جهة الشمس

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
12/04/2015 06:00 AM
GMT




تخطيط يحيى الشيخ
 لم تكن لدي أية إمكانية أخرى لشراء مكان يأويني غير هذا: كوخ ريفي خشبي، بعيد عن المناطق المأهولة، وعن الشوارع المعبدة والخدمات البلدية، وسط غابة، على قمة هضبة عالية يخترقها جدول صغير شفيف ينحدر من أعلى الجبل بلا انقطاع ولا تردد عبر الصخور. يجري ماؤه صافيا فوق حصى ملونة، يدغدغها ويداعب جنباتها، فتضحك بلا توقف ما دام يجري. لم أكتشف، حتى اليوم، لِمَ تضحك هكذا عاليا.

   الكوخ صندوق مربع كبير يتوسطه موقد حجري تصعد منه مدخنة باخرة قديمة. كيف وصلت إلى هنا؟ شقت السقف وخرجتْ من أعلاه، وتطاولت حتى أعلى شجرة بجوارها، وكأنها مسمار عظيم يدق الكوخ بالأرض، عنقها مائل صوب الشمال. الجدران بُنيت من جذوع أشجار صنوبر غشيمة تصالبت وعُشّقت ببعضها البعض وشكلت هيكلا يبدو في ضلعه عند الباب مائلا قليلا. على كل جبهة منه نافذة مربعة، يدخلها الضوء أينما مالت الشمس. الكوخ بلا كهرياء، يكتفي المرء في ستة أشهر  من العام بضياء الشمس التي لا تغيب. في أشهر الخريف والشتاء حيث يغطي الثلج كل مكان، يغدو العالم أبيضاً ناصعاً تحت ضوء القمر، أو  أوقات سطوع الضوء القطبي في ليالي الصحو، فتهرب العتمة، تخاف حركة الضياء السماوية الجبارة، وتختفي في عمق الغابة الكثيف بين الأدغال. عدا هذا فالشموع والحطب كفيلة بقضاء الحاجة، والقراءة العسيرة.

   مازلتُ في منتصف الخمسين، لكني أبدو دون هذا العمر، لنشاطي وقوة جسدي مفتول العضلات. لوّحتني الشمس وصبغتني بسمرة حارة براقة، ومنحتني ملامح هندي أحمر. هكذا كانوا يمزحون معي، وكان يبهجني ذلك.

   ربما من المناسب أن أكشف السبب الفعال لوجودي هنا في أقصى العالم، عدا أني لست قادراً على شراء سكن في المدينة. الحقيقة أني اشتغلت منذ شبابي حطاباً. ليس حطاباً بدائياً، كما توحي الكلمة، إنما كنت أعمل في قطع الأشجار في الغابات النائية. قضيتُ كل سنيني هناك، أعيش في بيوت مؤقتة تشيّدها الشركات لعمالها. زياراتي للمدينة كانت متباعدة، تقتصر على يومين أو ثلاثة أقضيها لدى أختي الكبيرة التي ربّتني بعد وفاة أمي المبكر. أغلب الوقت أقضيه مع بناتها التوأم وزوجها موظف البريد العليل، نلعب الورق والدومينو. لفترة غير طويلة، كانت لي علاقة بأرملة أبات عندها بضع ليال، انتهت بوداع بارد بسبب رغبتها في العيش إلى جانبها والبحث عن عمل آخر. غير هذا كانت الشركات توفر كل مستلزمات العيش في الموقع: ملابس عمل وطبابة وطعام وشراب بأسعار خاصة. بعضها يأتي هبات من أصحاب الغابات التي كنا نقوم بتحطيبها لأشهر طويلة. الراديو وحده كان يوفر لنا صوتاً من خارج الغابة.

   كنت أتقاسم إقامتي مع كنوت سولسيدن (جهة الشمس): شاب لا يتجاوز الرابعة والعشرين عاماً. نقيم في كوخ صناعي صغير يسع لسرير مركب ذو طابقين، وطاولة وكرسيان وكنبة وخزانة ملابس مزدوج، على فردة باب منه مرآة طويلة، كانت زائدة عن الحاجة، لم نقف أمامها ولا مرة، غير هذا كانت تؤكد وجودنا المعلن. الحمّامات الجماعية في الزاوية البعيدة من الأكواخ، بجوارها مطبخ هو عبارة عن مجموع كوخين، واحد للطبخ والآخر الملحق به تتوسطه طاولة طويلة خشنة الوجه، متغضنة، تحيطها مقاعد بلا مساند. شيء ما يشبه الغابة، فالأشجار بلا مساند أيضاً. ذلك بعض من انسجامنا مع الطبيعة داخل بيوتنا، أما خارجها، فعلينا جلب الماء من مصبه، وهو ماء سلس ينحدر بين صخرتين عملاقتين. سميناه "شليل" تصغير شلال. كذلك جمع الحطب للمواقد وللمطبخ، وتنظيف الساحة الوسطى بين الاكواخ، وساحة الرياضة خلفها. كنا نحصل على الإضاءة بفعالية مصابيح غازية، أربعة منها عملاقة كبيرة في الأركان الأربعة للمجمع السكني، الذي أطلق عليه شريكي كنوت "المربع البشري" في أحدى الأماسي التي جمعتنا وسط الساحة بعد العشاء. لم نناقشه في معنى ذلك وقبلناه لغرابته وجماله الشعري.

   كنت أزوّد نفسي بالكتب في كل زيارة لأختي، وأعيد ما أقرأه لهم في ما بعد. غطت الكتب جدران الصالة وزحفت إلى ممر مدخل البيت، بأرفف غير متجانسة، تضاف اليها رفوف جديدة كلما ضاق المكان، بعضها دُس تحت الأسرة. كانت تلك تسلية زوجها الذي لازم البيت بفعل المرض.

   كنوت سولسيدن صموتٌ، في عينيه بقايا نظرات نستها الطفولة وراءها، نظرات متسائلة تكتنفها حيرة تزداد اختلاجا كلما طال النظر إلى شيء ما. حاولتُ الدخول معه في حوار بشأن مواضيع شتى، كان يجيب باقتضاب يشي بعدم الرغبة في الحديث. قرر أن ينام في الطابق العلوي من السرير المركب دون أن يطرح الأمر للاختيار. كما لو أنه ملزم على ذلك، خدمة لي بفعل فارق العمر: ثلاثون عاماً. أبلغته إن كان يرغب في السرير السفلي. هز رأسه بيقين قاطع. لقد اختار أن يكون عالياً، بعيداً عن الأرض، أقرب إلى السماء. كان يوقظني مرات عدة بحركة عنيفة وهو يتقلب في فراشه. لكني تعوّدت طيلة حياتي في العمل العيش مع غرباء يتغيرون مع المواسم. تعوّدت أن يكون الحال هكذا: يتقلب جارك فوق رأسك، أو يقرض أسنانه ويصرّ  عليها، أو يشخر، أو يضرط، أو يتكلم مع أشباح أحلامه.

    كنوت سولسيدن (جهة الشمس) يقرأ كتباً وقصصاً تتعلق بالخيال العلمي. لديه مجلات عدة مرسومة رسوماً جميلة ومتقنة لقصص عن كائنات وأكوان غريبة. كان ينظر إلى كتبي دون أية رغبة في التعرف عليها، وكنت أتركها، عادة، على الطاولة وسط الكوخ. مرة شاهدته يقلبُ كتاب اندرية مالرو           "المذكرات المضادة" ليقرأ تقديم دار النشر على غلافة الأخير. لا أعتقد انه قرأ سطرين ودفع الكتاب بعيداً عنه.

   كانت متعتي كبيرة وأنا أتأمل نظراته الحائرة حين أسأله، كما لو كنت قد اغتصبت صمته المقدس بأسئلة سخيفة من قبيل: هل لديك أُخوة؟ هل لديك فتاة تحبها؟ من هم أهلك؟ يضيف لنظراته الحائرة ابتسامة هادئة طويلة الأمد، تبقى مرسومة على وجهه نهاراً كاملاً، وإذا وقعت عيناي في عينيه، مرة أخرى، يعيد الإبتسامة ذاتها بإصرار ووضوح أكبر. كنوت طفل طويل القامة، لا يبكي حنيناً لأحد، لا يرغب بشيء، كينونة  تعيش لذاتها ومكتفية بذاتها، وبما لديها. ماذا لديه ؟ هذا ما لا أعرفه!

   كنا نشتغل ستة أشهر في العام، وحالما يحلّ الخريف ننقطع على أمل العودة مع الربيع. تكون الثلوج قد ذابت وامتلأت عيون الأرض، وفاضت في الوديان، وراحت تهدر في الجداول الصخرية المنحدرة إلى مصباتها البعيدة.
أقضي أشهري خارج الغابة أعمل في ورش لقطع الأشجار ونشرها وتقطيعها، فمنها ما يُشذب ويبقى أعمدة كبيرة، ومنها ما ينشر ألواحاً مختلفة السمك والعرض، وما يبقى من جسد الشجرة يثرم ناعماً لتصنيعة ألواحاً مضغوطة في معامل خاصة. تكون الورش عادة في أطراف القرى على تخوم الغابات. الإقامة فيها لا تختلف كليا عن الإقامة في ورش الغابات، إنما أقرب إلى المدنية، مما يضيف مشاغل أخرى، وأوقات ذات نسق خاص لا أجيد التعامل معها، لا علاقة لها بما تعوّدت عليه في حياتي الغابية.

   أنا إبن الغابة البار . أعرف أشجارها واحدة واحدة، أميزها من رائحة لحائها، من لون الأشنات عليها، من صوت فرقعة أخشابها في المواقد، ومن طعم الأوراق التي اعتدّت مضغها ساعات العمل. أطلق عليّ كنوت لقب "السنجاب الأحمر". سألته:
يمكن أن أكون هندياً أحمر، وليس سنجاباً أحمر؟
رد عليّ:
الهنود الحمر لا يأكلون غير المروانة الخضراء، أما أنت فتقضم الحشائش وكأنك خروف جائع. 
لطالما أختبرت نفسي في معرفة صنف الشجرة وعمرها ومكان زراعتها، لهذا الكرسي، أو تلك الطاولة في الأماكن التي أرتادها. باب الحانة الإرلندية في القرية من خشب الجوز اليوناني غامق اللون، نقي الجسد مثل دم إغريقي أصيل.

   كنت على وشك النوم، نهض كنوت ونزل من سريره وخرج من الكوخ بهدوء تام. قبل أن يغلق الباب وراءه، دخل هواء يحمل رائحة راتنج من صنوبر  مازال ينزف.
   في الصباح مبكراً، على عادتي، أذهب للحمام. لم يكن كنوت في فراشه وقد رتبه باتقان تام. تجوّلتُ في المكان وراحت عيني تجوس الفضاء الضيق الذي فتحناه في الغابة. طريق للهواء يخترق الغابة إلى قلبها الأسود، يصعد إلى أعلى وتغيب نهايته في ذرى الأشجار العملاقة المتسامقة هناك.
شاهدتُ في وسط ساحة اللعب أربعة أعمدة طويلة وضعت على الأرض وشكلت مربعاً، كما انتصبت أربعة أعمدة أخرى في الزوايا تلتقي في قمتها، مربوطة بحبل تدلى طرفه إلى وسط الهرم الفارغ... هرم فارغ! انها واحدة من أفكار كنوت ولا شك.

   لم يكن كنوت بيننا على طاولة الإفطار. تساءل عنه العمال، إن كان مازال  نائما. أبلغتهم أنه لم يكن في فراشه عندما استيقظتُ ، وأنه غادر الكوخ في منتصف الليل وكنت على وشك النوم. استدركتُ أنه لم يتحرك ليلتها على عادته في المنام، فقلت لهم اعتقادي أنه لم يبت في سريره ليلة البارحة. لم يبد أي منهم رغبة في الكلام، واكتفوا بتبادل نظرات تنوي الإتفاق على ما يجب أن يقال، أو على جواب لأسئلة لحوحة واجبة في دواخلهم.

   قرّر مسؤول العمل الإنتظار لساعات، لربما يعود، قبل إبلاغ المركز عن فقدانه. في الظهيرة امتلأ المكان برجال غرباء وكلاب وأجهزة سوداء صغيرة وسيارات ذات مرسلات لاسلكية فوقها. بعد ساعة سمعتُ صوت طائرة مروحية تحوم في الأجواء، تبتعد وتقترب. استدعاني رجل منهم، وسألني إن كنتُ سمعتُ منه أو عرفت وجهته. أبلغته اعتقادي بغياب كنوت الطوعي، اختفائه من الوجود بإرادته، وإلغائه لوجودنا. نظر إليّ المحقق بجدية عالية وطلب مني تفسير اعتقادي ودعمه بالقرائن والبراهين والأدلة والتواريخ. أبلغته أنه مجرد ظن قد يكون خاطئاً، لأبعد نفسي عن جدل لا يجدي مع شرطي مهمته هي العثور على مفقود أو على أدلة فقدانه، وليس البحث الوجودي في أمر كينونة غابت بإرادتها. قلت لنفسي: أُسكتْ! فليس هذا وقت فلسفة. أشرت له أن ينتبه للهرم العملاق الفارغ وسط الساحة، والحبل يتدلى من قمته إلى وسطه مثل أنشوطة مشنقة. التفت إليّ مستاءً كما لو أني قلت نكتة في وقت غير مناسب.

   أخفقوا في العثور على كنوت (جهة الشمس). بعد يومين من البحث عنه بكل الوسائل أعلن المركز عن فقدان الأمل وتوقف البحث عنه رسميا. عاد العمال إلى عملهم. أصبحت المناشير الكهربائية أعلى أزيزاً، وأطول وتيرة. كانت الأشجار تصرع وتهوي على أغصانها التي تتكسر وتتهشم، ثم تسقط على بطونها بصوت ترابي مكتوم. شيء من هذا سمعته من كنوت يوم أمس وهو يمسك ذراعي ويهزني:
إسمع الشجرة!
تابع سقوطها،
تتلقف أغصانها الأرض أولا،
لتجنب الشجرة رعب سقوطها.
اسمع لها وهي تتكسر،
تتفتت،
ثم تفقد عزمها
على تلافي الفاجعة.
إسمع!
كيف يرتطم الجذع المنهار
على الأرض.
الأرض تصرخ خائفة،
تهرب من مكانها،
وتلوذ بين أقدامنا ترتجف.
ندمت ساعتها أني ضيعت وقتا طويلاً دون إثارة رغبته في الحديث ، فهو ينطوي على روح غامض.

   بعد غياب كنوت جهة الشمس، تعاظمت أسئلتي عن جدوى استمراري في العمل، وقد بلغت سناً يجيز لي التقاعد واستلام مكافأة مجزية، ومرتباً يغطي نفقاتي ويفيض. فكرت بمساعدة أختي في نفقاتها، فقد لازم زوجها البيت دون عمل والبنات كبرن وزادت حاجاتهن للمال.

  هذا ما حصل ، إذ تقاعدت وحصلت على مكافأة لخدمتي طيلة ثلاثين عاماً. نلت أول فرصة للكسل الذي لم أتعرف عليه من قبل. أيامي تضاعفت ساعاتها، فبدا أن زمنا تائها في الهواء هطل عليّ كل يوم من غير حساب، لم تستوعبه الكتب، فأخذت أتردد على الحانة القريبة يومياً.

   في القرى سرعان ما يعرفك الناس، وعليك أن تكون شفافا وصريحا في الإجابة على أسئلتهم التي تنطوي على مفاتيح دخول حياتهم وخصوصياتهم العميقة. لم تمض أيامي الأولى حتى تعرفت على حطّاب عجوز عاش حياته كلها في الغابة. لم أكن في نظره بشراً، بل حطاب ملاك نزل من رياض الجنة وترك فأسه وأجنحته هناك. لسنا بحاجة للتعارف التقليدي، فتاريخنا مشترك: تارخ الغابة، ولنا أنساب مشتركين: الأشجار والوديان والجداول والغربان والأيائل. كان ينظر إليّ بعينين غارقتين بدمع شفيف. لم أعرف إن كان هذا بفعل الشيخوخة، أم بفعل الشوق، أم بكاء على فقدان أليم.
   سألني عن الغدران وكيف أمسى حالها، عن صنف من السنديان العملاق في شرق الجدول قريب من المغاور، وماذا حل بها؟ والمغارة في سفح الجبل قريبا من النبع، هل مازال الأيل العجوز يقطنها؟ ثم راح أبعد في ذاكرته للجدول، وهل مازال يحتضن الحصى، ومازال جذع الصنوبرة مستلقيا على كاهله، وهل مازالت قادرة على حمل العابرين على ظهرها الأحدب؟
كنت أجيبه وما أكاد أصل إلى نهاية إجابتي حتى يكون قد طرح سؤالاً جديداً.
حدثني عن أعشاش كبيرة عمرها عشرات السنين انحنت الأغصان لثقلها، لغربان عملاقة عازفة عن دخول المدينة كالشحاذين. قص لي عن قطيع غزلان الرنة التي كانت تأتي إليه ويطعمها ما يفيض من بطاطس يزرعها هناك، وجذور نباتات طرية. قال لي وكأنه يسمع وقع حوافرها على الأرض:
 إنها تعرف الإنسان، وتختبره لمرة واحدة، فإذا وثقت به لا تفارقه. في يوم وصولي للمكان، وكان يوما ممطراً، فرشتُ ما عندي من بطاطا جلبتها معي، خارج البيت لتنشف، سمعت شخيراً وزحاماً عند الباب، وما كدت أرتدي ملابسي وأخرج، حتى وجدت قطيعا من غزلان جاءت على البطاطا وأكلتها عن آخرها. رفعت أخطامها وهي تتلمظ تشكرني على نعمتي الفائضة. ما كان لي إلا أن أشكرها على زيارتها. كان قطيع الغزلان شعبي وجندي. معه أصبحت حياتي أكثر ألفة ومرحاً. منذ ذاك اليوم أصبحت ُجليس صغارها، وطبيب مرضاها وراعي شؤون مجتمعها... لكني لم أكن أعمق حكمة منها. كانت هي سيدة الغابة وأنا ضيفها. كنت أستعين بأقواها لجر زلاجتي أيام الشتاء. وكنت أنزل بها للقرية القريبة للتبضع، مرة أو مرتين في العام. فسموني (رجل الثلج)، ومازلت أحمل هذا اللقلب.

   شربنا بلا حساب. لكنه لم يثمل وكان متزن العقل صريح اللسان. علمت منه أنه ترك الكوخ مفتوحا. هكذا هو تقليد الأوائل ليبقى ملاذاً لمن انقطعت به السبل في الغابة. في نهاية سهرتنا أتفقت معه على شراء الأرض وما عليها: كوخ ومخزن ذو طابقين للأخشاب والعلف والغلال، وعشرين دونما عامرة بالأشجار. طلب مني تحديد السعر. أبلغته بما عندي من مال ولا أملك غيره وأتمنى أن يكون راضيا به. ابتسم وشدّ على يدي.

   في الصباح دفعت له، وقدم لي هدية هي عبارة عن عربة بعجلات دراجة هوائية ذات ذراعين طويلين يربطهما على حزامه ويجرها وراءه كالحصان. أبلغني أنه من الصعب إيصال المؤن إلى أعلى الهضبة بدونها. صدّقته وأخذتها منه. إنها عربة الآلهة. نصحني أن آخذ معي أكبر كمية من درنات البطاطا لزراعتها هناك، فالأرض صالحة لها. وبحبح بصوته:
سيأتيك يوم لن تجد غيرها.
   قضيت بضعة أيام لدى أختي واشتريت ما يعوزني. ملأت العربة وحقيبة الظهر، وكانت الكتب أثقل ما حملته، لكني فكرت بحاجتي لها لأشعال الموقد بعد قراءتها.

   مبكراً جداً أخذت أول حافلة تقلني إلى أقرب نقطة أصعد منها إلى حلمي.  حالما نزلتُ من الحافلة، ربطتُ ذراعيّ العربة على وسطي وسحبتها ورائي. ها هي عربة الآلهة مهيئة، وأنا القنطور. توقفت أكثر من مرة في الطريق للراحة وتثبيت الإتجاه. الأشجار لا تخونني ولا الجدول، فكنت على يقين من وصولي قبل المغيب.

   هنا وصلت إلى ما أعرفه عن الطريق، وقد اجتزت آخر منعطف مع الجدول الذي تركته يواصل طريقة. أخذت يساراً، صعدت إلى طريق سالكة مفتوحة الفضاء، تؤدي الى هضبة محروثة للتو. ينحني أمامها واد لا يني ينحدر بلا قرار. الجبل الثابت أمامها بقمته ناصعة البياض تحت أشعة المغيب، ينبئ بقدومي. الطيور عادت إلى أعشاشها مبكرة، لا تسأل عما تركته وراءها، بل عن رجل/حصان يتعتع عربته في الأدغال، فضجت الغابة بأصواتها.

   في راحة الهضبة المفتوحة مثل كف صغير، كوخ بحجم لعبة، تخيّم فوقه أعمدة هرم فارغ عملاق. الدخان من المدخنة البحرية يصعد ورعاً إلى سماء خفيضة، فيما الغزلان تستلقي على بطونها مترفة.

   من باب الكوخ المفتوح على مصراعيه هبت تعانقني رائحة شواء. في حيزه الضيق، وقف كنوت سولسيدن بطوله الفاره، وقد غدا أطول مما كان، فأحنى رأسه تحت الباب. اتسعت ابتسامته. على وجهه نحتت الأيام رجولة مبكرة. ألقيتُ أعبائي على الأرض واقتربت منه لأسمع صوتاً لم يُجرّبْ منذ أمد بعيد:
كان يصاحبني إحساس أننا سنلتقي... شكراً أنك جئت.