لميعة عباس عمارة:قد لا أكون شاعرة كبيرة ولكني لم أكن يوماً إنسانة صغيرة |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات اتسم شعر لميعة عباس عمارة بجرأة ورومانسية مرهفة، ولغة محكمة التراكيب والمفردات، مما جعلها تحتل مكانة في خارطة الشعر العربي كإحدى أهم الشخصيات الشعرية النسوية. عُرفت أيضا بعذوبة إلقائها، ذلك أنها تبدو وهي تلقي القصيدة كإلهة سومرية تختزل كل أزمنة وأطياف العراق. ولدتْ في بغداد لعائلة جنوبية عريقة من الطائفة المندائية ونشرتْ أول قصيدة وهي طفلة لا تتجاز أربعة عشر عاماً في مجلة ”السمير“. وصفها المحرر إيليا أبو ماضي آنذاك قائلاً: “إذا كان في العراق أطفال كهؤلاء فإنه مقدم على نهضة شعرية". وفعلاً مرّ العراق بنهضة شعرية في منتصف القرن الماضي، وكانت لميعة عباس عمارة، وزملاؤها السياب ونازك الملائكة والبياتي، من أبطالها. هاجرتْ من العراق عام 1978، وبعد ترحال بين مدن عربية وغربية استقرت في جنوب ولاية كاليفورنيا حيث تسكن الآن قرب أخواتها وأولادها. في هذا اللقاء، تتحدث لميعة عن تاريخها الشخصي، وتاريخ بلادها كما عاصرته، تتحدث بذاكرة حادة وبأنوثة وابتسامة عذبة رغم عمرٍ شارف منتصف الثمانينات. وأنا أتابع حديثها بحركاتها الأنيقة والعفوية استحضرت قصيدتها: "سيدتي من أنا اطمئني فزوجك المصون في أمان لي رجلٌ أحبه ولا أحبّ غيره ولا أحب معه ولا أحب بعده إنسانْ." نص الحوار عفاف نعش: ست لميعة قصيدة "شهرزاد" أول القصائد التي أحببتها لكِ وتعرفت من خلالها عليك. "ستبقى ستبقى شفاهي ظِماءْ ويبقى بعينيَّ هذا النداء ولن يبرح الصدرَ هذا الحنين ولن يُخرس اليأسُ كلَّ الرجاء" لميعة عباس عمارة: نعم "شهرزاد" قصيدة جميلة، كتبتها في السنة الثانية من الكلية وكانت من المربعات. كانت هـدية لبدر شاكر السياب، كتبتها له وهو أجاب عن كل مقطع. كنت أكتب بيت شعر وهو يجيبني بقصيدة كاملة. كان بيننا حوار شعري. عفاف نعش: بداية رائعة، لنتكلم عن شاعر البصرة بدر شاكر السياب. تكلمي لنا عن ذكرياتك معه ومتى التقيت به آخر مرة؟ لميعة عباس عمارة: ذكرياتي معه جميلة، كان كريماً كأي بصراوي، رقيق القلب، زكي النفس والرائحة، رغم أنه كان يدخن كثيراً. كان لطيف المعشر وأحيانًا عصبي المزاج ومتوتراً. التقينا أول مرة طلاباً في دار المعلمين العالي، أنا في الصف الأول في قسم الأدب العربي وهو في الصف الثالث قسم اللغة الإنكليزية. كنا نحن الطلاب نجلس حوله لنستمتع بحديثه العذب وشعره. كان إلقاؤه رائعاً وكأنه يمثل القصيدة أحياناً. التقينا آخر مرة في لقاء تاريخي سُجل ودُعيَ إليه الناقد الكبير علي جواد الطاهر. بدر ألقى قصيدته "العصماء" وأنا ألقيت قصيدة عن المرأة الشاعرة لم يفهمها أحد غيره. عفاف نعش: وماذا عن المرأة الشاعرة؟ لميعة عباس عمارة: أعتقد أن المرأة إما يجب أن تتفرغ لتربية الأولاد وإدارة البيت أو للشعر والإبداع، الجمع بين الاثنين صعب. مثلاً، أنا انقطعت أربع سنوات عن كل شيء ولم ألتق بأحد. القصيدة التي ألقيتها في تلك المناسبة كانت "الزاوية الخالية". الحضور من الرجال قالوا "هذه قصيدة قدور وصحون" والنساء قلن "غطينا رأسنا من الخجل". انظري كيف يستقبل المتلقي القصيدة معبرا وكل منهم يعبر عن واقعه وفهمه ولكن القصيدة كانت للسياب وهو فهم ما كنت أرمي اليه. عفاف نعش: هل كانت لميعة مُلهمة "عيناك غابتا نخيل ساعة السحر/ أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر" ؟ لميعة عباس عمارة: لا أدعي ذلك ولا أثق بالشعراء. نعم هو قرأها لي ولكنه كان يقرأ لي كل شعره. هو أضاف "مطر مطر مطر" فيما بعد فهذا الجزء لم يكن في القصيدة في البداية ويختلف في المضمون. عفاف نعش: كيف كان الحوار الشعري بينكما؟ لميعة عباس عمارة: كنت أقول له بيتاً أو فكرة شعرية، هو يتأثر بجزء أو كلمة ويأخذ هذا معه ويبحر به ويجاوبني في اليوم التالي بقصيدة كاملة. في شهرزاد مثلا قلت "أساطير نمّقها الخادعون/ وأشباح موتى تجوب العيون”، هو كان يجيبني عن هذا بقصيدة ثم جمع قصائده بعد ذلك في ديوان أسماه "أساطير" متأثراً بقصيدة "شهرزاد" وغير هذا الكثير. كنا أصدقاء وكان يقرأ لي وأقرأ له ونتناقش في كل شيء. عفاف نعش: كنتما أكثر من صديقين وقد دعاك لزيارة قريته الخالدة جيكور. اتهمك البعض بأنك لم تكوني جديّة مع السياب، فماذا كان المانع؟ لميعة عباس عمارة: هذا ليس صحيحاً، السياب كان أعز أصدقائي وكتبت وأهديت له الكثير من قصائدي ولكن الظروف تحكمنا. المانع هو نفسه دائماً الصحة والدين، عذران بل حقيقتان حددتا الكثير من تفاصيل حياتي، وأحيانا أستنجد بهما. كنت أنوي لقائه في الكويت ولم أحظَ بذلك فعندما حصلت على جواز سفري وأصبح من الممكن أن أسافر هو مات وحيداً في مستشفى الكويت. الكل قسا على بدر، الكل بلا استثناء. ربما كانت ردود فعله عنيفة قليلاً. كل من كان في العراق كان يشعر بالغبن وعندما جاءت الشيوعية استهوت الجميع لأن "المظلوم يدور على فَدْ شي يجلّب بيّ" (يبحث عن شيء يتمسك به). بدر صار شيوعياً، واستمر بكتابة قصائد الغزل وهذا أغضب الحزب الشيوعي. كان من المتوقع منه أن يكون ثورياً فقط، وهذا من غير الممكن؟ الشاعر لا يُحجَّم، لايُنظَّم ولا يُـقيَّد، ليس من الممكن ذلك. زُعماء الحزب الشيوعي أهملوه، جاع ومرض ولم يسألوا عنه بينما كانوا يبعثون بغيره بمنح دراسية إلى الاتحاد السوفييتي. هو تركهم وغيّر مساره ولكن لم يخنهم ولم يعمل ضدهم. تصوري عزيز الحاج كان يقول: "إذا رأيتم السياب ابصقوا بوجهه حتى يعرف قيمة من ينقلب على الحزب". هذا الكلام عن بدر شاكر السياب، تصوري! انا أهديت له الكثير من قصائدي في حياته وفي غيابه وهو كتب لي الكثير. آخر ما أهديت له قصيدة اسميتها "لعنة التميّز" في بداية التسعينيات وقُـرئَتْ في جمعية التمييز العنصري العربية. عفاف نعش: بعد كل سنوات رحيله؟ لميعة عباس عمارة: نعم هو الشعور بالارتباط رغم الرحيل. أنا قلت: "يوم أحببتك غمّضت عيوني لميعة تكن تعرف ديني فعرفنا و افترقنا دمعتين عُشقاً مُتَّ ولم تلمس الأربعين وأنا واصلتُ أعوامي أو واصلتُ تسديد ديوني ودرست الدين من بوذا وزرادشت و إبراهيم صليتُ مع الرهبان صِمتُ الصيف في رمضان وعُمّدت على جبين أبي في النهر لمَست جبيني الحكمة في الدين ولكن حماة الله قسراً أبعدوني ومن الطوفان حتى سانديغو لم أزل أعثرُ بالقيد الذي هم ألبسوني فاعذروني إن تكن صومعتي دون شبابيك وباب فأنا أحذر ان تجرحني الريح وأن يُغلق باب اللّه دوني" عفاف نعش: هل عانيت من التمييز العنصري ؟ لميعة عباس عمارة: طبعا وإن كان مُبطناً. مثلاً كان يُسمح للصابئة في المدارس والجامعات بنسية 2% فقط. أنا مثلاً وآخر درسنا والبقية في الشارع. الصابئة يتمركزون في الجنوب وبالأخص في العمارة، بهذا القرار تكون نسبة المندائين المتعلمين في العراق 2% فقط وهذه سياسة مُتعمدة. عفاف نعش: درست في دار المعلمين العالي وتخرجت سنة 1955. عاصرت حينها شخصيات مهمة من الطلاب أمثال السياب والبياتي وعبد الرزاق عبد الواحد وأيضاً نخبة استثنائية من الأساتذة، فمن كان الأقرب لك والأكثر تأثيراً؟ لميعة عباس عمارة: بدر كان أقرب شخص لي خلال سنوات الدراسة وبعدها. أساتذتي كانوا عظماء، الدكتور علي الوردي درّسني لمدة سنة ثم رحل إلى أمريكا ليكمل دراسته. شاعر ثورة العشرين محمد مهدي البصير، مصطفى جواد هو أكثر من أثر بي. كان قاموساً متنقلاً ومع ذلك كان يحمل قاموسه في جيبه ويرجع له دائماً ليضبط عين الفعل. فتعلمنا منه أن لا استغناء عن المراجع وتعلمنا منه الدقة والتواضع. عفاف نعش: بدأنا الحديث عن أيام الصبا ولكن لنعود بالزمن ونتكلم عن الطفولة والعائلة. العائلة تمتهن الصياغة. لميعة عباس عمارة: نعم، كانوا صاغة ذهب وفضة أباً عن جد، احترفوا المهنة منذ قديم الزمن. والدي لم يكتف بمحلين صياغة في العراق، واحد في المعسكر الإنكليزي المسمى معسكر الهنيدي (معسكر الرشيد لاحقاً) وآخر في شارع النهر في بغداد، وإنما أخذ الصياغة العراقية إلى أنحاء العالم وحصل على جوائز عالمية. حتى هنا في المهجر في مدينة سان دييغو هناك أكثر من صائغ مندائي. الصابئة المندائيون يواكبون التطور، مثلا الطقوس الدينية كانت صعبة والأهل كانوا متشدّدين وأنا شهدت وعشت هذا ثم حدثت تسهيلات كثيرة لتواكب العصر. جدي كان من رُؤساء الطائفة. أنا من سلالة نظيفة إن صح التعبير. يعود تاريخنا إلى الزمن العباسي، إلى ابو اسحاق الصابئي. هربوا من بغداد في زمن الفتوحات وسكنوا مدينة الطيب. مدينة صغيرة وجميلة على ضفاف دجلة قال عنها مصطفى جواد: هي بُليدة اشتهر أهلها بالأدب واشتغلوا في الثقافة. عفاف نعش: هل كانت أولى المحاولات الشعرية متأثرة بهذا الإرث الغني؟ لميعة عباس عمارة: أنا قلت الشعر قبل أن أعرف الشعر. كنت أكتب في درس الإنشاء في المرحلة الابتدائية شعراً ولم أعرف أنه كذلك. معلمتي قالت لعمتي التي كانت معلمة في نفس المدرسة بنت أخيك شاعرة. كانت أول المحاولات بالعامية متـأثرة بجدي. كتبت أبوذية، هذا النوع من الشعر مشهور عند أهل العمارة، وكان عمري سبع أو ثماني سنوات. ركضت يومها فرحة لأقرأها لجدي، قلت: "مَتشوف الناس ظاهرتي وسمني وما تدري الدهر طگني (ضربني) وسَمني وعلى الخدين محبوبي وسمني" ولم أكمل آخر بيت فعندما سمعه صاح بي ونهرني ولم أفهم وقتها سبب غضبه ولكن من العيب أن تقول البنت كلام غزل. عفاف نعش: كان هذا في العمارة ، مدينة الطفولة، حدثينا عن تلك المرحلة. لميعة عباس عمارة: ولدت في بغداد في منطقة الكريمات. تحولنا إلى العمارة بعد أن أنهيت أول أبتدائي في مدرسة الشواكة الابتدائية التي كانت في نفس شارع بيت مظفر النواب. في العمارة سكنا في شارع بغداد قرب الكحلاء والنهر في بيت كبير من الطابوق وأكثر الناس في المدينة كانوا يعيشون في بيوت من طين. أمي ولدت بنتين في بغداد فأرسلوها إلى العمارة لتغير الحظ. كنت مريضة دائما في طفولتي مصابة بسعال مزمن أعاني منه حتى الآن، فرئتي ضعيفة جداً. هذا أخرّني كثيراً فلا أذكر اني أكملت سنة دراسية بدون غياب مكثف ولا أذكر أني علوت مسرحاً لألقي قصيدة بدون دواء. وبالرغم من ذلك أجمل وأغنى سنين حياتي هي تلك التي قضيتها في العمارة. كتاباتي في العامية هي من تأثير تلك الفترة والكثير من الفصحى ايضاً. قلت فيها: "يا ذكرياتي في العمارة أسمع الصاروخ ينبت في ذكرياتي من نهر دجلة صار أنهاراً بها بدأت حياتي الصيف والناي الحزين بليلها سمر السطوح الساهرات حبي العمارة بيت جدي درب مدرستي مشي على (الكحلاء) أغنيتي حتى الأغاني اُخرست لم تنج من قتلي وأمرّها اني سأدفع حق كل قذيفة سقطت على أهلي." وجدت في لغة أهل العمارة الكثير من الفصحى المنسية. وجدت فيها الكثير من العواطف الحقيقية. وجدت في العمارة روح الشعر. الكل يشعر، عمال البناء، بائعو الخضار ينادون بوزن وقافية ويؤلفون الردات للمزح وتسيير الوقت خلال العمل. الشعائر الحسينية ما نسميه بالقرايات أو مرثيات الحسين، تثقفنا بهذة الثقافات. كنت أذهب من "قراية الى قراية" وكنت أكثر الناس بكاء. أذننا تعلمت على هذا الوزن وهذة اللمسة الإنسانية. الرثاء الحسيني يُعلم رقة القلب. تعلمنا الكرم الحقيقي والبساطة. أهل العمارة طيبون جداً وبسطاء الى أبعد الحدود. أطيب أكلة عندنا كانت هي الخبز والبصل والملح الخشن على سطح البيت. انا أحببت كل شيء في العمارة. عفاف نعش: وغير المراثي، ماذا عن الأهازيج والأفراح؟ لميعة عباس عمارة: كلها شعر أيضاً. كنا نتحدث شعراً إن أردنا. النُكت والحزورات كلها كانت تقال شعراً. في الأعراس كانت الاحتفالات تستمر شهراً كاملاً، وتكون مجالس للنساء فقط. يجتمعون كل يوم ويقولون الشعر ويغنون ويرقصون. هذا الشعر كان يُسمى غزل البنات وهو شعر منقول وجريء ولا يُعرف اسم القائلة من باب الخجل لهذا تقوله البنت ولايُحسب عليها، مثلا: "من الحزام وفوگ مرخوص الأسمر وخاف الطمع يازيك حنَ نْتـگشمر"
"كون أنّة نجمة بليل واسگط على اغطاك وبحجة البردان واتلفلف اوياك انظري إلى الجرأة والغزل. المرأة العراقية تقول الشعر في بيت واحد، صدر وقافية. مثلا: نذرك يَشيخ أدخيل نوط ابو الميَّة من افز والگي هواي غافي اعـلـديَّة "على يديَّ" وشيخ دخيل كان من عائلة والدتي وكان مزار يزوره الناس لطلب النذر ونوط أبو المية هي العملة النقدية الإنكليزية المستعملة أيام زمان. هناك شعر آخر يقول: "من الگلت و الگال توني استراحيت انّة وعزيز الروح صرنا فرد بيت" هذا الأخير سهل. لا بأس، هو أصبح "حلالها" فاستراحت من كلام الناس. عفاف نعش: وماذا عن اللوليات (الغناء للطفل وقت النوم)، هل تذكرين شيئاً من هذا الشعر؟ لميعة عباس عمارة: نفس الأشعار الحزينة النواعي (جمع نعوة) التي تقال لرثاء الموتى تلالي به الأم لطفلها عند وقت النوم. سمعت عمتي (حسنة) ترثي أبي بصوتها العذب تقول: "ذاك الفراش الجان مفروش وذيج العيال الجانت تروش صفينا يخوية بسبرة اطرو"ش هذا النوع من الشعر تلالي الأم به لطفلها وقت النوم. مثلا: "يمة رتك تباريلي المطية وتوصي الجناز بيَّ أنا الولادة وعينك علية يا الولد يبني" المطية هي حمارتها وهي كل ما تملك والجناز هو الدفان. فهي توصي ابنها بما تملك، حمارتها وجسدها، أن يعاملا برفق عند رحيلها. عفاف نعش: لماذا كل هذا الحزن في وقت تنويم الطفل ويفرض أن يكون وقت راحة؟ لميعة عباس عمارة: هي السكينة إلى النفس، هو الحزن المتعمق في تاريخ الجنوب. الجنوب كله مآسي، قطيعة مع بغداد وفقر. حتى أن الطريق الذي يوصل ببغداد لم يكن معبداً كي يمنع هجرة الفلاح. الفلاح العراقي كان مظلوماً تحت سيطرة الإقطاعي ولهذا كانت الحركة الشيوعية قوية في المناطق الجنوبية. وفعلاً عندما جاء عبد الكريم قاسم وبلط الطرق هاجر الفلاح فكانت مدينة الثورة التي سميت بعدها مدينة صدام ثم مدينة الصدر ولا أعرف ماذا بعد ذلك. عفاف نعش: هناك كثيرون ممن يعتبرون مشاكل العراق بدأت بعد حكم عبد الكريم قاسم وأن لم يقصد تداعياتها. بعض قرارته سببت مشاكل كبيرة حتى اعتبره البعض سبب دخول حزب البعث إلى العراق. مدينة الثورة هي مثال على ما يؤخذ ضده. هي مدينة نشأت في زمنه وظلت تعاني من الفقر والجهل وحتى الجريمة. لم تكن هناك خطة لتأهيل وإدماج القادمين من الجنوب. لميعة عباس عمارة: هو لم يجلبهم لتك المنطقة، هم كانوا موجودين من قبله ولو بأعداد قليلة. بدأوا الهجرة بعد تعبيد الطرق بين بغداد والمحافظات وسكنوا خيماً في ضواحي بغداد. عبد الكريم قال بالضبط: "العراقي لا يعيش في الخيم”. فوزع لهم الأراضي في شرق القناة. فأصبح كل واحد يجلب أقرباءه وصارت مدينتهم، مدينة الثورة. مشاكل العراق بدأت عندما وقع عبد الكريم وثيقة "نفط العراق للعراق”، تأميم النفط. وهو كان يعرف ذلك وقال: "وقعت اليوم على أمر إعدامي". بدأت المشاكل بتزايد طموحات الدول الكبرى وأطماعها بالعراق. عبد الكريم قاسم كان رجلاً وطنياً ولم يكن ليُرشى أو يخون، إذا كان يجب أن يُخلع فهو لا يفيد مخططاتهم. هو جاء في غفلة عنهم. المشاكل ليست بسببه، المشاكل بسبب البيئة التي شجعت وراهنت على تقسيم العراق من ذاك الوقت. عفاف نعش: هذة الحقبة الزمنية كانت غنية بالأحداث. فترة أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي كانت من أخصب الفترات الفكرية في العراق، كيف كنت ترين الشارع العراقي والفرد العراقي؟ لميعة عباس عمارة: هذا صحيح . كان العراق مقسماً بين تقدمي وقومي، ليس بينهما لون رمادي. حتى العجائز في المطبخ كان لهن موقف ورأي سياسي. الآن صار هناك وعي ولكن بأشياء أخرى. تشوهت الطينة العراقية. عفاف نعش: من متابعاتي لآرائك أعتقد أنك قاسية بعض الشيء في الحكم على الفرد العراقي. لميعة عباس عمارة: يحلل الدكتور علي الوردي فيقول سلطة الاستعمار تسيطر على الوزير العراقي والوزير "يطلع حرگته" بالموظف والموظف بزوجته والزوجة بأطفالها وهكذا تستمر سلسلة من القسوة والعنف. عفاف نعش: ولكن لماذا تكون هذة صفة عراقية؟ على هذا الأساس تكون القسوة والعنف صفة أي مكان مُحتل. لميعة عباس عمارة: لا، في الأردن مثلاً يقتلون البنات بالشبهة الأخلاقية، عادات قبائلية وعشائرية ولكن في العراق شعب يهدم قصور من سبقه ليبني قصره. هذا في كل وقت وزمان منذ الزمن البابلي. ذهبت إلى إيران، آثارهم لاتزال قائمة، مرّ عليها كورش والزرداشتية والإسلام لم يدمروا آثار ما قبلهم. نحن أول معول يطيح (يقع) على ما بـُني قبله. تمثال الملك فيصل كان قائماً، تمثال جميل جداً اسمه "الفارس العربي". عندما كنت صغيرة كنت أجلس في حديقته. هُدّم وجاؤوا بتمثال من إيطاليا وكان تمثالاً هزيلاً. وأيضا تمثال الجنرال مود في منطقة الكريعات في الكرخ بالشواكة قرب السفارة البريطانية حيث كنت أسكن. حتى هذا هـدم. كان ممكناً أن يحافظ عليه ويكتب تحته المستعمر ولكن لماذا يُهدم؟ في الصين حتى لافتة تقول"يُمنع دخول الكلاب والصينيين الى هذه الحديقة" تركوها تذكرة للأجيال القادمة. عفاف نعش: هل تتصورين هذة الصفة الهدامة هي صفة عراقية ام سياسة منظمة ضد العراق؟ لميعة عباس عمارة: أنا قلت في مقال على الهواء أيام عبد الكريم قاسم مع الأسف لم أحتفظ به إن الحكومات تصنع أخلاق شعوبها. كنا نبكي لسرقة آثارنا والآن نقول الحمد لله حُفظت في متاحف العالم شاهداً على هذا التاريخ العظيم. عفاف نعش: طيب ممكن أن يكون العكس هو الصحيح، وضع العراق والفرد العراقي هو تحصيل لسرقة أرضه وتاريخه. لميعة عباس عمارة: أنت تأخذين الأمور من فوق وأنا آخذها من الجذر. أنا عراقية وأخلاقي عراقية ولكن أقول عندنا قسوة وحب للتهديم. عندنا لطف أيضاً والكثير منه ولكن يجب أن نواجة الحقيقة. انا قلت: "وتعصفُ بغدادُ في جانحيَّ أعاصير من ولهٍ لا تذر بخورٌ لها أدمعي، ما أقلَّ عطاءَ الفقيرِ إذا ما نذر وبغدادُ قيثارتي البابليةُ قلبي وهُدبي عليها وَتَر لها في قلبي سحرُ كُهّانها وآثارُ ما قبَّلوا من حجر ولكن قلت ايضاً: حَمَّلتني بغدادُ عـُنف مُحبيها وبغدادُ ريثها عـُنفوان إن أحبَّت فَدتْ ، وإن أبغضتْ أردتْ ، وإن أرعدت أتى الطوفان" بغداد هي العراق. هذه هي أخلاقنا. تظهر حبات سيئة هنا وهناك ولكن البيئة تسمح لها في النمو أو لا. يعني انظري داعش، إمدادات من كل العالم، كل الدول الاسلامية أرسلوا ممثليهم إلى العراق، كل من يحب العنف جاء إلى العراق. عفاف نعش: ولكن ها أنت تقولين، إمدادات من كل العالم. إذاً هي ليست ظاهرة عراقية. لميعة عباس عمارة: هم لم يستطيعوا عمل العنف في بلادهم فجاؤوا إلى العراق، وجدوا أرضاً للعنف والممول خارجي. يجب أن نكون واقعيين .هناك طيبة ولكن ربما سذاجة أكثر. طيبة أكثر مما يجب حتى في السياسة. أمريكا قالت للعراقيين هذه الكويت لكم، "احنا مالنا دخل تاخذوها لو لا". ذهبوا ووقعوا في الهلاك. السياسة لؤم، حنكة، خباثة، بخل. العراقي يعطي للغريب قبل القريب. يتطلع إلى الخارج ليحصل على القبول. العراقي يأخذ من بلده ويعمر في غيرها. المصري مثلاً كما رأيناه في العراق عندما يحصل على عمل يجلب كل معارفه المصريين، العراقي يشاغب على أخيه ليحصد مكانه. أنا الآن أصبحت محايدة أنظر إلى الأمور بعينين لا بعين واحدة. أنا فهمت العراقي منذ أيام عبد الكريم قاسم. كنا أصحاب الشيوعية ثم انقلبنا إلى النقيض. كانوا يحاولون إقناعنا بأن عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف نفس الشيء لأن الاتحاد السوفييتي قال لهم ذلك. لا طبعاً، هناك فرق كفرق السماء عن الأرض بين الاثنين. أنا عرفت وفهمت هذا. مصالح الاتحاد السوفييتي تقتضي أن تقنعهم بذلك. ليس كل ما يقوله الاتحاد السوفييتي نقول له نعم. العراق يجب أن يكون أول وآخر الاعتبارات. هذه الأمور جعلت بدر شاكر السياب يفر منهم. أذكر أن الحزب الشيوعي حاول تنظيمي فأرسلوا لي بنتاً في الصف الثالث لتكون مسؤولتي، أنا حسبت هذه إهانة. وحتى بدون هذا السبب أنا لا أنتمي لحزب معين. الانتماء للحزب هو تحجيم وقيد، أي حزب كان، وأنا من غير الممكن أن أُقاد. عفاف نعش: ولكن أنت كنت محسوبة على حزب اليسار. لميعة عباس عمارة: ولا أزال محسوبة على اليسار وليس الحزب الشيوعي، أنا لم أُنظم. أنا مع الحرية، مع الديمقراطية، مع الديمقراطية المفتوحة وليس الديمقراطية الاستعمارية. أنا ضد أي حزب لأني ادافع عن الطرف الآخر دائماً. مثلاً القوميون، لا أؤمن برسالتهم، من غير الممكن ان أقبل بغير عراقي يحكم العراق. أنا ضد انتماء الشاعر لحزب. الشاعر حر والحزبي ببغاء، الشاعر قيادي والحزبي مُقاد. ثم أنا لا أؤمن بمبادئ الشيوعية لأنها ضد غريزة الإنسان ضد صفتين إنسانيتين، صفة التملك وهي غريزة تظهر عند الإنسان منذ الطفولة، وصفة العبادة وهي فطرة يستوي فيها الجاهل والمتعلم. لماذا نرفض الغريزة والفطرة الإنسانية؟ فعلاً انتهى الاتحاد السوفييتي ليس فقط بسب التدخلات الخارجية، ولكن لأنه ضد طبيعة الإنسان. عفاف نعش: كنت محسوبة على الحزب فكيف نجوت من حملات السجون والإعدامات؟ لميعة عباس عمارة: "آني طلعت من الموت". أنا كنت مطلوبة وصوري في التلفاز والجرائد، وصدرت أحكام ضدي مثل فصلي من الوظيفة ومُناقلة ممتلكاتي وحتى الإعدام. حُكم على امرأة بالإعدام على أساس أنها لميعة وأنا ذكرت هذة القصة عدة مرات. عفاف نعش: كل هذا بسب شبهة الانتماء أم لمواقف معلنة؟ لميعة عباس عمارة: لا، كنا نخرج في مظاهرات ضد الحكومة ونؤلف قصائد ضد الحرب. نمجد حرية الإنسان ونرفع راية السلام في كردستان. وتبدل حكم عبد السلام وجاء القوميون ثم البعثيون وتوسط لي بعض الناس وتقاعدت وتركت العراق. كانت الأمور قد هدأت قليلاً. أخذت موقفاً ألا اكتب في السياسة، فقط غزل، لأني وجدت طريق السياسة مفروشاً بالألغام وطريق الغزل مفروشاً بالورد. في سنة 1991 في مهرجان المربد في البصرة ،كان شعار المهرجان "الشعر والثورة" وكان طة عزيز حاضراً، قال: "راح نسمع ست لميعة". قلت: أنتم تقولون ثورة وانا أعرف الثورة في الشارع أما هذة القاعة الجميلة المُرفهة تـصلح للغزل فقط وأنا لا أعرف أن أكتب شعراً ثورياً. قال لي: "ومن قال لك إن القيادة لا تريد الغزل". هو كان شخص لطيف الكلام. شفيق الكمالي كان هناك ايضاً، وكان أيضاً يتعاطف مع الشعر والشعراء، وكان يحبنا أنا وعبد الرزاق. الكثير من البعثيين كانوا يحبون الشعر، صالح مهدي عماش مثلا كان يحب الشعر ويُنظم الشعر. كانوا يحترمون شعري ويعرفون أني لا أنتمي لحزب. عفاف نعش: قبل الرحيل عن العراق كنتِ عضوة في هيئة الأدباء العراقيين وكنت في الهيئة الإدارية مع الجواهري وبلند الحيدري وأسماء معروفة أخرى. قرأت قصة طريفة حصلت مع الجواهري. هل ممكن أن تذكريها؟ لميعة عباس عمارة: لي العديد من الذكريات والقصص مع الجواهري، حبيبنا الجواهري. الجواهري كان رئيس اتحاد الأدباء العراقيين في فترة وجودي كعضوة في الهيئة الإدارية. كنت لا أتجرأ بكلمة، لا أعترض أو أناقش فقط أستمع. نصغي عندما يتكلم ونراقب عندما يتحرك. محظوظة أنا لأني ولدت في زمن كان فيه الجواهري. أمي كانت امرأة أمية ولكن كانت تقول: أفهم الشعر عندما تقرأ لميعة ويقول الجواهري. كان إنساناً رائعاً قبل أن يكون شاعراً عظيماً. كان قدوتنا في كل شيء، أخلاق وشعر وفكر وسياسة. أذكر كنا في غرفة إدارة اتحاد الأدباء وكان الدكتور مهدي المخزومي يهديني نسخة من كتابه الصادر حديثا آنذاك "الكسائي- نحو الكوفة" بحضور الجواهري. الجواهري قال له: "لميعة لا تقرأ هكذا كتب". المخزومي قال له: “لا، لميعة تقرأ وبعمق" أستفزني تعليقه ولم أرد حينها ولكن ذهبت إلى بيتي وقرأت ديوانه بتمعن شديد. في الاجتماع التالي كنا في غرفة الإدارة وقبل الاجتماع الرسمي وبحضور الأساتذة د. مهدي المخزومي ود. علي جواد الطاهر انتقدت بعض الصور الشعرية في قصائده فأخذ يتلفت بين المخزومي والطاهر ويقول لهم كيف فاتتكم هذة الملاحظات. عفاف نعش: هل تذكرين بعض من تلك الملاحظات؟ لميعة عباس عمارة: مثلاً في قصيدته "أطبق الدجى"، قال الجواهري "أطبق على هذه الكروش/ يمطها شحم مذاب". أنا قلت أبو فرات ما هو الشحم المذاب ولماذا هو ليس صلباً إذا كان لا يزال في الكروش أم هو حُكم القافية كما حكم على ذهب عاتكة الخزرجي أن يذوب ثم ذكّرته بقصيدة عاتكة. فعاتكة الخزرجي كتبت قصيدة نُشرت في مجلة كويتية ترثي فيها أختها المتوفاة وكانت تصفها بأنها تركت الأرض لتسكن الفردوس ووصفتها بأنها "لبست الأساور من الذهب المُذاب”، وهنا اختلفت الصورة الشعرية ودرجة الحرارة أيضاً. كيف يذوب الذهب في الفردوس؟! إذا ًالقافية حكمت بدون الانتباه إلى دقة الصورة الشعرية. عفاف نعش: حدثينا عن عبد الرزاق عبد الواحد. تربيتم في نفس البيت فما هي ذكرياتك معه؟ لميعة عباس عمارة: هو ابن عمتي وكان أصغر مني بمرحلة في معهد المعلمين وأصغر عمراً بثلاث سنوات. كان مواليد نهاية سنة 1930ًً، وهو دائما يُكبّر نفسه وربما لؤما منه حتى يُكبّرني أيضاً. هو لطيف جداً، بعكس ما يبدو عليه من القسوة والشدة والعصبية. من أطرف الناس، طيب المعشر وسريع البديهة، حاضر النكتة وهو قابلية شعرية عظيمة. هو شاعر كبير ويمتلك سيولة عجيبة في الشعر وكـأنه يغرف من بحر. يُجيد في أي موضوع. ليس لي معه ذكريات كثيرة. ولدنا في نفس البيت في الكريمات ولكني تحولت إلى العمارة مع عائلتي وعمره كان سنتين فلم أره في الطفولة. رجعت إلى بغداد والتقينا في الكبر كنا في نفس الكلية ولم نكن أصدقاء مقربين ولم نمش سوياً، له اصدقاؤه ولي أصدقائي. لم تكن هناك منافسة بيننا. أنا أخذت الجائزة الأولى في مسابقة شعرية وهو أخذ الجائزة الثانية. الشيخ رضا الشبيبي قال أنا أحكم "للتائهة" قصيدتي ومحمد صالح بحر العلوم قال أنا احكم "للساري" قصيدة عبد الرزاق. هذا لم يخلق عداء بيننا. الناس كانت تناقش في الجرائد والحلقات الأدبية ولكن الموضوع لم يكن يعنينا. كنا نشعر بأننا أدينا واجبنا وقلنا ما عندنا من خلال الشعر وما عدا ذلك نحن أقرباء. عفاف نعش: قابلية عبد الرزاق عبد الواحد ليست محل جدل أو تشكيك فهو شاعر كبير ولغته ذهبية وإلقاؤه رائع ولكن ماذا تقولين عن مسيرته الشعرية؟ فقد ارتبط اسمة بصدام والبعث. لميعة عباس عمارة: وارتبط اسمه بالحزب الشيوعي قبل ذلك. كأي شاعر عراقي تأثر بالتقلبات السياسية. لا تنسي هو محسود من منافسيه. يعني أخطاؤه لم تكن مثل أخطاء البياتي مثلا. يعني البياتي انتمى لكل الأحزاب وسجل معهم. الشيوعية والبعثية وهذا موجود ومُسجل. وكان قومياً ايضاً. كان يجلس في الصف ولا نعرف من هو وإلى من ينتمي وكنا نتجنب الحديث معه. لا تنسي أيضا عبد الرزاق من أقليّة دينيّة، فهناك الحقد الطائفي وحقد البعثيين والشيوعيين أيضاً وباقي الشعراء فهو زاحم كل الشعراء في مكانهم. يعني هو كان مكروهاً وجوباً. ولكن هذا لا يغير أنه شاعر كبير. ثم صدام أحب عبد الرزاق وأغدق عليه. كان يقدر قابليته الأدبية واللغوية وكان يكرمه ويحترمه فماذا يمكن أن تكون ردود الفعل: لا خيل عندك تهديها ولا مال فـليُسعف القول إن لم تسعف الحال عفاف نعش: هل قابلتي صدام؟ لميعة عباس عمارة: نعم مرة أو مرتين ولا أذكر التفاصيل ولا أحب ذكر هذه المواضيع. أنا أردت ألا "أزعـلهم مني" ونجحت بذلك. في إحدى المناسبات دعاني أحمد حسن البكر وقال لي "يا بنتي هاي شيبتي متستاهل تكتبين لي قصيدة". قلت له لا أجيد هذا النوع من الشعر وهناك من هو أحسن مني. قال ومن يكون أحسن من لميعة قلت عبد الرزاق عبد الواحد. وفعلاً دعاه وكتب له. ثم جاء صدام وكرّم عبد الرزاق وقال له لا يزعجني أنك كتبت للبكر فكان لعبد الرزاق أن يطمئنه ويكتب له. وكتب عبد الرزاق لهم وأنا كنت خارج العراق. أنا لا أستطيع حتى لو رغبت لأني لا أجيد هذا الشعر. كنت مرة طالبة أخرجوني من المدرسة وطلبوا مني أن أكتب قصيدة بمناسبة ميلاد الملك. وضعوني في غرفة وأمامي قلم وورقة طول اليوم ولم آت بشيء لأني لم أستطع. أنا أكتب عن الحب والناس والمكان ولا أكتب عن رؤساء. ليس تعمداً ولكن ليست صنعتي. عفاف نعش: هذا يأخذنا إلى موضوع مهم عن دور الشاعر والمثقف. هل فعلاً هناك خيار أن تكون سياسياً أو لا تكون في بلداننا العربية حيث السياسة مرتبطة بالحياة والحرية وكرامة الإنسان؟ الآن مثلاً هناك شخصيات فنية وأدبية عراقية ناجحة تـُهاجم بسبب صمتها عما يحصل في العراق. لمعية عباس عمارة: أنا لي مواقفي ومبادئي ولكن لا أكون واجهة إعلانية تستعمل لمنفعة الآخرين. الشاعر والفنان الملتزم والمبدع هو فخر لبلده وهذا يكفي. الشاعر أو الفنان ليس جندياً وليس هناك من يحميه. عفاف نعش: لم يُغنَّ شعرك إلا القليل كقصيدة "أشتاق لك يا نهر" غناها فاضل عواد، لماذا؟ لميعة عباس عمارة: كانت هناك محاولات ولم أتعامل معها بجدية. التقيت بمحمد عبد الوهاب في مهرجان شوقي ثم ذهبنا بعدها إلى كافيتريا شتورة. قال لي اختاري قصيدة من شعرك لأغنيها. قلت له عندك ديواني اختار ما شئت وغيري لا يفوّت فرصة كهذه وهو كان وقتها يقرأ باستعمال العدسة المكبرة ولايستطيع قراءة دواوين. التقيت ايضاً بفريد الأطرش كثيراً وطلب مني مرة قصيدة فقدمت له قصيدة اسمها "الغد الأعمى". فرفض وهذا أغضبني. قلت له لماذا هذه من أجمل قصائدي، قال لا أريد من في الصالة ينادي "غني الأعمى يا أطرش". كان خفيف الظل جداً. وفي بيروت التقيت مع فيروز كثيراً. قالت لي مرة "أخرجتيني من وقاري" لأنها كانت تنادي بصوت "الله الله" وأنا ألقي الشعر. كنا مره جالسين في بيتها والرسام الكاركتير المعروف صالح جاهين هناك فرسمنا جميعاً. بعد ذلك وضعت رسمة لي غلافاً لديواني بالهجة العامية. عفاف نعش: وجواد سليم رسمكِ أيضاً فما قصة تلك اللوحة؟ لميعة عباس عمارة: كنت طالبة في الثانوية وكنت أذهب لمرسمه بعد الدوام لتعلم الرسم. ولكنه جعلني موديلاً للصف وأنا كنت أريد أن أتعلم الرسم ولكن من يجرؤ على معارضة جواد سليم. عفاف نعش: ماذا عن فنانين عراقيين هل كانت هناك محاولات لغناء شعرك؟
عفاف نعش: وماذا تقولين عن مسيرة الشعر النسوي في العراق. لميعة عباس عمارة: قبل نازك كانت عاتكة الخزرجي. مجلة "فتاة الرافدين" نشرت قصيدة لها تقول: بغداد أنتِ نعيمي قبلتي ألمي/ أنا المعنى بك يا روضة الأدب أنا انبهرت. الله. حفظتها وتباهيت بها. ثم تعرفت على شعر نازك الملائكة. هي شيء مختلف، هي الشعر. نازك مثقفة جدأ من عائلة شعرية ولغتها سليمة جدأ. عاتكة ظلت تراوح مكانها ولم تتطور، ناظمة فقط وخالية من اللمسة الشعرية. التقيت كثيراً بنازك ولم تنشأ بيننا صداقة حميمة. كان هناك بعض من المسافة وهي أرادت ذلك. كانت تحب عزلتها. نازك أستاذة الشعر ولكن نازك أحبطتها الدنيا وأرهقتها الحياة. هي ماتت قبل أن تموت. تركت الدنيا واعتزلت تماماً هناك في مصر وحدها. ولكن أستاذة الشعر العربي النسوي هي نازك الملائكة.
يا ليبيا الأحرار يا بلدي وبالأهلين أهِل هذة الرمال أُحسُ أعرفِها وتعرفني السواحل هذهِ الوجه وكأن بها ولدي وأجدادي الأوائل أنا أحب كل الشعوب العربية: هذا الدم العربي ليس الماء في الأعراق سائل هذا دم غضب لم يعرف حدوداً أو حواجز ولقطر قلت: سلاماً عليك سلاماً قطر وسقاك ليس مزاج المطر كأن الجزيرة ليس صبارة وأنت على الحرف منها ثمر عفاف نعش: والآن في سان دييغو. ما هو تأثير هذه المدينة على لميعة؟ كيف تتواصلين مع الحركة الأدبية وكيف تقضين أوقاتك؟ لميعة عباس عمارة: لا يوجد تواصل إلا القليل عبر الانترنت. هنا حياة بسيطة مع أولادي وأخواتي وعوائلهم. السكن والمكان متواضع وبسيط، شقة بغرفة نوم واحدة وراتب أمريكي. ولكن أعتز أني لم أكن أداة بيد أي طرف. كتبت ما ألهمت ولم أكتب رغبة غيري. ارتضيت الحياة البسطة هنا في الغربة. تركت كل ما أملك ورائي في العراق ولم أحمل إلا القليل. كتبي، التذكارات التي أهديت لي من شعراء وأدباء عرب كلها ذهبت. حتى صوري وصور العائلة المعلقة على جدران بيتنا سُرقت. أنا امرأة بدون ماضي. هذا التاريخ الطويل الذي حمل اسم العراق في محافل الأدب والشعر انتهى به المطاف للعيش تحت رحمة تقاعد خدمة المسنين الأمريكي "فإذا بيدي تمتدُ للصدقات يرميها الذي قتل الحضارةَ للقتيلِ". حفيدي يقول لي جدة يجب أن يكون لك بيت كبير وجميل وتستقبلي فيه الطلاب والأدباء للبحث والنقاش. أنا فقط طلبت أن يُعين لي موظفة تساعدني على الكتابة فالصحة لا تسمح بالكتابة ولم يحصل ذلك. ولكن هذا هو مصير العراقيين وهذه هي الغربة. من الطرائف أتذكر عندما جلست في مركز الخدمة الاجتماعية وزعوا لنا في صالة الانتظار أوراقاً وألواناً مثل الأطفال. أنا أخذت الألوان ورسمت لوحة لسيدة مسنة كانت تجلس أمامي ومن سخريات القدر أنها ماتت في اليوم التالي ولم تر رسمي. هنا لا يعرفك أحد ولا يعرف مسيرتك وفي هذا ربما شيء من الهدوء. |