المقاله تحت باب في السياسة في
10/11/2014 06:00 AM GMT
ما أزال أسمع ( هبدات) الطين على سقف التابوت كأن محمود البياتي يدق من تحت:إنتظروا، لم أكمل روايتي بعد ! قبل قليل دفناه في مقبرة (سربتن). صوت الطين لايفارقني وأنا أستعيد مشهد الدفن، كنا ندفن شيئا فينا. المشهد عالق بي : الديكور التقليدي لجمعة العراقيين هذه الأيام هو المقبرة. وصلنا أنا ووداد قبل الجميع وصرنا نبحث في أرجاء المقبرة عن الجماعة التي ستتشكل داخل هذا الديكور . الصلبان الحجرية حولنا وعلى امتداد المقبرة. هناك صلبان مائلة علامة موتى قدامى نسيهم أهلهم ، وهناك مربعات محجوزة لموتى قادمين. المطر يبلل الشجر ، وباقات الورد الحديثة ، يبلل شواهد القبور ويبللني. يوحدنا داخل المشهد. على يسار المقبرة حفرة مستطيلة على طول وعمق قامة رجل ، تكفيه إذا تمدد واستراح ، وتكفيه إذا وقف.. هنا سيستقر محمود. تجمعنا حول الحفرة حيث سينزل محمود، الشاهد على هيئاتنا الذاهلة، كأنه يسأل: ما الذي حدث؟ ما المفاجئ في الأمر؟ توزعت حواسي بين الأصوات والمشاهد حولي، أسمع نحيبا متداخلا ووشوشات تتساقط كأنها أتية من تحت الأرض، أسمع صوت المطر وهو يطرق أوراق الزعرور ، وأحسه يبلل حاجبي. وأرى مع التابوت القادم أهله وهم يتعثرون بخطاهم ، عين على التابوت وأخرى الى تحت، لأقدامهم وهي تدوس الأرض الطينية. اقتربت مني أخته منيرة وقالت لي بيتا للجواهري: ذئب ترصدني على أسنانه دم إخوتي وأحبتي ورفاقي وأشارت لأشجار الغابة حولنا: -هاهو الذئب حولنا..؛يترصدنا! تلفتت..لم أر الذئب إنما الوجوه الصامتة التي استطالت واتسعت محاجرها. مصدر الفزع هو الحفرة لا الذئب. لمحمود قصة عنوانها ( ليلى والذئب). الذئب في القصة إنسان وفريسته أيضا إنسان . على خلاف مواطنيه العراقيين الذين يقتلون بالجملة، كان محمود طوال الأشهر الماضية يؤكل من داخله،أي إن ذئبه فيه. يصغي لخربشات مخالبه وقضقضة أسنانه وهو يأكله من داخله.. يصغي كعادته وعيونه ترمش بتسارع على إيقاع الألم. وما من أحد يجيد الإصغاء مثل محمود، فالناس حوله وحياتهم سلسلة من حكايات، نهايتها مبتورة، أو غائمة كما هي قصص وليم ساريان الذي أحبه . أنظر لمن حوالي وأنا أسمع هبدات الطين على خشب التابوت . ابنته فرح متشبثة بحافة الحفرة تنظر في العمق: -كيف سينام وحيدا هنا؟ سؤال فيه البساطة والغرابة، كأنه جملة الختام في واحدة من قصص محمود. شقيقه محمد كامل ، من تحت مظلة سوداء قال لي مبتسما، ولكن بخوف : -أمر بهذه المقبرة كل يوم في طريقي من البيت أو إليه.(كنت متأكد وأنا أستمع إليه إنه يتحاشى النظر للذئاب الخاتلة فيها)، أمر بها دون أن أتوقف، الآن صارت لي فيها محطة. أنظر في وجه ابنه زيد وأعجب من شدة الشبه، تماما مثل محمود ، واقف يحدق في نفسه النازلة في واحدة من قصصه. أحاول أن أخفف وقع المشهد عليه: -استراح محمود من عذاب ألمه. أنظر الى محمود الشاب الواقف بجانبي. كأنه لم يسمع كلماتي لأن هبدات الطين على خشب التابوت أعلى. أكمل كلامي كأني أعلل نفسي: - الألم مذل... أسمع حسن عبد الزاق يقرأ كلمة الوداع ، وخلفي نحيب ياسمين: لقد ذهب محمود، ولكنه سيترك بالتأكيد شيئا فينا. ما هو؟ في طريق العودة، وقد تركنا القبرة ورائنا كان الدكتور فاروق رضاعة يتحدث عن أشخاص عرفناهم معا. وهو يتحدث بدا لي يهرب مثلي من المشهد الذي تركناه.في الصمت المربك بين كلماتنا كنت ما أزال أسمع هبدات الطين على خشب التابوت . يريد محمود بهذا الطرق أن يقول شيئا بيني وبينه، ما هو ؟ في الليل حلمت وأنا أغطس في ماء المسبح الصافي أنني أغطس تحت الماء حد الإختناق، وحين أخرج رأسي لأتنفس تقفز معي جثث ثم تطفو فوق الماء، بينها محمود، لا يشبه نفسه ، لكنه هو بالتأكيد، لا يقول لي شيئا ، لكنه يتحداني لأن أغطس مثله.
|