المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
15/05/2016 06:00 AM GMT
عند انتهائي من قراءة مجموعة (فياغرا) القصصية للكاتبة ارادة الجبوري وجدت نفسي مستسلماً لاغراء اكتشاف الآصرة بين الصفحة الأولى من الكتاب (قصة: خبر بأخطاء) والصفحة الأخيرة (قصة: شهادة كهرمانة) .. في الأولى فكرة أننا نمضي حياتنا على جسر معلقين بين ضفتين، وهو مجاز للحيرة، وفي الأخيرة فكرة الانتقال من جرار كهرمانة الى أجنحة عباس ابن فرناس، وهو مجاز للتوق الى الحرية. وهنا نواجه المعنى الفكري والمعنى الجمالي للبداية والنهاية .. نحن في الأسر .. نحن حالمون بالحرية. وبين هذين المصيرين ذلك الحزن الذي ينتظم المجموعة القصصية كلها .. الرعب الذي يملأ الأماكن .. من يموتون ومن يتابعون أخبار الموت العراقي .. وفي ثنايا القصص نجد تداعيات مرتبطة بموضوعات عدة بينها الانتحار. في قصة (خرابيط) نواجه مصير المرأة، ضحية البطرياركية والعنف الاجتماعي .. وفي قصة (ضرية بنج)، المفعمة بالحزن، دلالة عميقة للاقتباس من الشاعرة الايرانية فروغ فرخزاد، التي رحلت في الثانية والثلاثين وهي في أوج ابداعها .. وفي قصة (كبسلة) مشهد تتداخل فيه الأزمنة عائدة بنا من السوريالية الى واقع مرير .. وتدور قصة (ورطة) عن التفنن في قتل النساء .. أما القصة الأخيرة (شهادة كهرمانة)، وفيها تتداخل أزمنة وأمكنة، فتحاول أن تلخص المحنة الأخيرة أو الخيار المستحيل. أنا لا أحاول، هنا، ان ألخص، فهذا يوقع في مخاطر تجاهل ما للقيم الفنية، وهي أساس المنجز الابداعي .. ولا أحاول أن أجد سياقاً سياسياً لقصص المجموعة، قد يقع المرء فيه عندما يرى الرعب مجسداً في القصص بفظائع لا يمكن تخيلها، فتكون كفة القيمة الفكرية راجحة على حساب كفة القيمة الفنية، حتى تؤدي الى اختلال في ميزان التقييم النقدي. الجبوري تكتب عن عواقب العقل البطرياركي والحرب والعنف حيث يواصل الناس سفك الدماء واقعاً أو مجازاً. والقصص تتسم بانعطافات سردية تتعامل مع مشاعر خبيئة وتوتر يومي واخفاق في التواصل، وهي موضوعات يعتبر الصراع فضاءها الطبيعي .. العواصف تسجن المرء في دوامة الصخب، بينما النوارس تجعله يفكر بالاقلاع .. تعيد حلمه الى ذهنه، ليتأمل مجاز الانتقال من الحيرة الى الحرية. ومنذ أول صفحة في الكتاب تدفعنا القاصة الى حافة الصراع مجسدة في ضياع الأماكن وضياع الشخصيات، فنرى سعي الكاتبة الى اعادة اكتشاف هذه الأماكن وهذه الشخصيات، واضاءة الصراع الذي يمزق نسيج العلاقات والمشاعر الانسانية، ويعمق عزلة الشخصيات التي تحاول اجتياز الحواجز التي تفصل بينها. والجبوري لا تكتب عن الأشياء بقدر ما تكتب عن عواقب الأشياء .. لا تكتب عن الحرب وانما عن عواقب الحرب، التي ترى فيها، عن حق، تجربة ذكورية، وهي تحرص على سرد الوقائع التي لا يجدها المرء في كتب التاريخ. وبدلاً من ابعاد الحياة لصالح التجريد تجسد القصص الحياة بكل تنوعها المتناقض. وعلى الرغم من تعدد موضوعات القصص فانها تدور، بشكل أساسي، حول الطرق المختلفة التي نتعامل بها مع الدمار السايكولوجي. وتستثمر القاصة ذلك التداعي لتضيء المشهد المليء بالأوجاع والخسارات والاحباط وقلق الروح الانسانية في محاولة، ربما كانت يائسة، أن تعيد الذاكرة الى الحياة، أو أن ترمم الذاكرة، التي لا تلتئم حتى وإن التأمت الجراح. كأن ارادة الجبوري تكتب عن جيل بدون عودة الى البيوت، ذلك أنه ليس لديهم ما يمكن أن يعودوا الى البيوت من أجله، بعد أن تعرضوا الى فظائع مادية وسايكولوجية أدت، من بين عواقب أخرى، الى نوع من فقدان الذاكرة، وفقدان القدرة على الاندماج في الحياة والعودة الى التواصل الانساني. والكاتبة لا تجفل من تجسيد الارث العراقي، وهو إرث مخاوف وأحزان .. وببحثها عن الذاكرة، التي تلاحقها الأشباح، يرتبط تعاطفها العميق مع ضحايا الدمار السايكولوجي.. من مجاز الحيرة حيث نجد أنفسنا معلقين على جسر بين ضفتين تأخذنا القاصة الى مجاز التوق الى الحرية حيث نسمع نداء: يا ابن غني .. يا أبا هاجر .. خذ الجرار وامنحني أجنحة ابن فرناس .. ارادة الجبوري شاعرة في رداء قاصة، تنقب في ذاكرتنا نحن الخاسرين .. وفي تنقيبها المضني تجعل أسرار الصمت تتحدث بقوة الصورة الفاجعة والمجاز الجمالي ..
|