المقاله تحت باب رواية في
01/02/2007 06:00 AM GMT
كنت في داخلي اشعر اني لن أموت موتا عاما مع الحشود. هذا الموت بعيد عني. كان موتا سخيفا. كنت أخشى أكثر الموت تحت التعذيب والأحذية. هذا الموت قبيح ولا كرامة فيه أو بطولة. إنه ذل. وكنت أعتقد ان في استطاعتي ان أختار موتي. وكم كنت مخطئا. لكن مجرد الشعور باني لن أموت تحت تأثير غارة أو حريق أو طوفان يملأني بحيوية كبيرة، وطاقة لا حدود لها. نزلنا في الباب الشرقي بدل مواصلة الرحلة الى ساحة الأندلس. مررت على نصب فائق حسن ورأيت الحمامات البيض تطير في فضاء النصب. سمعتها تقول انها تعبت كثيرا فقفلنا راجعين الى الفندق، حيث كان آزاد خلف طاولة الإستعلامات. نهض حين دخلنا. قال انه يأمل ان تكون السيدة قد تمتعت بهذه الرحلة. قالت له انها مسرورة. سألنا اين لحقت بنا صفارة الإنذار. أين وقعت الغارة، واين تعشينا، واي المشاهد كانت أجمل، واي مكان كنا نحلم به لم نصل اليه؟ لم أجب على اي من هذه الأسئلة وانتظرت ان ينتهي منها جميعا ، حين قلت وأنا أضع عيني في عينيه بمودة: ـ لو كنت أدري انك مختبيء في ذاك الكهف اللعين في حصاروست لكنت أرسلت لك قاذفة قنابل ضخمة لتهرس عظامك. ماذا كنت تفعل في ذلك الجحر اللعين؟ ضحك وتمايل الى الوراء: ـ كنت نائما طوال الوقت؟ ـ فقط؟ ـ لا. وأشياء أخرى. قلت وأنا أمسك يده بلطف:ـ أنا أعرف تماما هذه الأشياء الأخرى.كيف كنت تتناول طعامك في ذلك الجحيم الأبيض؟ ـ كان يأتي طازجا الينا من بعيد. ـ طيب. لن نتحدث كثيرا في هذا الموضوع. هل ستظن ان (زوار الليل) سيأتون الليلة؟ ـ لا أدري. ربما. ـ هل تأذن لنا بأن نصعد إلى الغرفة، مع العدة الباردة؟ ـ لقد رتبت كل شيء وستجده في الثلاجة الصغيرة في غرفتكم. هل تريد العشاء هناك ايضا؟ قلت:ـ نعم. وعلى قمة هندرين . ضحك بمرح حقيقي. شعرت ان الغرفة دافئة وهادئة ونظيفة. ذلك الدفء الأليف الناجم من الشعور بالطمأنينة، ومن وجودك مع امرأة تحبها، ومستعد في اية لحظة ان تموت لأجلها. أما هي فقد لاحظت انها كان ذاهلة، ومسرورة. سرور طفلة بلعبة جديدة، ومثيرة، وخطرة.كانت النافذة مفتوحة على الليل، وعلى رائحة الأزهار، والسكون، والسطوح الرمادية لبعض المنازل. على الحائط سجادة مطرز عليها صورة رجل يمتطي جوادا أسود وبيده بندقية، وخلفه امرأة تمسك به بقوة. قلعة في الخلف تبدو بعيدة، وغبار يتصاعد من حوافر الجواد المنطلق. كان من الواضح ان الرجل قد غادر القلعة مع المرأة. في القبة السماوية ثمة نجوم تلمع، والرجل ملثم، والمرأة محلولة الشعر كما لو انها نقلت من فراش. يتبع الرجل ، كحارس جواد آخر أبيض اللون بدا رشيقا، وقويا، ومشعا تحت ضوء القمر. سمعتها تقول: ـ أليس ذلك عجيبا؟ ـ ماهو العجيب؟ ـ صورة السجادة. ـ كنت قد فكرت بذلك. اين سر النجاح في عملية الهروب هذه؟ قلت: ـ في الجواد، والبندقية، والليل، والصحراء، والزمن، والصديق. ـ نعم. هذا صحيح. قلت: ـ أعتقد اني سأستحم قليلا. يمكنك الاكل اذا كنت جائعة . كانت تبدو مسرورة بسجادة الحائط، ومستغرقة فيها أكثر من اي شيء آخر. كان الحمام الصغير الملحق بالغرفة منعشا، وهادئا، ولذيذا. حاولت ان أمسك بشيء ما في رأسي فلم اجد. كنت فارغا ومشوشا تشويشا حادا بحيث يتعذر معه التفكير بشيء محدد وواضح. بدا كل شيء ، على نحو ما، غير واقعي. ليس سهلا لرجل كان ينام حتى الأمس القريب بين القنابل والحفر الموحلة والجرذان والخوف، ان يجد نفسه في غرفة مضاءة، ونظيفة مع امرأة يحبها حتى الموت. هذا التشوش ليس ناتجا من قرار بل من تحطم نظام الأشياء وانهيار كل القواعد. وجدتني افكر، بلا رغبة او وعي، بأحداث سنوات 74 و 75 ـ في الجبال.مرت مشاهد ذلك الشتاء الفظيع سريعا: ثلوج ديانا، هندرين، جبال نواخين، كورك، حسن بيك،هضبة سبيلك، كلي علي بك، مضيق برسلين، قتال اللحظة الأخيرة، الدخول الى كلاله، الربيع، اخلاء قتلى الشتاء الماضي المدفونة في الثلج فوق جبال زوزك. اول مرة رأيت فيها جبال زوزك شعرت بمعدتي تنقلب. كانت شاهقة، وحجرية، وقمتها تبدو مغروزة في قبة السماء . كانت معارك ضارية قد دارت على سفوح هذا الجبل شتاء 74 . ثم جاءت عاصفة ثلجية، مع هجوم صاخب ، رافقه صراخ ، وقاذفات، ورصاص، وضباب، وريح، فهزم الجيش تاركا قتلاه من جنود وضباط من بينهم ملازم فهد، وملازم مهدي الذي جاءت زوجته الى سفح الجبل بعد ذوبان الثلوج في الربيع لتشهد بنفسها اخلاء جثة زوجها التي لم تشوه تماما بسب الثلج. أتذكر ان تلك المشاهد قد عاشت معي طويلا دون ان تمحي خاصة هجوم القاذفات المباغت والصراخ والعاصفة. كما ان قمة الجبل الشاهقة المغروزة في الأفق انطبعت في ذهني، بصورة حادة. ان صعود جبل زوزك مرير، وشاق، للجنود. حين تصل قمة وتعتقد انك وصلت النهاية حتى تظهر لك قمة أخرى وهكذا. أتذكر ان بلدة ديانا كانت مخربة تماما. كانت جدران المنازل والسقوف المحطمة ترتفع الى السماء كأذرع غرقى .كانت، رغم ذلك، بلدة جميلة، ومتراصة، وصغيرة، تحت جبل زوزك، حيث يمكن رؤية جبل هندرين المطل على بلدة راوندوز. تذكرت سحب الجثث ، وعين الماء أسفل الجبل، والقصف المدفعي اللعين الذي كان يمنعنا من جمع الحطب ، وسفوح نواخين الغارقة في الضباب والدخان وراجمات الصواريخ عند بوابة كلي علي بيك. سمعت جرس الباب . كان آزاد قد جاء بالعشاء. سمعتها تشكره وتقول له اني في الحمام. كنت قد انتهيت من الإستحمام. وجدتها تنتظر وهي تتأمل سجادة الحائط. كنت جائعا: ـ قال انه يعرف انك تحب الكباب كثيرا. ـ هو قال ذلك؟ لم اسمعه جيدا. عنده ذاكرة طيبة. أكلنا بشهية مفتوحة. لم تعد تركز كثيرا على سجادة الحائط ، وهذا شيء حسن. فتحت التلفاز الصغير الموضوع على طاولة في الركن. كان يتحدث عن الحرب ، ويعرض صور القتلى. أغلقته بسرعة: ـ هل رايت قتلى؟ ـ نعم. ـ هل قتلت أحدا ؟ ـ لا أدري. ربما. ـ هل تشعر بالألم ؟ ـ أشعر بالعار من هذه الحرب. ـ هل من نهاية لهذه الحرب ؟ ـ لا بد ان تكون هناك نهاية. لكن حربنا أنا وأنت طويلة؟ كنا قد انتهينا من تناول العشاء، ورايت انها عادت لتتأمل سجادة الحائط.سألتني: ـ هل تظن انها حبيبته؟ ـ بالتأكيد. هل لاحظت كيف تمسك به بعنف، وشوق؟ قالت، باسمة : ـ هل ستتركني لوحدي ، لو طلبت منك ذلك؟ ـ أرجوك كفي عن هذا الكلام الان. قالت: ـ أعرف انك مبلبل. رن جرس الباب .قلت من مكاني على المائدة : ـ أدخل. لم يدخل. خرجت بنفسي فوجدت شخصا غريبا. قال انه في واجبه الان ويطلب مني هويتي. عرفت حالا انه احد رجال الأمن وهذه غارة مباغتة لم تعلم بها حتى أدارة الفندق. قلت له ان يمهلني لحظة واحدة. عدت الى الغرفة وسحبت هويتي الصحفية، بدل الرخصة العسكرية وسلمتها له. تأملها طويلا، وأعادها مع نظرة طويلة، لكنها غير عدائية كما هو متوقع من هؤلاء في هذه الأحوال. سألتني بقلق: ـ من يكون؟ وكنت لا أزل مضطربا من المفاجأة:ـ رجل أمن. ـ ماذا قلت له؟ ـ أعطيته هويتي الصحفية. ـ قال لنا عامل الفندق انه سيساعدنا في هذا الأمر؟ ـ الظاهر انه بوغت. وطرق شخص الباب. جمدنا هذه المرة. حين خرجت وجدت آزادا شاحبا: ـ هل جاء اليك؟ ـ نعم. ـ ماذا جرى؟ ـ مر كل شيء بسلام. حسبت انك بوغت ؟ ـ نعم. حدث الأمر كإعصار. هم يفعلون ذلك أحيانا. هل السيدة بخير؟ ـ بخير. وتشكرك كثيرا. يمكنك الدخول اذا رغبت. رحبت به وهي واقفة. قال انه آسف، ومحرج. قال ايضا انهم يفعلون ذلك أحيانا لكننا لا نستطيع ان نفعل شيئاً. كان يفرك اصابعه بقوة . قلت محاولا تبديل الحوار:ـ هل تريد ان تشرب معي ايها المتمرد؟ نظر الي بصفاء وقال: ـ نعم حضرة الخفر. هل قلت انك كنت حارسا على جسر جومان؟ هل هي صحيحة حقا حكاية بغال الإسطبل في أربيل؟ ـ نعم حقا. قلت لك ذلك. هل نسيت؟ ـ هذا اللعين أطار عقلي. وشربت معه كأسين من البيرة الباردة التي اختارها بنفسه. قال: ـ سيكون بوسعك ان تشرب ما تشاء الليلة على حسابي. لقد أزعجتكم حقا. لم يترك لي فرصة كي أبلغك في الهاتف. ـ هل تستطيع ان تنسى ذلك؟ ـ نعم. ولكنه قد يتكرر . ـ سنحتاط المرة القادمة. وسألها بلطف: ـ هل ستبقون ليلة أخرى؟ اجبت: ـ سنبلغك في الصباح. قال: ـ ارجو ان يكون ذلك قبل منتصف النهار. والتفت اليها، فجأة، وقال: ـ أعتقد انه يحبك كثيرا. لم اره مسرورا مثل اليوم. وسألني: ـ هل كنت في ميركه سور؟ ـ نعم. وفي حاج عمران، وحرير.. الخ..شاهدت ديانا في العام الماضي. ـ حقا؟ كيف وجدتها؟ ـ أفضل من السابق على اية حال. لكنها الحرب، ثانية. ـ أعرف. لقد حدث قتال عنيف في جبال سديكان. ـ كنت هناك بعض الوقت. خسرنا جنودا كثيرين. وجدت بعضهم قتل على الطريق العام من المغاوير والقوات الخاصة لواء 66. ـ هل جرى قتال بالسلاح الابيض؟ ـ سمعت انه دار في بعض المواقع. ـ هل تعتقد ان هذه الحرب ستنتهي؟ قلت وأنا أرفع كأسي: ـ يجب ان تنتهي في يوم ما. هل تشرب المزيد؟ ـ لابأس مرة ثانية، لأجلك. وشربنا مرة أخرى. قال: ـ يجب ان اذهب. اني آسف على الثرثرة. يمكنك ان تتصل بي ، اذا اردت شيئاً. ودعته حتى الباب. رأيت ان الممرات هادئة تماما. كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل.كانت النافذة لا تزال مفتوحة على الجدار المقابل، وبعض السطوح، ورائحة الأزهار، ونجوم سابحة في سماء بعيدة. كانت الغرفة دافئة، ومريحة، وجواد الحائط يعدو منطلقا مثيرا خلفه الغبار والأشواك المتطايرة، والمرأة تمسك حزام الرجل بعنف، وشوق، كما لو كانت تضمه اليها، بقوة، ولذة ممزوجة بالألم والرهبة والغموض. سمعتها تقول: ـ لا تقلق. سيكون كل شيء على مايرام في الصباح. الان أغلق عينيك، وكف عن النظر الى الحائط. وضعت يدها على عيني. غاب كل شيء. لكني سمعت المطر يهطل في الخارج كما سيظل يهطل في كل مكان على وقع حوافر خيول هاربة تحت ضوء القمر على سجادة حائط فندق مقبرة الشعراء. *** مطر يهطل في طهران، على نوافذ اسلام اباد، في بودابيست، الدار البيضاء، دمشق، ستوكهولم، كوبنهاكن، بيرغن، أورستا، ستافنكر، الصويرة، بغداد، البصرة، امستردام.. لكنه ليس مطر فندق سيوان. انه مطر الخيول الهاربة من قلاع الموت والحريم الى البرية تحت ضوء قمر. حين رويت هذه الحكاية مرة واحدة واخيرة لكريستينا قالت: ـ لا تكذب. هذه واحدة من حكايات الف ليلة وليلة. زمن الخيول الهاربة والحبيية المخطوفة على ضوء القمر لا توجد الا في الحكايات. انظر أخذ الثلج يهطل على بيوت بيرغن؟ *** استيقظت في الصباح والشمس تملأ النافذة ، وكنت أتصور انني لا أزال في الجبهة، لو لا الفراش الناعم، والنظيف، ورائحة الغسيل فيه، وسكون الغرفة. تذكرت كل شيء. أصابني ذعر لأنها لم تكن موجودة. حين ناديت عليها جاءني صوتها من الحمام. بعد لحظات خرجت مشعة، لامعة، والماء يقطر من شعرها.قالت وهي تجفف شعرها: ـ هل خفت؟ ـ نعم. كيف نمت الليلة؟ ـ نمت نوما مريحا. سمعتك تتكلم في النوم؟ قفزت من السرير : ـ هل قلت اشياء تافهة؟ ـ لا. كنت في الحقيقة تنوح نواحا طويلا. ـ هذه عادتي دائما. يقولون ان الذي يئن في النوم أو ينوح سيموت قريبا. هل سمعت بذلك؟ ـ سمعت، لكني لا أصدق. هل تصدق أنت؟ ـ لا. هل طرق أحد الباب هذا الصباح؟ ـ قال آزاد انهم ينتظرون جوابا منا حول ما اذا كنا سننام الليلة هنا أم لا. ـ ماذا قلت له؟ ـ قلت له عليك ان تنتظر قليلا. هل تحب النوم حتى الظهر دائما؟ ـ لا. ولكن النوم في فراش نظيف، ومرتب، لا يتكرر دائما لجندي في الخطوط الأمامية. هل يضايقك ان أنام حتى الظهر ؟ ـ ابدا. كنت تبدو طفلا ضائعا في السرير. كنا نتجنب الخوض في الموضوع. كنا، في الواقع، نتهرب منه: ـ وماذا سأقول للرجل حين يأتي مرة أخرى؟ أجابت بلامبالاة: ـ قل له أي شيء. ـ ماذا يعني ذلك؟ ـ قل له اي شيء. لقد انتهى كل شيء بالنسبة لي وتقرر مصيري منذ الليلة الماضية. كل الحلول تشبه بعضها بعد اليوم. وجلست على حافة السرير قربي: ـ ما معنى ان مصيرك تقرر ؟ ـ لقد افتقدوني ليلة أمس. بحثوا في كل مكان. تأكد لهم اني هربت معك. هذا كل شيء. ـ هل هذا يكفي؟ ـ نعم. يكفي. أنا أعرفهم جيدا. ـ ما العمل إذن؟ ـ ساواصل الهروب. ـ الى اين؟ ـ الى اي مكان في الأرض. ـ لكن الحدود مغلقة. وقرع جرس الباب. قلت: ـ أدخل. قال آزاد وهو يلقي تحية الصباح: ـ يبدو ان حارس جومان نام نوما عميقا. ـ أنت تعرف أيها العقيد المحترم.... قال مقاطعا: ـ لاتقل ذلك أرجوك. عقيد وآمر وحدة مشاة وسكير في مناطقنا. حين يسكر في الليل يوعز لجنوده في الربايا بالرمي العشوائي على نوافذ البيوت المضاءة للإزعاج. ـ حقا؟ ـ نعم. ـ وماذا فعلتم معه؟ ـ انا لا أعرفك جيد الآن. ولكنك كما أظن لست منهم. قلت باسما: ـ كيف عرفت؟ ـ لا حظت انك كنت مضطربا من رجال الأمن. ـ انت شخص ذكي. هل يعجبك لقب الجنرال؟ قال: ـ لا. لقد سمعت من الناس ان ذلك العقيد قد جرح في كمين وان بعض جنوده قتلوا. ـ هل كان هذا هو العقاب؟ ـ لا ابدا. هذا ظلم. لكن الناس لا تفكر بهذه الطريقة في تلك اللحظات. ـ هذا صحيح. ـ هل يعجبك لقب آمر هيز ؟ ضحك:ـ ولا هذا. لا أحب الألقاب . ـ ما معنى آزاد؟ ـ قلت لك معناه الحر. او الحرية. ـ اذن سأناديك بعبد الحر بعد اليوم. ـ إذا رغبت. قل لي الآن هل ستبقى الليلة هنا ؟ يجب ان تبلغ ادارة الفندق. ـ نعم. ـ اذن ستبقى. هل تريد الإفطار هنا أم في المطعم؟ ـ اسمع ياعبد الحر: قلت لي انك عرفت انني لست منهم. هذا صحيح. لكن كيف أعرف انك لست منهم ايضا؟ ـ هذا حق. يمكنك ان تثق بي كثيرا. هل قلت شيئاً بخصوص الطعام؟ قالت هي :ـ أفضل تناوله في المطعم. ـ هكذا أحسن، ايها الحرس القديم على جسر جومان. دع السيدة تقرر أيضا. هل تتذكر جيدا هدير الماء تحت جسر جومان في الليل؟ ـ كان الشيء الوحيد الذي أخافه أكثر من الموت. وضحك: ـ كنا نعرف ذلك. ـ وتعرفون؟ ـ نعم. هناك صخور كبيرة تحت الجسر يرتطم فيها الماء المندفع من الجبال العالية من جهة محطة اذاعة مدمرة بعد انسحاب سنة 75 السريع. هل تذكر ذلك؟ ـ أتذكر جيدا. حين طاردناكم خلف الجبال العالية. وعثرنا في سجن رايات على مشنوقين. اين كنت في تلك الأيام ؟ ـ كنت في الإنسحاب الأخير. كانت اياما مريرة بالنسبة لنا. شعرنا بأننا بلا أصدقا. ـ كان يجب ان تعرفوا ذلك من قبل. هل تغيرت الامور الان؟ قال: ـ لا أدري. ـ هل يروق لك اسم عبد الحر؟ وكان لا يزال يعيش ذكرى الانسحاب الاخير سنة 1975 فقلت مازحا:ـ كان يجب ان تمنح ميدالية الشجاعة على ذلك. ـ على الإنسحاب؟ ـ نعم الإنسحاب. ضحك بجلجلة قوية: ـ ولهذا السبب تركتم صحراء سيناء. ـ أنت الان آمر هيز حقيقي. انصرف تاركا مسحة من المرح في جو الترقب والقلق والحيرة.قالت بعد ان خرج:ـ إذن سنبقى هنا ليلة أخرى. قلت: ـ هل هناك حل آخر؟ ـ لا يوجد أي حل. بدت هذه المرة ذاهلة، ونائية:ـ ما الذي يشغلكِ الان؟ ـ أفكر في المصائب الكثيرة التي مرت بكَ. اني آسفة على كل شيء. يمكنك ان تفعل ما تريد. لقد عشت ما يكفي من المشاكل. ـ شيء واحد يشغل بالي الان. أجازتي توشك على الإنتهاء بعد ايام وهذا يعني انني لا أستطيع البقاء معك والا أصبحت في عداد الفارين وسأعدم كأي جرذ وأرمى على مزبلة. ـ أعرف ذلك جيدا. لقد أعدموا حسين علي في ملعب البلدة ورموه فوق المزبلة. ـ سمعت بذلك. ـ قلت لك لن يهمني أي شيء بعد اليوم. حققت حلما قديما في ان أعيش حرة ولو لبضعة ايام. لن يحدث اسوأ مما حدث. ان الحبس اسوأ من الموت. في الموت تموت مرة واحدة. ـ اسمحي لي من فضلك في النهوض إلى الحمام قبل ان نذهب الى المطعم ثم لا أدري الى اين. ـ هل أنت حزين أو خائف؟ ـ فات الأوان على هذه المشاعر. يجب ان نواجه نتائج خيارنا الصعب. بالنسبة لي فان شيئاً جديدا لن يقع. أنا أتنقل كما تعرفين من السجن الى الحرب كما تتنقل الفراشة من زهرة الى أخرى. في أوقات السلم يضعونني في السجن. في أوقات الحرب يرسلونني الى القتال. مهما كان الحال فان هذه الايام معك كانت رائعة. ذهبتُ الى الحمام. كنت اعتقد انني في هذا المكان سأشعر بحرية أكبر في التفكير، كي نخرج من هذا المأزق. لكن صور الحرب سيطرت علي مرة أخرى. يبدو انني لا أستطيع الخروج من حرب الا لكي اقع في اخرى ، اسوأ. لكن هذه المرة وقعت في الحرب الشاملة. هذه المرة ستكون هي الحرب الوحيدة التي أستطيع الموت في سبيلها، بطيبة خاطر. لا أدري اين يكمن الفوز في هذه الحرب؟ اين تقع الخسارة؟ هل شرف هذه المعركة في غايتها؟أم في نتائجها؟ كنت أستمتع بالماء الدافيء على جسدي. كان في وسعي ان أشاهد جسدي وقد نحل كثيرا ، كلما طال أمد الحرب. كنت أظن، في الخنادق، ان الحمام هو المكان الوحيد في العالم الذي لا توجد فيه حرب أوقنابل. ان الحرب الطويلة تخلق أنواعا غريبة من المشاعر غير مالوفة في الحياة اليومية . لم يكن حماما في الواقع، بل كان نوعا من الشرود الذي لا يمكن الحصول عليه في اي مكان آخر إلا هنا. كان نوعا من الهرب والحرية والعزلة. بعد الطعام غادرنا الفندق. كان النهار مشمسا، ورائقا، والسماء مشرقة، وغيوم بيض مرتحلة ، وأسراب من الطيور تنحدر نحو النهر. عبرنا نحو شارع السعدون. بدأت رحلتنا من سينما بابل في اتجاه الباب الشرقي، ومن الجانب الآخر للشارع. مررنا بسينما سميراميس. تذكرت مقهى صغيرة تقع بين السينما وشارع السعدون في درب فرعي متاخم للسينما. هنا كنا هاربين في سنوات 78 و 79، قبل أن أسجن بعد حملة بوليسية شرسة. واصلنا المشي ، بعد أن تجاوزنا محلات كثيرة ودار سينما أخرى، حتى وصلنا كازينو تقع قبالة تمثال السعدون. كانت الكازينو فارغة في تلك الساعة من النهار. لكنها تمتليء في المساء. بعد الكازينو سينما أخرى، وحانات، ومطاعم. من بعد وصلنا مكتبات الباب الشرقي. ثم محل شهير للمرطبات: ـ أشعر انني متعبة قليلا. ـ هل ترغبين الجلوس هنا في المحل؟ وافقتْ. كان المحل يواجه الشارع عبر مرايا زرق شفافة تجعل انعكاس الشمس في الشارع أقل حدة. كان يظهر جزء من نصب الحرية لجواد سليم.موسيقى ناعمة تسيل على الجدران، والطاولات، والمقاعد، واللوحات الطبيعية التي تشكل معظم جدران المحل. قالت انها رأت في التلفزيون اعلانا عن المحل. .كنا نتناول المرطبات حين سألتها، فجأة: ـ هل يمكن الزواج منك الآن بطريقة قانونية. ـ لست بحاجة لذلك. أنا متزوجة منك الآن وأشعر انك زوجي وهذا يريح ضميري. ماذا ستفعل الأوراق؟ ـ ليس أكثر من وثيقة أمام القانون. ضحكت بطريقتها الطفولية:ـ كم يبدو مضحكا حين تتحدث انت عن القانون. هل تعتقد انه يوجد قانون في هذا البلد؟ ـ لا أعتقد. ولكن في الأقل لإسقاط صفة كوننا هاربين. قالت بملامح جادة، وبنظرة مستقيمة: ـ حتى هذا لن يكون. يتطلب الزواج عقد طلاق أولا. هذا لن يتم الا بموافقة الزوج والأهل. نحن في نفق مسدود. اضافت:ـ هل تشعر ان علاقتنا تحتوي على شيء من العار؟ ـ أبدا. أنا أفكر في خوض المعركة. مسكت يدي بحنان:ـ ألا تكفيك كل هذه المعارك؟ لم أجب.كان المكان بهيجا، وهادئا، ومنعشا، والموسيقى تكاد ان تكون همسا. على طاولتين جلس بعض الشبان مع فتيات مبتهجات.سررنا كثيرا. كان ذلك جميلا، ولطيفا، ومسالما. وعلى خلفية مشاهد الحرب في الذاكرة كان كل هذا يبدو غريبا ومتخيلا.قلت: ـ أعتقد ان علينا ان نحترس اكثر. ـ نعم. هم الآن كثيران هائجة. ـ وان نقلل من الظهور العلني في الشارع. فكرة الظهور العلني في الشارع سبق وان طرحتها على أثر مطاردة الأمن وها هي تعيد نفسها مرة أخرى. ماذا يعني كل هذا؟ حين تريد ان تكون نفسك تطاردك الشرطة. حين تختار المرأة التي تريد يطاردك الجميع. حين لا تريد ان تذهب الى الحرب يحكمون عليك بالإعدام ويأخذون ثمن الرصاص من أهلك.سمعتها تقول ، بصوت عاد واهنا:ـ أعتقد اننا يجب ان نعود الى الفندق. كان صعبا ان انتزع جسدي من ذلك المكان الهادئ الى صخب الشارع، والشمس الحارة رغم رائحة الربيع. كانت تمشي وسط الزحام مجفلة، ومتيقظة. فكرت ان هذا يجب ان لا يدوم. ولكن كيف؟ دخلنا الفندق الذي بدا لي المكان الوحيد الذي يسمح لنا بالنوم فيه. كان خوفي من نهاية الإجازة يكبر.قالت انها تشعر بالتعب. سألتها اذا كانت تريد الصعود الى الغرفة كي تنام. قالت انها فعلا ترغب في النوم. قالت:ـ يمكنك البقاء هنا أو الذهاب الى اي مكان آخر اذا اردت. ـ هل يضايقك ذلك؟ ـ لا. سأنام. تركتها تصعد وعدت أتجول في الشوارع، علىغير هدى. من النهر فاحت الرائحة التي تخلفها الشمس والطحالب وأعشاب النهر. كان الجسر غاطسا في النور، والطيور تتابع طيرانها الزلق، البطيء، الهادئ، فوق الماء. من مكان قريب سمعت المارشات العسكرية تدوي، صاخبة. مرت شاحنات مطلية بالطين وشبكة الغش مسرعة في الشارع. أما الأشجار فقد كانت رشيقة، ولامعة تحت الضوء، ومتراصة، ومطلية جذوعها بالألوان. لم أكن أتجول. كنت أبحث أو أهرب. كانت الساعة تشير الى الثانية بعد الظهر. دخلت حانة يمكن من خلالها رؤية النهر والجسر والشارع والأشجار. دخلت من أجل قضاء الوقت ومحاولة تنظيم مشاعري المضطربة. في الداخل سمعت شخصا يناديني. كانت الحانة مزدحمة ، والدخان كثيفا، والأصوات مختلطة: ـ ألا تسمع؟ والتفت:ـ هذا أنت؟ كل هذا ولا يزال عنقك منتصبا؟ قلت ضاحكا. قادني الى حيث يجلس في ركن يطل على الشارع. قال وقد بدا مسرورا:ـ رأيتك تعبر الشارع كثور مصاب بطلق برصاصة في الرأس. هل من كارثة ؟ وقبل ان أجيب، أضاف: ـ ولا ابن كلب رغب في ان يجلس معي. قل لي هل يبدو على وجهي اني لقيط أو لص أو قاتل هارب من السجن؟ ـ نعم يبدو ذلك. ـ اذن من حقهم. هل تشرب شيئاً؟ ـ نعم. ـ هل عندك نقود؟ اعطيته . انصرف الى المشرب. صحت خلفه: ـ لطيف، لحظة أرجوك. وحين جاء، قلت:ـ هل تريد مزيدا من الشرب ؟ ـ طبعا اريد. هل تريد ان تأخذ النقود معك الى جهنم؟ الهجوم على وشك أن يبدأ . قلت له، هامسا، ان يخفض صوته. اعطيته نقودا اضافية. همست في اذنه:ـ هل تريد ان تحتفظ بعنقك سالما أم سئمت منه؟ رد ضاحك: ـ هو عنق لو مصيبة. انصرف الى المشرب. تعرفت على عبد اللطيف الراشد هنا في شارع السعدون قبل شهور. قال لي انه قضى حياته مشردا بين الباب الشرقي والنهر وشارع السعدون. قال انه لم يتشرد في شارع الرشيد بعد. *** في النرويج وصلتني رسالة منه يقول فيها بلهجة تنضح مرارة، وحزنا، بانه جائع، ومريض، ومشرد. قال ايضا انه انتقل، في تشرده الجديد الى شارع الرشيد في هذا الحصار بعد ان قضى حياته مشردا في السعدون في الحرب. *** عاد من المشرب حاملا زجاجات البيرة مع المازة . وضعها على الطاولة وجلس وهو يشتم البارمان الذي قال عنه انه لص. بحلق في وجهي كما لوانه اكتشفني فجأة ، وقال:ـ تبدو مصعوقا. هل وقعت مصيبة؟ ـ هل تستطيع ان تكون هادئا لحظة واحدة. ـ اسمع البارحة قال لي شخص انه رآك مع امرأة هنا. هل هذا صحيح؟ ـ نعم. ـ كيف حدث هذا؟.أين وجدتها؟ وأضاف دون ان ينتظر: ـ أفضل شيء يفعله المرء هذه الأيام ان يتزوج أو ينتحر. هل تفهم؟ ـ لم أفهم. ـ اعتقد اننا جميعا سننقرض في هذه الحرب أو في حرب أخرى. ـ أرجوك تكلم بهدوء. رفع كاسه واضاف:ـ هذا نخب عنقك المنتصب حتى الان. قلت:ـ هل يمكن ان نتحدث لحظة واحدة؟ ـ تفضل. متى سترجع للجبهة؟ ـ قريبا جدا. ـ هل هي زوجتك حقا؟ ـ انها أكبر من ذلك. ـ لم أفهم. ـ تزوجنا بدون رغبة الأهل. ـ في المحكمة. ـ لم نحصل على أوراق قانونية. ـ إذن تزوجتها في الجامع؟ ـ لا. ـ إذن في الكنيسة؟ ـ لماذا لا تكف عن هذا الهذيان؟ وارتفع صوته ضاحكا وقد ثمل:ـ قل لي أرجوك. هل تزوجتها في دبابة؟ ـ في الفندق. صرخ كالملدوغ: ـ فندق؟ *** صوت كريستينا وهي تقود القارب عارية يقطر الماء من جسدها كصوت خارج من غابة، أو صراخ برية ماطرة، وهي تغني وتستدير من منعطف صخري متوهج بالنور والماء والظل والسكون المشع. كانت تردد على شكل اغنية مرتجلة بعض مقاطع قصيدة(رغبة)الشاعرة الفلندية إديت سودرجران:(من كل عالمنا المضاء/بالشمس،كل ما اطلبه هو مقعد في حديقة). *** بحلق في وجهي بعينين جاحظتين: ـ كيف حدث هذا؟ قلت:ـ حاولت الزواج بكل الأماكن التي ذكرتها، لكن ذلك لم يتم. احتاج الى منزل. ـ افهمك تماما الان. لا يمكن ان تهرب من الجيش. أنت تعرف ان الطرق كلها مغلقة. انت تعرف انني مشرد وبلا منزل. ـ أعرف. قال في صحتك ورفع كأسه: ـ لست أدري ما يجب ان يقال.لكن الا تستطيع ان تهرب معها خارج الحدود؟ ـ كل الحدود مغلقة ـ أعرف ذلك. *** تواصل كريستينا قيادة القارب والغناء والضحك والمرح، ونحن نعبر ممرا جبليا ربما عبره يوما قراصنة الفيكنغ وهم في الطريق الى البحر او الحرب. قلت: (دم اسلافك يجري فيك). ردت علي بمقطع اخر من قصيدة سودرجران( مذبحة الورد):آه كم أتوق لأن أكون/ حيث يمكنك أن تشهد/ الطريق الى الفردوس والجحيم. *** شربنا كثيرا حتى صارت الساعة الرابعة عصرا. قلت:ـ يجب ان أذهب الآن لأنها في الإنتظار. ـ ولكن هل ثمة خدمة أخرى أستطيع أن اقدمها لك ؟ ـ حافظ على عنقك. سألني:ـ أي فندق تنام فيه؟ ـ سيوان. ـ أعرفه. ـ إذن مع السلامة. رافقني حتى باب الخروج. عندما خرجت من الحانة كانت قد بدأت تمطر. كان رذاذا ناعما جعل الأشجار أكثر سطوعا ورائحة الأرض قوية، تلك الرائحة التي لم أستطع شمها في الجبهة لأن الحواس مشغولة، وعاطلة. كنت أسرع بخطاي نحو الفندق. حين دخلته ذهبت مباشرة الى المصعد. امام باب الغرفة في الطابق الخامس توقفت ، فجأة، وقد اجتاحني خوف مبهم . خوف غامض من وقوع جريمة في الغرفة. خوف من وجود مترصد. ضغطت على جرس الباب وسمعت أقداما راكض. كانت قد فتحت الباب هلعة، محلولة الشعر، شاحبة.كان وجهها تالفا كما لو كانت في صراع مع قوى كبيرة، غامضة. قلت: ـ ماذا حدث؟ تركتْ الباب مفتوحا ومضت أمامي دون كلام.قلت: ـ هل حدث شيء ؟ ـ لا. ـ يبدو انك منهكة تماما. ـ اعرف. لكنك تأخرت. ـ هل قلقتِ عليَّ؟ ـ نعم. خفت من وقوع شيء. قلت : ـ أنا ايضا راودني ذلك. آسف على ذلك. هل انت جائعة؟ قالت: ـ تغديت في المطعم. ـ هل ترغبين في شيء الان؟ ـ لا. كنت أنتظرك فحسب. قلت وقد جلست على حافة السرير :ـ بحثت عن مأوى لنا فلم أجد. سمعتها تضحك.رفعت الي وجها بدا ذابلا،وجميلا، وطفوليا: ـ انه امر مضحك ان لا نجد مكانا نعيش فيه؟ ـ مضحك وسخيف ومخجل. هل فاجأك المطر؟ ـ أنت تعلم جيدا انني الان كحيوان الغابة يباغته اي شيء المطر، والريح، والرائحة، وحتى السكون. *** في منعطف صخري اخر، وكاد القارب أن يطير في الهواء، غرقنا في عتمة الظلال الصخرية، لكن صوتها كان قويا: لماذا تخافون من الظلال، من المطر، من السكون، من الرائحة، من النهار، وتحبون الخيل والليل والنساء والبراري؟ عرب، عرب، مجانين عرب. *** سالتها بعد ان وضعت كفي على كتفها: ـ اي حيوان انت الان؟ ردت حالا: ـ غزال صغير أو حمل. وأنت؟ فكرت قليلا:ـ صقر جريح في لحظة طيران. ـ أنت اذن احسن حالا مني. ـ كيف؟ قالت وهي تلتفت نحوي بوجه مشرق بالكآبة: ـ انت جريح معركة ، وانا جريحة وضع. ـ ما الفرق؟ ـ جريح معركة يشعر بكرامة جرحه، وجريح الوضع يشعر بالذل. هل انت جائع؟ ـ نعم. لم أذق طعاما . ساتصل بالإدارة. اتصلت وكان المتكلم هو آزاد. قلت: ـ اي شيء. لا تشغل بالك بنوعية الطعام فلا اهمية لذلك لمحارب عجوز. الى اللقاء.قلت لها: ـ من قال لك ان جريح حرب مثل هذه يشعر بمهابة الجرح؟ هذا اهانة. كان المطر لا يزال يهطل حين خيم المساء. من أعماقي شعرت ان هذا الغروب الذي يشبه الوداع، أكثر كآبة، ووحشية، لحيوان الغابة المباغت بالمطر، والرائحة، والخوف، والأوراق المتساقطة. ـ لن نخرج هذا المساء. قالت بصوت واهن. قلت: ـ انني غير راغب في الخروج ايضا.سنقضي الليل هنا. كان الغروب على النافذة ورائحة ندية لتراب مبلل وسكون مشع يلف الغرفة.قالت: ـ تحدثوا كثيرا عن انتصارات عسكرية في الجبهة. ـ هكذا دائما. هل تعتقدين بوجود انتصارات حقا؟ ـ لا أظن. قلت: ـ اسوأ كلمة عند الناجين من الحرب هي كلمة انتصار. ـ اي انتصار هذا حين لا نجد أنا وانت مأوى نعيش فيه كما نريد؟ نظرت نحوها هذه المرة بشوق:ـ كيف يمكن لإنسان مهزوم من الداخل ان يحقق نصرا؟اين وقعت تلك الإنتصارات؟ ـ قالوا في كل مكان. ـ هل سمعت في اي مكان بالذات؟ ـ ذكروا اسم مهران. كان المطر عبر النافذة لا يزال يهطل ، والغروب حل تماما على المدينة. قامت هي لتضع صينية الطعام الفارغة أمام الباب ، ثم دخلت الى الحمام ، وعادت. قلت، وانا أنظر عبر النافذة:ـ هذه هي اللحظة التي اشعر فيها بحاجتي الى المنزل أكثر من اية لحظة اخرى. اسوأ لحظات الحرب تلك التي تأتي في الغروب. ان حيوان الغابة الخائف من المطر يشعر ايضا بان جرحه لا كرامة له. انه جريح وضع أيضا. سألتني:ـ هل جرحت مرة؟ ـ مرتين. كانت جراحا خفيفة لكنها كان يمكن ان تكون قاتلة. واحدة في الظهر والأخرى في الرأس. ذهبت لتشعل الضوء في الغرفة التي صارت معتمة من الغروب والمطر.سألتني: ـ هل فكرت في الموت؟ ـ اكثر من اي وقت آخر. ليس هناك أكثر من الحرب من يؤجج شهوة الحياة. ـ الم تفكر في البطولة. ـ رغم انني أظنك تمزحين الا ان البطولة الوحيدة في هذه الحرب هي الفرار. ـ الى اين؟ ـ تلك هي المشكلة. هل تحبين المطر في الغروب؟ ـ اشعر بأني وحيدة ومنبوذة. ـ هل تخجلين الان من شيء؟ ـ ابدا. وأنت؟ ـ لا. اشعر اني محاصر. هل مازلت راغبة في البقاء في الغرفة الليلة؟ ـ نعم. كانت قريبة مني على السرير، وصوت المطر يضرب النافذة بهدوء، ورفق، وفي الجو عبر النافذة كان ثمة ضوء ناعم وشفاف ورائحة لتراب مبلل وطيور ليلية تأوي الى أعشاشها، وشبكة من الأسلاك تبدو فوق سطوح المنازل التي صنعت منها ظلال المساء أشكالا متعددة. قالت بوجه صغير، وحائر، ومستثار كوجه عصفور محاصر: ـ اني آسفة لكل هذا. يجب ان تفكر بنفسك. حين تنتهي اجازتك سأعود الى المنزل مهما كلف الثمن. لا تفكر بي كثيرا أرجوك. كان الليل قد تقدم وخفتت حدة الاصوات. صفق طائر ليلي جناحه في النافذة، وازداد هطول المطر كي يعطي احاسيسي شكل الموت والعزلة والوحشة. ماذا في طاقة انسان وحيد، واعزل، ان يواجه في زمن الحرب، والخوف؟: ـ لا تشغل بالك بي. أرجوك. انت تعذبت كثيرا. اعرف انك بذلت كل ما تستطيع. قلت: ـ تهمتي هذه المرة خطفك. وتابعت ، ضاحكا:ـ امر مضحك؟ ـ مضحك. وحقير. هل يشغلك هذا الآن؟ ـ ليس كثيرا. لكنه سيشغلني في الأيام المقبلة. ليس صعبا عليهم ان يعثروا على مكاني في الجيش. انا لا أفكر الا بك الان. ماذا ستفعلين اذا سافرت الى الجبهة؟ ـ سأفعل اي شيء. لا تهتم بذلك. أنا أيضا سأسافر الى جبهة حرب. طرق الباب بدل الجرس. نظر كل واحد منا الى الاخر بحذر. نظرت الى ساعتي. كانت العاشرة ليلا. فتحت الباب باحتراس: ـ هذا انت. لماذا لم تستعمل الجرس؟ ـ خفت ان يضايقكم. هل هذا الشراب يكفي ايها الحارس القديم على جسر جومان؟ قلت وانا أسحبه الى الداخل: ـ تعال . سلم عليها، فردت بسرور حقيقي. قامت لتغتسل في الحمام. سألني بصوت خافت: ـ هل تشاجرتم؟ ـ كلا. ـ السيدة تبدو على غير ما يرام. ـ هل يجب ان يتشاجر المرء هذه الايام كي يكون على غير ما يرام؟ ـ معك حق. قل لي اذا سمحت.. هل تتذكر جسرا صغيرا في بلدة ميركه سور؟ أجبته ، سريعا:ـ أتذكره جيدا. ـ في اي سنة كنت هناك؟ ـ سنة77 ثم عدنا الى جومان. ـ هذا ما أردت ان اعرفه. ـ ما هذا الذي اردت ان تعرفه، ايها المخرب؟ ـ كنا احيانا نمر من تلك المناطق ، حين كان الجيش يقوم بعملية أخلاء المنطقة من السكان. هل كنت مع الجيش ؟ ـ نعم. ـ يالها من ايام كئيبة. جاءت هي بعد ان أغتسلت. قال لها مباشرة: ـ ان زوجك لا يصلح لحمل رتبة عريف في الجيش. سألته، مبتسمة:ـ اليس ذلك مفيدا؟ ـ نعم انه مفيد. لكن المرء يحتاج احيانا ان يكون محاربا. قلت: ـ اسمع ايها المخرب. هل ستهمل واجبك الليلة ويداهمنا زوار الليل؟ بدا كما لو انه لم يسمع. شرب مرة أخرى ، ورفع كاسه قائلا:ـ في صحة السيدة. قالت: ـ شكرا. سألته:ـ متى كنت في جومان آخر مرة؟ رأيت لأول مرة نظرة حادة، مدققة. أجاب:ـ هل تريدني ان اكون شريفا معك في الإجابة؟ ـ تستطيع ان تجيب كما يحلو لك. قال: ـ بعد ان نزلت من الجبل بموجب عفو سنة 79 ، طلبوا مني مغادرة البلدة نهائيا، بعد مرور شهر. قلت وانا أحرك رأسي: ـ لم افهم. ـ منفي من جومان. هل فهمت الان؟ ـ نعم فهمت. أنت اذن لا تستطيع دخول جومان اليوم؟ ـ الا بصورة سرية. حتى في هذا الفندق لم يتركوني حرا. طلبوا مني ان أكون مخبرا على النزلاء. ـ هل يطلبون ذلك من أصحاب الفنادق ؟ ـ ومن أصحاب صالونات الحلاقة، والتصوير، والمكتبات، والأكشاك، والتاكسي، والسينما، ورجا الدين في الجوامع .. وغيرهم. سالته هي هذه المر: ـ هل عملت معهم. ـ كلا. كنت مصمما هذه المرة على الموت. قلت وانا ارفع كأسي:ـ صحة المخرب الشريف. قال بصوت صدئ ـ أفكر أحيانا بالهرب . ـ الى اين؟ ـ اي مكان قلت وانا أتظاهر بالنظر الى النافذة والليل: ـ هل هناك مكان يمكن ان يهرب اليه المرء هذه الأيام؟ لقد أغلقوا كل الطرق. ـ هذا صحيح. ومع ذلك هناك طرق كثيرة. قلت تحت مشاعر عارمة وحارة من الصداقة والثقة والتأثر: ـ هل يمكن ان تساعد غيرك على الهرب؟ صارت نظرته اكثر حدة هذه المرة: ـ أنت ؟ ـ انا وهي. قال: ـ ساكون مسرورا لو ساعدتكم. لكني مشلول الان تماما. كما ان الأحوال ستكون سيئة بالنسبة للسيدة في الجبال. قلت: ـ أفهم هذا، خاصة في موسم الثلوج. حين تنتهي الحرب سيقوم الجيش بالهجوم على مقرات الأحزاب في الجبال المنيعة. قال يخاطبها: ـ أحسب اني قلت اشياء كثيرة تافهة. قالت معترضة:ـ لا. انت كنت لطيفا جدا. ـ وماذا يقول حارس جسر جومان؟ ـ اقول انك كنت شريفا للغاية، ايهاالمخرب. قال : ـ هل تدري ان لفظة المخرب قبيحة عندي أكثر من اي شيء آخر؟ حين سلمت نفسي للجيش وضعوني فترة قصيرة في سجن جومان العسكري... قاطعته: ـ سجن اللواء المشاة 91 اذا كنت أتذكر جيدا. لقد سجنت فيه لمدة اسبوع كعقوبة انضباطية لإستهتاره كما كتبوا في سجلي العسكري. ضحكت ، وسألتني:ـ ما هو السبب الحقيقي؟ ـ لم استطع الإستيقاظ فجرا من النوم والثلج يتساقط. قال آزاد: ـ كان ضابط استخبارات اللواء يصرخ بي طوال الليل: مخرب. سالته وانا ارفع آخر كأس بعد ان شربنا كل شيء: ـ الم تكن مخربا في الحقيقة؟ واضفت موضحا: ـ الم تكن مخربا لنظام ما، أو لفرضية قائمة؟ ـ اذا فهمتك جيدا ، نعم. أنا كذلك لكن ليس كما يفهم هو. والان هل تحتاج الى العشاء ايها الحرس القديم على جسر جومان أم تريد مزيدا من الشرب ؟ ـ اريدهما معا اذا كان ذلك ممكنا. ـ سأنزل لأرى زوار الليل ايضا. اذا دق جرس التلفون مرة واحدة وصمت أعرف انهم جاؤوا. ـ واذا عرفت ماذا سأفعل؟ ـ أقذف نفسك من الطابق الخامس، حالا. وانصرف ، ضاحكا، مسرورا.قالت: ـ انه انسان لطيف. لقد وثق بنا بسرعة. ـ شيء غريب ، ومنفر ، اكتشفته الان: اننا جميعا في هذه الغرفة هاربون من وضع ما، ومطاردون. هل نسيت انه قال بانه منفي من بلدته؟ نحن أيضا. من سينتصر في هذه الحرب اذن؟ هذا البلد سينفجر يوما. كان الليل عبر النافذة رصاصيا تحت الأضواء الليلية الخافتة في السنة السابعة من الحرب. كف المطر عن الهطول، ونوافذ كثيرة لا تزال مضاءة ، وجياد السجادة تنهب البراري المعتمة. شممت رائحة عرق الجياد، ورائحة الأرض المبللة، ورائحة المرأة الجالسة على حافة السرير، ورائحة الليل الزاحف ، غير المكترث لا بثلوج جومان، ولا بقتلى الحرب أو غيرها.آخر شيء وقع نظري عليه قبل ان انام هو حوافر الجياد الراكضة على الجدار. *** أطل اليوم الأخير، كما يطل الحبل على المشنوق، أو الموت على المحتضر. كان النهار مشمسا، ودافئا، والسماء مشرقة، وكنت قد استيقظت متأخرا في الظهيرة.كانت هي جالسة تتأمل النافذة، بصمت. بدا ان ذاك الصمت هو الشيء الوحيد الذي تستطيع ان تمارسه، لأن كل الخيارات الأخرى لم تفلح. لكنه ليس صمت الحجر، بل صمت البحر. صمت كبرياء امراة وحيدة، ستمضي هذا النهار على قرع طبول الحرب، وصمت المارة، وصمت أجراس الكنائس، والجوامع، وصمت الرمل ، وصمت الأساقفة والدراويش، لتواجه مصيرها، ولترتمي فيه كما يرتمي جواد أعمى بوجه جدار، أو كما يرتطم طائر في الظلام بحاجز مميت. وفكرت مع نفسي قبل ان اغادر السرير باننا معا سنواجه الليلة أقدارا متشابهة من الموت. انا ايضا ذاهب لمواجهة مصيري. لست ذاهبا لمواجهة مصيري. انا مساق اليه كخروف. شعرت ان أحشائي تتمزق. فكرت ان اواصل الشرب طوال النهار ، وأمنعها من السفر، حتى لو تطلب الأمر ان أهرب من الحرب. حين عرضت عليها ذلك، أجابت: ـ لن يكون لذلك أهمية. ستكون المشكلة أكبر. قلت لك لا تفكر بي كثيرا. رفعت هي الهاتف لتبلغ ادارة الفندق بموعد سفرنا اليوم. رن جرس الباب .قلت له ان يدخل. دخل آزاد يتمايل بمشيته، كطائر بطريق: ـ هل قررت السفر، أيها الحرس القديم على جسر جومان؟ ـ نعم. وفرك يديه: ـ هل من شيء أخير استطيع القيام به لكم كخدمة؟ أعرف انكم تواجهون أمورا غير عادية. قلت ، بجزع:ـ لا شيء. ـ هل انت غاضب مني؟ نظرت اليه بمودة، وحرارة، وقلت: ـ أبدا. انت الإنسان الوحيد الذي قضينا معه وقتا طيبا. ـ هل تعدني بانك ستزور الفندق في المرة القادمة؟ ـ اذا لم اقتل في الحرب. وقال: ـ هل تعدني السيدة بذلك ايضا، فهي لن تذهب الى الحرب بالتأكيد؟ قلت :ـ اسمع ارجوك. هل يمكن ان تقدم لي خدمة اخيرة. هل يمكن السماح لنا في المكوث في الفندق حتى المساء؟ ـ ساحاول . انت تعرف موقعي في هذا المكان جيدا. ـ اعرف. ـ ومع ذلك سأحاول.سيوافقون في النهاية. هل هذا هو يوم الإجازة الأخير؟ ـ نعم. ـ هل ستذهب الى الحرب مباشرة؟ ـ طبعا. انت تعرف اني احمل معي دائما حقيبة ملابسي. ـ نعم أعرف هذا. هل تتناولان الافطار هنا؟ قالت: ـ نعم، ارجوك. شعرت ان صوتها كان ضائعا، وجافا، وصدئا. قلت بعد ان خرج: ـ انتظر وقوع معجزة في أخر لحظة. لم ترد. قلت: ـ نهاية مفاجئة لهذه الحرب أو وقوع أعصار، مثلا. قالت بصوتها الجاف: ـ مع ذلك ستظل المشكلة قائمة. في الحمام رأيت ان وجهي شاحب، ولحيتي أطول من المعتاد بكثير، وبصري زائغ. سمعت جرس الباب فعرفت انه آزاد جاء مع الطعام. طلبت منه هي ان يجلس وينتظر. قال لها انه سيعود ما أن ينتهي حرس جومان من الإستحمام. تذكرت بلدة ديانا وجبال زوزك، ونواخين، وهندرين، وكورك، والقتال الضاري الذي دار في مضيق كلي علي بك ، وهدير الشلالات، وصمت الاحجار المريب في الليل وأشجار السرور الرشيقة والصنوبر والقمم الثلجية والصحراء والبصرة وخرمشهر وقتال سوسنكرد وديزفول والطاهري جسر حالوب والسلطة والسرير والمنشفة والشمعة والقنبلة وهذا المساء الحزين. الان ، في هذا الفندق، لا أحد يهتم بحكايتك، لأن الأنظار تتطلع بعيدا، منتظرة نهاية لهذا الجحيم الآخذ في الهطول. أستطيع ان أتذكر الآن بقوة مدهشة كل عشبة أو حجرة أو منزل أو قمة مثلجة، لدرجة اني قادر على إستحضار حتى صوت هدير الماء تحت جسر جومان وهو يضرب الحجر، او الدخان وهو يتطاير من جسر الشلامجة يوم عبرناه نيسان 1982. كنت لا أرغب في مغادرة الحمام. شعرت بشكل ما ان هذا المكان هو الوحيد الذي استطيع فيه الآن ان احلم وأتذكر واحس بالأمان حتى لو كان زائفا.وفكرت ربما تكون جائعة وتنتظر. قلت وأنا اقترب منها: ـ كيف حالك انت الان؟ هزت رأسها بلطف: ـ قلت لك لا تقلق. لقد أحببت هذه الغرفة كثيرا. سأفتقدها . رن جرس الباب .دخل آزاد، مسرورا، وهو يقول اننا نستطيع البقاء هنا حتى الساعة السادسة مساء. وأضاف: ـ هل انت متأكد ان هذا هو اليوم الأخير؟ ـ نعم. وتستطيع ان تقرأ بنفسك. رغم ان الجو كان صحواً في الصباح الا انه صار بعد الظهر معتما، ورطبا، ولزجا. قلت:ـ انتظر حتى آخر لحظة ظهور معجزة. كنا وحدنا هذه المرة. لم نغادر الغرفة هذا النهار الا مرة واحدة، واخيرة بعد الظهر. حين اقترب موعد مغادرة الفندق شعرت بأني مسحوق، وميت:ـ هل من أمل أخير؟ ـ لا تقلق أرجوك. يجب ان يعيش احدنا لكي يروي هذه الحكاية. *** قالت كريستينا ضاحكة: ـ لا تكذب. هذه واحدة من حكايات الف ليلة وليلة. زمن الخيول الهاربة والحبيبة المخطوفة على ضوء القمر لا يوجد الا في الحكايات. خيل ونساء وخمر وبراري وعرب وجنون. *** حان موعد مغادرة الغرفة. نزلنا عبر المصعد، وكان آزاد في الإنتظار. جلسنا في صالة الإنتظار، ورأيت انها لم تعد مهتمة بلوحة الجبل والحجل. كانت ذاهلة، وشاردة. سالني آزاد عما اذا كنت محتاجا للنقود. فقلت له بامتنان بأنني لا أحتاج. أنا ذاهب الى الحرب .سمعته يقول بصوت هامس لكي لا يسمع احد ـ ارجو ان تفهم انني بذلت كل جهودي كي تصل الى الجبل مع السيدة، فلم أوفق. الجبال موحلة ومثلجة ومراقبة. قلت له، بحرارة: ـ اشكرك على ذلك. قال وهو يقترب أكثر: ـ ادارة الفندق لم تكن مرتاحة من وجودك مع السيدة على هذا الوضع، بدون أوراق، رتبت لك الأمر بطريقتي. كنت أخشى من وقوع شيء. نحن لا نعرف هنا في الفندق من يعمل معهم ومن لا يعمل. حان وقت السفر. وضع يده في يدها وكانت متأثرة تماما بهذا الخروج. استدار نحوي وعانقني في صفاء ومودة وأستطعت ان اهجس انه كان يبكي، لأن صدره ارتفع على صدري مرات.قال: ـ هل تعدني بأنك ستزور الفندق ، مرة اخرى؟ ـ اعدك ما دمت حيا. *** يوم ودعت كريستينا في مطار بيرغن، كانت الثلوج تلوح عبر النوافذ بيضاء، اما هي فكانت شاردة قليلا، لكني سمعتها تردد هذا المقطع من قصيدة إديت سودرجران: (بسبب شحوب لوني أحب الأحمر والأزرق والأصفر/ البياض الناصع كئيب كآبة غسق الثلوج). كانت موسيقى تنبع من مكان ما في صالة انتظار المطار.موسيقى الرخام المضيء ولوحات السفر عن بحار وجبال وسهول وصحارى. *** كان الجو داكنا، ومعتما، ومظلما. كنت قد أوقفت سيارة اجرة وطلبت محطة سيارات "النهضة". كان قراري في الصباح ان اسافر بالقطار ، لكني عدلت عن هذه الفكرة. في محطة السيارات أوقفتها في ركن ، وسط حشود الجنود والركاب، ونظرت اليها كما لو كنت أودع قلبي على الرصيف، في ذاك المساء الشاحب، والثقيل. قلت بيأس: ـ هل من أمل؟. هل لديك فكرة؟ هل هناك مخرج؟ ـ قلت لك لا تقلق. أرجوك. قالت وهي تندفع نحوي كفهدة جريحة، وتعانقني امام المارة، وهي تنتحب: ـ أرجوك لا تقلق. قلت لك لا تقلق. اذهب الآن فلم اعد أحتمل كل هذا. اذهب. اذن سأذهب انا. رأيتها تغوص بين حشود الجنود، والحقائب، حتى غابت تماما. حينئذ فقط فكرت انها ضاعت الى الابد. فكرت ان اصرخ بالمارة ، بالكون، بالنجوم، بالحجر. ركضت خلفها ، ركضت، ورحت ابحث في الوجوه، لكنها ضاعت. جلست على الرصيف، بين أقدام المارة، كقلب مرمي ، ومهجور، وحيد، وأعزل، في هذا المساء الكئيب من مساءات الحرب. سافرتُ الى الجنوب، الى الحرب، في المساء، لأنه ليست ثمة مكان آخر. لم تعد يسرى موجودة. الريح والموت والمطر في الشوارع. 3 كانت الحافلة تخترق حقولا صامتة، مغلفة بعتمة خفيفة من ليل يقترب. إن أسوأ شيء لجندي عائد الى خطوط الحرب هو الليل. هذه اللحظة هي تكثيف مخيف لكل الأحلام المبعدة: العائلة، الطعام، الشاي، النظافة، الأمان. ها هو الليل يزحف على هذه المساحات الريفية الشاسعة التي اختلطت فيها العتمة والخضرة والصمت في نسيج واحد. حاولت النوم في مقعدي. لم أتمكن. على حركة الحافلة ، ومن جراء النعاس والإرهاق ، فكرت في غرفة الفندق. كان انتزاعي من الغرفة بكل ما فيها من ضوء، ودفء، وأمل، ورفقة، وحب، قد تم تحت ضغط قوة وحشية. صدمة الخروج من الغرفة ستظل تعيش معي طويلا قبل ان انغمر في احداث الجبهة: من الحمام الى الوحل، ومن الطمأنينة الى القصف ، ومن الهدوء الى الدوي، ومن الإنسان الى الحشرة، من العاشق الى الجندي، من الحياة الى الموت، الى القتل، الرصاص، الرائحة، الإنفجار، العصف، الضوء الأصفر الحارق، الوحشة، الفراغ، الجثث، المقبرة، الغريزة، الوحل. كان من الواضح انني احاول النوم، الهرب، من كل شيء بلا جدوى. عبرت الحافلة حقولا ، مدنا، قرى، كثيرة. بدت بعض المصابيح معلقة في الريف الليلي ،الساكن، كما لو انها معلقة في الضباب. ريف كئيب وموحش. ضباب يأتي من جهة النهر القريب من الطريق العام بين بغداد والبصرة. نام الجنود بعد منتصف الليل. ناموا في صمت بعد ان اطفئت أنوار الحافلة الداخلية. بزغت، مرة أخرى، غرفة الفندق، الجياد على الحائط، الحمام، رائحة الصابون، العطر، الشعر، السرير، المطر، الشرب، الوسادة، الضوء، المنشفة، الحذاء، الهاتف، الطاولة، الثلاجة، الدفء. بزغت من جانب آخر صور الجبهة: القصف المدفعي الثقيل، الظلام، الأرض الحرام، الملاجيء، صور لجرحى أعرفهم ، صور لقتلى أعرفهم أو لا أعرفهم، الجرذان، الوسخ، التراب، الكمائن، الألغام، النعاس، خطوط النار المواجهة، الصراخ، الرصاص طوال الليل، الوحل في خنادق المرور العميقة، العمل تحت القصف، القمل، صوت الرشاشات والبنادق، الأزيز الحاد المرافق لسقوط القنابل. شاحنات كثيرة على الطرق ، ومدافع، وسيارات اسعاف، وجنود يعتمرون خوذهم اللامعة تحت أضواء السيارات المارة. على الجانب الأيسر من الطريق تمتد الجبهة على طول أكثر من ألف و200كلم. من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال. توقفت الحافلة في منتصف الطريق قرب مطعم. نزل بعض الجنود في حين ظل البعض الآخر نائما. كان الليل ماطرا. من جهة النهر يهب نسيم عذب لكنه بارد. على الجانب الشرقي كانت الغيوم السوداء تصبغ صفحة الأفق. جلست في المطعم منهكا، لكني كنت جائعا. غسلت وجهي، وشعرت بالماء باردا، وثلجيا. شاحنة طويلة من تلك الشاحنات التي تعمل في المستشفيات العسكرية لنقل الموتى توقفت جوار المطعم. تعرفت على السائق. سألته وهو يجلس الى جواري بحذر هامس:ـ فارغة ؟ أجاب بطريقة لا مبالية وهو يشير الى الشاحنة، الثلاجة: ـ 69. سالته:ـ هل أعرف أحدا منهم؟ ـ لا أظن. خذ القائمة. أعطاني قائمة: قاسم.. تهشم الجمجمة. علي.. طلق ناري في الرأس. حسين .. انتحار. تهشم الأضلاع، تحطم الكبد... حين ابتعدت الشاحنة، في ذاك الليل، بدت كجثة كبيرة ترحل تحت المطر. المطر نفسه بدا مصابا، ووحشيا. لم أستطع النوم . تذكرت قتلى معارك سوسنكرد وكيف وجدت في وحدة ميدان طبية الجنود الموتى مرميين على الأرض وكيف سمعت ساعة احدهم الالكترونية وهي تعزف موسيقى عيد الميلاد. كان الفجر الشاحب ينهض من بين أسلاك الثكنات ، أو من بيوت الطين على الطريق، أو من بين غابات النخيل، أو من خلف المرتفعات التي بدت واضحة في الجانب الشرقي من الحدود. كانت المقرات الخلفية لبعض الوحدات معسكرة بين البصرة وبلدة الدير. نزلت مع بعض الجنود ، مترنحين من النعاس والرحلة الطويلة، والتعب. من مقر الوحدة ركبنا شاحنات كانت في انتظارنا، بعد استلام السلاح، وواصل بعضنا النوم رغم اهتزاز الشاحنة، واقترابها التدريجي من خطوط القتال. كنا نمارس أحلامنا المحرمة في الشاحنات في الطعام والنوم والفراش والجنس والسفر والضحك بسرية المخيلة. كان الفجر شاحبا، ومحمرا، وصامتا، وميتا. على الأرض آثار شظايا، وحفر، ونخيل محترق، ظهرت الملاجيء، السواتر الترابية، وظهر جنود الخطوط الأمامية بوجوههم الذابلة، الشاحبة، يمشون كهياكل خاوية. مرت قنبلة فوقنا. قال احد الجنود، ضاحكا: ـ هذا استقبال. في الجو رائحة بارود، وعشب ،وفجر يزحف بقوة بين الأشجار المحروقة والمقطوعة وبين أفق وردي محمر، وسط ضجة العصافير التي باغتتها القنابل. أخذت طريقي الى الملجأ عبر خندق طويل موحل. *** في معرض للوحات الرسام النرويجي أدور مونش في بيرغن، توقفت طويلا متأملا لوحة عن الاشجار المقطوعةThe Yellow Log، عندما سألني قاسم شريف: ما الذي يجعلك مشدودا؟ قلت: انظر. اشجار مونش الذهبية تقتل. ان قتل الأشجار لا يحدث في الحرب. هل تذهب اليوم الى كازينو الكراند كوفيه؟
|