سلام عبود في كتابه : المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال - التجربة العراقية |
المقاله تحت باب أخبار و متابعات بعد كتابه المثير للجدل «ثقافة العنف في العراق» يستكمل الروائي والناقد العراقي سلام عبود، استقصاء نماذج لخطاب العنف في الثقافة العراقية، في مقاربة جديدة هذه المرة في كتابه الجديد «المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال - التجربة العراقية» (دار الجمل) ليعيد تقديم نفسه مثقفاً جدلياً لا سجالياً، نقدياً لا تشهيرياً، وإفصاحياً لا فضائحياً، بلغة مشحونة بالمرارة، وعناء مكابدة الزبد، وبالقسوة على الذات، قبل الآخر، وبجرأة مستمدَّة من الرصانة في التحليل والدقة في الاستنتاج، وإن شابها شيء من الاستطراد، فالكاتب لا يحصر جهده في حدود العنوان الذي وضعه لكتابه، لكنه يعود لدروس وتجارب من التاريخ العراقي السياسي، ويذهب أحياناً إلى أبعد من ذلك حين يتقصَّى نكوص التجارب الأممية في العالم والتحوّل نحو الاشتراكيات المحلية.
وإذا كان كتابه السابق «ثقافة العنف» قد تمركز حول رصد الخطاب والممارسة العنفيين في حقبة الديكتاتورية، فإن كتابه الجديد ينطلق من تلك البنية المرصودة سالفاً ليتسع نحو «ثقافة الخضوع» التي يتوالد منها عُنفٌ مركَّب، وهو يرى في أكثر من مكان في كتابه الجديد، أن العنف والخضوع متلازمان، بل هما صورة ثقافة واحدة، وأن الخضوع من شأنه أن يولِّد العنف ويطلقه في مرحلة ما، وهو ما حدث في العراق بعد الاحتلال. ويمهِّد لتحليل هذه النزعة الجديدة في الثقافة مع سيادة ظاهرة «مراكز الدراسات والبحوث» الممهدة لصناعة الأفكار التي سبقت أو رافقت احتلال العراق. بيدَ أن هذا التواشج مع كتابه السابق «ثقافة العنف» ليس امتداد تكميلياً، إنه أقرب إلى قراءة إجرائية يستعيد من خلالها الكثير من أسئلته التي طرحها سابقاً، ذلك أنها لم تجد حلاً بعد، إنما تعقَّدت أكثر في المرحلة التي يقاربها نقدياً. فبينما كان العنف في زمن الديكتاتور موجهاً نحو الخصوم السياسيين، ويمثل امتداداً للشخصية السيكوباثية للديكتاتور، فإن خطاب العنف في زمن الاحتلال غالباً ما يُوجهه تحالف الأضداد الجديد «من نماذج لشيوعيين منفيين» وأدباء «أم المعارك» نحو المثقفين ذوي التوجه المناوئ للاحتلال، وأحياناً حتى نحو تماثيل الشعراء الموتى! بهذا، فإن مثل هذا الخطاب يتفاعل إن لم يتماهَ مع القوة التدميرية للغزو العسكري وتفاعلاته التي لا تزال تتردَّد في العراق كل يوم. تتصف خصائص خطاب العنف الجديد بما سمّاه «المخيلة الطليقة» لأصحابه، والتي تصل إلى حد الانفلات، في مقابل «الوشاية» تحت قناع المخبر السري الذي استخدمه أدباء الديكتاتورية، لكن الأمر هنا وبهذا التحالف الخفي والغامض، أصبح ذا دوافع مركبة. غير أن ما تمكن ملاحظته هنا أن النماذج التي أخضعها صاحب «من يصنع الديكتاتور؟» ليست نماذج لأعمال أدبية، كما فعل في «ثقافة العنف» لكن غالبيتها منشورات صحافية أو إعلامية لأدباء، وهو ما أبرز هيمنة التحليل السياسي لتلك النصوص وفي سائر فصول الكتاب، ومع هذا فهي تمثل في واقع الأمر شاهداً مأسوياً على سقطة المثقف، في هاوية سوء التقدير السياسي، الذي يقاربها من الخطيئة الكبرى وخيانة الذات قبل كل شيء. لكن، لماذا «المثقف الشيوعي» هو النموذج الذي يطاوله نقد سلام عبّود وتفكيكه في متن الكتاب، ويبرزه في عنوانه؟ وليس «المثقف العراقي» في شكل عام؟ على رغم أنَّه لا يستثني من طائلة نقده مثقفين مستقلين، وحتى بعثيين؟ لا يقدَّم عبّود جواباً مباشراً في كتابه، لكننا نلتمَّس ذلك الجواب في المتن المترامي لكتابه، فالناقد شيوعي سابق، وهو لا يزال ماركسياً في منهجه، وهو منهج يتصل بالنقد الذاتي، وإن بدا متشِّدداً، كما أن العقيدة التاريخية للحزب الشيوعي، وشِعاراته التقليدية، على نقيض وصراع تاريخي مع «الإمبريالية العالمية» التي غدا مثقفون يساريون كثر، من أكثر المبشرين بها بعد خيبتهم بـ «الحتمية التاريخية» وتجديد إيمانهم المفقود، بمقولة «نهاية التاريخ» إثر انتهاء الحرب الباردة. إضافة إلى ذلك، فإن الكتاب بمجمله هو ضمن سياق بحثه الذي صدر معه كتاب آخر في عنوان «المجتمع والثقافة تحت أقدام الاحتلال». وقد يبدو النقد النمطي «للمثقف الشيوعي» في عدد من فصول الكتاب منطوياً على تعسف ما، فمن هو الشيوعي في الخلاصة؟ وهل هو الحزبي بالضرورة، بخاصة أنه يبني بعضاً من تصوراته النقدية المضادة، وفي أكثر من موضع، على طُروحات لمثقفين شيوعيين مناهضين للاحتلال كسعدي يوسف، وفاضل العزَّاوي، والراحل كامل شياع. وتحت عنوان «الثقافة شيوعية والسلطة طائفية عرقية» يتجلى الاحتيال بحرص الشيوعيين على اغتنام «حصتهم» في المؤسسات الثقافية وفي الهيمنة على اتحاد الأدباء، في محاولة لخلق ألسنة حال ومنابر تدافع عنهم بعد أن شاعت ظاهرة صم الآذان عما يقال ضدهم، وتركوا مهمة التبرير والدفاع لحشد من الصغار المأزومين ثقافياً ونفسياً، بينما الواقع يقول أن ما لحق بالثقافة العراقية في ظل وزارة الشيوعيين من سرقة ونبش للمواقع الأثرية، وسرقة عشرات المخطوطات النادرة وتهريبها، إضافة إلى إغلاق دور السينما والمسارح، وإلغاء مواد حديثة في مناهج الدراسات التعليمية، لم يحدث في أية وزارة ثقافة في تاريخ العراق. وطاولت «فلسفة المحاصصة» عدا المؤسسات، أفراداً من المثقفين، فيوسف الصائغ جرت محاصصة جثته بعد موته، إذ «غازله الشيوعيون حياً وعاقبوه ميتاً» وفي السياق ذاته أديرت حملة منظمة ضد سعدي يوسف. ذلك أنَّ صناعة الأبطال وإسقاطهم «مرض شيوعي مزمن» تعرَّض له السياب والبياتي وسعدي يوسف ومظفر النواب ويوسف الصائغ وسواهم. التفكيك البلاغي والمضموني لنماذج من الكتابات الصحافية والأدبية، لكتاب بينهم من كان منفياً أيَّام الديكتاتورية، وبعضهم ممن تسرَّب من معجم «أدباء أم المعارك» سيظهر لنا أن العنف في الثقافة العراقية في زمن الاحتلال فاق العنف في زمن الديكتاتورية، واستفاد من تراثه. يتجلى ذلك في قراءة نصوص لمثقفين شيوعيين، لم يكتفوا بسرديات التبشير بالاحتلال، قبل حدوثه، وتأييده بعد حدوثه، وإنما ساهموا في مشروعه السياسي ودخولهم في المحاصصة، بل وحتى في إصرارهم على رفض الانسحاب بعد انقضاء أمد المعاهدة. وهكذا أصبح استدعاء الخارج ثقافة متجذِّرة في الوعي الملتبس لمثقفي الاحتلال، فهم لا يزالون ينشرون مدوَّناتهم كنداءات استغاثة يستدعون بها أميركا لتخليصهم من طغيان «الإسلام السياسي» بعد أن خلَّصتهم من الديكتاتورية! نصوص نثرية ومقالات لفوزي كريم، وفالح عبدالجبار، وإبراهيم أحمد، وياسين النصير، ونبيل ياسين، وكريم عبد، وفاضل السلطاني، وشاكر الأنباري، وعبدالمنعم الأعسم، وسواهم. يخضعها للتحليل وفق ثنائية الخضوع والعنف في هذه الفوضى. ليغدو الضياع الفكري عنوان المثقف الشيوعي في مرحلة الاحتلال وما بعدها. مثقفون تكرروا في أدبيات «قادسية صدام» و «أم المعارك» وظهروا من جديد في «ثقافة الحرية» بعد 2003 يسميهم باعة العنف وعبدة الشر في كل العصور. فشاعر التعبئة في زمن صدام يفوز بجائزة السلام، وشاعر آخر يمجِّد الحرب واحتلال بلاده، يُدعى لأمسية عالمية في باريس ضدَّ الحرب! وحين يكتب شاعر ستيني منفي هذه العبارة «رأيت شباناً وأولاداً يقفزون على مدرعات ودبابات الحلفاء وكأنهم في أحضان أمهاتهم!» ويلتقي في القناعة مع صحافي كتب افتتاحيات من قبيل «أغاني الزحف الكبير» و «ميلاد القائد أغنية أينعت الأحلام» و «صدام حسين وحلم فقراء العالم»، فإن صورة التحالف المشبوه لتدمير ثقافة العراق، بل كيانه تتضح لا ريب فيها! لتكتمل عبر التواطؤ على ما سمّاه «تقديس المدنَّس». في نهاية كتابه يؤكد سلام عبّود أن إدانته النقدية ليست محاكمة لأشخاص بقدر كونها حكماً على قيم ومبادئ، ففي الثقافة لا يوجد متَّهمون وأبرياء، بل يوجد عقل أو لا عقل، ضمير أو لا ضمير، أما في الفوضى الثقافية فثمة كل شي ما عدا العقل والضمير. |