فاضل العزاوي: ما بقي من (جماعة كركوك) هو إبداع شعرائها |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات مسيرة طويلة بدأت من كركوك، حيث الولادة (عام 1940) والنشأة، لتمتدّ لاحقاً إلى بغداد وبرلين، ومنهما إلى مدن واشتغالات شتّى في الكتابة الإبداعيّة. منذ أن أصدر كتابه الشعريّ الأوّل «سلاماً أيّتها الموجة، سلاماً أيّها البحر» (1974)، وقبله كتابين في السرد عامي 1969 و1972، حرص على إبقاء مقاربة «النصّ المفتوح» من خلال «مخلوقات» تفنّن في صوغها، وعبر كتاب «القلعة الخامسة» أيضاً. مواصلة تقديم نتاجه كانت مع ديوانه «الشجرة الشرقيّة» (1976). وبصدور الأعمال الشعريّة الكاملة بعد عقود عن «دار الجمل»، يكون هذا الشاعر والروائي قد عبر مدناً وتجارب ووصل اسمه إلى لغات وثقافات أخرى، غدت حينها الكتابة وطنه، كأنّه في ذلك كلّه يقترب من ملامح مقطع من قصيدة له: «أملأ كيسي رملاً/ وأؤسّس في المنفى وطني/ أنقلهُ تحت الأمطار إلى الوادي». عن جيل الستينيات ومدينته الأولى التي صار بعيداً عنها، والعراق وآلامه وثقافته وراهنه، وكتابه "الشاعر في السجن" الذي يصدر قريباً عن "دار الجمل" (على أن تعيد إصدار رواياته "آخر الملائكة"، "كوميديا الأشباح"، "الاسلاف"، "مدينة من رماد" في طبعات منقّحة هذا الموسم) كان هذا الحوار مع فاضل العزاوي
ما أن تصل الضحية نفسها إلى السلطة حتى تتحول إلى جلاد أكثر قسوة. أنظر الى الطريقة التي عامل بها ضحايا الدكتاتورية خصومهم بعد الاحتلال. لقد زجوا بعشرات الألوف من الناس في السجون بسبب وشاية من «مخبر سري» ما. وهو ما لا يمكن أن يوجد إلا في ظل أسوأ الدكتاتوريات في تاريخ العالم، حيث يتعرض الضحايا لكل انتهاك يخطر في البال. بل إنّ الأميركيين أنفسهم الذين احتلوا العراق باسم الحرية والديمقراطية لم يترددوا في ارتكاب جرائم أخلاقية قذرة ضد من توقعه المصادفة بين أيديهم. كرمنا الروحي تجاه الضحية وحده هو ما يجعلنا بشراً أسوياء. في كتابتي عن السجن، أردت تأكيد هذه الحقيقة في زمن ربما كان الأسوأ بين كل الأزمنة التي شهدتها.
■ يعتقد بعضهم أنّ هناك مبالغة في توصيف الجيل الستيني واشتغالاته، متى نبدأ بقراءة واعية لهذا الجيل من دون تقديس «روحه الحيّة» أو «موجته الصاخبة»؟ ـ لم أؤمن في أي وقت بالفكرة الساذجة الشائعة التي تقدس هذا الجيل أو تحط من قيمة ذاك الجيل إبداعياً على أساس زمني. الإبداع يمكن أن يتحقق في أي وقت وفي أي جيل، وهو أمر يرتبط بفرادة الكاتب أو الشاعر نفسه. وإذا كانت الستينيات قد أنجبت العديد من الكتاب والشعراء المتميزين، فربما لأنّ الظرف كان مواتياً حينذاك لنمو هذه المواهب أكثر من الفترات التالية التي أعقبته أو التي سبقته. حاولت أن أوضح كل ذلك أدبياً وفكرياً وسياسياً في كتابي «الروح الحية». إننا تحتاج في الحقيقة الى قراءة عميقة لكل مراحل تطور الأدب العراقي وليس لفترة محددة بالذات لنعرف قيمة ما أنجزه شعراؤنا وكتابنا ونحدد موقعه.
■ من ضمن ما نُقل عن الشاعر الراحل سركون بولص، إنّ «تاريخ جيل الستينيات مكتوب بشكل سيّئ لأنّ من هيمن على تقديم هذا التاريخ كانت له انتماءاته الضيّقة». إلى أي درجة كانت الأجواء محتقنة وغير ودية بين الفاعلين في الجيل المذكور؟ ـ لم تكن هناك أي أجواء محتقنة أو غير ودية بين أصدقاء الجيل الستيني. لقد كان الجميع ــ برغم الاختلاف في انحداراتهم السياسية التي ما عادت تعنيهم كثيراً ــ يلتقون ويتناقشون، بل يدخلون في مشاريع مشتركة. أما خلافاتهم فكانت تتعلق في الأغلب بالمنافسات الصبيانية حول «من علق الجرس أولاً حول عنق القط؟». كان الجميع أصدقاء، يسهرون سوية وينفقون على بعضهم ويقيمون في شقق مشتركة ويعرضون أعمالهم على بعضهم لتصحيحها أو إبداء الرأي فيها. لكن شخصيات بعضهم القوية ما كانت لتسمح له بالنزول عن بغلة «الشاعر أو الكاتب الأوحد». تلك الخصلة التي يكاد ينفرد بها العراقيون. وكان ثمة أيضاً نفاجون أدعياء وفاشلون يحرضون هذا ضد ذاك، مثلما كان يتفق أحياناً، مؤقتاً بالطبع، اثنان أو ثلاثة منهم ضد آخرين قبل أن يعود الصفاء بينهم. والأطرف في الأمر أنّ أصدقاء جماعة كركوك بالذات ما كانوا يجدون من يملأ عيونهم أو يقدر على منافستهم أدبياً من غير زملائهم داخل حلقتهم الضيقة وحدها، متطرفين أحياناً في أحكامهم ضد بعضهم الآخر، من دون أن يعني ذلك الكثير. ذات مرة في السبعينات، رافقني الصديقان، الروائي الأردني غالب هلسا والناقد التشكيلي والقاص عادل كامل، في زيارة لي مع سالمة صالح إلى كركوك، قمنا فيها بزيارة صديقنا القاص جليل القيسي الذي كان الأكثر وداعة بيننا. في بيته الواقع في منطقة «التبة» في كركوك، مستصحبين معنا الصديق جان دمو، احتفى بنا جليل القيسي على عادته بكل ما لذ وطاب من طعام وشراب. في تلك الجلسة وأثناء الحديث عن الأدب وبتأثير الشراب، انتابت جليل القيسي حالة عاطفية من التواضع جعلته يعلن أن كل كتاباته فاشلة وتخلو من أي قيمة. المرء لا يستطيع أن يكتب إلا ما يقدر عليه. ولكن بدل أن يرفض المرء انتقاصه من قيمة نفسه ويرفع من معنوياته، انبرى جان دمو فجأة قائلاً بالكثير من التشفي: «هل رأيت؟ لقد اعترفت الآن فقط بالحقيقة التي كنت تنكرها. كنت أقول لك دائماً أنك كاتب فاشل ولا تعرف الكتابة، لكنك لم تكن تصدقني». انفعل جليل القيسي، ومع ذلك جاهد ليسيطر على نفسه برهة، مردداً على عادته في اللجوء إلى المقتبسات، البيت الشعري المشهور: «يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا/ نحن الضيوف وأنت رب المنزل». بيد أنه لم يحتمل الإهانة، فهجم فجأة بالحذاء على جان دمو الذي راح يردد مستنكراً: «لقد اعترفت أنت نفسك بأنك كاتب فاشل، فلماذا الزعل؟». كل هذا يبدو لي مفهوماً الآن، فالغيرة الإبداعية، وهي بالطبع غير الوقاحة أو قلة الأدب التي ينفرد بها مع الأسف بعض كتابنا، يمكن أن توجد في أي ثقافة. كاتبة كبيرة مثل فيرجينيا وولف كانت تغار من جيمس جويس وتعده كاتباً رديئاً، فيما كان جويس نفسه يتعمد التدخين حين يكون مع مارسيل بروست المريض بالربو ليزعجه ويقلقه. وكان والت ويتمان يحسد شاعراً مشهوراً أقل منه موهبة بكثير. أما تولستوي العظيم، فكان يرفض المشاركة في أي مؤتمر أدبي يحضره دوستويفسكي. ويقال إن ما جعل جان بول سارتر يرفض جائزة «نوبل» هو أنّها منحت لألبير كامو قبله. ■ مجلّة «الشعر 69» والبيان الشعريّ الذي صدر عنها، أيصحّ القول إنّ هذين الحدثين ثمرة طبيعيّة لجو الستينيات ومحاولات خلق كيان جديد للمثقف العراقيّ متطلّع للتحديث والتواصل مع العالم؟ ■ ماذا بقي من «جماعة كركوك الأدبيّة»، أين تلمس تأثيراتها على أجيال لاحقة وما الذي قدّمته لهم؟ ■ إذا كانت كركوك، نصّاً أدبيّاً مفتوحاً بلا نهاية، وطُلب منك اختيار عنوان له، ما مضمونه وما دواعي تبنّيه عند هذه اللحظة التي تقف فيها المدينة والبلاد كلّها على أبواب المجهول؟ ■ كيف تقرأ المشهد العام في العراق اليوم؟ أيّ كتابة ممكنة في دائرة العنف المتواصل والتكفير وداعش والانقسامات المذهبيّة؟
ـ ثمة خطر دائم في أن تقع الكتابة نفسها في واقع ممسوخ مثل الواقع العراقي، تحت وطأته لتصبح جزءاً من آلية هلاكه نفسها. ما أكتبه، لن يقرأه من يريد أن يفجر نفسه بالتأكيد، ولا يهمني أن يقرأني من يكفرني أو يطلب رأسي. كما لا يمكن لي أن أنحدر بكتابتي لأكون مع هذا الطرف الأعمى ضد ذاك الطرف الأعمى. ولذلك لا مناص من التعالي على الجنون العام بنفيه من خلال كتابة أدب يؤكد ما هو خلاق وحقيقي وأصيل وإنساني في الحياة. سئل جيمس جويس ذات مرة: «ماذا كنت تفعل خلال الحرب العظمى (الحرب العالمية الأولى)؟» فأجاب: «كنت أكتب يوليسيس، ماذا كنت تفعل أنت؟». ■ هل حانت القطيعة النهائيّة للشاعر مع الرافعات الحزبيّة، ماذا عمّن ما زال يسبح في هذا الفضاء الاستلابي؟ ـ لا يمكن للشاعر الحقيقي إلا أن يكون حراً. أما الرافعات الحزبية، فتسيء الى الأدب أكثر مما تخدمه. الشعراء والكتاب السيئون وحدهم يتكئون على ما هو غير أدبي للتعويض عما ينقصهم. ومع ذلك، لا أمنح نفسي الحق في أن أحرم أحداً من حقه في اختيار السبيل الذي يسلكه أو العربة التي يستقلها. كل ما يمكن أن أطلبه منه هو ألا يسلم قياده لحوذيين دجالين يدعون معرفة الطريق إلى الجنة، أو أن يتبع كهنة أفاقين كذبة يبيعون الله نفسه في سوق النخاسة. الشاعر الحقيقي يضمر في كل ما يفعله أرفع ما في عصره من قيم، بل يتخطى ذلك ليكون رائياً لمستقبل التاريخ أيضاً. ■ هذا الحضور بين اشتغالين مختلفين في الكتابة، الشعر والرواية، أي حساسيات يمكن تلمّس ملامحها المتباينة، بين الشاعر تارة، والروائي طوراً في ذات فاضل العزاوي؟ ■ بعد إقامتك الطويلة في المنفى، والكتابة بالإنكليزية والألمانية إلى جانب العربيّة، ماذا أعطتك هذه الإقامة في أمكنة ولغات أخرى؟ أين يمكن معاينة ذلك في جملتك ونبرتك ونصوصك؟ ■ «تقدّم خطوات في الشارع الموحل. هل يمكن للدم أن يفتح نهار الحريّة؟ تقدّم خطوة. حدّق في طفل ساكن. ضربة واحدة ويهدأ الفعل إلى الأبد ليصبح قضية... لا بدّ من ممارسة نمط معين من الحيل الصغيرة لجرّ المخلوق الضئيل جانباً..»، مقطع من رواية «مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة»، ألا تعتقد أنّ التجريب السائد في الستينيات، أفاد هذا العمل كثيراً فلفت الأنظار إليه، إضافة إلى استثمار الكاتب لشعوره بالحرية والشغف بالتمرّد إلى أقصى حد؟ ■ يواجهنا بين حين وآخر، رأي مفاده أنّ هناك كتابة جديدة في العالم العربيّ ممهورة بدم الضحايا بعدما أصبحنا عراة أمام هزائمنا السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة المتتالية، ما درجة الصواب هنا؟ ■ هل من رؤية بخصوص الثقافة العراقيّة الآن، وما مصير نغمتي «الداخل» و»الخارج» التي سمعناها كثيراً، أما زالتا على قيد الحياة؟ ■ ماذا عن الغياب الطويل عن العراق الذي لم تزره بعد نيسان (أبريل) 2003، أتخشى على صورة قديمة في البال قد يفاجئك فقدانها فتخسر العراق أكثر؟
ـ لم أملك في أي وقت صورة فردوسية عن العراق لأخسرها تالياً. بعد طوافي طوال أكثر من 37 سنة في قارات العالم وبلدانه ومدنه، أدركت عظمة العالم الذي أعيش فيه، منتهياً من كل وهم عاطفي قديم حول «الظلام الذي يكون أجمل من سواه في بلادي»، على حد قول السياب، وهو ما يكاد يعد مرضاً في الثقافة الغربية ويطلق عليه بالإنكليزية اسم Jingoism، فالحب الحقيقي للوطن يتجلى في رؤيته على حقيقته لتكون قادراً على تغييره، لا أن تظل تبخره بالكلمات الفارغة. كنت أفكر قديماً، فيما إذا انتهت الدكتاتورية ذات يوم، أن أقيم في العراق أقلها لستة أشهر في العام. لكن حلمي بالحرية والديمقراطية انتهى بالاحتلال الذي وسّع قاعدة الدكتاتورية وجعلها أكثر إرهاباً وضراوة ودموية وكرهاً للثقافة والإبداع والحداثة. وبالطبع، لم أجد نفسي في ظل مثل هذه التراجيديا مضطراً للعودة والقبول بأن يستوقفني مثلاً جندي أميركي غر في الشارع ويجرح كرامتي، أو أن أتيح لطائفي جاهل أو تاجر دين دجال أو نكرة صار مسؤولاً كبيراً فجأة فراح ينتقم لذله الماضي في ارتكاب كل الموبقات والخيانات حين كان في الخارج، أن يمارس سلطته علي أو يعتقلني أو يقتلني، من دون خشية من عقاب. حتى لو قدر لي أن أعود يوماً ما إلى العراق، فلن أكون أكثر من سائح يسكن في فندق، لأن بيتنا المصادر منذ 30 سنة ما زال مصادراً حتى الآن، كما لا يمكن لي أن أذل نفسي في المطالبة حتى بحقوقي القانونية المترتبة على عملي السابق في العراق. لقد فبرك الأميركيون على عجل دولة لا مثيل لها، قائمة على الدجل والشعوذة والجهل والخرافة. دولة لا يكاد أحد يعدها دولته، حيث كل ما فيها ملفق ومزور، من الدستور والعلم والنشيد الوطني وحتى الانتخابات والبرلمان والفيدرالية والزعامات الفارغة والحكومة، بل حتى الدين الذي لم يعد ديناً، والشعب الذي لم يعد شعباً. هذا هو ما يجعلني الآن أيضاً أمكث في مكاني هنا، حيث أنا، بعد أن فقدت الرغبة في أن أكون حاضراً، ولو كمتفرج، في قاعة تمثل فيها مثل هذه الكوميديا السوداء. عن "الأخبار" اللبنانية
|