما عميقا على دوي مدفعية الصباح بعد ان تناولت الإفطار المكون من حساء ساخن او شوربة هواء كما يسميها الجنود، لكنه بدا لذيذا في التعب، والجوع، والسهر. لم أستيقظ الا عند الغروب على دوي مدفعية العشاء. بعدها توزعنا على نقاط الحراسة في الخط الأمامي بعد ان نزل كمين آخر الى الأرض الحرام. معي في الحراسة أحد الجنود . قال انه يحمل سبع ارواح. وسألني: ـ هل شاركت في معارك كبيرة؟ ـ نعم. ـ هل قتلت احدا ما؟ ـ لم اقتل مباشرة. ولكن من يدري . سأل:ـ هل تستطيع ان تغلق فتحة الرمي لحظة لكي ادخن سيجارة؟ اضاف : ـ ابن الزنا القناص قتل كثيرين من أجل سيجارة. هل جربت القتال في الجبال؟ ـ نعم. اسوأ . ـ كيف؟ ـ صعوبة وصول الأرزاق في الشتاء، الثلج، الظلام. هناك تشعر بانك تقاتل وحدك. هذا ليس كل شيء طبعا. قد يكون افضل من ناحية الموانع والمخابيء. سأل : هل صحيح ما يشاع عن معاشرة الجنود للبغال؟ ـ سمعت بذلك. قال: أمر طبيعي في الحرب الطويلة. هل أنت متزوج ؟ قلت: نعم. ـ أنا ايضا. هل كنت في جبهة شرق البصرة ؟ ـ نعم. وفي معارك الطاهري ـ جسر حالوب، وقبلها سوسنكرد، وتلال الله واكبر، وسربيل زهاب، ومهران، وكنت في قوة هجوم مقابل خلال معارك خرمشهر/ المحمرة. قال هامسا: ـ أرجو ان تتكلم بهدوء لأن ابناء الزنا يتلصصون من خلف الخنادق. ـ من تقصد؟ ـ الإستخبارات. نحن في أكثر من حرب. هل قلت انك شاركت في معركة خرمشهر؟ ـ نعم. ـ هل صحيح ما قيل عن قتل جنود هاربين بطريقة القرعة؟ ـ صحيح تماما. كنا قد عبرنا جسر الشلامجة نحو المحمرة في الغروب عندما وقوع الهجوم وشاهدت طوابير المنسحبين في أماكن كثيرة. كنا قوة هجوم مقابل. كانت ايام سيئة. قال: ـ أعتقد اني أسمع وقع أقدام الان. ـ لا. هذه حركة فأر في السقف. ـ لا. انه يقترب. مرت افراد في الخندق. همس لي: ـ ضابط الإستخبارات وجندي. انهم في كل مكان أكثر من الفئران. صرنا نخاف منهم أكثر مما نخاف من غيرهم. لا يهمهم العدو كما يهمهم ماذا يدور بيننا من أحاديث. قلت: ـ هذا هدفهم. سألني:ـ هل عدت من الإجازة أمس؟ أجبته :ـ نعم. ـ هل معك عرق؟ ـ لا. قال وهو يحك رأسه: ـ كيف يمكن مواجهة هذه الحرب بدون عرق؟ كان الهدوء قد ساد خطوط القتال تماما. صار في وسعي سماع ازيز الحشرات فوق صفحة المستنقعات المائية أمام الخندق.قال: ـ أخشى الأسر أكثر من الموت. هل عشت تجربة حصار من قبل؟ ـ نعم. في معارك شرق البصرة الأولى في تموز 1982. كانت تجربة تطويق مخيفة. لكني نجوت منها في الظلام، والغبار، والصراخ، والإنفجارات. هل تسمع صوتا؟ أصغى بكل حواسه. قال: ـ لا . خندق المرور موحل من الجانبين، لذلك أستطيع سماع الخطوات مهما كانت خافتة. هل أنت جائع؟ ـ ليس كثيرا. ـ سينتهي واجبنا منتصف الليل. كان يجب ان تجلب معك زجاجة عرق. ـ في المرة القادمة. وكما لو ان السماء انفجرت فوقنا، انهمرت القنابل الثقيلة فجأة وزلزلت الأرض. قصف عنيف، وحاد، ومركز، شمل الخطوط الأمامية،والخلفية، وخنادق النوم والقتال، ومراكز التموين، والإدارة، والطريق العام، وضفاف الشط. شبت حرائق. ارتفعت صيحات. ركض الجنود الى خنادق القتال من ملاجيء النوم. سألني ، مذعورا: ـ ماذا تظن؟ ـ اعتقد انها فعالية لا أكثر. قصف ازعاج . كانت رائحة الدخان في كل مكان. لكن ما يثير تقززي أكثر هو اللهب الحارق، والحاد، للإنفجار. لهب أزرق، كريه، يومض كصرخة وحشية، ثم ينطفيء منفجرا. مخاوف كثيرة تتناسل: خوف مبهم من سقوط قنبلة مباشرة. هذا الخوف يصل احيانا حد الرهاب. الخوف من التمزق، التشظي، الإندثار، أو التلاشي في الريح. هذا الجسد المهمل، والعاطل، وغير المرغوب فيه الا كأداة ، هذا الجسد يخاف الآن أن يموت ويصير مشكلة أخرى، كما كان مشكلة سابقة في حياته الأولى، حين تعطلت رغباته، وتعفن، وصار جيفة متجولة بين الخنادق والطرق. دوي، وقلق. دخان، ورائحة فناء. حين تطرح هذه الأسئلة على الليل والحرب والموت والدخان لن تجد اجابة. انت جورب مهمل وعتيق، ومبلل، في هذا الليل، والصراخ، والدعارة، والجنون، والوحل، والجريمة، والسياسة. هدأ القصف بعد دقائق. لكن الرائحة في كل مكان. تحركت سيارات الإسعاف لنقل المصابين. سمعت في الموضع حركة خافتة لحيوان صغير مختبيء، ومجفل. القصف أوقف الحوار . هذا يحصل دائما. الموت يلغي الرتابة . جنون المدفعية يزلزل الإحساس الكاذب بالنجاة. أنت هنا معرض للتلف، والتشظي، كخشبة، أو حجرة. أنت لست أكثر من نفاية تحمل هوية بشرية تافهة. باغتني سؤاله: ـ هل تعتقد ان هذه الحرب ستنتهي؟ ـ لا أدري. هل انتهى وقت الحراسة؟ ـ أعتقد ان الحراس سيصلون الان. من حسن الحظ انك كنت معي في نوبة القصف هذه. وحدي أشعر برعب ووحشة. ماذا يفعل الخنازير الان؟ جاء جنديان في خندق المرور بخطى متثاقلة. سالنا أحدهم عن متانة الملجأ، وضابط الإستخبارات، وهذه الرائحة الكريهة. قلنا له ان الملجأ لا ينفع من القنابل الثقيلة، لكنه مفيد من الهاونات، والرصاص. قال له صاحبي ان يحذر من نار السيجارة، والنوم، والجلوس الطويل، ولف البطانية على الجسد لأنه تشعره بالنعاس وتوقظ الشهوة. سأل: ـ متى مر ضابط الإستخبارات من هنا؟ رد صاحبي، منزعج: ـ لا تفكر كثيرا بإبن الكلب هذا. وقال لي: ـ لنذهب. في خندق المرور التفت الي قائلا: ـ هل شعرت بان الجندي كان خائفا؟ عبرت فوقنا رشقة رصاص .قلت: ـ هذه حرب . أكمل ضاحكا: ـ لا رفع أفخاذ . الآن يستعد جسد لأن يدخل في جحره كحيوان صغير، هارب، وخائف، من السحق . حيوان صغير منزوع من أحلامه الممنوعة. كانت أصابعي تتحس الظلام، والتراب، والأشياء المتروكة في هذا المخبأ. أصابع تشم الخطر. أصابع تتحسس الجسد المهمل كجورب عتيق. اصابع تنظر في الظلام والقنابل والخوف. أصابع تسافر في هذه العتمة كخيول غرفة الفندق. جلد ينظر وعيون مطفأة. كانت الخيول تركض على الجدار. لم تكن خيولا في الواقع بل كانت أحلاما راكضة. رفعت شيئاً فوقي كغطاء. غبار. هنا داخل هذه العلبة من الظلام ، بين سيوان وشط العرب، سأنام الليلة، كسحلية. خطرت لي ، فجأة، ثلوج ديانا، وغرفة الفندق، وسلسلة جبال نواخين المكسوة بالثلج، واشجار غابة ربيضة.كانت أشجار الغابة تلوح لي الآن مشرقة، ندية بالمطر والضوء والفواكه. حلمت اني في قطار اتأمل عبر النافذة حقول خضر مشمسة. بسيطة ومشعة أحلام الأعزل كالماء. الحلم في ملجأ حرب رعب. الفضاء مغلق . الحرب تغلق الأفق. كانت رغبتي تحت الغطاء مشوشة ومضطربة. كنت مضطرا، في هذا الجحر، لأن ادفن جسدي في الفراغ والوحشة. تتشابه الأيام ، كوجوه القتلى. حتى القمر نفسه أخذ شكلا واحدا هو شكل غزالة راكضة، وبرتقالة، وأمنية. في صباح آخر قيل انني أستطيع الذهاب الى البصرة للإستحمام. كنا على حافة شط العرب، في غابات أبي الخصيب قرب جيكور السياب. القادم من جبهة الحرب الى البصرة يشعر انه كائن متوحش. كل ما هو في الشارع والسوق والمقهى مثير، وغير مألوف. لكن الحمام اكثر الأماكن اثارة عندي. في الحمام أستطيع ان اتعرى لا من ثيابي بل من هذه المهمة. هذا هو المكان الوحيد الذي أتخلى فيه عن هذه الصفة القذرة بدون ان يثير ذلك غضب السلطات. قررت مجموعة من الجنود النزول الى بيوت خاصة بالعاهرات في شارع بشار. في بيوت اللذة شاهدت وجوه العاهرات شبيهة بوجوهنا، نحن جنود الخطوط الأمامية. الفارق الوحيد لا يلحظ. وجوهنا ملتحية. ليس ذلك مهما. النظرات الزائغة نفسها، ومشاعر الإذلال، والخوف من المداهمة (في الخطوط الأمامية) والأصوات الجافة، والمحبوسة، والشفاه الذابلة. كنت كمن ينظر الى نفسه في مرآة مجسمة. رأيت حشودا من الجنود على جسد واحدة بالتناوب، وكانت تشبه صديقا قتل في الإشتباك. نساء المنزل هن الأكثر فهما لطبيعة ما نعاني. قالت لي واحدة، شاكية: ـ ماذا جرى لكم؟ ذكوركم ميتة وأنتم مازلتم شبابا؟ قلت، وأنا أستجمع طاقتي على نزع الحذاء الثقيل: ـ هل يشغلك هذا كثيرا؟ ـ بالطبع. انه مهم من ناحية الوقت. ـ هل تتوقعين مداهمة من أحد؟ ـ نعم. الإنضباط، الأمن، الحزب، الشرطة، حماية قائد الفرقة، المختار، الحوشية، النادي، الجامع، الجيران، الدين، المحلة .. قلت، مقاطعا: ـ كفى أرجوك. ـ هل رأيت ان القذف السريع ضروري في هذه القضية. قلت، وانا أرتدي ثيابي على عجل:ـ وهو مهم في كل قضية. في السياسة وفي الحرب. خرجت الى الشارع. كانت الشاحنة تنتظرنا في ساحة أم البروم، قرب البريد المركزي: ( انظر الى ساحة "أم البروم" على انها ندبة مدينية، دائمة البروز والتقعر، جلد ينمو، وطبقة تعلو الطبقات السفلى للاوعيها، التفت الى وظيفتها الإعتيادية، يوم كانت المراحيض تلاصق سورها " ساحة عضوية للكون والفساد" اني ادخل سورها يوم كانت مقبرة محصورة بين نهري الخندق والعشار. انظر اليها موطنا لخرافات الجوع، تستظيف الأغراب والمشردين والعابرين وتطعمهم من قدور كبيرة أقيمت على مواقد تحت نخلات عجفاوات. انظر الى امتزاج خرق الأجساد ببقايا الأكفان والأسمال والتوابيت ، وأستمع مع رمم القبور الدارسة الى مصمصة العظام ومطق الحساء والثريد ومضغ حبات الهريس.....كان الليل يجذب عمال( اسياف) الحبوب من صرائفهم المكومة على ساحل( الخندق) ويدفع بالضالين والضالات من بيوت ( العشار) الى الساحة ليجتمعوا حول المظلة التي تستخرج من طبقاتها السفلى خرافة جديد... هكذا إستمرت الولائم: جنائز الأطفال الموتى والموتى المجهولين، جنود الإحتلال، معاهدة 1930، نهب أسياف الحبوب عام 1941، المظاهرات، احتفالات الثورة، جنازة السياب عام 1964، المشانق، حشود العربات العسكرية في الحروب التالية، العمال المهاجرون المصريون والسودانيون والصوماليون، عربات المطاعم المتجولة، صباغو الأحذية ،سيارات الأجرة، مغنو الأرصفة، مقامرو النرد، اخوة النهار وحلفاء الليل..ـ مقطع من رواية بصرياثا). كان الغروب قد حط على البساتين، وعلى الخنادق، وعلى الشط، وعلى الوجوه، وعلى الاشواك البرية في الطريق: (ستؤوي آخر الليل أربعة أو خمسة أكداس من الأجساد التي تضطجع متلاحمة في قبضة الدفء وقرابة السبيل وأحلام المقبرة. هؤلاء اللاجئون الى فناء الفندق هم صبيان الساحة، صباغو الأحذية وباعة السجاير وسماكرة السيارات، العائدون من رحلة النهار، الساقطون من هجرة العائلة. كما اني لست واثقا من عودة شبح شاعر جيكور الى هذا المنزل، لكن صوته الهائم ،الراعش، وهو ينشد (الأسلحة والأطفال) جعل صغار الملائكة، المقصوصي الأجنجة، ينامون، كلاب ( العشار) التي تتبعه ترقد، المنازل القديمة تنحني وتسد الأزقة بشرفاتها. ليست هذه نهاية الشريط ـ بصرياثا ). حافة شط العرب، ليلا، تحت رائحة العشب، والدخان. مخبأ آخر للحراسة في بركة وحل. جسد ينحدر بسكون حشرة نحو عزلة الموت. *** محطة قطار المعقل في المساء. قررت السفر عن طريق القطار هذه المرة ، بعد مضي أكثر من شهر على آخر إجازة. كنت اقول لنفسي ان الذي يسافر في قطار وهو عائد من الحرب لن يموت في الطريق من خلال حادث ما، أو عمل طائش ، أو وقوع كارثة غير منتظرة. كانت المحطة مزدحمة بالحشود والبضائع والحقائب والليل والنساء القرويات والجنود واللصوص والبنادق. بعض الجنود يسافرون بأسلحتهم. ربما يأخذون معهم سجينا الى محكمة في مكان بعيد. في المحطة تراءي الضوء غير بشري، ومخيف، يجرح البصر. هل لأن البصر تعود على الليل والعتمة والجدار والحفرة؟ قد يسلك الجندي العائد من الحرب، توا، سلوك حشرة مذعورة دون ان يدري. صفر القطار. فزت عصافير المحطة وطارت عبر الأشجار، وفوق سطوح المنازل المعتمة:(يواجه المسافر في قطار الليل هذا اللغز: هل صنعت المدن ومحطاتها القطارات ، أم ان القطارات صنعت المدن ومحطاتها؟ كانت العربات الخضر ذوات المقاعد الخشبية الصلبة، ورفوف البضائع المتقابلة ، في الدرجة الثالثة، قد استضافت جسدي ليالي عدة من سفري المتواصل، نمت فيها على المقاعد والأرفف متوسدا حقيبة السفر. في تلك العربات التقيت متسولين وباعة وجنودا ومسافرين يصعدون ويهبطون في محطات مجهولة الإسم والشكل، ضائعة في الصحراء أو المزارع المتسلسلة.... تتململ القاطرة السوداء ، ثم تنفث بخارها، وتودع محطة قطار ( المعقل) والشمس الآفلة بعويل طويل، ساحبة خلفها العربات الخضر المستطيلة. وبعد ان تجتاز عشرين محطة رئيسية وفرعية، تصل محطة ( غربي بغداد) مع بشائر الصباح . كانت القاطرة تقطع في رحلتها اليومية (569) كيلو مترا على خط السكة الحديد المتري(عرضه ثلاثة أقدام وثلاثة انشات ونصف الانش) الذي مده جيش الإحتلال الإنكليزي عام 1917 بمحاذاة الفرات، على أخلاف الخط الألماني الذي أنشيء عام 1910 ولم تتبق من قاطراته السائرة بالفحم الحجري إلا واحدة توقفت عن العمل عام 1951، نصبت تذكارا أمام المحطة العالمية في بغداد.... يقف ناظر محطة عجوز مراقبا اقتراب قطار من محطته المنعزلة في العراء بين مدينتين، كما يلمح مراقبو السكة ـ حاملين فوانيسهم الخضر والحمر ـ المرور الخاطف للنوافذ المضاءة في القطار الليلي السريع، يلمحون رجلا منزويا في العربة، أما رجل العربة هذا( الذي اقترح له اسم عيسى بن أزرق) فيمر مسرعا بالمحطة التي تتراجع مصابيحها وتنفرط كحبات مسبحة في صفحة الليل...كان القطار الذي اجتاز الأهوار المحيطة بسوق الشيوخ يقترب من الناصرية . آنذاك كان المسافرون ينتظرون قطارا ينقلهم من المحطة الفرعية في أور الى محطة المدينة الرئيسية التي تبتعد عشرة كيلو مترات. وفي العودة كانو ينتظرون القطار النازل من بغداد ليقلهم الى البصرة...كانت في أور قاعة كبيرة يجلس المسافرون على دكاتها الحجرية، وينتشر في ارجائها باعة الشاي واللحم المشوي والسيجاير والصحف، وتمتليء بالجنود ورجال الشرطة والغرباء والمشردين والباحثين عن الدفء والرائحة البشرية...حدقت في الزجاج، كان الليل ينثر نجومه كليرات فضية فوق البراري الصامتة الداجية ـ بصرياثا). *** واسع هو الليل ، خاصة ليل الجنوب. واسع هو الفضاء ، خاصة فضاء الجنوب. واسعة مخاوفي كقاعة مرايا سحرية غارقة في أعماق البحر. كان القطار يمر بمحطات صغيرة، وكبيرة، وقناطر، وجسور حجرية، وغابات معتمة تحت الليل. كنت يابسا، كحجر تحت عجلات هذا القطار المنطلق في هذه البرية الشاسعة من جنوب مقفر، وخاو، وكئيب. كئيب ، وميت قلبي، كهذا الريف. فكرت:هل ستنتظرني في الفندق؟ هل ما زالت حية حتى الآن؟ الغرفة مرة أخرى في هذا الليل الذي لا يرحم. مشاهد الخيول الراكضة على الحائط، الدفء، السرير، المنشفة، رائحة الصابون، العطر، الجسد، المطر، الوسادة، الحمام، الحذاء، الكأس، الضوء. الجنود يشخرون في ممرات العربة المهتزة. هنا ايضا مكان للأحلام المحرمة في ممرات العربات. هنا ايضا يمكن ممارسة الحلم المطرود فوق سكة الحديد وفي عربة الدرجة الثالثة. جميلة، وقاسية، ومخيفة، ومجنونة، أحلام الأعزل في عربات الدرجة الثالثة. في هذا الليل المترامي، وبقايا الحقول الصامتة، وعبر نافذة قطار، وبين حشد من الجنود والحقائب ،تصبح الكآبة بلون حقول صامتة. حلم الغرفة. مشاهد الوداع في المحطة، القصف، الملجأ، السجن، الثلج، الخيول. عبر نافذة القطار حقول وكآبة وصمت وفوانيس. كان وجهي في مرايا النافذة هرما، وميتا، وذاهلا. كان وجهي يشبه، الى حد كبير، هذه السهول الجنوبية المترامية ، المكسوة بالصمت، والغياب، والليل، والإنتظار. مخاوف غامضة تنتشر على مساحة هذا الغسق المحمر فوق السهول المترامية. خوف من ان اصطدم بقدر كريه في محطة القطار الأخيرة، في ان التقي على غير توقع باعصار ما في منعطف، خوف من ان تسقط عليك في الظلام أحلام منسية، خوف من ان تداهمك في المقعد شيخوخة طارئة أو عجز مباغت ، خوف من ان تحتضنك كآبة عميقة لا ينفع معها العلاج وانا في مرحاض عمومي، خوف من الإنضباط العسكري، من الأمن، من السيارات المعتمة، من النظرات، من يد في الظلام، من التوقف السريع لسيارة خاصة، من تهمة عاجلة على الخط السريع، من ان تنام في مغاسل الموتى كما فعلت في جامع ديانا عام 74 من القصف، من ان تظل تعيش حالة الحشرة والرحلة بين الحيطان والأحذية والرصيف والحرب، خوف من ان يصطادك حزن شرس من ايام قديمة، من ان تداهمك نشرة أخبار وانت في السرير عن حرب أخرى أو هجوم او كارثة، خوف من ان يهاجمك إعصار الشهوة وأنت في الحمام بدون حلم. بغداد في الغبش. غبش أزرق، شفاف، يكسو البيوت، والطرق، والشوارع، والأشجار. غبش يشبه الضباب. كان القطار ينساب فوق السكة كما لو انه يطير في الهواء الأزرق. كنت أنتظر دوري في مرحاض العربة وانا أقضي الوقت في تأمل المشاهد المندفعة الى الوراء عبر النافذة. اسوأ ما في المراحيض خلال رحلات الجنود في القطارات هو اللون الرصاصي . لم يكن دوري قد حان حين خرج أحد الجنود، عابسا، وهو يلعن بصوت واضحا: ـ أبناء الكلب، كيف يستطيعون ان يفعلوا ذلك في قطار متحرك؟ مسألة ذوق. يقول غابرييل غارسيا ماركيز ان احساسا بالحرية لا مثيل له في مراحيض القطارات:( حين كنت طفلا، كان أكثر ما يفتنني من الرحلات في قطارات الموز هو النظر الى الدنيا من خلال فتحة مرحاض العربات، وإحصاء عدد النائمين بين ضيعتين، ومباغتة الحراذين المرتعدة بين الأعشاب، والصبايا اللواتي يظهرن لهنيهة وهن يستحممن عاريات تحت الجسور). غبش أزرق، ناعم ،وخفيف، يتحرك في داخله الناس كخيوط رفيعة. محطة غربي بغداد، في الفجر. مسافر بسيط، وسهل، لا أحمل الا حقيبة صغيرة تحتوي ملابسي المدنية وأدوات حلاقة قديمة، وثلاثة كتب أحدها رواية ماركريت دورا ( هوراشيما، حبيبي). خرجت من المحطة القديمة، وتجازوت عدة نقاط تفتيش سريعة للإنضباط العسكري. كانت رائحة الصباح طرية، وعذبة. في أقرب فندق في منطقة علاوي الحلة صعدت كي أبدل ثيابي العسكرية وأرتدي الملابس الصيفية المدنية. شعرت بحرية اكبر. كنت جائعا ومشوشا. لم اتوقف في مطعم. واصلت طريقي الى الفندق. كنت أريد الوصول الى سيوان قبل ان أسافر الى بلدتي. ركبت الحافلة الى ساحة النصر في شارع السعدون. ترجلت ومشيت المسافة القصيرة الى الفندق. دخلت صالة الفندق. كان خلف الطاولة شخص لا أعرفه، ولا يعرفني. تقدمت اليه واعطيته الإجازة وعرفته بنفسي. نظر الي مبهوتا، ومنذهلا: ـ أهو انت ؟ قلت خائفا: ـ نعم أنا. هل من خطأ؟ قال بلهجة ودية: ـ جاء شخص قبل أيام وترك لك هذه الرسالة. ـ اين آزاد؟ ـ موجود، لكنه خارج الفندق. هل يمكن أن أساعدك بشيء؟ ـ لا . شكرا. أعطني فقط مفتاح الغرفة 504. قال باسما: ـ من حسن الحظ انها فارغة. ـ شكرا. ركبت المصعد. شعرت ان قلبي يتدحرج أمامي في الممر. في الغرفة هاجمتني روائح كثيرة: روائح خيول راكضة، روائح جسد معطر، ونظيف، وسادة، منشفة، رائحة فراغ ماطر ، وصمت، رائحة خوف، أمل، عرق خيول. جلست عند حافة السرير، وحشدت قلبي في لحظة واحدة ، وفتحت الرسالة. كانت من صديق. كنت أقرأ وأنا استعجل الوصول الى جوهر القضية. تراخت يدي وأنا أقر: (قتلت يسرى بعد ان عادت بأيام. لم تدفن. ألقيت جثتها في النهر. كن حذارا). نظرت حولي ، مصعوقا. كان يجب ان افعل شيئاً. ان أصرخ، أن أنهار، أن اطلق النار على الكون، أن أرتمي تحت عجلات قطار مسرع، أن أقفز من النافذة. تسمرت. انتزعت جسدي ونزلت الى الشارع، ظهرا. تلاشى خوفي المبهم وحل محله شعور الغضب. هنا في هذه المعركة ليس ثمة أحد معي. هنا خطوط العزلة، والضعف، والقرف. هناك في خطوط الحرب تجد، رغم كل شيء، من يقاتل معك. لكن في هذه الوحدة، والقفر، انت وحيد وأعزل عزلة عشبة برية. كانت الأناشيد والأغاني تنطلق من الراديو حين اخترقت شارع السعدون في الطريق الى النهر.هل الحرب في الحدود أم في الأعماق؟ دخلت الى مشرب صغير ومعتم يشبه القبو. لا أدري لماذا تستهويني الأمكان المعتمة في مثل هذه الأحوال؟ هل بدأت أسلك: سلوك الخفاش؟ في داخلي ايضا قبو صغير، مغلق، ومعتم. بعد أن أعتاد بصري على العتمة شاهدت أشخاصا يجلسون، متفرقين ، في زوايا متباعدة. كان أحدهم قد شرع في النظر الي ما ان جلست. كان يبدو ثملا. كان يتحدث مع نفسه. في هذه العاصمة ليس غريبا ان تجد مثل هؤلاء في حانات النهر، أو السعدون في هذه الظهيرة الساخنة. طلبت من عامل البار نصف زجاجة عرق. سألني بتهذيب وهو يسجل في ورقة:ـ المازة؟ ـ اي شيء تختاره أنت. ـ لبن مع حامض ؟ ـ نعم. رفع الذي كان يكلم نفسه يده. حاولت ان اتجنبه فلم أنجح. كنت أريد ان أبقى وحيدا، كي افكر بهدوء، وبحرية أكبر. قال عامل البار:ـ لا تهتم به كي لا يضايقك. إنه ثمل. حين سلمته النقود، سمعته يقول: ـ أصيب في الحرب برأسه، وبدأ يقول أشياء غير لائقة. حاولت ان أسأله : لماذا حين يصاب احدنا بجرح خطير في رأسه يهذي بأشياء غير لائقة؟ دفنت هذا السؤال في الأعماق مع كل حشود الأسئلة المتعفنة، وخفت ان يفضحني السكر ، فكثير من هذه الأسئلة تخرج في السكر كرؤوس الثعابين الصغيرة في الرمل، تحت الشمس. رفعت رأسي اليه. كان لا يزال ينظر نحوي مباشرة كما لو انه شم رائحة ما. كان من الواضح ان عامل الحانة خاف مني فأراد ان يبرر كل مايقوله جريح الحرب. رفع كأسه اليّ وقال:ـ من صحتك. ـ صحتك. كان دوي الرسالة مايزال يعصف في دمي. وحيد، ومهجور، في حانة ضائعة، في ظهيرة مشبوهة، وزبائن مجانين. حتى لو كنت في قلب الزحام فأنت وحيد. إنك موجود كورقة إجازة. النازل الى هذه المدينة ليس انت بل الورقة. الرقم. التوقيع. اللون. ربما يستطيع أي شخص الآن ان يدعي ان ورقتك مزورة، وان وجودك غير حقيقي في هذا العالم. ـ صحتك. رفعت كأسي:ـ صحتك. نهض من مكانه واقترب مني. شممت رائحة ثياب متعفنة، أو قبو مغلق أو جورب قديم ناقع في الماء. طلب مني أن اسمح له بالجلوس: ـ تفضل. بصعوبة جلس على الكرسي. بصعوبة كان يحاول ان يركز ويحشد نظره كي يتعرف علي:سألني: ـ هل أنت جندي؟ ـ نعم. ـ هل انت قادم من الجبهة؟ ـ أرجوك انني متعب ولا أريد الحديث عن الحرب. نظر مليا، وقال: ـ أفهم ذلك .هل أنت خائف مني؟ ـ لماذا يجب ان أخاف منك؟ ـ انت إذن لا تخاف مني. ـ لا. جاء عامل البار وأراد ان يرفعه من الكرسي، فأومأت له بأن يتركه. كان منهكا وغاضبا:ـ انت لا تخاف مني. ـ لا أخاف منك. ـ لكنهم يخافون مني. ـ من هم؟ ـ هؤلاء. كلهم. اشار الى بعض الأفراد الجالسين، والى الشارع:ـ صحتك. قلت: ـ صحتك. قال وهو يحاول السيطرة على توازنه: ـ الكل يخاف. ـ لا. كنت أفكر في مغادرة المكان، لو لا انه وقف في وسط المشرب وصاح :ـ الطفل يخاف، المرأة تخاف، الحائط يخاف، الرجل يخاف، الموت يخاف، الطريق يخاف، السماء تخاف، المقبرة تخاف، الميت يخاف.. وقبل ان يكمل أغلق عامل المشرب فمه بقوة. أخذه الى الباب وقذف به الى الشارع. عبر الواجهة الزجاجية رأيته يحسب على اصابعه وهو ينظر الينا عبر الزجاج. خلفه كانت طيور النهر تحلق عاليا، بيض، مكتنزة، تلمع، تحت أشعة الشمس. بدا الجسر مستقيما، ورفيعا، سابحا في الهواء الأزرق الشفاف في وهج الظهيرة. كل النهار كنت أمشي بين حشود مطفأة. ليس المكان شارعا بل هو معسكر أسرى. هذه الحشود نفسها هي التي واجهتني ، أكثر من السلطة، بعد خروجي من السجن عدة مرات لكي أتركهم :( اتركنا نأكل خبزنا. اترك السياسة). تركتهم فلا هم أكلوه ولا أنا. لم أكن أشكل خطرا على برميل قمامة.كنت أريد أن أعيش فحسب ، خارج الخارطة، واللون، والزي، والاسطبل. الخبز متوفر الآن ، في عام الحرب السابع، لكن الأمان مفقود. أليست هذه مقايضة حقيرة، ايتها الجموع: الخبز مقابل الحرية؟ مجنون الحانة قال الحقيقة. البلاد خائفة. البلاد جحيم. غاطس في الحشود . كنت أطلق النار في الحدود لكنهم هنا أطلقوا النار على قلبي. أليس هذا رهانا خاسرا ان تراهن على نصر هناك، وهم يمرغونك في الوحل هنا؟ اين خطوط النار؟ اين العدو؟ كنت أريد أن أفعل شيئاً. أي شيء. ان أصرخ، ان أعوي، أنوح، العن،أشتم المارة، أبصق علي الجدار، أتبول على كل الأنصاب . الليل، والغرفة، وخيول الحائط ورائحة مطر قديم. قال لي عامل الفندق ان آزادا بحث عني في كل مكان. قل له انني متعب. قل له اي شيء. هل عندك خمر ؟ هذه الغرفة شاهد على الليل والحلم والمطر والرائحة. كانت خيول السجادة تركض. شربت، شربت البيرة، والليل، شربت الحائط، والنافذة، والصور، والسرير، والرائحة، والصوت، والحس، والخوف. بدا لي غريبا، وسخيفا، ومنفرا، ان حكومة تمتلك مفاعلا نوويا تضع عقلها مع ذكري. سقطت على السرير كما يسقط عجل في المسلخ. دارت الغرفة. دار الجدار. دارت الخيول. دارت النافذة. دارت السماء. دارت الجبهة. دارت الشاحنة. دار القطار. دار المكان. دار الزمن. جاءت راكضة من النهاية البعيدة للأفق. كانت ترتدي ثوبا أبيض. كنت أحاول ان أركض لإستقبالها ، لكن جسدي ثقيل، وأطرافي يابسة. مشع، ونوراني، وطفولي ، هو وجهها بين السحب والطيور.الصباح على النافذة اخبرني بأني نمت بحذائي على السرير. رجعت الى النوم لأن النهار ليس صديق الأعزل. *** عدت ابحث عن جثة في نهر. لم يكن ذلك يخطر ببالي يوما. لكنها اقدار المطايا. العودة الى الإسطبل. العودة الى أقفاص الأسر والليل والصمت. خلال فترة البحث كنت أزور الفندق القريب من ضفة النهر،ومرات نمت فيه. الطابق الأرضي مطعم ومشرب. الفندق يطل على النهر وهناك في الضفة الأخرى، المضاءة الان بضوء شاحب وعدائي بلا أشجار، يرقد بقايا حلم قديم. لم تعد ربيضة موجودة( تلاشت مثل يسرى) لا نجمة المساء. لا عواء الثعالب. لا قمر. لا فانوس. لا موقد يوسف. لا الغابة. ليس غير الابراج والبيوت الغامضة ومهابط الطائرات والاسلحة. كنت أجلس في الشرفة أدخن وأشرب وأتأمل القمر الطالع بين شريط النخيل. قمر عراقي يتكيء على حافة النهر في ذلك المساء المهجور. بين مضخة ماء قديمة ومكان العبّارة القديم تهب رائحة الماضي: أرض مبللة، وبساتين غافية تغتسل بعطر روائح الأزهار والأعشاب والأشجار. قمر خلف الأشجار في مساء الحرب. قمر بطيء خلف ضفة النهر.قمر محمر ومتوهج من جهة الشرق. هناك في البعيد تقع خطوط القتال كما تقع هنا خطوط حرب اشد شراسة. إختفت أخبارها منذ ذلك اليوم اللعين الذي عادت فيه. منزل الأسرة صامت وكئيب وموحش ورمادي. كان أمرا غير مألوف أن ينشغل الناس بمصير إمرأة في تلك الأيام. رائحة الحرب في كل مكان. كنت أحوم حول المنزل كما لو ان قوة عاتية تجذبني إليه. النوافذ مضاءة كالمعتاد لكن السكون عميق ومريب. كان السكون العميق والمريب في كل مكان ففي زمن الحرب تتعهر كل الأشياء بما في ذلك الطبيعة. كل الأشياء تبدو مريبة ومتحفزة ومتربصة. إنه زمن التربص فخلف كل منعطف ونافذة وخلف صفصاف المقابر يختبيء خطر ما، أو متربص. قال لي صديق انه سمع ذات ليلة طلقات نارية تنطلق من المنزل. لكنه قال ان ذلك ليس أمرا مستغربا. إنه يحدث دائما في بيوت أخرى في زمن الحرب وتتعدد الأسباب: وصول جنازة، وصول ضيف، وصول عزيز حيا، خلاف، أو إستعراض قوة، أو حالة نشوة. أحد الجيران أكد ذلك. رمقني بنظرة مرتابة وانصرف. قررت زيارة أرملة قريبة من الشارع. قلت انني أردت زيارتك قبل العودة إلى الجبهة. تحدثنا عن الأسعار والجثث والزمن والناس. كنت أتلمس طريقي بحذر: قلت: ـ تبدل الزمان. لا أحد يهمه مصير آخر. ـ هذا صحيح. ـ أنت نفسك لاتدرين ماذا يدور حولك. قالت مستاء: ـ كلام غير صحيح. قلت مباشرة: ـ إذن ماهي حكاية إطلاق الرصاص في منزل يسرى؟ توثبت لأتلقى ردا صاعقا لكنها قالت ببرود مثير:ـ قد يكون الأمر مطاردة لهارب من الحرب. أذهلني الرد الجاهز. قلت بإستفزاز:ـ ليس لأحد مصلحة في إخفاء جريمة. قالت بجرأة إمرأة محاصرة: ـ ماذا تعني بالضبط؟ ـ من قتل يسرى؟ ـ هل هذا تحقيق؟ ـ أبدا. أقسم لك. ـ إذن ما الذي يدفعك إلى السؤال؟ قلت بصدق: ـ شعور بالألم. قالت بإمتعاض: ـ عقاب عادل لإمرأة هاربة. ندت مني صرخة: ـ لا . خرجت من بيت الأرملة وقد تراءت الحقيقة بصورة مفزعة. بدا كل شيء على هيئة جثة كبيرة مخفية. الرائحة في كل مكان. اشياء كثيرة تتفسخ لكن أحدا لا يشم. في الغروب وبعد الصلاة ذهبت إلى شيخ دين. أصغى إلي بإنتباه واضح وقلق. قال في النهاية بإرتياب وجزع: ـ هذه إرادة الله. ـ من قال؟ ـ لا أريد أن أتورط في قضية كهذه، والله غفور رحيم. هذا نعي أم نفي؟ ذهبت حالا إلى صديق يسكن في قلب المدينة تربطني معه أحاديث طويلة عن الفن والصداقة والشعر والصمت والدين والحب والخوف والحرب. رحب بي بصفاء قلب لا تشوبه شائبة. قال انه مستاء من هذا الجفاء الطويل. قال انه يكتب رواية طويلة عن الحرب والحب. قلت مع نفسي هذه بداية حسنة وسردت له الحكاية من أولها وحتى الوداع الأخير ولقاء الأرملة وقصة الطلقات النارية. زفرت بإرتياح وأنا أقول: ـ والآن مارأيك؟ شحب وإضطرب وراح يرمق الباب الموارب بهلع. قال فاركا أصابعه:ـ أرجوك... هذا يكفي... إغلق الموضوع.. إشرب شايك بسرعة؟ قبل أن أخرج إلتفت إلى الوراء وقلت بهدوء جارح: ـ هل ستستمر في الرواية؟ خرجت ألتقط الهواء بأصابعي. صرت أشم بقوة رائحة جثة في كل مكان. بل كنت أرى الرائحة في العيون والمنازل والأحاديث الهامسة وفي الصمت الجاثم كحيوان خرافي في الطرقات الميتة. لا يمكن أن تكون هذه الرائحة لجثة بل أكبر. شيء كبير يتفسخ بهدوء وسرية ولا أحد يشعر. لكن ما الذي يجعل هؤلاء جميعا يصرون على إنكار كل أمر يتعلق بهذه القضية؟ ما الذي يعنيه حادث قتل إمرأة بالنسبة إلى هؤلاء الذين يقتلون كل لحظة هنا أو في الحرب؟ فسرت الأمر على انه خوف مبرر من ملابسات لا يحتاجها أحد. لكني إكتشفت ان احدا لم يطلب تحقيقا ولم يقدم إخبارا، والجريمة تمت تحت سمع وبصر السلطات وبصورة مكشوفة وان الجميع في المدينة يعرفون الحكاية قبل وبعد القتل وتقبلوها بصمت ،وان إطلاق النار في تلك الليلة في الشارع كان للتغطية على رصاص الداخل والقاتل المباشر طليق والقتلة احرار والغائب هو الجثة. إذن واجهت يسرى موتها وحيدة، منعزلة، كما كانت تتوقع . توفر لها الوقت المهلك كي تتحدث مع قاتلها وتراقب يديه وعينيه وتسمع حكمه بالموت عليها باردا برودة معدن المسدس المرفوع في وجهها. قيل ان صوت تكسر أشياء قد سمع في تلك اللحظات. لابد انها كانت تدافع عن نفسها بإستعمال أدوات موضوعة في الغرفة لأنها سألتني يوما ماذا ستفعل لو ان أحدا داهمها في غرفة منعزلة وكانت وحيدة فأجبت: ـ كل شيء يصير اسلحة حتى الاحذية وأواني الزهور. تحت تأثير رجاء يائس ذهبت إلى صديق طفولة قديم ومن مرتادي حلقة الشرب قرب مضخة الماء القديمة على الضفة المقابلة لغابة ربيضة المتلاشية. كان يعيش وحيدا في بيت مهجور يعاقر الخمرة والهوام والوحدة. رحب بي بإخلاص صادق جعلني اتجاوز كل الشكليات. شرحت كل شيء. قلت: ـ هذه كل المسألة. لم يطل صمته. قال بثقة أدهشتني:ـ كل هذه التفاصيل صحيحة بإستثناء انك لا تدري انهم ألقوا الجثة في النهر . ـ سمعت لكني لم أصدق. قال بصوت مليء بالأسى والإشفاق: ـ أنصحك بالحذر. قلت بجزع:ـ لم لا نقدم إخبارا؟ رمقني بنظرة تأثر حارة وهو يقول:ـ هناك شكوك حول إحتمال إشتراك أشخاص في المحكمة. حينئذ فقط شعرت بذراع وحشية تلتف حول عنقي بضراوة. من الذي لم يشترك إذن في هذه الوليمة؟ تلك الليلة عدت الى فندق سيوان، ومنه إلى محطة القطار. إلى الحرب.الحرب الأخرى. الحرب العلنية. بدا ان الحرب هي المكان الوحيد الواضح في هذه الفوضى. *** خريف آخر. كنت أحث خطاي نحو بيت صديقي الذي يعيش وحيدا بين الهوام والعزلة والخمر وقد وصلت توا من الجبهة. كنت ظامئا للشراب والظل والنوم والنور والأمل. الشوارع فارغة في هذا النهار الشاحب، والأشجار عارية، والغيوم رمادية. بدا على نحو واضح وضوحا مخيفا ان الجميع على دراية كافية بتفاصيل القضية. هناك إتفاق غير معلن على عدم الحديث في المسألة أمامي. ذهلت كيف يمكن لهذا الكم الهائل من البشر ان يتكتم على جريمة علنية بهذا الوضوح المخيف؟ الرائحة في كل مكان. الصمت في كل مكان. فكرت: هناك أشياء كثيرة تتفسخ الآن غير الجثة. الفضيحة الحقيقية في مكان آخر. الجثة المتفسخة ليست جثة يسرى . حتى الرائحة تكاد أن تكون، لقوتها، مرئية كالاعلانات على الجدران. الغريب ان احدا لايشم.الرائحة في كل مكان ولا أحد يشم. جريمة قتل علنية لكن احدا لم يتحرك لمنعها في ذلك اليوم المشؤوم، والكل يعرف حتى التفاصيل. في مقهى على حافة السوق التقيت اسماعيل الشيوعي الذي صار مقاولاً. مكتب المقاولات يديره فتى ناعم ورقيق والفتى يتكلم معي بطريقة من يعمل معروفا. في ملامحه شيء مقرف: عيون كحيلة وغنج وليونة في الحركة لابد انها تخلب عقل إسماعيل. رغم ان الصورة معتمة في الأساس الا انني كنت أتوقع، رغم كل شيء، رأيا مختلفا عنده لكنه فاجأني بالقول بأن هذه المسألة خرق فاضح للتقاليد وإنها تستحق كل هذا المصير. وتابع قبل أن يتركني: ـ هذا إنتهاك للأعراف. فكرت في أن أذهب إلى مفوض شرطة، وهو زميل قديم من أيام المدرسة الإبتدائية.كان تعليقه: ـ لا أعرف شيئاً. لكنها تستحق أسوأ من ذل. كان يتحدث معي بشعور شخص يتنازل أو يتواضع أكثر مما ينبغي. تركته وأنا أشم رائحة في كل مكان. لكن اين الجثة؟ بدا وسط الحرب والضياع والإلتباس، انني لم أعد أبحث عن جثة. بل عن شيء آخر.في كل يوم أكتشف أمرا جديدا. القتلة يتكاثرون يوما بعد آخر ويتسع حجم المشاركة لدرجة ان السؤال الحقيقي الآن هو ليس من قتل يسرى بل هو : من لم يشترك في وليمة القتل؟ ألا يحتمل ان احدا إلتقطها بسرية من النهر ودفنها تقديسا للموت ؟ رحت أراقب شريط النخيل الطويل الممتد على جانبي النهر. الشريط الذي كان القمر يبزغ من خلفه في المساء أيام غابة ربيضة والذي تمتد على جانبيه قرى متناثرة تحت الشمس وتتداخل كأنها خيوط من الطين والعشب والنخل على جانبي الضفاف المشمسة والسهول المترامية الخضر والمراعي المعشبة. تخلصت من مشاعر القرف أمام رائحة الأرض وفيض النور وعطر الأعشاب. في نهاية نهار متعب ومنهك قررت زيارة صديقي القديم الساكن في قلب الحي العتيق وإسمه كاظم مجيد.وجدته يشرب في الظهيرة. قال:ـ خذ حذرك. ـ اعرف. قال بصراحته المعهودة:ـ الأرملة تعرف أشياء كثيرة عن الجريمة. أدهشتني قدرته العجيبة على سرد حوادث مثيرة بطريقة تلقائية وبسيطة. قال:ـ الأرملة هي الوحيدة التي إلتقت بها صباح يوم الجريمة وطلبت منها أن تستحم وترتدي أجمل ملابسها. وتابع بإبتسامة شاحبة على وجه منهك:ـ معذرة لسرد هذه التفاصيل. ـ لكن كيف عرفت ذلك؟ ـ أقدر لهفتك. الأرملة لها علاقة خاصة مع صديق. هتفتُ: ـ الأرملة؟ معقولة؟ ـ معقولة. ولم لا؟ ـ لكنها تتصرف كقديسة. إنحنى علي بحنان وشفقة وهو يقول:ـ وهي مخبرة وقوادة. وحتى لا أفيق غرز النصل كله في القلب: ـ مفوض الشرطة سجل بنفسه محضر تحقيق عن إنتحار مزعوم. وضغط على النصل أكثر: ـ كلهم يتظاهرون بالرهبنة من إسماعيل إلى الأرملة إلى الكاتب إلى رجال المحكمة الى شيخ الدين.. الخ.. قلت بيأس:ـ شيخ الدين؟ ـ هو الذي أصدر فتواه. أطبق علي دوار عاصف وسألت: ـ من الذي لم يشترك في هذه الجريمة إذن؟ أجاب بلهجة باترة:ـ في الحقيقة لا أحد. ورفع كاس العرق وعبه في جوفه وهو يقول بحقد: ـ لا ينقذنا غير حريق كبير . قلت برجاء أخير:ـ لكن الجثة؟ قال كأنه لم يسمع: ـ أحذرك من الذهاب إلى الأرملة. قلت:ـ لكن الجثة؟ ـ في القاع. ـ ماذا حدث في صباح وليلة الجريمة. يجب أن أعرف؟ ـ أحذرك من الذهاب إلى الأرملة. وأضاف بإشفاق: ـ هل أنت جائع؟ ـ أبدا. كاظم هذا هو إبن الحاج مجيد الوجه الضاحك لشارعنا والبحار القديم. نسميه بحارا لأننا لم نكن نميز بين البحر والنهر، ورجل الحكايات المثيرة عن نساء عرايا يخرجن على ضوء القمر من النهر، وكائنات إسطورية تتكلم، وصيد وبضائع وفواكه خرافية ورحلات غامضة. أكبر حكايات الحاج هي حكاية حبه وهروبه على ظهر الباخرة مع المرأة التي عاشت ودفنت قربه، وأم كاظم. قال بتركيز:ـ لا أطلب منك شيئاً. أوصيك الحذر فقط. *** كانت المعارك تشتد وتهبط على جبهات الحرب. قوافل القتلى تتدفق. جرحت مرتين. لكن الجرح الغائر في القلب لا يزال محرقا. فكرت بزيارة كاظم في عزلته الإسطورية بعد أن علمت عرضا انه مريض في وقعة مخيفة بعد زجاجة عرق على الريق.قال بصوت واهن:ـ هل من جديد؟ ـ كلا. أنت سيد العارفين. ـ جئت تسأل عن ليلة الجريمة أليس كذلك؟ ـ بودي لو أعرف اللحظات الأخيرة. ـ الأرملة حذرة منك. ـ كيف عرفت؟ ـ عشيقها صديقي. وأضاف: ـ الظاهر انك لاتعرف شيئاً مما يدور خلف الحيطان. وتابع ضاحكا: ـ هذا بسبب الكتب . قلت محتارا:ـ والآن ما العمل؟ بزغ من عينيه تصميم غريب لاينسجم مع جسده المتداعي:ـ ماهو الجدوى من البحث عن جثة في نهر بعد مرور كل هذا الوقت؟ مستعد لعمل اي شيء اذا نجحت في اقناعي. قلت: كيف أشرح؟ احساس لا يوصف. يجب ان أقف عليها في كل الاحوال. بدأت البحث داخل قرى الضفاف. أسوأ ما في الأمر بدايته وكان علي أن أمضي في مسالك وعرة عند السؤال. تذكرت( يوسف) حارس غابة ربيضة العريق، الذي يطل بيته على بقايا ربيضة التي تحولت الان إلى منازل رمادية وأبراج بعد أن تلاشت أشجار القوغ والبياض والصفصاف والأدغال وحكايات سكان ضفاف الأنهار السحرية قرب المواقد. ظلت الغابة حلم يوسف. لا يريد الإبتعاد عنه ولا الإقتراب أيضا. ها هو يطل على بقاياها كل نهار وليل يتلمس بقايا ذلك الحلم الهارب. يطل لا على حطام الغابة بل على حطام كل الأشياء الغائبة. ليست الغابة وحدها صارت حطاما بل يوسف، صورتها الداخلية وعمقها، وذاكرتها. قلت: ـ كان النهر صافيا. كان الغروب الرماني يطل على الغابة المندثرة والتاريخ والنهر. قال يوسف: ـ زمن سعيد. قلت:ـ كان غرق إنسان إعجوبة في ذلك الزمان. قال هامسا بحسرة: ـ في السنوات الأخيرة بدأت تظهر جثث طافية كثيرة. جفلت. قفز قلبي إلى فمي. كتمت صرخة توشك ان تفلت.قلت ببرود مفتعل: ـ قد يكون الجهل بالسباحة. هز رأسه بنفي قاطع: ـ لا أظن. تابع بحذر واضح:ـ بعض الجثث مشدودة بالحبال. قفز قلبي إلى عيني. قلت: ـ قتلى قمار أو سكارى. قال بتصميم: ـ وبينهم نساء أيضا. أوشكت على الصراخ. تابع كما لو انني لم أكن موجودا:ـ ظهرت قبل فترة جثة لإمرأة لكن سيارة حملتها بسرعة. ـ إلى اين؟ قلتها بفزع.تابع :ـ يقولون انهم ألقوها ثانية في النهر. ـ وتعرفهم؟ ـ ليسوا غرباء عن المنطقة. بدأ يلهث وتوقف وساد صمت ثقيل متوتر مشحون بكل الإحتمالات. في تلك اللحظة تراءت عبر النهر والظلام جثة بحجم الكون. صمت ولم يتكلم بعد ذلك أبدا. تركته يواصل تحديقه عبر النهر إلى مكان الغابة حيث موقده القديم المتلاشي كحلمه والذي بالت فيه يوما تلك المرأة العابرة ، كما بال عليه الزمن. تركته يواجه ربيضة الثكنة والملهى والماخور الخاص بالسادة الجدد. عدت لزيارة كاظم في عرينه في قلب الحي العتيق. لم يكن موجودا. سألت في أكثر من مكان بلا جواب. ذهبت إلى مكان ثلة مضخة الماء، فأكدوا جميعا ان( الملك) لم يسجل حضورا لا أمس ولا اليوم. خفت أن تكون زجاجة عرق قد كبست على قلبه في بستان أو خرابة كعادته أحيانا. همس احدهم بحذر:ـ انهم يلاحقونك ـ وتعرف؟ ـ الجميع يعرفون. ـ الجميع؟ ـ نعم. الجميع. لكن خبرا إنتشر يقول:( كاظم في السجن). لا أحد يعرف لماذا. إنطلقت ملهوفا إلى الحي العتيق ووجدت صاحبي. سألته بشوق: ـ ماذا جرى؟ ـ أخذوني إلى السجن. ـ هكذا؟ ـ يقولون انني حاولت السطو ليلا على منزل إمرأة. نفيت ذلك لكنهم قالوا أنني كنت ثملا ولا أدري. قلت بإمتعاض: ـ ماذا تظن؟ ـ عرفوا زياراتك وطلبوا مني صراحة منعك من دخول المنزل. ـ والحجة؟ ـ سجين سياسي سابق. ـ ماذا قررت؟ ـ لا أدري. إلتفت ليقول بقلب ينبض في عينيه المنهكتين: ـ ماذا ستفعل أنت؟ قلت وقد ركبتني كل شياطين الأرض:ـ سأهرب. ـ إلى أين؟ ـ إلى اي مكان. حضنته كما لو لم أحضن مخلوقا من قبل، وكان رأسه على صدري ساخنا، نديا، راعشا. عدت إلى فندق سيوان ومنه أخذت حقيبتي إلى محطة القطار، وإلى الجنوب.. إلى الحرب.. إلى الحرب الأخرى. *** ليل ومطر ورصاص. كنت مختبأ في الوحل والدغل كحيوان صغير خائف .كنت حارس حقل الألغام، بعد ان كنت حرس جومان القديم. أنا الان حارس الخط الأمامي للفنادق الكبرى، للمراقص الليلية، للمباغي، لقصور الجواري، لحفلات الموت، لمدن لأسلاك الشائكة، والأبراج. أنت الان، يا وحيد، جندي وسجين مؤجل ما أن تنتهي هذه الحرب. قد تموت في اية لحظة كجرذ . ربما لا تمتلك حتى كرامة الجرذ ، وجرأته، وحريته. أنت الان تجلس في حقل الألغام، كإنذار مبكر لخنازير الخطوط الخلفية، حارس بوابة الجحيم. هذه الساعة قمر يشرق بين الأسلاك الشائكة. كم يبدو مشهد القمر متنافرا مع هذا المكان. ليس هناك أقسى على القلب من قمر يطلع بين الأسلاك. بعد منتصف الليل ستنتشر رائحة جثث مرمية في العراء الليلي، البارد، الموحش. تلك الليلة في خطوط الموت لا تنسى. الليلة الأخيرة بين القمر والأسلاك. ليلة الجرذ الأخيرة. كان الهدوء غريبا، ومثيرا، ومريبا. السماء صافية، والنجوم تومض في العراء البعيد، عدا صليات متقطعة من رشاش خلف الساتر. ثم، فجأة، تساقط مطر خفيف. كنت مختبأ في جحر أكبر من أحلامي. جحر يليق بفأر. على غير توقع انهمرت على الخنادق ، في آن واحد، قنابل، وأمطار، ومشاعل، وصواعق، ورصاص، عصف حار، ودخان، ورائحة بارود، وصيحات. لم يسلم من ذلك السعير الخنادق الأمامية، أو المقرات الخلفية، تموين، نقل، وقود، عتاد، وطرق. كانت الجبهة تشتعل. انفجر الصمت. صار الجحر صغيرا على جسدي. حاولت ان اتمرد على حجم الصرصار الذي حددوه لي. حاولت أن أكون اكبر من فأر. لكن القنابل أعادتني الى شكلي القديم. صارت الحياة عارية كالحجر. الغريزة، والجنون، والدعارة، والسياسة، وهذا كل شيء. هنا يستريح الإنسان من آدميته حين يتبرع بها الى السلطة، الى الليل، الى القتل، الى الغابة، الى ما قبل اللغة والثقافة، أي الى الكهف الأول. تقاطع الرصاص في الهواء. تطايرت أشلاء. شبت حرائق. تفجرت صرخات. إحترق الظل، والعشب، والماء، والعقل، والدغل. في الفجر سكنت الجبهة كما لو ان الضوء ابتلع الصراخات الوحشية. عندما رفعت رأسي، رأس الفأر، كان الضباب والدخان والغبار يزحف على كائنات الفجر من أشجار، وبقايا نجوم، وقتلى، وأحياء، وعجلات محترقة، وأعمدة محطمة. كان جريح إيراني يمد يده الي . كان شاحبا، ومذعورا. ليس الذعر الناجم عن الشعور بقرب الأجل، بل الشعور المهلك بأنك جريح، ومحاصر. أسقط الجرح والخطر خرافة الدم والجغرافية والسلالة والدين والإسطورة والتاريخ والحقوق والوهم. كانت يده ممدودة نحوي كما لو انه يمدها الى الفراغ، والليل، واليأس. هدأت الجبهة. نام الجنود الى جانب القتلى. حطت الفراشات على صدور القتلى المهزومين وعلى صدور النائمين المنتصرين كما يقول النشيد البوذي. هذه مساواة الفراشات. إنها الساعة التي يصحو فيها الديك. ديك عراقي يصيح فوق صدور القتلى والنائمين في ضوء الفجر. كنت غاطسا في الرائحة، والوحل، والقرف.كان الجريح قد سكنت حركته تماما.كان الدرب الى الجانب الآخر ضيقا لكنه يكفي. لا يوجد أي درب آخر . 4 طهران 1988. كانت الحرب لا تزال مشتعلة في أيامها الأخيرة حين كنت أجوس الطرقات في طهران بعد خروجي من السجن الإيراني أو بيت الضيوف المخصص للفارين من الحرب وهو صورة مختصرة للسجن. من الاهواز، الى كهريزك، الى كرج في طهران. هذه أول العواصم في رحلة المتاهة. غول من الإسمنت والرايات والأضداد. مدينة تحت القصف والحداد والرايات والتاريخ. تعرفت على زقاق(كوجه مروي )أو سلطة الوحل في شارع ناصر خسرو وعوالمه السفلية في الخمر والحشيش والتزوير والمواكب. فيه أيضا إلتقيت جوقة الفارين من الحرب أو الجبال والمطرودين والمتسكعين والحالمين. كنت أهرم كل لحظة. تعرفت على مقهى نادري أحد بقايا الملكية في شارع جمهوري إسلامي وإلتقيت فيه بزمر المرتدين والملكيين والحالمين بنهاية عاجلة للحرب أو الهرب إلى آخر الدنيا. الكل يريد الهرب. هنا إلتقيت بقاسم شريف الهابط توا من الجبل والخيبة والضياع، بعد هجوم الجيش على الجبال في آب سنة1988. في شارع ولي عصر أخذت طريقي إلى السرداب في غروب صيفي آسر. السرداب طابق أرضي من عمارة قديمة. العمارة وكر للفارين من الجحيم أو الحرب. كنت أزور السرداب بين وقت وآخر كلما قدمت إلى طهران من مخيم كرج ـ 30 كم شمالي طهران ـ وفيه أشعر بالسكينة حيث يتلاشى الطابع الشخصي للمحنة امام حكايات سكان السرداب الذين هم خليط من الأحزاب السرية والخرافة والغموض، وتتحول فيه أكثر الحكايات غرابة وإثارة للدهشة إلى وقائع عادية. هنا أيضا إلتقيت بصديق قديم كنت أظنه ميتا أو مقتولا أو سجينا، كان بيته على مقربة من ضفة النهر مقابل ربيضة. لاحظت انه حزين ومسحوق من أشياء كثيرة. رغم تسلط الأحزان، وظروف المخيم ـ الإسم الأنيق للسجن الجديد ـ إلا ان علاقتي بالسرداب لم تنقطع. هذا المكان رأيت فيه صور العواصف الآتية.أحببته وكرهته وعدت إليه. كانت أجواء الحرب في كل مكان. لكن شارع ولي عصر غارق في أبدية النور والأقدام الثقيلة المنهكة والصمت الذي تسحقه فجأة صفارات الإنذار. الحرب خلفي وأمامي. في مقهى نادري بدا لي ان اسرارا كثيرة تحت سطح المظاهر. المخبوء أكثر من المرئي. كان شاهين الأعور هاتك أسرار المقهى يلعلع بصوته اليائس، رغم المرح، كأنه ببغاء في فضاء المقهى: ـ أنا شاهين الأعور لا سياسة ولا بطيخ. واقع في غرام بجغ معارض كطير ذهب عبر الحدود فعبرت خلفه كالمبنج
|