المقاله تحت باب قصة قصيرة في
06/09/2014 06:00 AM GMT
دخل علي وأنا متمدد على سريري في حجرتي الصغيرة ، كان يحمل بيده علبة مناديل ورقية، وقبل أن أسأله عنها قال: - جئتك لنبكي معا قلت له واجما: - لكنني لا رغبة لي في البكاء! أضفت مستدركا: - بالأحرى لا أستطيع البكاء! - بل أنا بحاجة للبكاء! علمت اليوم أن أمي قد ماتت، أم تموت دون أن ترى ولدها الوحيد لثلاثين عاما ألا تستحق أن أبكي من أجلها؟ خاصة وإنني ذلك الولد الوحيد العاق! - ولكن أمي قد ماتت قبل سنوات، دون أن تراني أيضا، أعلموني بموتها منذ سنة تقريبا، ومنذ ذلك الحين وأنا أحاول أن أبكي، فلا أستطيع! رد بلهجة متوسلة: - إذن لنبك من أجل أمك، لندع أمي، لها السماء تبكيها،والضفادع، والكلاب وحجارة الطريق التي مرت بها جنازتها يبكون عليها! - لا أستطيع أن أبكي لا ما أجل أمي، ولا من أجل أمك، ولا حتى من أجل العالم كله! -ـ لنبك يا صديقي من أجل بلادنا فهي تحترق كما نسمع،فقط لنبك! - اللعنة! ليتنا لم نبك عليها يوما ، بكاؤنا هو الذي جعلها اليوم تحترق ،كانت دموعنا ملوثة، وسيئة حقا! سكت وظل يدير وجهه ثم سألني كطفل لا يفقه شيئا في هكذا أشياء وهو الذي كان لسنوات يعمل في السياسة: - مع من ابكي إذن؟ -ـ اذهب إلى الشارع ربما تجد عاهرة اتفق معها بدلا من بكائكما الخبيث على السرير، ابكيا على الأريكة أمام شمعة تبكي معكما ، أظنها ستوافق، فهذا أسهل وأنظف،وأجمل، فقط اجزل لها العطاء! ندت عنه ضحكة حزينة قصيرة،وقال بلهجة مستنكرة: - أبكي على أمي مع عاهرة؟ - وماذا في ذلك؟ أليست العاهرة انسانة معذبة؟ جرب! ربما هي ستبكي معك كثيرا، حتى أكثر مني! بكاء عاهرة معذبة أدركت مصيبتها ووجدت من يبكي معها يكفي لتطهير الدنيا كلها، يا صديقي، لا تستهن بالأمر! ظل يدير رأسه الصغير الذي شاب أمامي في المنفى مذ رأيته في سوق السمك بمدينتنا الباردة قبل أكثر من ثلاثين عاما! لعنت المنفى ومن اخترعه! نهض مسرعا، ودخل المرحاض. سمعته يبكي ،أحسست إنه يكبت نحيبه كمن يخنق نفسه، لم أعد أسمع شهقاته المرة, طال مكوثه في المرحاض الصغير، قلقت عليه، تصورته قد شنق نفسه في ماسورة السيفون، هممت أن أذهب وأستطلع ماذا جرى له ، لكنه جاءني محاولا أن يبتسم، عيناه كانتا حمراوين، قال: - ألا زلت مصرا على عدم البكاء معي؟ لم أجبه. غير سؤاله: - أين ابكي؟ ثم باضطرابه غيره مرة أخرى: - أتعتقد أن البار مكان مناسب للبكاء على أم ماتت دون أن ترى ولدا عاقا انتظرته ثلاثين عاما ؟ نهضت كمن لسع: - لا أبدا !! أحذر! كلهم يبكون هناك، يبكون كثيرا، حتى لم يعد للبكاء معنى! نهضت وقد اعترتني نحوه شفقة مباغتة، لكنني مع ذلك جذبته بقوة إلى النافذة الصغيرة وحشرت رأسه فيها قلت: - ـ ألا ترى ذلك الجبل الأجرد، في نهاية مدينتنا، اصعد إلى قمته وابك هناك ربما يسمعك الله ويرد لك أمك، بل ربما يهبك امرأة جميلة طيبة معها أيضا،فقط عليك أن لا تجعلهما تتعاركان غيرة وحسدا من أجل وجهك الكالح! نظر إلى الجبل الذي صعدناه معا كثيرا ، كان كأنه يراه لأول مرة ، عاودني نفس الشعور قبل عام، كأننا نرى الأشياء لأول مرة بعد فقد الأم ، أو بغير ما علمتنا إياها ونحن نمزق أحشاءها ونخرج، مع الطيور الصغيرة وهي تغادر أعشاشها! كنت أعرف إنه سريع التصديق، لكنني لم أتوقع إنه سيصدق اقتراحي هذا ، حمل علبة المناديل الورقية، وخرج مسرعا، رأيته من وراء زجاج الشباك وقد اندمج بظله في هذا المساء المعتم، فصار له جناحان ، ومضى محلقا باتجاه الجبل! Ibrahimahmed515@gmail.com
|