المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
02/01/2016 06:00 AM GMT
لم يتوقف الدكتور عبد الجبار الرفاعي عن الدعوة لإخراج الإنسان من جماعاته التي ضاع في نسيجها والعمل على البحث عن إنسانيته قبل التفكير ببناء مجتمع تكون كلمته الواحدة هي القوة المغيرة فيه. فالرفاعي يؤكد على أن قوة صوت الإنسان لوحده من الممكن أن تعيد بناء هذا المجتمع، خصوصاً إذا تمكن الفرد من إيجاد نفسه قبل ضياعها وسط الحشود. في كتابه الجديد «الدين والظمأ الأنطولوجي» يكشف الرفاعي عن أسباب اختياره لهذا العنوان أولاً، ومن ثم كيفيه البحث عن الذات بعد مسخها ضمن جماعات آيديولوجية، يسارية أو يمينية، فالجماعة واحدة، مهما اختلفت توجهاتها. يعني الرفاعي بالظمأ الأنطولوجي؛ الذي كان عنوان كتابه، الظمأ المقدس، أو الحنين للوجود، مبيناً أنه ظمأ الكينونة البشرية، بوصف وجود الإنسان وجوداً محتاجاً إلى ما يثريه، وهو كائن متعطش على الدوام إلى ما يرتوي منه. ويضيف: ولو استعرنا لغة الحكماء والمتصوفة والعرفاء، فإن الشخص البشري لا ينفك عن نقص في كينونته، وهو توق وشغف أبدي يطلب كماله الوجودي. وليس الإنسان فقط هو ما يعتريه النقص في عالم الإمكان، بل النقص حقيقة هذا العالم الوجودية، إذ لا كامل إلا الواجب. موضحاً أن لكل موجود نمط كماله الذي هو من جنس كينونته، ويتسق مع سنخ وجوده. الظمأ الأنطولوجي إنما هو الفقر الوجودي، وارتواء هذا الظمأ هو الغنى الوجودي. أي أن هذا النقص لا يكتمل إلا ببلوغ الكائن البشري طوراً وجودياً جديداً، يضعه في رتبة أعلى سلم التكامل الوجودي. حفلات المسوخ بَحْثُ الرفاعي عن إيجاد الذات في بيئة مختلفة، جعله يطرح تساؤلاً مهما، وهو: ما الذي يسوق الشباب في الغرب وغيره، ممن هم في كفاية معاشية، وبعضهم يعيش ترفاً مادياً، للهجرة إلى ولائم الذبح، وحفلات الرقص على أشلاء الضحايا في بلادنا. والتسابق على الانخراط في وحشية عبثية، تتلذذ بالـــدم المســـفوح، وتتهافت على مغامرات مهووسة في العمليات الانتحارية؟ وفي سعيه للإجابة عن تساؤل كهذا، يقدم فرشة مهمة لأسباب ربما تكون غائبة عن عقولنا، موضحاً أن الشباب يتساقطون في ولائم الذبح، ويتلذذون بالدم المسفوح، كالفراش المتهافت على لهب الشمعة في ليلة مظلمة، بسبب ما يعانون من ظمأ أنطولوجي للمقدس، وبسبب رتابة الحياة، وذبولها، وتكرار كل شيء فيها، وانطفاء المتعة التي تمنحها لهم الملذات الحسية، فمهما كان شغفهم بالملذات الحسية، فإنهم يصلون به حدّاً يفتقد فيه كل شيء معناه في حياتهم، بل يبلغ غرقهم بكل ما هو مادي من متع جسدية درجة الغثيان، عندما تتخشب فلا تبوح لهم بأي معنى. لذلك يتهافتون على ما يتوهمون أنه منبع المعنى، الذي يفتقدونه في عالمهم، فيحسبون هذه الدروب الخاطئة المظلمة التي تقودهم إلى تناقض المعنى، وكأنها مسار يوصلهم إلى معنى المعنى. الاغتراب ربما يكون سبب مهم حسب ما يرى الرفاعي، لهذا فإن كل ذلك ينشأ من قلق الشباب الوجودي، وتفاقم اغترابهم في مجتمعاتهم، وتلاشي الوشائج العضوية للانتماء لأوطانهم، وشعورهم المرير بالعزلة وسط محيط عدائي، وتفاقم إحساسهم الموجع بعدم الأمان، لأن كل شيء ضدهم: الحياة ضدهم، المجتمع ضدهم، الثقافة ضدهم. إنهم لا يعلمون أن مسار المعنى في حياة الإنسان لا تبتكره إلا الأحلام الكبيرة، لا تنجزه إلا الأرواح المتوثبة، لا يراكمه إلا الصبر الطويل، لا يشبعه إلا الإيمان. أدبيات مغلقة الرفاعي كان عضواً في حزب الدعوة الإسلامية منذ بدايات انطلاقها في العام 1978 غير أنه بعد أن خاض تلك التجربة الحزبية والسياسية قرّر الانفراد، هارباً بنفسه قبل ضياعها ومسخها ضمن جماعات وأدبيات لا تعنى بالإنسان وفردانيته. مشيراً إلى أن أدبيات الجماعات والأحزاب تتجاهل فردية الكائن البشري، ولا تتحدث عن الهوية الشخصية عادة. وهو ما يبدو ماثلاً في أدبيات الأحزاب اليسارية، والقومية، والجماعات الإسلامية، التي تتعاطى مع الفرد بوصفه عنصراً يذوب في مركَّب هو الجماعة، ليس له وجود حقيقي مستقل خارج إطارها، وتشدّد في مقولاتها وشعاراتها وتربيتها على أن مهمة كل شخص في الحياة هي: الامتثال لما يؤمر به، والتنكر لذاته، والذوبان في المركّب، والكف عن أي محاولات لاستبطان الذات، واكتشاف فضاءات ومديات عالمها الجوّاني. أما قيمة الفرد، ومكانته، وحاجاته الذاتية، الروحية، والعاطفية، والوجدانية، والعقلية، فلا أهمية لها، إلا في سياق تموضعها في إطار هذا المركّب، الذي هو الجماعة ومتطلباتها. تجربة مثيرة السنوات التي قضاها الرفاعي ضمن كيان حزب الدعوة الإسلامية، أعطته تجربة مغايرة، فقد تدرب حينها على العمل السياسي السري، والترويض على الطاعة والانقياد والولاء، والتعاطي مع الأدبيات الحزبية كنصوص جزمية يقينية، لا يمكن التفكير بنقدها فضلاً عن نقضها ورفضها. وهي أدبيات في معظمها: وعظية، تبجيلية، تعاليم مبسطة، بمستوى لا يتفوق على مستوى تلامذة الإعدادية، لا تتضمن رؤية فسيحة للحياة، ولا تغور في عوالم الكائن البشري الجوانية الغاطسة، ولا تشي بفهم للحقوق والحريات والمواطنة والدولة الحديثة. الكثير منها كتابات ينهكها فائض لفظي، لا تخلو من طوباوية خيالية في تفسير الواقع، تستغرق في الحديث عن أحلام وربما أوهام، تغذي خيال الضحايا المعذبين، وأشواق أرواحهم للأمن والعدالة والسلام والسعادة. وبعد هذه التجربة، يعترف الرفاعي أنه في العمل الحزبي افتقد ذاته، بل كان يرى إلى بعض رفاقه كما هو، «كلنا تائهون، لم يعبأ أحد منا بذاته، وحياته الروحية الأخلاقية، وكأننا في سكرة يتعذر علينا الاستفاقة منها». فالتربية في الأحزاب والجماعات تتمحور عادةً على تنميط الذات، وتحويل كل الأعضاء إلى نسخ متماثلة، رؤيتهم للعالم واحدة، آراؤهم واحدة، مفاهيمهم واحدة، مواقفهم واحدة، مزاجهم واحد.. بنحو تضيع معه لديهم كافة الملامح والهوية الشخصية للذات. خريجو الجماعات أغلب زملاء وأصدقاء الرفاعي أصبحوا سياسيين في الحكومة العراقي الحالية، غير أنه ينظر إلى هؤلاء من منظور آخر.. المشكلة التي تواجهه الآن هو افتقاره للأرشيف المدوّن لمسيرته وتجربته الشخصية، وهو ما يمنعنه من الحديث التفصيلي عن جميع الظروف والملابسات والمواقف التي عاشها، فضلاً عن ذاكرته التي تخذله. من جانب آخر، فإن من أهم شروط الجماعات الإسلامية عدم البوح كما كان يحدث، وهذا أيضاً من تقاليد التكتم والسريّة، وغياب النقد والمراجعة في تقاليد الاعتراف في مجتمعاتنا، ومزاجه الشخصي الذي يحرص بطبيعته على أن يعيش بهدوء، بعيداً عن ضجيج الحياة الاجتماعية وصخبها، والهروب من البشر الذين يحترفون تشويه الغير وانتهاك خصوصياتهم، وتشديده على سلوكه الذي ينزع إلى الحياد ما أمكنه ذلك، والابتعاد عن التحيز لأي شخص أو جماعة أو حزب، ويسعى للاحتفاظ بعلاقات على مسافة واحدة منهم، مع اعتزازه برؤيته وتفكيره واجتهاده المستقل، فهو يتفق مع الجميع ويختلف مع الجميع، بنحو يجعله «أسير مع الجميع وخطوتي وحدي». اكتشفت الرفاعي في وقت مبكر أشخاصاً من زملائه الإسلاميين «مات الإنسان في داخلهم» ثم هتكت تجربة السلطة في العراق عورات بعضهم فـ»مات الله في داخلهم». إنهم ممن: «نسوا الله فأنساهم أنفسهم». فوظفوا كل ما وهبهم الله من ذكاء ومهارات في الكيد والغدر، واستهداف البشر، والنيل منهم، والتآمر عليهم. «أدركت أنه لا مختبر للأخلاق في مجتمعاتنا كالسلطة. لم تتبدل شخصية الكائن البشري على كرسي السلطة- كما يظن البعض- وإنما يتفجر كل ما هو مترسب في أعماقها، من: رغبات مكبوتة، عدوانية، عنف، انتقام، تسلط، ثرثرة.. مجموعة ممن عاشرت من الأصدقاء قبل السلطة؛ فضح ظفرهم بالكرسي كل ما هو رديء مختبئ في داخلهم، من: هشاشة الشخصية، هذيان الذهن، هذر اللسان، تبلد الشعور، موت الضمير، نرجسية الذات، وانطفاء الروح». الله والحب سنوات طويلة من العمل الحزبي أضافت للرفاعي تجربة فريدة، وجعلته يبحث عن الله والحب والذات الإنسانية بعيداً عن الجماعات الآيديولوجية، ومن أهم ما خرج به هو قوله إن حب الله والإنسان والعالم يبدأ بحب الذات. نسيان الله في الذات نسيان لله في العالم. غياب الله في الذات غياب لله في العالم. حضور الله في الذات حضور لله في العالم. من لا يلتقي الله في ذاته لا يلتقيه في العالم. من لا يرى الله في ذاته لا يراه في العالم. معرفة الله في الذات معرفة لله في العالم. «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، كما هو مروي عن النبي (ص). وذلك ما يصوره قول النفّري: «من سألك عني فسله عن نفسه، فإن عرفها فعرّفني إليه، وإن لم يعرفها فلا يعرّفني إليه، فقد غلقت بابي دونه». ويخلص الرفاعي إلى أن الإيمان خلافاً للفهم والمعرفة لا يتحقق بالنيابة؛ ففي عملية الفهم يمكن أن يتلقى الإنسان معارفه من شخص آخر، أو يقلّد غيره في آرائه، لكن الإيمان تجربة ذاتية تنبعث في داخل الإنسان، إنه صيرورة تتحقق بها الروح وتتكامل، ونمط وجودي يرتوي به الظمأ الأنطولوجي للقلب، إنه مما تضيق به العبارة، ولا تشير إليه إلا الإشارة. أعمق المعاني هي تلك التي نتذوقها، لكن تضيق كلماتنا عن استيعابها، ويتعذر على قوالب ألفاظ البوح بها. وهو من جنس الحالات، و»قوالب الألفاظ والكلمات لا تتسع لمعاني الحالات»، حسب تعبير محيي الدين بن عربي. كلام الرفاعي هذا لا يعني الدعوة لتصوف مقنّع، ذلك أنه «لست مع تصوّف الخلاص الفردي، الذي يُخرج الفرد من العالم. فإن العزلة والانفصال عن المجتمع منجم الأوهام. الآخر مرآة الذات، بل الذات عينها لا تتجلى صورتها إلا في الآخر». د. عبد الجبار الرفاعي: «الدين والظمأ الأنطولوجي» سلسلة تحديث الفكر الديني، دار التنوير، بيروت، 2016 270 صفحة. عن "القدس العربي"
|