رواية الكاتب العراقي شاكر الأنباري الجديدة "ليالي الكاكا" دار المدى 2001، تتجول في مساحات المأساة العراقية المتجددة، بحدقتين مفتوحتين، ومخيلة، تعيد ترتيب الأشياء، الأحداث والوقائع، الأفكار والرؤى السياسية والفكرية، وتذهب - في اعتمادها على قوة المخيلة - حد تقديم خاتمة مفتوحة، لا بالمعنى التقليدي الذي دأبته روايات كثيرة، ولكن بذلك المعنى الذي يجعل الاحتمالات وثيقة الصلة بمقدماتها وأسسها على حد سواء.
إنها رواية الوعي الذي يتذكر ويستعيد، ولكنه - إذ يفعل استعادته - يتعمد أن تكون استعادة منسوجة في إهاب الرؤية الحلمية، أمينة لروح الانسان الفرد، لا في عزلة شرنقته الذاتية المغلقة، ولكن في احتدام احلامه وتطلعاته، الصغيرة والجزئية، التي ينسى كثيرون ان اجتماع تفاصيلها وجزئياتها هو ما يشكل كينونة الانسان وما يصنع وجوده برمته.
"ليالي الكاكا"، هي بمعنى ما رواية الروح الداخلية في حمأة الخراب الخارجي الذميم والمرذول، الذي يجهد كي يحوّل البشر الأسوياء، الى مجرد مسوخ، وهي في الوقت ذاته رواية المكان، بمعناه العميق، من خلال حضوره الخالد في الروح كما في الذاكرة. في الأعصاب، كما في الثقافة والعادات الشخصية والنظرة الخاصة الى العالم الخارجي.
شخصيات رواية "ليالي الكاكا"، تبحث دوماً عن وجودها الضائع والمبعثر تحت ضربات القمع الوحشي، وهي لذلك شخصيات مهزوزة، ضائعة الارادة، وإن تكن مسكونة أبداً بحلم الخلاص، من خلال البحث الدؤوب عن طاقة ضوء تجدها - أو تتوهم أنها تجدها - في الهروب من الحرب الدامية التي لا تنتهي، بل في الهروب من الوطن ذاته، بعد أن تحول هذا الوطن الى سجن كبير، يحرسه الجنود بالأسلحة والسجون والمخبرين. الحرب في هذه الرواية تبدو قبضة حديدية قوية، تضرب كل من يفكر في حياة عادية وسوية، وهي في الوقت ذاته، طريق لا يعود منه الرجال... طريق يبتلع العابرين، ويحولهم الى جثث متفسخة وذكرى تعبر في نفوس الأهل والأحبة.
ثمة في "ليالي الكاكا" بطل يرسمه شاكر الأنباري ببراعة، فإذا هو شاب مسكون بقلق وجودي مدمر، تتنازعه الأهواء والرغبات، وتشكله العادات "الشاذة" وغير الطبيعية... فإذا هو مزيج من الحلم والكابوس معاً، وإذا هو طاقة لا تحدّ في بحثها عن مغامرة، أية مغامرة، قد تتحقق من خلالها رغباته، أو بالأدق كينونته الضائعة. هنا تلعب الرموز الأساسية في الرواية دوراً محورياً يفسّر كل الأشياء: الجنس، الغجر، الثورة، انها رموز تفور بحيوية البحث عن خلاص يبدو عقيماً، لا يقبل التحقق. الجنس يتجسد طوال الرواية، بدءاً من جموح "ضايع" بطل شاكر الأنباري، نحو هواجس محرمة ومرذولة، يدفع اليها تكوينه النفسي الرجراج، وخيانة خالته التي يكتشفها، تماماً كما تدفع اليه حالات الكبت والقمع، فيما الغجر يلوحون في القرى وعلى أطراف المدن بصفتهم رمزاً خالداً للحرية بمعانيها كلها، وبتجسيداتها جميعاً. يحلم "ضايع" بالغجر، بحياتهم البسيطة، وأيضاً بحريتهم وانفلاتهم من كل القوانين، ولكنه إذ يبدأ رحلة التشرد في بلاد الشمال الاسكندنافية، يرى نفسه وبني قومه، وقد تحولوا الى غجر ضائعين، يتشردون في آفاق غريبة، يتوهمون الخلاص من خلالها، وإذ يتحقق هذا الخلاص، تبدأ حال الوجد من جديد، وتحتدم نوازع الحنين الى بيوت الأهل ومرابع الطفولة فيقرر العودة الى الوطن، المكان القديم والأليف.
رحلة العودة، أو اذا شئنا الدقة، مغامرة العودة تأتي في الرواية أشبه بمغامرة عبثية، فيها الكثير من كشف جريء: المعارضة الشعبية التي تتصدى لآلة القمع، تقع هي ذاتها في أحابيل ممارسته، وكأن الضحية تستعذب لعبة السلطة ذاتها فتحاول رموزها لعب دور الجلاد. من أجل فصول الروايات تلك التي نرى فيها القائد الحزبي المعارض - والمقيم في الجبل - وحياته مع عنصره الوحيد، الذي تحوّل مع الأيام من ثائر يطمح الى اسقاط النظام، الى مجرد خادم شخصي، لقائد مسخ، لا يتورع عن تحقيق رغباته الجنسية مع حمارة، في ما يشبه رمزية تساوي بين الاثنين، وفي ما يشبه اشارة ذات دلالات صارخة على عبثية الركون الى معارضة من هذا النوع، ما يزيد حال الاحباط عند بطل "ليالي الكاكا"، وما يصوّر بدقة حال الوطن برمته وقد نهشته أنياب الغرباء، وحراب السلطة، وعجز المعارضة.
رواية شاكر الأنباري الجديدة تشتعل بالروح الفردية، فـ"ضايع"، المسكون بأحلامه وأوهامه وأهدافه الكبرى أيضاً، مسكون في الوقت ذاته برغبة لا تحدّ في الحب بمعناه النظيف والنبيل، وبتعبيراته المغايرة، وهو يعثر عليه في حمص، ولكنه يضطر الى فراقه والابتعاد منه، وكأن الحب في حال كهذه مستحيل التحقيق بعيد النال، والكاتب إذ يقدم لنا كل هذه الأحداث - وما تحمله من دلالات - يحرص على أن تكون كلها ملفعة بهاجس الموت الذي يبدو في "ليالي الكاكا" سيد الموقف من دون منازع. الموت في الرواية هو المعادل القوي لكل الأشياء، للأحلام والتوقعات، للصداقة والأصدقاء، وأيضاً - وهذا شديد الأهمية - للأفكار الثورية القديمة وما حملته من أحلام التغيير والرغبة في تحقيق عالم أفضل، وهو موت لا يتأكد في صورته النهائية، إذ يتقصد الكاتب أن يتركه كاحتمال قوي، يعبّر عنه غياب الآخر، وضياع صـــورته، ونتـــف من أخبار عن مـــوته.
لعل أجمل ما في "ليالي الكاكا"، تلك النهاية، المنسوجة من مخيلة روائية ثرّة، وغزيرة، تذهب الى حد المغامرة في دفع القارئ ذاته الى مناوشة احتمالات كثيرة: "هناك محطات بارزة أتذكرها. بعضها لا يعدو أن يكون حوارات ساذجة أو كلمات عارضة. إلا أنها احتلت حيزاً شاسعاً في داخلي. هل ما زلت أرقد على التخت الخشب في الحامضية منتظراً وصول الغجر؟ هل قتلني أولئك المرتزقة غلاظ القلوب الذين أحاطوا بنا ذات يوم ثم تركوا جثتي بين الجبال؟ وأين سماهر ذات العينين الراقصتين كالفراش؟ وكيف تتذكرني؟ هل نسيتني؟".
هذه النهاية المفتوحة على احتمالات شتى، هي صورة الوطن ذاته، الذي تتقاذفه احتمالات كثيرة، فيما وقائع الرواية كلها، لا تعدو أن تكون مجرد وقائع مفترضة، يمكن أن تحدث في هذا الشكل أو في نقيضه، بل انها في الحقيقة نتف من حياة مترعة بآلام تفوق الوصف، آلام يمكن أن تجعلها قابلة لحمل كل الوقائع.
رواية شاكر الأنباري "ليالي الكاكا"، تعتمد صيغة استرجاع، لبطل مثقل بأوهام وأحلام، وما فيها من شخصيات أساسية أو ثانوية نراها من خلال ذاكرة البطل، وهي صيغة تسمح بملامسة حقيقة كل شخصية، إذ ان ملامحها تتحدد بعين المعايشة ومنظار الالتصاق الحميم. والأنباري في هذه الرواية، يتجاوز دأب الرواية العراقية - في حالات كثيرة - على بناء روايات ذهنية، إذ هو يقفز عن ذلك كله، الى رواية حياة، حيث المكان بطل رئيس من أبطال العمل، يرتبط مع ناسه بوشائج الدم والذكــــريات والعيـــش الطويـــل، فيـــما الأبطال ذاتهم، رهط من الرجال الهامشيين، الذين يمثلون قاع المجتمع العراقي ووقود حروبه وقمعه، ويعكس بعضهم ما أصاب هـــذا المجتمع من تشوهات، خلال حلمـــهم الطويــــل بحـــياة تشــــابه حرية الغجر، الذين يبدون طوال الرواية أشبه بمــثال في عـــيني بطلها "ضايع الجريان"، ليكتشف في النهاية أن شعباً بأكمله يتحول الى ما يشبه الغجر، ولكن ليس في حريتهم وطلاقتهم، بل في ترحالهم وعدم مقدرتهم على الوقوف طويلاً في مكان واحد.
"ليالي الكاكا" لشاكر الأنباري، رواية تراجيديا الموت التي يرن نشيدها في طول العراق وعرضه وتتردد أصداؤها في المنافي البعيدة، وهي بهذا المعنى رواية البحث القلق عن الذات، يقدمها الكاتب في لغة سلسة وأسلوب مشوّق.