المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
14/07/2014 06:00 AM GMT
عندما كتب جون شتاينبك روايته الملحمية الأثيرة (عناقيد الغضب)، قال في مقدمتها «سأرهق القارئ»، ترى بماذا ارهق شتاينبك قارئه؟. اقول ارهقه بكافة عناصر الرواية، وما يهمنا هنا ونحن نتناول جهد الكاتب الشاوي من خلال روايتين، عنصرين اساسيين هما جغرافية النص المصطلح عليها نقديا (الحيز)، و(التفاصيل)، ثم نتبعها بالخصائص الأخرى.
في روايته الأولى مشرحة بغداد، يعرض الشاوي واقعا مكانيا كئيبا هو (المشرحة)، وهو بحد ذاته حيزا يمتلك خصوصية المكان المحدد اضافة الى ما يعنيه الحيز كسلوك روائي مفتوح، يمكّن الكاتب من استنهاض وسائل جديدة لإيصال فكرته، بطبيعة الحال تكون مدعمة باستخدامات فنية ولغوية، تختلف ببراعتها من كاتب لآخر، وهذا ليس حديثنا الآن. من الملاحظ أن شاوي لم يجتهد برسم حدود المكان، فربما اعتمد أو انتمى الى النظرة الحداثية لفكرة الحيز، واستخدامه كمنظر مفتوح مشرع للاحتمالات، وتفاعلات النص، ليس على غرار النمط الكلاسيكي بالرسم والدقة. واذا ما أجزنا ذلك للكاتب فيكون عليه الزاما حداثيا آخرا برسم شخصياته تباعا، وتبعاً للفعل والفاعل والتناقض والتناص مع الواقع وشخوصه، أو حتى المتخيل. وهنا نتوقف قليلاً حيث يشغل المتخيل الجزء الأكبر من شغل الكاتب برهان شاوي: «فجأة فتحت الجثة عينيها برعب ونظرت إلى وجهه،...»، وهذا تفعيل روائي متعمد غير انه لابد له من أن يمتلك قانونه الخاص، وهو لحد اللحظة لا يعرف «..ما رآه كان حقيقة أم وهماً؟». وفي عمله متاهة حواء يبدأ مع صاحبة مكتب السفر «ايفا بريغمان» ثم يتحول الى المستشفى بصفة «الراهبتين» المتخيلتين/ الواقعيتين، «احتضنتها برفق وأخذتها الى غرفتها».
نعود الى المشرحة المكان الثابت/المتحرك حسب ما يراه «شاوي» في بدايته، فهو الشاهد الأمثل على الجريمة، وهو اشد ما يعنيه، حيث ستلتقي الجثث وتتحاور بل تقوم بأفعال، وهو ما يضيف الى المكان بعدا ليصبح حيزا يستخدمه الكاتب بحرية. نجح الكاتب بتوظيفه رغم تعامله مع قصص الضحايا على نحو غير روائي، انما ابقاها على وضعها من حيث واقعيتها «انتفخت بطنها قليلاً، فشك اهلها فيها..»، وبعد التشريح «اكتشف الاطباء الشرعيون بأنها فعلاً عذراء». بنفس الوقت يحاول شاوي ادخال بطله آدم الحارس وهو حارس المشرحة من زاوية اخرى وهو التعامل العمودي مع الحالة، فأضاف براعة التحليق والخيال، بل جعله يعشق الموتى وفق فلسفة طريفة بأن «..حبه لجثمان الفتاة هو حب حقيقي لأنه لا ينتظر منها أي شيء..». نعتقد أن فلسفة الحارس وفعله، لها مصدر واحد فقط هو معاينته افلام الجنس وافلام الخيال الأخرى، اضافة لقراءات اولية لكتب يقتنيها من شارع المتنبي، «... فذكّره وجه بطلة الفيلم بوجه القتيلة»، حتى تنامت الحالة لديه فأصبح يستشعر ليلا وقع الخطوات في الممر وتحريك مقبض باب غرفته. من جانب آخر جعل يسدي لبطله مواصفات لانعرف مصدرها، فبطله شاب في أوائل العشرينات من العمر لم يكمل تحصيله الثانوي، فنرى في أدائه شخصية الكاتب وليس البطل، فهو لم تصاحبه تحولات حياتية أو معرفية مهمة عدا شغله في المشرحة، ذلك عن «سر الموت» و«الفلاسفة الذين يحترم تفكيرهم وتأملاتهم» والكثير عن فلسفة الهندوس بحرق موتاهم، والمسيح والصوفيين، وتساؤلات وجودية كبيرة...الخ. اراد شاوي ان يدخل بطله حقل المعرفة (قسرا) فجاء مفتعلاً تحت طائلة تسرعه وعدم دارسته شخصية بطله التي يفترض أن تكون أهم بكثير من الأحداث المتراصة في الرواية، فجاء هلاميا هشا، بدل أن يكون المحرك الرئيس للنص. ومن باب انصاف البطل فقد نجح الكاتب بعرضه ضحيةً كباقي الضحايا، يقرب الى الاختلال النفسي وتعلقه بمهنته ومكان عمله التي على الرغم من قساوة المناظر امامه الا أنها أقل بشاعة من الحياة في الخارج بحيث «صار إذا رأى شخصاً، أياً كان ذلك الشخص، فإنه يراه بعين خياله على السرير النقال، أو إنه على مصطبة التشريح...». هذا التصور كاف لنقل الحالة التي هو بصددها، انما يضعفها الراوي بالاستطراد الذي بدأه وهو ما يتلو عملية التشريح من استخدامات لآلات ومشارط ومناشير، وسواطير واخراج الأحشاء...الخ.
تقريرية النص نبقى مع بطل الشاوي الذي «دمرت حياته المهنة» الذي اراد له الكاتب ان يكون مريضا تصاحبه تحولات نفسية كبيرة «اخمدت مشاهداته رغبته القوية بمضاجعة النساء -رغم عدم وجود لها-، فصار يكتفي بالإستمناء..» و «يهزأ مع نفسه من أغاني الحب، ومن الأشعار..» للحد الذي «قضت هذه المهنة على أحلامه، ورمانسيته وشاعريته» التي لانعرف عنها شيئا، وهكذا يستمر الكاتب بسرد الحالة التي تدخله في تقريرية اقرب للصحفية منها للفعل الروائي ذلك باستبدال وحدات الحبكة المهمة بأخرى كسولة بمعنى ضياع وحدات النص وغيابها وسط التعويم الوصفي للمشهد الذي يكرره الراوي باستمرار. هذا لا يعني بحال من الأحوال فشل الراوي بصياغة شخصية البطل واسداء احداثيات رئيسة له، انما كان بإمكانه ان يقدمه على نحو افضل واكثرا اقناعا للقارئ. وما يهمنا هنا هو النسيج الروائي المتلازم بين الحبكة والبطل كأداء، تلك العملية التي يجب على اي كاتب الانتباه لها، بمعنى تحاشي تقليب الصفحات او الملل الذي يصيب القارئ، او حكمه المسبق على النص.، وقبلها اضاعة فرصة تأمله اذ لم يكتشف ما تركه الكاتب له للاكتشاف والسبر. وهذا ما له علاقة بتقريرية النص الذي لم يتح كاتب النص للشخصية التعبير عن نفسها بأداء حركي، انما اوجز مصيرها حكايةً بمعنى الواقع الفعلي والحرفي لها. هنا نشير الى مهنية الكاتب في التمهيد لمشهد (الاشتباه) لآدم الخباز قبل اعتقاله، واكتشاف آدم الحارس الجريمة المنظمة للسلطة بالتعتيم على الارهاب والارهابيين، ومن ثم استبدالهم بأناس بررة لا علاقة لهم بالأمر. كذلك تكرار شخوص السلطة بأوجه جديدة، حيث يقطع الكاتب نَفسَه الروائي الجميل من حيث التمهيد والدخول الى الرواية ذاتها واشباع النص بعناصر الحبكة، فيعود الى تقريرية صحفية غير نافعة. اسجل هنا ملاحظتي على امكانية الكاتب في خلق مشهد روائي انسيابي جيد، وبنفس الوقت يلغي ما قدم له وبدأه، (لاحظ الصفحات من 46...) وهكذا تتوالى القصص وتعرب عن نفسها بالروي المباشر لأبطالها من خلال تقريريتها مع بعض الاستثناءات الحوارية الجميلة. «.. ومن كان هذين اللذين قاما باغتصابك وقتلك»؟ -«لا اعرفهما، لكن أحدهما وهو يغتصبني، كان يصرخ بي: هذا جزاء من لا تسمع النصيحة». وكأن الاغتصاب والقتل يصيران مشاعين لمن لا يسمع النصيحة، او انه تشريع او تحليل للجريمة الذي فيها يستبدل الفعل القضائي بالسياسي الذي اصبح مشاعا في فترة الانحطاط التي راقب احداثها الكاتب. فيما يبقي شاوي على بطل الرواية آدم الحارس شاهدا (مريضا) حسب..
مساحة النص التوسع الأفقي، بمعنى كثرة الحكايات، على حساب حبكة الرواية، يضعف توسع الشخصية الرئيسة، فأن جاءت فهي خادمة، قوية، صادمة ومؤثرة، وهذا يلزم الكاتب باختيار الحكاية الواحدة القابلة للعطاء والشغل الروائي، وكلما كانت موجزة افادت نسيج القص وحبكة الرواية الأساسية، انما توسعها فهو ابداع اشبه بالرياضي - نسبة للرياضيات- يقوم به الكاتب على نحو خيال او العاب مبتكرة. واذا ما تعاملنا مع النص الروائي كـ «ترقيش (تلوين) اجتماعي منظم فنيا للكلام، وهي احيانا ترقيش للغة، فضلا عن سلسلة عريضة من الأصوات الفردية..» باختين مجلة الكرمل العدد 17، نكون قد وقفنا امام نص مفعم بالحركة بالانسجام والتراخي والتضاد، وهو ما افتقد له نص الروائي شاوي بجزء او اكثر منه. نرجع ذلك الى احتمال نرجحه قبل غيره هو استحكام مصادر الألم بالنص السياسي وتنوعه، مما يشل قدرة الكاتب التخيلية في التعامل مع حقيقة صادمة مصدرها الحياة ذاتها، فيقف مذهولا بالمأساة تاركا ادواته بإعادة انتاجها معرفيا. استطاع شاوي، الى حد ما، في حالة استرخاء، أن يزاوج بين السياسي والاجتماعي اسوة بالأدب الأمريكي اللاتيني، لكن وحدات النص تفلت منه في أكثر الأحيان، فيصبح كمن يفقد ثمرة عمله بعجلة او مصادفة. «لم يستطع الحارس آدم أن يسمع بقية قصة هذه المرأة، فقد انتبه إلى أن أحد الأبواب قد فُتح وخرج الرجال الثلاثة منه. لم يكن آدم الحارس يعرف ماذا يفعل...»ص71. وفعلا فقد اتم انسحابه الى غرفته مصابا بالخوف الشديد، حتى طمأن نفسه فأخذ يعاين التلفاز «...مستقرا على القناة التي تبث أفلاماً عربية». فيما تتابع مشاهد خوف الحارس للحد الذي يلجأ فيه الكاتب لتغريب الحالة فتأتي الجثث جميعها الى بابه «.. نظراتها جامدة، ووجوهها جامدة لكنها ناطقة...» وكانها تريده ان يشهد مصيرها. وفي لحظات شجاعته اصبح مستغربا «كيف للجثث أن تتحدث وكأنها بشر أحياء»ص79. وعندما نتابع حركة البطل لا نجد تنقلات خادمة للنص بل بقي يكرر نفسه ويردد نفس كلامه «كيف للجثث أن تتحدث بشكل طبيعي وكأن أصحابها أحياء يرزقون؟«ص100؟. هذا الجمود في النص والتكرار يشل الفعل والحيز في وقت واحد، ولا نعرف صدقا لماذا يهرب منه الكاتب بعد ان اختار عالمه الإبداعي بنفسه؟. نرجح ذلك الى عدم وثوقه بالعالم الذي تخيله، «الحقيقة أن على كل روائي البدء بخلق عالمه، كبير أو صغير، يستطيع أن يؤمن به إيمانا نزيهاً» (جوزيف كونراد). وعليه فإن على شاوي الدفاع عن عالمه بصفة بطله للحد الضامن لنجاح العمل الروائي.
بنفس الوقت لا اعتقد أن من المجدي ان يضع الكاتب التساؤلات أعلاه، لأنه كان قد اختار هذا النوع من القص، وعليه أن يقنع قارئه بفنه وطريقة عرضه، فضلا عن انها تقتل رغبته بالمقاومة واسداء البطل أفضل ما لديه. فيلجأ مرة اخرى الى تكرار وصفي عن حال الجثث (الحية) المهشمة، ثم يغرق نصه مجددا بقصص أخرى كـ(حواء هانوفر) التي قتلت بانفجار في بغداد. وحواء البغدادي الفتاة العاهر ضحية أمها، وما اكثر القصص التي يتابعها الكاتب واحدة تلو أخرى على لسان الجثث الضحايا بأسلوب تقريري/صحفي كما اسلفنا، او على نحو سيناريو يقرب من مسلسل تلفزيوني طويل، وهذا ليس انتقاصا. فعلى مساحة تلك القصص لم يتدخل الكاتب من خلال بطله برسم حدود الروي على لسان المتحدث، او إحداث بصمة سحرية تنقل القارئ الى نوع آخر من القراءة، انما ترك الضحية تقول روايتها كما هي، فأتت القصص رتيبة، ليس فيها ما يضيف لواقعيتها المرهقة والمعادة. فيما يتابع البطل خوفه وتردده وسلبيته، «زحف الحارس آدم متراجعاً الى الخلف ثم نهض هارباً. دخل الغرفة وأغلق الباب بالمفتاح..». لكنه من الضروري أيضا الثناء على جهد شاوي بتفعيل الصراع بشقيه الواقعي والغرائبي باستيلاد مواطن الألم التي على القارئ استشعارها. ورغم ضعفها من حيث المعالجة، غير انها تبقى مثقلة بالألم والقسوة، فهي قصص من واقع العراق والتي فاقت بغرائبيتها الخيال. من هنا اقول ان شاوي انسان مرهف له مجساته باستشعار الألم والتقاط صوره، ذكي الاختيار، يتقن التسجيل والتفعيل السيناريوي.
من جهة أخرى يكثر شاوي من ذكر التفاصيل التي ربما لا تهم القارئ بل تزعجه أحيانا «...يفتحون جمجمته بالماكنة الكهربائية..» و«نزع جلدة الرأس...» و«...كسر القفص الصدري بالساطور..» ونحوها من عشرات الأمثلة التي للأسف لم تستخدم كمادة لإعادة انتاج الواقع روائيا، بل اضحت هدفا وصفيا بحد ذاتها. هنا لابد من الإشارة الى طريقة قول الحالة الخارجة من الفكرة او تأريخ الحدث نحو التمرد. يجب ان نلاحظ دائما ابتعاد الكاتب عن جو التأثير النفسي المباشر او الكوابيس، فالرواية تحاكي الحياة من جوانب مختلفة مع اضافات فنون الكاتب ومهاراته اللغوية وطرق عرضه، فليس كل ما نراه يقع في وارد السرد الروائي كما هو عليه. كما ان فكرة شحن النص بالمناظر المقرفة من دون ايجاد طريقة عرض مناسبة لها، يفقد الكاتب دوره، «...لمح مساعد الطبيب يحضن إحدى جثث النساء رافعاً رجليها إلى الأعلى دافعا قضيبه في فرج المرأة الميته...»، وقبلها مشهد ذبح الضحية «.. مر نصل سكينة كبيرة على عنقه، ذابحاً اياه، نفر الدم بقوة ملوثاً الحائط...». هذه المشاهد غارقة في واقعيتها، انما ما يعنينا فيها هو طريقة عرضها لتوليد شحنة تساؤلية جامحة، اضافة الى سياحة لغوية ترضي القارئ من حيث التمهيد واستخدام الألوان البلاغية التي افتقد لها نص شاوي.
بلا شك ان الروائي شاوي هو شاهد وضحية كما الكثير من العراقيين، ولكن خلف كل نص هناك كاتب آخر، يجب ان نحس وجوده خصوصا في المشاهد الصادمة التي تتطلب الكثير من الاشتغال الأدبي والذهني. يحضرني مشهد المعتقلين من بينهم احد ابطال رواية (وليمة التيس) للكاتب (ماريو بارغاس يوسا) الحائز على جائزة نوبل للآداب، كيف إنه مهد لأعظم المشاهد قسوة عندما قدم له جلادوه طعاما من لحم ابنه، أكله قبل ان يعلموه بذلك!. تلك المشاهد هي في الحقيقة لا تشعرك بالقرق رغم قرفها، انما تحسسك بالغضب، وتعزز فيك الشجاعة. أما قول الوقائع كما عرضها الكاتب برهان شاوي، رغم لجوئه الى مستويات أخرى من حيث المتخيل، فإنها تبقى في مستوى الحكايات المتداولة التي يتناقلها الناس باجتماعاتهم. بل ربما تترك اثرا سلبيا على قارئه فيترك نصه، لأنه سمع الكثير منها ولا يود أن يفزع بجوها مرة أخرى، إضافة لما تقدمه من إحباط ويأس. عندما نسمع قصصا مؤلمة ضمن نطاق تاريخي أو زمني محدد، نستطيع جمع آلافاً من مثيلاتها، ويقوم الروائي بتسطيرها على الورق، فلا يعني ذلك القارئ بشيء عندما يتفحصها بعينه، فربما لديه ما يفوق ما كتبه الكاتب عشرات المرات وربما اجاد اسلوبيتها أحسن منه نصا أو رويا. انما الحكاية المروية هي واجهة تسبق شك الكاتب، وبذلك يسعى لتطوير ادواته لأجل تفكيكها واعادة تركيبها تباعا. فيأتي النص مضاءً من عدة اوجه، وعليه تكون الرواية عالية الجودة. لا نخفي براعة شاوي بتحسس المشكل الداخلي للشخصيات لكن صداها جاء ضعيفا لقارئه ولسعتها فرضاً واجبا. نحن نثق بجهد شاوي في جديته بتقديم نص مهم، انما وقع بذات المشكل المتعلق باختيار القصة وازدهارها على مساحة الرواية، بحيث تشكل الفرصة الذهبية للكاتب بتقديم موهبته التي تتشكل على نحو مادة يتحسس القارئ طعمها ونكهتها ويبقى متعلقا بها.
المصائر يبقى ان نتابع المصير النهائي لرواية شاوي مشرحة بغداد، فكما نرى ان الموت هو القاسم المشترك لجميع الضحايا، وعليه تأسست الوحدة البنائية للقصص المختلفة ومن ثم الرواية كاملة. المشاكسة الرئيسة للفعل بمعناه الإيجابي للشخصية تمثّلَ في راواية مشرحة بغداد بحركة الأموات، ابتداءً من تململها ونهوضها، وفيما بعد فعلها. رغم ان هذه المعالجة غير جديدة فقد وردت في اعمال مسرحية وقصصية عديدة، غير اننا نرى في معالجة شاوي أمرا جديرا بالتوقف. اسجل هنا ملحوظتي بأن المسند اليه بصفة اصحاب القصص (جثث الموتى) اقوى من الشاهد الحي بصفة آدم الحارس الذي «يكتشف التحولات العجيبة في المكان»، لكنه بقي عنصرا وشاهدا سلبيا حتى النهاية «.. اقصى ما يتمناه هو الوصول الى غرفته والتمدد على السرير، إنه بحاجة الى النوم، لم يعد يتحمل التفكير أكثر، ليكن ما يكون عليه الآن أن ينام...». وبسبب جمود الفعل الروائي، ادخل شاوي نصه بحبكة درامية مسرحية، مصحوبة بتوصيف للحالة من حيث الضوء، والوقفة، وطريقة القول، مع رسم وصفي للمشهد. فيما يبقي بطله يتابع ما يجري وكأنه «...يتابع فيلماً أمريكيا دراميا مشوقا، فيلماً من أفلام الرعب والخيال العلمي». ارى ان الكاتب بهذه الانتقالة التي حصلت بعد نص (حراس السجن المظلم) نوعا من المواجهة اختارها شاوي لاستيضاح النص المركب فهناك الضحايا، وضحايا الضحايا، موظفوا المشرحة، والشاهد الحارس، والكلب الكبير الذي ادخله الكاتب فجأةً، من دون تقديم في نصه (ربما) تعبيرا عن شمولية السلطة مع ايحاء مزدوج فهي تحمل القوة والضعف معا، فتتحول من وحش كاسر الى قطة او كلب صغير يهرب من الشباك، اضافة الى شخصية مستحدثة على نحو مسرحي خلف الكواليس مشمولا بالصوت فقط كتعبير عن سلطة مطلقة من نوع آخر، وهذا النوع من الفن نجده في النصوص والعروض المسرحية، فأدخله الكاتب حقل تجربته، لا نقول عنها شيئا انما نلفت انتباهه الى ضرورة الحفاظ على الشعرة التي تفصل النص المسرحي عن الروائي. ذلك ان التنقل بين بيئة فنية وأخرى تشترط دراية من نوع خاص، كما يتنقل المغني بين المقامات التي تطربنا او يثير فينا نشازها اشد ندم. اكرر ملحوظتي لأهميتها ان على شاوي الانتباه لها، واتمنى ان يقدم لها ليأتي نصه متماسكا لا يفزع القارئ او يثير فيه تساؤلا او استغراب. يخلص الكاتب برهان شاوي في فصله الأخير (صباح الجثث) الى حكمته الأثيرة بأن جميع من في البلاد هم في المشرحة ولا فرق بين قاتل ومقتول فالجميع على ما يبدوا انهم مروا بذات التجربة، بما فيهم هو ذاته فما زال لا يعرف ان كان هو ميتا أم حيا.
في عمله الذي بين ايدينا (متاهة حواء) يتابع شاوي اجتراحه المعنى الرمزي لحواء وآدم او استخدامه لهما. وهي الفكرة التي بدأها بمشرحة بغداد. فوضعها على رأس أولويات النص، وهذا ما نجده في بنية رواياته بل عناوينها التي تحمل صفة (آدم) و (حواء)، اعني ما اقول إنه عمد الى جعلها (صفات) وليس اسماءً، لـ غاية في نفس الكاتب، وأيا يكون الأمر فعلى الكاتب تبرير اجتراحاته اللغوية او اسدائه بعدا آخرا للحالة. عندما نحت اميل حبيبي كلمة (المتشائل) عمد الى تعميق الشك بالحالة بمعنى الفرح والكآبة او التفائل والتشاؤم، فأصبحت جزءا من البنية والبيئة الكتابية. ترى ماذا أراد شاوي من استخدام حواء وآدام، فهل أضاف لمعنيهما بعدا آخرا؟. نعم أراد ذلك، سنرى ان كان تحقق له ذلك.
لو جربنا ان نرفع كلمة ادم وحواء من النص ونبقي على صفة (المؤمن، المحروم، البغدادي)، الخ... ماذا يحصل؟. هل سينقاد النص الى مسار آخر، وهل ستنتهي المصائر الى غير ما آلت اليه، أو أن يتملك القارئ شعورا بأنه تحت تأثير سردي آخر؟ ويمكن زيادة التساؤلات الى أكثر من ذلك. من المهم أن نذكر ان اي عنوان يجب ان يأخذ تطبيقاته العملية داخل النص، كما ان الاجتراحات والاستخدامات الأخرى داخل النص ذاته يجب ان تجد لها تبريراتها الذاتية.
يبدأ شاوي قصته بعنصر تشويق هو (الجريمة)، وقبل الدخول الى عالم الحكاية لابد من الإشارة الى ان الرواية تشتمل على حكايتين، هما حكاية (آدم المحروم وحواء الزاهد )، وحكاية (آدم التائه وحواء المؤمن )، وما يصادف الأحداث من آوادم وحواءات كثيرة. تلتحم الحكايتان وتفترق على هدي واسترسال، ثم القطع بنصوص اختراقية أخرى، اكثرها تساؤلات نقدية لكاتب القصة، أو على نحو مقولات ضامنة مجتزأة لكتّاب او فلاسفة. لا بد من تسجيل شهادة أولى بإمكانية الكاتب باستخدام الحيز الروائي لمناخي القصتين وجعل التنقل بينهما أمرا سهلاً، هذه الدربة تدل على قدرة الكاتب لإدارة نصه، بحيث سهلت هذه التقنية على الكاتب خوضه بأجواء الحكاية الرئيسة من خلال حكايات متعددة للحد الذي جعله احيانا في حيرة من أمره أي منها يختار للتواصل، غير انها كانت ضعيفة التقديم. فمنذ الحدث الأول وهو واقع الاغتيال «.. قتل هذا المبدع العراقي بهذه الطريقة الوحشية..» و «..كان يريد ان يكشف بشكل ابداعي وروائي عن هؤلاء السفلة..» و «احتجاجات القوى السياسية التي أرادت استخدام مقتل صديقه للنيل من الحكومة..» ثم خوضه بأمكنة لانعرف عنها شيئاً « .. هل يذهب الى بعض الأصدقاء الذين قابلهم أمس في اتحاد الأدباء...». ومن ثم محاولته باستدراك الفعل الروائي على نحو شاعري مرهف «...أهذه المدينة التي تتمطى مثل نعاس لذيذ في ذاكرة التاريخ؟ أهذه مدينة الأحلام والأساطير وقصص الف ليلة وليلة؟ لقد كانت بغداد مدينة خانقة في زمن الطاغية وحزبه، لكن هؤلاء رحلوا وجاء ضحاياهم، فلماذا لم تتخلص المدينة من حزنها ولم تتألق؟..» ثم «.. ولا يدري كيف راودته ذكريات هروبه أيام الانتفاضة الشعبية في التسعينات...»، وهكذا الكثير من الضخ ونحن ما زلنا بانتظار تقديم الحالة الظرفية للحكاية التي على الأغلب اهملها الكاتب بسبب معرفة العراقيين اصحاب الواقعة بتاريخهم. غير ان هذا لا يعفيه من الوقوف على الحيثيات الأساسية للحدث التي تفضي الى جعل المناخ مكتملا ومريحا للقارئ، وهذا الفرق بين الرواية والمتداول من الحكايات التي يتناقلها الناس، فالرواية تكتب لكل انسان وفي اي مكان وزمان وليست هناك رواية مرفقة بدليل الواقعة السياسية او المكانية ولا حتى السياحية الوصفية. ففي جانب حيزها الذي «...هو امتداد، وهو ارتفاع، وهو انخفاض، وهو طيران وتحليق-;- وهو نُجوم من الأرض، وهو غوْص في البحار، وهو انطلاق نحو المجهول وهو عوالم لا حدود لها» (في نظرية الرواية عبد الغني مرتاض)، هي بمثابة جميع الإحداثيات الزمانية والمكانية والبيئية، بما فيها فنتازيا الكاتب ودرجة تأمله وشطحاته. بهذا دخل شاوي الى حكايته كفاتح متمكن فهو يعرف كل ما جرى لوطنه، وبافتراضه ان الجميع يعرف ذلك، فأنه احدث تخلخلاً في اهمية التقديم الذي نحن بصدده، ويستمر به تباعا على مساحة تتابع الأحداث، فاورد مثلا آخر من وسط الرواية ص329 ، «..ان ترتب مع صاحب المولدة أن ينشط لك الخط...». سأعفي نفسي من الثناء على جهد الكاتب الذي سأخلص اليه بالنهاية، ذلك لاشغل النص الادبي بمكنونات الحاجة ليصبح باهرا ممتعا خالصا، وعلى نحو اشد تجربة جديدة.
وعلى كل حال يدخلنا شاوي واقع البلد السياسي بعد تغيير النظام، وبعد ان أحدث الصدمة الأولى، وهي جريمة القتل او الإغتيال، أحدث الثانية، في خارج البلاد، وهي جريمة من نوع آخر هي الخيانة الزوجية لزوجة الدكتور آدم التائه، حواء المؤمن، مع الجار آدم اللبناني الذي سيتزوجها لأسباب تتعلق بإقامته في ألمانيا كتفاهم معلن «... إن بإمكاننا ان نتزوج وعندها سيعطونك إقامة رسمية مرتبطة بإقامتي، وبعد سنوات ستحصل على الجنسية الألمانية..» يلجأ الكاتب هنا، من اجل تبرير الحالة المركبة، الى حورات طويلة ومباشرة بين حواء المؤمن وآدم البغدادي، يحدث ذلك بعد اكتشافهما متلبسين بجرم الخيانة من قبل الزوج آدم التائه، ووسط اتهامات متبادلة للعشيقين جميعها خارج سياق الحب «...إنك لا تحبين الرجل إلا حينما يغتصبك..» . هذه المعالجة السريعة لأحد الأحداث الاساسية في الرواية تفضي الى تقبلهما الاتفاق الجديد بينهما، ومغادرتهما الى مكان آخر توخيا لردود فعل الزوج. يحدث هذا بعد ان يحسب آدم اللبناني حساباته (التجارية) الرابحة من صفقة الزواج المؤقت التي ستمنحه الإقامة والمورد المالي المستقر والجنسية ثم «.. انه فاز بالاقامة وبامرأة مثيرة يمكن أن يتخلص منها عندما يرتب كل أموره الرسمية في ألمانيا»، و«... إمكانية السفر الى لبنان لزيارة الأهل والأصدقاء ولقاء حبيبته حواء بنت الجبل...». حالة الكشف عن الشخصية المركبة لـ حواء المؤمن التي تحجبت وقرأت القرآن ومارست الزنا في وقت واحد بقيت على نحو تساؤلات على لسان الزوج الأول الذي «..لم يطرأ في ذهنه شخصية مزدوجة وغريبة مثل زوجته...»، حتى ان اشد معاناته كانت تكمن بقوله حينما اكتشف خيانتها مع جاره «...لقد سمعها بأذنيه تصرخ متوسلة أن يدخله كله فيها...». من جهة أخرى يعرض الكاتب العشيق كونه شخصية مركبة من نوع آخر، فهو كاتب ايضا كما آدم التائه الذي هو «شخصية ثقافية ومحترمة في بلده...». لم يسع الكاتب الى كشف ملابسلات شخصيته حتى نهاية الكتاب، وكأنه أجبر على ذلك فالقصة انتهت وهو لم يفعل. ففي السياق الروائي لم يظهر العشيق آدم اللبناني سوى مخادع وماكر لحد ما، بينما يتكشف فجأة في النهاية بأنه كاتب ومناضل، وضحية تجارب يسارية موهومة، بل رائي لما حوله ومدون لاشد اللحظات الإنسانية تعاسة بترك زوجته لدى صديقه تاجر المخدرات لتكون عشيقة له، مع استذكارات يائسة عن حركة التحرر التي ينتمي لها. هذا النوع من التركيب يحتاج الى سياق تدريجي وكاشف ضوئي يمتد على مساحة النص، سيما انه ثيمة أساسية في الرواية. اقول لو انتبه شاوي لتلك المزايا التي تمنح نصه صدق الرؤيا لكانت فرصة لانتاج نص كبير حقا. لكني اعود واقول ان شاوي يضيع مفاتيح النص تحت ضغط السرعة وانجاز العمل. هذا المزج الصريح هو بمثابة الاعتراف بالخلل الإنساني، او بالارتباك الذي جعل منه شاوي عنصرا يقدح بالحياة، وحول فصامه الى جميع ابطاله، حيث يحدوه الأمل بتعميق البؤس المتلبس أي شخص شاءت الاقدار ان تنقذه الجغرافيا مكانيا، بينما يزداد نكوص الشخصيات واقعا، فتصبح تائهة غير منضبطة حتى وان حكمتها القوانين وبراعة وسطوة الافكار الشمولية، الدينية منها والوضعية. وهذا بحد ذاته تأكيد على ان الضحية مهما تحررت تبقى اسيرة طالعها المشؤوم فتسعى الى احكام طوقها وأسرها لنفسها بنفسها. بعد التحول المفاجئ لنص الكاتب، وهو على ما يبدو بداية جديدة مبكرة لنقل الأحداث تمثلت بأنهيار الزوج، ومحاولة انتحار الزوجة، ينقذها العشيق، تبدأ تقنية مختلفة للنص، هو دخول الرواية بحيز متخيل مشتبك واقعيا مع الحدث. تمثل ذلك على صعيدين: بالنسبة لـ(حواء المؤمن) تخيلها (الواقعي) للراهبتين اللتان تساعدان المرضى اثناء دخولها المستشفى واستمرارهما معها حتى مماتها، وبالنسبة لـ (آدم التائه) تخيله (الواقعي) كذلك لما يشبهما اثناء سعيه للحصول على فيزة وبطاقة سفر الى خارج المانيا بوجود امرأتين مماثلتين، اضافة لوجود نفس الراهبتين عند سريره في المستشفى. من هذا الباب علينا ان نفهم بل لينا مراجعة بعض التعميمات النقدية الخاصة بالواقعي والتأملي والمتخيل وما يصار الى وصفه بالسحرية وغيرها، «فإذا ما أمكن فصل نظرية الفن الواقعي عن مشكلة الواقع، بتطوير هذه التعميمات من تحليل واقعيات مخصصة فقد تغدو جهودنا النقدية المقبلة أقل اجهادا واقل احباطا » (نظرية الرواية جون هالبرين). لذا يكون الزما على الكاتب استحداث بيئة روائية تليق بنصه وبفنه. لقد برع شاوي في استحداثه تلك العوالم الشقية خالصة الألم، ولا ضير بذلك فهي واحدة من اسرار ديمومة عطاء الراوي، بل الوجود الانساني النبيل المتمرد على القيم الجاهزة. وهو بذلك الاستحداث جعل للحيز حيزا آخر وللمعنى افقا مضافا ساعد باسداء وجداني مثير، أن الخير هو ضامن لفسحة الأمل بغض النظر ان كانت تظهر بأول بصيص أم لا. بل جعل فكرة الموت مقبولة، وهذا ما سنأتي عليه لاحقا. لابد هنا من الاشارة الى المتخيل في نص شاوي في مشرحة بغداد ونصه الذي نحن بصدده فهو يرقى الى نوع تجريبي مشفوع بسلطة الوعي للتجربة ولا يهم ان تكون مصدريتها واقعية ام لا، بل ان شقاءها الانساني يأتي جارفا غير منازع. وهذا التحول بعد ان كان في التجربة الأولى (مشرحة بغداد ) محاولة خجولة بل وجلة يكتنفها الكثير من التعثر، نجد تأسيسها في هذا الرواية متعة خالصة وبسياق متقن. ومازلنا في نطاق النص التخيلي لشاوي، وعلى سبيل المثال نشير الى عدد من مواطن الضعف التي اكتنفت النص، تجلت على نحو خاص بإسهاب لا فائدة منه لتبرير الحالة، كما يورد الكاتب تعزيز فكرة الايمان لدى (حواء المؤمن) في فصل (أشباح وأرواح) ومن ثم فصل (الأوغاد) رغبة من البطلة برؤية الجني الأزرق، الذي لانعرف عنه شيئا، ثم تيهانها بجملة الآيات القرآنية، حيث تفلت منه حبكة المشهد الخاصة بالتبرير النفسي الى الوجداني/ العاطفي، فيأتي الايمان غير متناغم مع السيرة الذاتية، ومعادة لمشهد الصلوات في فصل (راهبات الليل)، مشفوعة بنص اعتراضي تأويلي للكاتب «..لا أعرف، وربما لا احد يصدق بأني لا أعرف إلى اين سأمضي مع الراهبتين، وهذا الوجود المكاني... » ثم على لسان حواء المؤمن «كيف ظهر المسجد فوق الأفق، وسمعت الآذان، بينما لاوجود هناك أي مسجد في تلك المنطقة...» ومن ثم آدم البغدادي وهو القتيل السياسي كاتب النص الذي تركه لدى صديقه بطل الرواية آدم التائه «..هل... أومن بالأرواح؟ نعم. لكن أن تتجلى بهذه الصورة؟ ممكن، لانعرف إلا أشياء قليلة عما يدور حولنا». ص67،-وهو نوع من النصوص الاعتراضية يلجأ اليه الكاتب كثيرا- حقيقة ان ذلك يعطي انطباعين أولهما عدم ثقة الكاتب -طبعا لا أقصد ذلك- بنتاج قطعته الأدبية، وثانيهما تثاقف وتعكز معرفي -كذلك لا أقصده- يفقد الكاتب مصداقيته. وعموما يكثر الكاتب من ذكر القصص والاسماء والأفلام التي لا فائدة منها لاحظ على سبيل المثال ص77. من جهة أخرى يعمم الكاتب تساؤلاته على لسان ابطاله الآخرين كـ (آدم المحروم) ذاته، فعلام الدهشة بعد أن اختار الكاتب نمطه الكتابي؟ لكن من الثابت اصرار الكاتب على إثبات ابداعه هو مواصلته نفسه حتى النهاية بل جعلها خاتمته وهو تأكيد خالص على معرفة الكاتب ما يريد من نصه.
النصوص التي ارهقت النص ولما كان الأمر كذلك -وهذه ملاحظة شاملة- فقد كان من الأجدى عل برهان شاوي ان يراجع نصه من زاوية أخرى. وهنا أقصد انه كان عليه ان يطلق النار على أجزاء ومفاصل وحورات وتفصيلات وصفية كثيرة، وربما كثيرة جدا، جميعها تتعلق بالتمدد الأفقي المرهق للنص. تلك الاستطالات التي تذهب بالجهد الابداعي وتؤذي حبكة القص، وطالما كان هدف الرواية هو الكشف عن ما بين الأحداث وما يقع خلفها من أسباب وتفاعلات، وهو أمر يقع بين التفسير والفهم، فأن مهمة الكاتب تتعقد بأكثر من مكان. كنت ارى انتباهات شاوي بإمتثاله لمجساته المعرفية فكان يقاوم سلطة من نوع آخر هو الكم الهائل من الأفكار التي تنبثق من خلال الكتابة، وهو أمر طبيعي يعترض اي كاتب، بل هو مثابة النث الذي يجب تحاشي طفوقه او الاستمرار بإنثياله او المشي تحته بسبب اغواء الكتابة والمتعة. الى الحد الذي يخلق الكاتب أجواء وحورات تشطح بالكثير الكثير عن هدفه، فهنا نورد مثالا لها فحسب ص 94وحتى101 بيد انها تتكرر مرارا في السياق الروائي حيث ينتهي الى عدد من الصفحات في حوار غير خادم للسياق بين (آدم التائه) والراهبتين المفترضتين الخاص بالحيز التخيلي الذي استحدثه. يدلق الكاتب سيلا من أسئلته الشخصية عن الإيمان والوجود والعدم ووجود الله وعن الجنة وطبيعة العمل والنكاح فيها وعن الجحيم، وعن الفلاسفة والكتاب. وعن الله ورحمته والأديان، عن الحساب والأكوان والثقوب السود، بمعنى انه وضع كل ما في جعبته عن الأمر في تلك الصفحات التي يحتاج كل مفصل منها الى معالجة خاصة. هذا اضافة الى الحشو والاسهاب كما نلاحظه على سبيل المثال ص87، 88
النصوص المكشوفة من غير معالجة في فصل( الأوغاد) يلجأ شاوي الى تقنية (مشرحة بغداد) للأسف، بمعنى مكشوفية الحدث ومن دون ادوات علاجية مساعدة، حيث يدخل اشخاصا حيزه الروائي من دون سبب سوى انها حكاية اغتصاب أو ابتزاز عاهر للنيل من رجل سياسي. فما الذي اراده شاوي من هذه القصه المكررة، ثلاثة رجال يغتصبون امرأة، غير سوية أصلاً، سبق وان استخدمت لأغراض ومتع شخصية والآن سياسية بأن تشهد زورا ضد احدهم. آثر الكاتب ان يمضي أكثر بقصة حواء شمعون في فصل (الأوغاد مرة اخرى ) حيث وقوعه على مشهد الاغتصاب للعاهر من خلال ثقب الباب الذي يفصل غرفة (أدم المحروم ) عن غرفة حواء شمعون في الفندق، بل مشاهدته لثلاثة رجال يغتصبونها ويصورونها، فيما يتهيج هو نفسة ويستمني. حقيقة لم أجد تبريرا لهذه الحكاية ضمن السياق الروائي العام.
يلجأ اي كاتب أحيانا الى نوع من الأستراحات فيكثر من الوصف او يركن الى هدوء مفاجئ، يستجمع خلاله مقومات واحداثيات لدخوله حيزا آخر للكتابة او استمرارا لحدث سابق يرتفع به وينظم سياقاته المفقودة، وهذا ما نجده كذلك في أكثر الروايات جودة. بينما يشغل شاوي حيزه الروائي بمستوى آخر مبالغ فيه بحيث يزاحم مفاصل وعقد روايته ذاتها. لذلك قلت انني لم اجد في حشره هذا النص اضافة مهمة خادمة لنصه العام. فما أكثر قصص الاغتصاب التي نسمعها او نقرأها في الصحف والمجلات، وما اكثر شواهد الدعارة السياسية التي نسمع فيها!. لذلك استوجب التنويه هنا الى جانب المعالجة من باب رؤية فنية دقيقة ومتعة خالصة لا تترك في القارئ أثرا من التندر او الاشمئزاز، ولا للناقد فسحة من القلق. ومن جانب الإنصاف ان شاوي اراد من النص ان يكون بمثابة المقدمة لجهده الإبداعي المهم في القصة التالية التي ستستمر حتى النهاية وهي قصة آدم المحروم وآدم الزاهد بائع الشاي وابنته حواء أم آدم الملاك.
يلتقي (آدم المحروم) صدفة بـ (آدم الزاهد)، ثم بعائلته المكونة من ابنته وصغيرها، زوج الغائب المعتقل. حدث ذلك بسبب جريمة اغتيال صديقه الكاتب (آدم البغدادي)، وتصور آدم المحروم بأنه ملاحق فيلجأ الى تبديل مكان إقامته الى فندق، قال عنه آدم الزاهد «فندق مشبوه» قبل ان يصحبه الى بيته من أول لقاء، اضافة الى انه سيمتلئ بعناصر أجهزة المخابرات بسبب غليان الوضع وجريمة القتل السياسي لآدم البغدادي والمظاهرات. هنا لابد من الإشارة الى استسهال ادخال الكاتب بطله مجتمع مغلق، بل متدين، وفي بلد مثل العراق ومدينة مثل بغداد، في هذه الفترة بالذات. مجتمع محافظ يعيش في فوضى ومحكوم بسلطة المليشيات والخوف، وهي الفترة الزمنية بعد 2003 التي هو بصدد معالجتها. يقع شاوي بنفس المشكل السابق وهو التمهيد والأقناع بأن النقلة الروائية يجب ان تكون مصحوبة بحجة قوية ومؤثرة تقنع القارئ، سيما ان القصة التي نحن بصددها هنا هي ركن اساس سيبني عليه الكاتب مشروعه الكتابي حتى النهاية. واذا ما انتفت جميع المسببات للفعل، يبقى فقط الحيز الوجداني والعاطفي لتبرير الحالة الذي لا اعتقد انه كان كافيا كوسيلة مقنعة. فلا يمكننا تصور الأحداث من دون شبكة من الأفعال والعلاقات ومزايا تهتم بالتقاليد وبالمجتمع ذاته بمعنى حركته، فهي في واقع الأمر تقع في رأس اوليات المعالجة. لقد تجاوز شاوي هذا الجزء الهام بتطور الحكاية وانتقل بنا الى وسط عائلة محافظة اصلا ولها جذور دينية يفترض الا تسمح لأي غريب بالدخول اليها، اضافة الى مجتمع محافظ له عين على جميع جزئيات وتفصيلات ما يدور حول دائرته الصغيرة، سيلجأ لها الكاتب في نهاية القصة كأداة مساعدة لإنهاء سيرة السرد كما سنرى.
من الملفت ان الكاتب يحسن من ادارته لنصه من حيث التشابك بين القصتين (قصة آدم المحروم وحواء الزاهد ام الملاك، وحواء المؤمن وزوجها وعشيقها آدم اللبناني) في جميع الفصول تقريبا التي يختار لها الكاتب شكل التقطيع والسيناريو. وعموما فأنه يكثر من ادخال المقولات والكتب والاشعار ظنا منه تعزيز الحالة، فلا أراها مهمة، انما العكس. وعلى كل حال استطاع التنقل بين القصتين والتفاصيل للحد الذي اشعرنا بانسيابية النص وجعل الحكايتين كلا واحداً، فلم نشعر بالاغتراب عند النقلة، ولا بالأسف في ترك واحدة منها. هذا التوازن منح الروية مصداقيتها بين المتخيل والواقعي، ولو لم يسع شاوي الى شكه بما يكتبه على النطاق التخيلي، وهو ما تحدثنا عنه-انظر كذلك ص166 نصي الكاتب الدخيلين- لكان هذا التداخل قد فعل فعله بإنتاج قيمة سردية حديثة، وبكل الأحوال استطيع القول: ان شاوي برع في رسم الحكايتين وتداخلاتهما، لكنه اساء لهما من زاويتين الاولى الشك الذي قلناه، وثانيهما، الأثقال الكبير للسرد التفصيلي غير الضروري الذي نجد شواهده ممددا ككيان ميت من حوارات غير ضرورية، واسفاف بوصف الحالة كشرب الشاي مثلاً، او إدخاله نصوصا منتقاة لكتاب آخرين لا فائدة لها بالمرة، انظر ص 160 نص لـ فؤاد زكريا، و161 للسياب ذلك على سبيل المثال حسب.
نعود للثيمة الروائية، او بالأحرى للثيمتين. فنرى الكاتب يسبغ على تحولات (حواء المؤمن) ما يشبه عجزها وأسفها وعدم قدرتها على التدخل بحياتها او تغيرها بعد خيانتها زوجها آدم التائه وتركها بيتها، والتوجه مع عشيقها آدم اللبناني الى مدينة أخرى يسكن فيها عمه وعائلته. وعلى الرغم من التسطيح الكتابي، ونعني به ايجاد المخارج لتخريج الحالة الإبداعية من أزمتها، الا اننا نجدها مهمة؛ استطاع شاوي الى حد ما تبرير سيرتها، (حواء المؤمن)، المتأخرة ولو من دون حيثيات كتلك التي نجدها في الروايات الكبرى كرواية (مدام بوفاري) مثلا. وبمجملها فأن تحولات حواء المؤمن وقعت تحت سلطة الاجبار، بدءا من كونها حاملاً من عشيقها. ومن هنا فهي لم تكترث لأي أمر كان يرتأيه آدم اللبناني وعمه بخصوص زواجها، أو مكان اقامتها وغيرها من التفصيلات. بهذا المعنى استطاع شاوي فك واحدة من العقد التي واجهته والتي سيسائله عليها قارئه ما لم تقنعه. من ناحية اخرى استطاع شاوي ان يواصل نفسه المتخيل من خلال احداثيات مبهرة اشرنا لها وهي قصة الراهبتين اللتين تدخلان حياتها حتى رسم نهايتها، التي سنأتي عليها، بالاضافة الى دخولهما الحيز الابداعي لزوجها آدم التائه والتصوير المتناغم بين الواقع والخيال، بين موظفة مكتب السفر وصاحبتها العجوز، والراهبتين نفسيهما. لا نستطيع هنا إلا الثناء على قدرة الكاتب بفتح العالمين وجعلهما عالما واحدا، فاعلا، ومزدهرا حتى النهاية. هنا المسألة ليست اعجاب، وانما ما يعطيه النص من جديد، وهنا بالتحديد تكمن التجربة التي نبحث عنها في اي أدب مستنير. بمعنى ان النتاج المحدث هو الفعل العملي في واقع السرد وجعل المتخيل جزء من البنية الحقيقية لواقعية النص، بالطبع هنا ليست (الواقعية) كمدرسة، انما جملة العالم القسري والمصيري للوجود، إضافة الى لبوسه المتخيلة. فلم يؤاخذ ماركيز (بشطحاته) عندما طار بأحد بطلات (مئة عام من العزلة الى السماء) عندما كانت تنشر الغسيل، بل العكس جعل النقاد يجترحون لعوالمه مسميات ربما اشهرها (الواقعية السحرية). وبغض النظر عن كل هذا يكفي لشاوي انه فعل فعلته الفنتازية الكبيرة.
في سياق آخر، في قصته الأخرى (آدم المحروم وعائلة آدم الزاهد) للأسف يقحم الكاتب قصته بنصوص معرفية منتقاة، وتفصيلا عن الاديان يقرب من المقال منه الى الرواية، ذلك بخلقه سمات توصيفية لكلا الشخصيتين الاولى (آدم المحروم) المنتمي للفكر المادي، و(آدم الزاهد) للفكر الديني المطلق، من خلال حوارات مفرطة بمباشرتها وبديهيتها تتكرر كثيرا، مع استشهادات مطولة لـ (داريوش شايغان) وآخرين من الفلاسفة، لاحظ النص اعتبارا من 176-189 فإنه اشبه بالملغّم بالأسماء الرنانة التي يتوجب على اي كاتب تحاشي الوقوع في فخها. لكن الأهم هنا هو النسيج التتابعي للقصة التي ستدخل فيها عناصر أخرى من اعجاب (آدم المحروم) بحواء بنت الزاهد وهي الشابة الأرملة، مع وقف التنفيذ، حيث زوجها معتقل منذ زمن ولا أثر له تقريبا. يفعّل الكاتب عملية الصراع بدءا من تعرفه على ابيها، بائع الشاي (آدم الزاهد)، مرورا بأزمة العائلة وازمته هو شخصيا، وحتى النهاية التراجيدية للقصة، التي تلتقي بنهايتها مع نهاية قصة آدم التائه و (حواء المؤمن) وعشيقها آدم اللبناني. اجزم انه خلق مشاهد قوية ومؤثرة ذات مواصفات عالية وخالصة الألم، جعلت من برهان شاوي يتربع باقتدار على منصة الحكاية المتقنة والحديثة، تستحق المعاينة وسبغ المعرفة الأكاديمية للنقد عليها. يدير شاوي قصة (آدم المحروم وحواء الزاهد) بنوع من الاحتراف يجعلنا حذرين من التسارع الذي يفضي لأي انزلاق تحت واقعة الروي للحكاية. يبدأ ذلك من اولى لحظات الإعجاب بينهما، حيث تمكن الكاتب من تقدير الحرمان كسلطة لكلا الجنسين وهي تفوق بقوتها سلطة الأعراف والتقاليد وحتى الأخلاق من جانب، ومن جانب آخر تفوق سلطة الدين وتعاليمه. عكس ذلك بحوارات داخلية، ومناجاة اضافت للسرد احد مفقوداته لكليهما، فأزاد نصه متعة وتشويقا اضافة للفعل النفسي المرتقب. وبذلك يكون قد ارتقى الكاتب بنصه الى الحبكة اللازمة التي تجعل العمل الروائي، في اطار السرد، يتجاوز محدودية الإلزام التاريخي، ونعني به كل اشكال الموروث، الى الإنساني المتأمل المشتمل على الروح اللائذة بالانكسار، والمحطمة داخليا، والمفعمة بذات الوقت بضمير يشدها الى العجز. هذا التجاذب الذي تنطوي عليه نفوس بالغة التعاسة، تبدو ناجحة ومرموقة الا انها غاية بالاثارة والجرأة. لا اخفي انها عولجت بالكثير من الروايات، الا ان شاوي يقدمها لنا كنسيج مجتمعي خالص، من حيث صلته بالوجدان والنزوع الى الحاجة السامية.
هنا لابد من التوقف عند الحكايتين-الشخصيتين التي يعالجهما شاوي. الاولى التي نحن بصددها، (حواء الزاهد)، الذي يلقي عليها لبوس الحاجة والفقدان مشوبة بالانفعال، و(حواء المؤمن) في الحكاية الثانية التي هي منتمية للدين من زاوية اخرى تتفاعل معها على نحو فجائي تدهشنا بشطحها وميولها الى ما يقرب الشواذ. فلِمَ هي اذن تكرر فعل الخيانة في كل مرة، حتى تلجأ الى قنوطها وعتمتها في النهاية. وطالما تعلق الأمر بحواء، المرأة، التي لا تختلف عن الرجل بميولها ونزوعها لحريتها، فأنها تتصدر الفعل الواقعي بل المبادرة له، ذلك لقوة الفيض الوجداني وحجم التراكم السلبي من حيث الموروث، للحد الذي تبقى اسيرة له حتى في أكثر المجتمعات حرية. فما الذي أجبر حواء المؤمن الى الجنوح نحو رغبات غير مكتملة في مجتمع حر؟، وما الذي أجبر حواء الزاهد الارتماء بحضن رجل لم تره سوى مرتين في مجتمع محافظ؟. تلك هي الومضات الإنسانية الباهرة المبتورة لأسباب ليست، بالتأكيد، من مهمات الكاتب بسبرها، لكنها تسطع تحت جنح ضياء لحدوثها وتكرارها، كارتداد جامح غير مشروط! فجوهر المشكلة هنا يفوق الحكاية، ورصد الحالة لا يفي بالوقوف عند مسبباتها، انما جعل لها الكاتب مفتاحا لباب مغلق او موارب يكشف عن مجتمع متناقض للغاية.
في شخصيته المركبة حواء المؤمن (المتدينة) يتابع الكاتب تطور الشخصية الارتداي بعد كل فعل مشين فهي «تصرخ متوسلة ان يدخله فيها كله» ص20 أثناء فعل الخيانة مع عشيقها آدم اللبناني، فيما يعكس ندمها بأشكال مختلفة، ترددها بالذهاب مع عشيقها، اسفها لحملها، بصقها على نفسها بالمرآة 114 رغبتها بالاجهاض، وبالتالي دخولها حقل العتمة الباهر الجمال فهي في حل من كل التناقضات. وعلى ما يبدو ان حل الكاتب لهذه العقدة الروائية/الانسانية اجبره للميل الى المتخيل. فبعد قناعتها بأنها فريسة لعدد من السلطات، المجتمع والرجل، الذي جعلها في حال الخضوع النهائي، فاقدة السيطرة، نفسيا، على حركتها حتى الفسيولوجية منها، فأدخلها، كما اسلفنا، واقع العمى المتخيل، الذي لا سبب طبي له، انما وسيلة لنهاية حزينة مبهرة لاستعادة استقرارها مع الوجود الدائم للراهبتين المتخيلتين، مع ملاحظة انها مسلمة مؤمنة، فأصبحت في حالة رضا صوفي مؤثر، حتى اقتراب ساعة موتها الذي اكتشفت فيه عشيقها ادم اللبناني من خلال قراءتها لأوراقه، فدخل هو الآخر واقع الصورة المركبة، بصفةالعارف/الرائي حتى خيانتها له ـ كونها شخصية دائمة الفصام- مع صديقه تاجر المخدرات، الشخصية المساعدة بالكشف، فظهرت حالة تجليها الثرية بمتعة الموت خالصة الرضا والوئام. بتزامن مع (آدم التائه) الذي هو الآخر لا يشفى من وهمه الواقعي الافتراضي بوجود الامرأة الالمانية الفاتنة في حياته، واكتشافه المتأخر بأن لا أثر لها ولا للمكان (الحي السكني) وشقتها الذي جمعتهما في ليلة فائتة، مع ايحاء لسيناريو متقن بدخوله عربات القطار الفارغة وتفتيشها واكتشافه انه يسافر وحيدا. هذه الحلول الدراماتيكية هي في الحقيقة تعبير عن رؤية مستقرة في ذهن الكاتب تبين فكرة لاشتقاق زمن آخر، هي (عجز الزمن النفسي والظاهراتي عن اختزال الزمن الفيزيقي والكزمولوجي..) كما يوردها بول ريكور في كتابه الزمان والسرد، فعلى الرغم من وضوح الزمنين (.. الا ان زمن اشتقاق العالم من زمن النفس او العكس تبدو محاولة يائسة ومحكومة بالفشل..) وهي ثنائية ابتلت بها فنون الأدب وعكفت الفلسفة على فك لبوسها. اقول هنا ان شاوي اتقن فك لبوس العالمين وصاغ عالمه المتخيل ليفضي بنا الى حلول جعلت من نصه مرآت لأزمنة مختلفة، عبرت عن فكرة الالتباس الأثيرة، وحالة الفصام، وهو الإصابة الإنسانية المؤثرة للإنسان الأعزل، وما تتلوها من مصائر.
الترميز والأسطرة الترميز في ادب شاوي يأخذ شكل الرحم الذي يكبر فيه الجنين، من حيث الفكرة الى التشيء الواقعي، وهذا امر منهجي مهم، ومن حيث المحاكاة الى تداخل الحركة والفعل ثم الى تقبل الفكرة كجزء من الحكاية، وهي معالجة مثيرة وماتعة، تجيز للكاتب الكثير وترفد كذلك القارئ بالكثير. فعالم حواء وآدم هما ترميز لإعادة انتاج الحياة من شكلها النمطي الى الإبداعي، وهم ضحايا، أو ضحايا الضحايا، بيد انني لم أجد الكاتب قد اشتغل على الفكرة ذاتها بقدر ما استخدمهما لغويا، بمعنى الكم اللغوي، انما الظاهري منه، وهو الأمر الذي يقع في الطرف السلبي من المقاربة، باعتبار الافتراض المسبق للكاتب، هو في غير صالحه من حيث الالسنية التي لاينبغي عليها تحويل وتهويم الكلمة من دون قانونها الخاص، فذلك يجعلها في موقع الغموض. «فلماذا نحاول تفسير شيء غامض وهو الكلمة بشيء أكثر غموضا وهو الفكرة والذهن»؟. (بلاغة الخطاب وعلم النص) د. صلاح فضل. وبقدر حيازة المعنى على قيمة اكاديمية فأنه يقع في واقع الخلط بين السيمياء، من كونه إشارة للمعنى، وبين الدلالة كعلم وهو المعنى المباشر للكلمة ومغزاها. من هنا اخلص الى ان فكرة حواءات وآوادم شاوي غير ضرورية فالصفات المتبوعة بها اكثر صرامة وجدية، انما اجدها استحداثا ربما سيكمل معناه الكاتب بمنجر ابداعي آخر. فيما يقع ترميزه الآخر في باب التأويل حيث (الراهبتان) اللتان تأخذان شكل الوجود الضروري للسر فيما تبقيان كلغز معرّف وغير معروف في ذات الوقت.
ان ما ينتجه شاوي، هنا، على نطاقه المتخيل هو نمط يقرب من الأسطرة، وبذلك يقترب كثيرا من الرواية الحديثة، رغم انه يكثر كما اسلفنا من التفصيلات والوصف الكثير. ومن جانب آخر يقع بمشكل التقليد ونعني به التقديم الوصفي للعالم والحدث كما ذكرنا. غير ان من الثابت هو مقدرة الكاتب بخلق خيط بين الواقعين، ورغم عدم مسؤوليته بجانبه المتخيل، حيث ينتهي بلا أجوبة في الغالب، الا ان درجة انصافنا له تمتاز بشاهدتنا ببراعته وحسن ضبطه للنص من حيث التداخل والمشاركة بين الواقع والمتخيل. هذا الأمر بحد ذاته يضع شاوي بصفوف المتقدم من السرد الروائي المحدث، ومن دون شك سيكون له منجزه الخالص بعد حين. اضيف الى ذلك ان لشاوي صوتا مميزا يضيع احيانا وسط زحام معرفته.
من هنا أقول ان على الروائي ان ينسى للحظة انه قارئ واكاديمي، انما هو الرائي المبدع الهاضم للسير والقصص وجميع الأوجه الدلالية التي سبقته، بمعنى تجذير صوته من خلال السرد والحبكة، اضافة لخياله الجامح الذي لا تحده حدود. وان سمحت العبارة فإنه شكاك كبير ومغترب، وهو تعبير عن العالم المهترئ الذي هو بصدد الكتابة عنه، العالم الذي جعل منه العسف والحروب واقعا أعمى لكنه رائي، فانبثقت عنه رؤى جديدة تمثلت بمدارسها الحديثة التي جعلت من الألم سلطة وأداة، وإذ يكون شاوي قد بدأ سيرة كتابته في مشرحة بغداد فأن مساهمته الجادة بعدها تقع ضمن هذا السياق. ومازلنا في واقع الأمر في الأسطرة ؛ يعمق الكاتب رؤيته بجعل المتخيل شاهده في فصل (دروب المجهول ) حيث «...لمح (بطله)بشكل مفاجئ الموظفة الألمانية في مكتب السياحة...» وهو خارج من المستشفى بعد اصابته بنوبة قلبية، «...وهو لا يصدق هذه النعمة التي هبطت عليه في مثل هذا الصباح... » فيجعل من الحكاية المتخيلة واقعا لسبب: ان يفك جهده الإبداعي من شروط مجتمعية مجحفة تلزمه بالميكانيكية وهو يسرد حكايته بالهجرة، «كنت اهرب من الوضع الكابوسي الذي وجدت نفسي فيه...». وفي معرض كشفه لها عن شخصيته كونه استاذا وكاتبا، يكشف شاوي عن فحوى انسانية كتاباته «...أكتب عن الإنسان.. عن معاناة الوجود البشري ككل...عن الحياة والموت.. عن الوهم والحقيقة..». وبهذا الاداراك الواعي للمتخيل يضع شاوي قدمه على سكة ابداع راق سنطالبه بتعميقه مستقبلا.
النهايات لبرهان شاوي طريقته الخاصة بعقد اطراف النهايات، ليس كهدف نهائي انما كاشف زمني للحدث. فهو يلجأ في نصه مرارا الى الاحلام ليستعيض عنها بالنهايات الموزعة تباعاً بين جنس وموت ويأس ونحوها. في فصل (تفاحة آدم) يوقع بطله (آدم المحروم) بجو تناقضه الانساني الكبير بين الرغبة والممنوع ص292 «أحقا أنت ذلك الفنان والكاتب الذي ينادي بانتصار الجمال والخير والعدالة، بينما الآن تتحرق لإغواء امرأة شابة مسكينة، محرومة من الحب والحنان والجنس...»، «....أنت أيها النذل الرعديد الخسيس، لاهم لك سوى ان تضاجع ابنته...»، بإشارة منه الى ابيها (آدم الزاهد) الذي آواه وادخله بيته. وتحت سلطة الإغواء المفرط يلجأ الى نقيضه في مشهد يقرب من الاعتداء رغم موافقة حواء الزاهد مع بعض التردد «...أخذ يقبل صدرها، ثم مد يده إلى نهديها... مد يده ما بين فخذيها»، «...أخذها الى نصف الكنبة... فأدخل أصبعه فيها، فصرخت بشهوة...». ثم ينهي المشهد بعودة إفساد تراكم النقيض النفسي الذي يفسد الحلم الماتع، وهو ما يحصل لعموم المحرومين جنسيا في أحلامهم، ألا يكتمل حلمهم الجميل، «انتفضت، مبعدة يده عنها، قافزة بشكل كامل من بين أحضانه...-عليك لعنة الله...». فينهي الفصل وكأنه واقعا. لكنه يتبعه في فصله التالي (نهار الجثث) كونه، «...حلما جنسيا جميلاً بالرغم من نهايته غير السعيدة...». هذا النوع من الإستدراك يوضح ما قصدته في البداية كون لشاوي طريقته الخاصة، فبطلة (المحروم) وهي صفة عنيفة فعلا يجسدها الكاتب واقعا، عطفا على ما نوهت اليه قبل قليل بأن فكرة حواءات وآوادم شاوي غير ضرورية فالصفات المتبوعة بها اكثر صرامة وجدية، يستنهضها شاوي على وفق التعامل النفسي والحسي الذي يعكس جو التناقض الرهيب للنفس غير المشبعة في كل مراحل تطورها، ومن حيث الأساس متعها الخالصة بممارسة الجنس. فهو اذن اي المثقف، مهما بلغت درجة ثقافته وداريته يبقى اسير حرمانه المفرط، حاله حال اي انسان بسيط، وهو (هنا) بمثابة النشاط الذي يوضح ملابسات الشرق الأليمة.
يعاود شاوي تأكيد المشهد من جانبه الفعلي/الواقعي، في فصل (نهار الجثث)، حين يطلب (آدم الزاهد ) الأب منه ان يبقى في البيت، بينما يذهب هو للعمل، ولا يخفي المحروم رضاه وابتهاجه لأنه سيكون بمفرده مع ابنته، «لم يصدق آدم المحروم ما سمعه، فالأب يقترح عليه البقاء لوحده في البيت...». وبعد تمهيد اولي اصطحبته مع صغيرها لمعاينة المشتمل الذي سيستأجره، اعاد الكاتب حلم بطله «..وبدون تردد ضمها اليه، مقبلا إياها قبلة حارة شبقة...»ص338، «...مد يده إلى ما بين فخذيها، فانهارت مرتجفة بين يديه...» مع عدد من الممانعات الخفيفة «...ارجوك... ليس الآن...». وبذلك مهد شاوي لحلمه ان يصبح واقعا بعد قليل. في وقت تسقط هي في بركة شعورها بالذنب وصراعها مع نفسها «...وانتهاكها للتعاليم والمحرمات والأعراف وبين رغبتها الحقيقية والمخلصة في أن تكون هي ذاتها... ». لكن كل ذلك لامعنى له وقت لقاء الحالة الانسانية/الحيوانية المرعبة في فصل (تحولات الكائن العجيبة) الفصل الذي يؤنسن الحالة ويحدث الالتقاء الجسدي الفعلي بينهما. لا اخفي هنا براعة شاوي في انسيابيته وتبرير نصه المفعم بالجنس والحوارات الزائدة ربما، لكنه اصر على نهايته وشغله الفاصل الشفيف الذي يفصل الحلم عن الواقع. وبذلك كان الكاتب قد استدل على بؤرة الفعل الانساني الصريح وصراخ الجسد وانثياله على نحو رغبات جامحة لا مرجعية لها سوى صيحة الانسان الأزلية بحريته. بينما لا تكون المفاهيم سوى ابتسارات مجحفة باعتقادها ترشيد الفعل الانساني. لست هنا في واقع تبرير الحالة، فالكاتب يضيف لها في سياق نصه نوعا من التشذيب بجعلها على نحو اعجاب وحب او على أقل تقدير بداية لها، انما ما يعنيني هو حالة تخلي النفس عن الضوابط وكشفها عن الرغبة الأثيرية في محاولة للقبض على ما يطلق عليه بالتمرد. أما طريقة عرض شاوي، اقصد بها صوره الجنسية السناريوية، فهي خاصة به، لكنني سآتي على ذلك لاحقا.
يعالج بعدها الكاتب سلطة الوقوع بالازدواجية، فحواء الزاهد تعيش «صراعا نفسيا عنيفا.»، يعالج شاوي هذا المفصل من خلال رؤية صورية مفعمة بدلالات الجسد ومقدار استجابته بالنقيض من سلطة العقل والأعراف، ودهشة الكشف المثير عن المكامن الحسية والذوقية التي تخفيها وتخيفها سلطة المحرمات، فيما تكون قيمتها مضاعفة بإضافة المشاعر وصدقها للحالة الانسانية فهو يحس «...نحوها بحب كبير، وفكر بأنه لابد أن يتزوجها»،
من جانب آخر، وما زلنا في حيز النهايات الذي هو جهد شاوي الأثير، والذي سأستمر به حتى النهاية، نرى تزاوج الحلم بالواقع من جانب آخر. فهو يحيل الفصول الأشد درامية وأهمية الى الحلم الذي يؤكده الواقع، الأمر الذي يخبرنا بأن شاوي انسان يعيش حياته بشقين، وهو وبذلك يترجم سياقهما بتفاعل بعيد عن الإيماءات السردية، انما بإحداثيات بنائية افقية على نحو الصورة والوصف اللغوي، ثم العمودي الخاص بالتحليل وعمق المعنى وتكثيف الصورة ذاتها. ففي فصل (نهار الجثث) يدخلنا شاوي حقله المتخيل، انما الواقعي، بصفة الحلم من خلال صورة معتمة، غارقة بوحداتها الدرامية، على وفق الحالة التي عاشتها مدينته بغداد في فترة اشتداد الارهاب والتفجيرات، فيخلص في حلمه الى فك عدد من العقد التي اراد لها ان تكون خارجة عن النظام الروائي بصفة الاحداث الفعلية. فيفعّل الإحداثيات المكونة للمشهد البغدادي آنذاك، وهو اثار التفجيرات المرعبة التي تؤدي بحياة الأبرياء، والأنسب لشغله هو عائلة (المؤمن)، فهي الأقرب له وجدانياً، فيذهب الى تلخيص، اصفه بالاحتراف، لتصوير الحياة وهو ما وصفته قبل قليل (بالبنائية الافقية ) التي تزدحم فيها الصور مع الحوارات الخادمة لإيجاز مكثف للواقعة. يعطي من خلالها شاوي صورة وافية لحال البلاد المرعب والمفعم بمشاهد القتل والتفجير والدمار. مع الغاء شبه نهائي عما يفصل الحلم عن الواقع. اشتغل الكاتب هذا الجانب من خلال تصوره في حلم ما بين اليقظة والحلم وهو في حافلة عمومية، فيروي اثار التفجير الكبير الذي يؤدي بـ(آدم المؤمن) وحفيده بصوره البشعة التي قلت عنها قبل ذلك «تشعرك بالغضب » فهو يتعامل مع الحدث بتقديم رائع هذه المرة ويختار طريقة عرض مبهرة تقنع القارئ والناقد على حد سواء، وان تعاملنا مع صوره (البشعة) التي احدثها التفجير فسنكون قد تعاملنا مع تلك الصور على نحو مستويات مختلفة في «قراءة النص الأدبي انطلاقا من مستويات متعددة يؤدي تضافرها إلى الكشف عن الدلالات الخفية التي تتضمنها بنيات النص وذلك من خلال النظر إلى مختلف العلاقات التي تربط بنيان النص...». نظرية التحليل البنيوي للنص.. بشير تاوريريت. فـ(آدم المحروم) هو انسان خائف، ومحروم من متع الحياة بأبسط صورها، يتوارى بعجزه خلف حلمه الذي يتحول الى كابوس ثقيل في وقت اشتداد انفعالاته، التي هي خليط بين رغبته لحياة عاشق؛ حياة سوية، خالية من جميع مظاهر ما يشهده واقعاً، وبين حرية يتوق اليها تجعله المصادفة أن يحصل عليها على نحو علاقة بـ(حواء الزاهد)، تلبي رغباته فيرقى بدرجة تواصله معها الى الحب واستعداده للزواج منها. هذا مع كل ما تحتويه حالتها، حواء الزاهد، من مشكلات وتناقضات، فهي متزوجة، من دون ان تتعرف زوجها على نحو قريب، تزوجته دون معرفة قريبة، وعاشرته في ظلام دامس، وهو يقبع الآن في السجن، بل مات فيه من دون ان تعلم بخبر موته، ولها منه ولدا. وهي على نفس النحو الذي يعيش فيه العراقيون حياتهم الأليمة. وهي كما أي إنسان متدين تخضع الجانب الحسي لسيطرة التعاليم، لكنها تستسلم لوجعها من اول تواصل مع (آدم المحروم). وما زلنا في الحلم الذي يوجز فيه آدم المحروم خليط آلامه ورغبته، فيلجأ الكاتب لإنهاء المشهد الى المحو الكامل بين الحلم والواقع وجعلهما في مصاف واحدة «أأنا آدم المحروم الحي في الواقع، أم أنا آدم المحروم الذي يحلم بـ آدم المحروم». وبذلك يكون الكاتب قد احدث حيزه المتخيل الجديد، فيما يواصل احلامه المتبقية في فصل لاحق على نحو تساؤلات تختص بذات المعنى. وفي ذات السياق، سياق النهايات، يُحدث الكاتب صرخته بفتح النص المتخيل، الحلم، على الواقع المشرّع بأبوابه على الجريمة المنظمة التي تقتل اي سبيل للحلم من جانبه المادي، وهو اجهاض كل النهايات الخيرة في الحياة، التي مهما شذت أو تناصت مع حلول الواقع من عدمه، تبقى باهرة بألقها، فهي إن لم تكن مستحيلة، فأنها صعبة المنال، خصوصا في واقع شهده العراق والكاتب معا.
يفعل الكاتب ادوات درامية مصحوبة بحبكة، نظامية وغير نظامية، علما أن ذلك من أوجه الخلاف بين الكتاب، وقد كسرته فرجينا وولف من خلال التتابع الحدثي، المختار، المفعم بالإثارة، وهو ما نشهد لشاوي على ذلك بتنقلاته في رسم النهاية لقصة حواء الزاهد او بالأحرى آدم الزاهد وعائلته. فالحدث يأتي هذه المرة ليس على شكل تداعيات أو أحلام، إنما هو ينتج نفسه بنفسه، وهي حبكة متماسكة. فقد دلّنا الكاتب على فكرة مهمة بأن الحياة ستجللها الآلام مهما بدت أحلام الانسان رائعة، ومحاولاته قوية، ورغباته متواضعة، بل هي تذبح بضرارة باردة، بإرادة سلطة الثقافة الدخيلة والمكتسبة على حد سواء. يأتي ذلك بعد سفر الأب آدم الزاهد الى سجن (بوكا) ليتأكد من مصير زوج ابنته بعد أن يعلم خبر موته في سجنه. وقتها تكون علاقة آدم المحروم وحواء الزاهد قد ازدهرت وجدانيا للحد الذي يشعرهما بأنهما زوجان مطمئنان لبعضهما بعضا، «...إذ أحست هي وكأنها زوجته...».و «...أنها تحب لأول مرة...»، ومن جانبه «...وبعدما اقتربنا أكثر والتحمنا، صرت لا أستطيع تصور الحياة بدونك »، ويكون عالم الرضا النموذج الحسي والنفسي والجسدي الذي يفضي للقاء حاضر بألقه وعنفوانه وقوته. يستفيض الكاتب برسم هلامية حدوده بذكاء، فهو يقع ضمنيا في باحة محرمات حواء الزاهد، وبنفس الوقت هو سليل الحالة الانسانية المتدفقة والحاضرة بينهما، على شكل تواصل روحي وجسدي، فالانسان «...تتلاطمه الأمواج العنيفة، لا شيء أمامه ليتشبث به ويمنحه أمل بالنجاة من هذه اللجة سوى الحب...». ورغم معالجة الكاتب لهذا الأمر جسديا أو جنسيا على وجه الخصوص، فأنه يخلق من الحوارات الثنائية بين الطرفين، عنصراً تبريرياً مقنعاً بعض الشيء، غير انه غير كاف لايفاء حالة النزوع الانساني السادر بضجيجه لتفسير وكشف الإرث الأثيري للرغبة بخروجه عن المألوف والحبكة الروائية ذاتها الى غير المتوقع، وهو ما فعله شاوي على نحو خالص من غير اعتماد الحوارات الضمنية بين البطل والبطلة. فمهما بلغت الحوارات من الق تبقى في مصاف شظفها عن جوهر الحالة التي نحن بصددها. وهذه الملاحظة يمكن اسقاطها على كامل اجزاء الرواية التي يكثر الكاتب فيها من حواراته، واضفاءه جو التثاقف على النص، للحد الذي جعل من حواء الزاهد قارئة ومطلعة في الوقت الذي كان بإمكانه جعلها من بيئة أخرى توخيا لتنوع الشخصيات، هذا مع نصوص تقريرية غير مفيدة كما في فصل (يقظة حواء).
في فصل (ليل بهيم) وهو الفصل الأخير من قصة الزاهد والمحروم، يعود بنا الكاتب الى ترجمة حلمه بالانفجار حينما استغرقته غفوة في الحافلة، انما هذه المرة واقعا تشهده حواء الزاهد وهي تبحث عن ابنها وآدم المحروم، بعد أن اخذ صغيرها بجولة قريبة. فيصف المشهد المرعب بعينيها «فلم تشهد في حياتها مشهداً حياً ومباشراً للخراب الإنساني، وانفلات العنف الوحشي مثل هذا المشهد». فالمشهد هو عبارة عن موجز خليط من خلاصة بقايا شعب ووطن، مصحوباً بقلق البحث العميق عن المحبين بين مشاهد الخراب وبقايا الأشلاء المتناثرة الذي أحدثه التفجير. نلاحظ هنا ان شاوي اعتمد بصياغته على اوليات سبقته، وهو مشهد مماثل قبل قليل ولنفس الشخوص، يجمعهما عودة ابنها وآدم المحروم سالمين معافين، مع اختلاف واحد هو مشاهدة حواء الزاهد لآثار الانفجار، الذي يعد بمثابة التفاعل الدرامي الحاد للقصة والتي ستستمر بدراميتها الى النهاية. وكأن شاوي اراد ان يقول وقتها ان قلق حواء الزاهد في محله وانه سيحصل بالتأكيد، فلا مناص من حدوث الفاجعة. والفاجعة هنا بشقيها العام والشخصي للحد الذي يجعل حتى من شاهد الانفجار أن يستغرب بأنه حصل حقا!. من جانب آخر يتعامل الكاتب مع النص ليس بحدود المنطق حسب إنما يتعداه الى ما بعده فهو «... يسقط مقومات التعاطف مع النص، ويبعد عوامل التحيز ضده فلا حب أو كراهية له..» (يمنى العيد/تقنيات السرد الروائي). وهذا ما يجعل قارئ النص وفاحصه يستشعراه من زواياه المختلفة من حيث المتوقع وغير المتوقع «... أو ما يمكن أن يتوخاه اللعب الفني من تأثير على القارئ ليس دائما نبيلاً... » المصدر نفسه. فلا اخفي جمالية المعالجة وحرفية الكاتب في السرد نحو حبكة تضم الاحتمالات، بل تنفتح عليها، وتجعلها في وارد تعضيد الفكرة التي من أجلها كتب الكاتب روايته. فالنهاية هنا معقودة بتصميم لاشك فيه هو اغلاق منافذ الضوء جميعها، مع الإبقاء على بصيص غير مرئي، وتنتهي بمقتل ابرز الأبطال الذين قيّض لهم الارهاب والجريمة المنظمة سبباً حاسماً لمقتلهم، فيما تزداد ارادة حواء الزاهد على وفق قاعدة هندسية متقنة باضطراد مع قلقها فتعاهد نفسها على الانتقام لآدم المحروم من إخوة زوجها الذين ذبحوه في فجر كئيب في بيته الجديد، لسبب واحد انهم شاهدوه يخرج من بيت الزاهد. مع بقاء مصير طفل الزاهد مجهولاً، فهو مهدد بالاختطاف من قبل اخوة ابيه. وبذلك تكون حواء الزاهد الخاسرة الكبرى بفقدانها ابيها وحبيبها وزوجها، وربما طفلها لاحقا. واذا ما اضفنا شظف عيشها كرؤية مستقبلية، وما ستؤول له حياتها كامرأة وحيدة، وقتها سننفتح على احتمالات كثيرة جميعها مشمولة بظلامية مقرفة بل قاتلة.
في مسار عقد نهاية لقصته الأخرى، (آدم اللبناني وحواء المؤمن)، المتداخلة ضمنيا مع السياق العام للقصة الأولى، يبدأ الكاتب ترتيبات مهمة اولها وقوع البطلة على حقيقة حملها بجنين مسخ، تكون الراهبتين المتخيلتين سببا لمعرفتها بذلك، وهي بحد ذاتها إحالة جريئة بحيث يدخل الكاتب النظام المتخيل حقل الواقعي وهو ما فعله خلال هذه السيرة عدة مرات. لكن هدفه هذه المرة اشد صرامة وقوة. يحدث هذا بعد دخول (قابيل) صديق زوجها كنصر اساسي في الحكاية، يتمكن من مضاجعتها، ويصبحان هي وزوجها معتمدان عليه ماديا، فهو وزوجها يقومان بتجارة خفية للمخدرات. فيما تبقى هى اسيرة ظنونها وتشتتها ومنسحبة لعالمها المتخيل الذي سيشتد بعد حادثة السير الذي يؤدي بحياة آدم اللبناني وقابيل الذي تسبب به نتيجة تعاطيه جرعة من الهيروين، فيما تكون هي في المستشفى وتكون الراهبتان المتخيلتان اول زائريها، يخبرانها بما حصل، وفقدانها حملها نتيجة الحادث. لكن المتعلق الأهم هو فقدانها بصرها الذي لم يقع الأطباء على سبب له، فيكون في خانة التكهنات الذي تقول حواء المؤمن عنه «..عقاباً على ما فعلته بزوجها الأول آدم التائه أساساً...» و «...ان هذه الحكمة الربانية رسالة لها...»، هذا مع جملة مراجعات مرفقة تشعرها باللاجدوى من الحياة، و«...انها الآن بدأت السير في وادي الظلمات». وفي جو ظلمتها تبدأ (المؤمن) رحلتها بكشوفات حياتية، لأناس آخرين، بعد نقلها الى بيتها مع رعاية خاصة. لا اعرف جدوى ادخال تفاصيل حياة مرافقتها العراقية (شيرين) الذي يتم تخصيصها لمساعدتها من قبل البلدية. وجارتها (ايفا أومسك) التي افرد لها الكاتب فصلا بعنوان (اعترافات ايفا أومسك ) التي تؤدي بها الأقدار ان تصبح عاهرة، وتقوم بالاعتراف بخطاياها أمام الراهبتين المتخيلتين، فلا بد من الإشارة الى الإقحام الذي تسبب في تشتيت الحبكة الروائية في هذه الفصول، بسبب دخول الراهبتان حياة من حول (حواء المؤمن). ذلك ان (الراهبتين) هما ثيمة روائية خاصة ومختصة على بطلي قصة (حواء المؤمن و وزوجها السابق آدم التائه)، وان شاوي بإضفاءه صفة التعميم قد احدث خللا بنظام الشخصية المركبة لبطليه.
وأيا يكون الأمر فأن الثيمة تجنح الى قصص مضافة لا ارى فيها جدوى غير حكايات جديدة مرفقة، فلم اكن متمنيا على شاوي أن يفسد بعض الشيء ألق التواصل مع نهاية قصة المؤمن التي احسن مسك خيوطها وأعاد نسيج ما تقطع منها لينهيها نهاية اقول عنها مقتدرة وذات لمسات متخيلة كانت جديرة ان تضعه في خانة الكتاب المتمكنين في هذا الفن. بيد انه في معرض معالجته الواقعية لم يرق الى المستوى المتخيل، فهنا العنصر المتخيل هو الذي منح رواية شاوي نجاحها، انما هو بدخوله لشرح حالة المؤمن من حيث ميلوها الجنسية فأنه يقرب من معاينة الأمر من زاوية طبية نفسية/بيولوجية، وهذا اشبه بتوريط لاضروة له «...المشكلة في طبيعة الجسد، أنا شخصيا، في أي مكان او زمان، إذا مسني رجل في موضع محدد من جسدي فأني أشتعل، وتتأجج شهوتي، هل تعتقدين أني كنت موافقة على علاقتي بجارنا اللبناني؟»ص370، وفي مكان آخر يقول على لسان ايفا اومسك على سبيل التعميم «...أنت تعرفين بنفسك كأمرأة، نحن نفعل أبشع الأشياء وأحطها، وأكثر إبتذالا، نفعلها بوعي كامل، لكننا لا نريد أن يعرف عنها أحد...»ص387. يقولها وكأن الأمر في خانة المعالجة المنتهية من حيث النتيجة، في الوقت الذي يبقى النص مستمرا تحت واقعة الحدث ذاته، فيكون الأمر ضمن سياق التجني حسب، يتبعه نص طويل (ص392 على لسان المؤمن في سياق المراجعة الذاتية «...حين نلتفت الى الوراء نرى دائرة الضوء من بعيد، نرى الدرب من بعيد، لكننا في أكثر الأحيان نكون قد تعبنا، بل انهكننا التعب، بل ونكون قد انهكنا أجسادنا بملذات الطريق العابرة، بحيث نريد العودة لكننا لا نستطيع، فنظل في وادي الظلمات نتعثر بأخطائنا...». فلا اعتقد ان هذه التوصلات، جميعها، هي ثيمة روائية فهي تقرب من الخاطرة منها الى المعالجة، اضافة الى سد الطريق امام القارى من حيث تأمله، والتفكير بالنص، ومن ثم متعة الإستنتاج. «فالقراءة بمفهومها النقدي فاعلية منتجة تمارس فعل التحويل للثقافة وتترك اثرها المحدد لها » يمنى العيد/تقنيات السرد الروائي. وايا يكون الأمر فأن (المؤمن) تأتينا على نحو صورة نفسية غير مستقرة تكمن شطحات تخليصها من براثنها في امتثالها لمتطلبات جسدها، ثم قنوطها الذي سبق عزوفها عن الحياة بعد الحادث. هذه الارتدادات النفسية الملازمة للنفس البشرية هي مشروع شاوي في خوضه متاهته بهذه الجرأة، بفتح النص على جبهات متعددة، منها ما ينال عنها شهادة موفقة، وبعضه الآخر مازال تحت المجهر الافتراضي للنقد وليس للانطباع. ففي هذه النهاية لقصة (حواء المؤمن) لابد من معاينة فكرة التأويل التي اصبحت اضطرارية بسبب ما آل له النص المتخيل بالنسبة لثلاثة ابطال، (حواء المؤمن وزوجها السابق آدم التائه)، وزوجها المتوفى في حادثة السير (آدم اللبناني). والمهم في هذا السياق هو فكرة تأويل الواقع، ولكن من زاوية شعورية خالصة، اراد لها الكاتب شكل العطاء داخل لعبة التأويل، وداخل مخبر التأويل ذاته..
تأويل النص وما يهمنا اكثر هنا، هو السياق المتخيل، بالمعنى الرمزي والأخلاقي، اضافة الى التماهي الذاتي للشخصية التي دأب الكاتب الى احالتها الى الجو الافتراضي. وما تمخض عنها كذلك افتراضيا/متخيلاً، لخدمة واقعية النص والنشاط السردي اجمالاً. فتكون شخصية (حواء المؤمن ) محور السكينة التي يفعّل الكاتب جانبها (المؤمن) بزيارتها للكنيسة، بصحبة المومس ايفا، تسبقها حوارات ايمانية متعاطفة، واشعالها شمعة للعذراء التي على ما يبدو تستجيب لآخر دعاء لها، فترى الضياء وتشفى من عماها، «حصلت معجزة السيدة العذراء»، فيما تكون الراهبتان آخر من تراهم من (البشر) وهي تطل من شباك شقتها، قبل مغادرتها العالم. وبذلك يكون التأويل عودة مغرية للإيمان، ويكون الموت الفرصة الذهبية للإنتصار على الآلام. فتقرأ (حواء المؤمن ) (نشيد المتاهه) لزوجها آدم اللبناني باجزائه الأربعة، التي لا علاقة لها بنسيج الرواية، فهي تداعيات قديمة للزوج الراحل، تنتهي بـ (الصمت) الذي يخلص اليه آدم اللبناني كاستنتاج نهائي لكسور الإنسان وخيباته، والسقوط المدوي لتجاربه الأيدلوجية، وما ينتج عنها فيما بعد من خراب شكلي انعكاسي غير منضبط السلوك ، تفهمها حواء (المؤمن) على نحو من عدم الجدوى فيما تبقي على اشاراته المبهمة عن الايمان، وهو ما يعنيها من ختام سيرته.
وبنفس السياق يستمر الكاتب اشباع المتخيل في رواية (آدم التائه)، ليوصله افتراضيا بواقعية الحدث من خلال علاقته مع نفس الراهبة الشابة التي دخلت حياة (حواء المؤمن ) حتى نهايتها، بجو مثير يعكس الانشطار الرمزي للإنسان، بين رغباته المتخيلة وواقعيته الأليمة، وعليه تنطوي جملة من التفسيرات التي تذهب بمجملها الى واقع الفقدان الكبير الذي يبقى الرمز فيه سيدا وجوديا أثيريا. فيوظف الكاتب فراغ بطله (آدم التائه) كفعل مادي للوصول الى الوحدة المفزعة ذلك من خلال سعيه للالتحاق بواقعه المتخيل فيقف على الهباء التام رغم ما بحوزته من تذاكر سفر موقعة ومختومة بتاريخ وعنوان صاحبة المكتب السياحي الواقعي/الافتراضي. تلك الوحدة التي يلقي فيها الكاتب بطله في قطار لا راكب فيه ولا قائد له. فيدخله «النفق المظلم»، بصفته الشاهد والضحية. وبهذا الفعل نستطيع ان نشهد لشاوي قدرته ومهارته في دمج الازمان والعوالم من جانب، والسرد التاريخي من جانب آخر.
في هذا المضمار يسعنا ان نقول أن توظيف العلاقة معرفيا بين ظاهرية نص الكاتب وما يرمي اليه باعتباره اساس الكتابة الواقعية والمتخيلة، يعتمد على مخيال متغير الايقاع وموصول بذات الوقت، وبقدر نجاح القارئ بالوقوف على المعنى، بما فيه تأويله، يتوقف النجاح الكلي للنص. وبذلك نكون قد وقفنا على الروابط التي من شأنها اعادة تشكيل النص حتى غايته ونهايته من حيث القصد والتأويل. بمعنى انتاج المعنى المراد. وهذا ما تأكد لنا من خلال ادارة شاوي لنصه وربطه لبناته المعقدة. اضافة الى تعضيد العلاقة بين عالم النص وعالم القارئ التي هي مهمة الأديب بتجريد الوثيقة من صفة الصورة المحضة، وهنا بامكانه الحاقها بالمتخيل، ولكن لا يمكنه تخطي المعرفية في ذلك. فتوجب عليه اعادة التصوير الزمني بمعنى الفنتازيا التأملية. هنا نشهد للشاوي هذه الرؤية التخيلية باستحداث عوالمه، وبنفس الوقت نشهد ضعفه في بعض منها، باستحداث عالم القارئ التاريخي والتأملي. وهذا ما احدث نوعا من الخلل بين النص والتأويل الذي يحمله جسد النص.
متعلقات النص 1 اما متعلقات النص الظاهرية فهي خلاصة لبحث الكاتب، نشير هنا الى مبالغته بالأوصاف الجنسية ونحوها من المداعبات والابتكارات، بما في ذلك تلك التي تقترب من الاغتصاب، بل الاغتصاب الفعلي أحيانا، والعري الفاضح. ففي الوقت الذي لم تضف للسرد القصصي شيئا هاما، غير انها لا تنتقص منه. وبهذا المعنى يكون الشاوي قد لخص انفعالات اراد ان لها ان تكون خادمة، لكنها اتت متواضعة. ففي هذه الاحالات التي تستوجب نوعا من الدراسة المجتمعية والنفسية ان تخطاها الكاتب، فلا بد له ان يستشعرها خيالا، لا بد ان يعود به الى عالم القارئ التخيلي كما اسلفنا. فلا نعتقد انها احدثت الصدمة، وهذا مؤسف بالطبع، حيث ان المبالغة في الشعور لابد ان تجد اثرها في ردة الفعل المتوقعة. هنا؛ لقاء افقان هما افق الكاتب الوجودي، بمعنى المكان، والتخيلي، وأفق القارئ المسقبلي. فلم تصلنا الا على شكل آهات وايلاج أما عمقها التأثيري فقد بقي مجهولا. عدا ان يذهب الأمر بالسرد الى مشارف الرؤية الفنية غير الضرورية، «..لكنه تمكن من الوصول الى منطقتها الملتهبة... احس انها رطبة بل مبتلة... فأدخل اصبعه فيها، فصرخت بشهوة..»، ص294 وما يسبقها وما يتلوها من توصيفات جنسية كثيرة وربما كثيرة جدا.
هنا لابد من الاشارة الى رأي المفكر الفرنسي ريكور عن الخطاب كونه «بنية منقسمة الى وظيفتين هما وظيفة الهوية ووظيفة الاسناد». وعليه ينطوي النظام السردي على ميزاته الخاصة التي تحافظ على بنية القول وقوة التأثير الخارجي للكلام. هنا يحضر السرد بوصفه الوصفة السحرية التي ترفد الاحالة بقوة التأثير. من هنا كنت ابحث في جهد الشاوي عن تلك العناصر التي تؤدي هذا الغرض، غير انه للأسف استبدلها بعقبات وضعها لنفسه على لسان البغدادي صاحب الرواية بنقده لنصه، بمعنى ان الافادة من معلوماتية النظرية يجب ان نجد تطبيقاتها النصية السردية من دون ايحاء او اشارة او تأويل مسبق. فالشخصية تخلق نظامها الروائي ذاتيا وتدريجيا، لذلك تأتي الاعمال الكبرى ذات نسق قوي ومفعم بالتأثير، للحد الذي يشحذ مخيلة القارئ بالف سؤال!. وهذا خلاف ما اوصلنا اليه سرد الشاوي بطيه اللحظات الماتعة وتحويلها الى تبرير مفتعل تفاديا لتساؤلات قارئه، الذي ستزداد شكوكه بجدوى الفكرة، أو قراءة نقدية يكون الكاتب قد استعد لها مسبقا بإجابة غير اكاديمية،
مسؤولية الراوي 2 الرواي هو عنصر أساس في رواية اي كاتب. فهو المراقب، والرائي، والفاعل احيانا. وبهذه العناصر الثلاثة تكتمل مهمته من أجل ازدهار النص، بمعنى اكماله و اشغاله الفسح الناقصة وأهمها غير المرئية، والميول للوصف والانشاء والبلاغة وجميعها عناصر مهمة يؤكد الكاتب من خلالها قدراته اللغوية وحجم معرفته التي تأتي ضمنية انسيابية وممتعة، وخالصة الإبهار. وبخصوص جهد شاوي من هذا الجانب، نرى راويه قلقا مستفزا فهو لا يمنح للقارئ فسحة التأمل بالحدث مما يضطرنا هنا الى اعادة (فكرة التقديم) مرة أخرى الى جانب سعيه غير الملزم للتفكيك واعادة الربط. مع ملاحظة اخطاء الراوي التقنية الصرفة، كأن (..يضع رأسه متنصتا لأية حركة تصدر من الشقة المقابلة التي تبعد بابها أقل من مسافة متر)ص85 او (..سمع صوت أكياس توضع على الأرض، وجلوس شخص ما على السرير...) فيما هو (آدم المحروم) في غرفة مجاورة ص 43، وغيرها الكثير التي لا أعتقد انها مهمة بقدر ما يجدر مراقبتها. لكن الأمر يتعدى ذلك بمعاينتنا أخطاء ذات مسؤولية كأن يقول «.. اللاجئين الذين صاروا عالة على المجتمع الألماني، بل صاروا مصدرا لانتشار المخدرات والدعارة والتهريب والجريمة المنظمة». هذا الكلام الذي يحمله الرواي بصفة اساسية ص 163 بإشارة الى مدير الماني يساعد (آدم التائه) بالحصول على جواز سفر، لا نجد مصدريته فيبق مجرد اتهام لا اهمية ولا ضرورة له. إن الإكثار من ذلك يضعف صدق رواية الراوي، بل ربما يخلق نوعا من عدم الثقة بينه وبين القارئ. فيما يكثر شاوي من الوصف والتفاصيل قياسا للحدث نفسه من استرسالات كثيرة واعادات وتكرار للكلمات يدل على عدم مراجعة النص. بالطبع انني هنا بوارد الملاحظة التي لا تقل اهمية عن النقد. فالراوي هو شخصية الكاتب الأولى، وعدم مراقبتها أو إهمالها يفضي الى عدد من نقاط الضعف التي ستحسب بالنهاية على الكاتب، فهو المسؤول عن ترهل النص، وخلق نظامه الداخلي المنسجم. الذي نجح فيه شاوي لحد بعيد،
ادارة النص 3 تتألف ادارة النص من عناصر اساسية على اي كاتب الانتباه لها، وهي بمجملها تقع ضمن النجاح المادي/الملموس كما في اي عمل او جهد. وبما أن اي عمل ينطوي على عناصره الخاصة، الفكرة، الوحدة البنائية، والسرد، فأنه يمتد الى اكثر من ذلك فالفكرة هي قابلة للاستزادة بل من الممكن دعمها بأفكار اخرى، والبناء يحتاج الى ادخال عناصر جمالية وفنية، والسرد يجب ان يأخذ حقه من ملكات اللغة البلاغية. الى جانب ذلك كله فأن اي نص يمتلك علاقته الخاصة والعامة. استطاع شاوي ان يدير نصه بحكمة وذكاء، فقبل ذهاب النص الى المكان الذي لايمكن الكاتب من السيطرة عليه، نجده يتوقف كمن يستنجد بمعادلات ضامنة واكيدة، فنرى وقفاته اجبارية وربما مفاجئة. ومن جانب اللغة فهي ليست واسطة بين الاشياء والادراك فحسب انما لها نظامها المعرفي الخاص، وحتى الاحالة كجانب معرفي خالص بمعنى المدلول الخارجي، يجب ان تكون متقدة وهي ليست حسب نظام الحبكة التي تجيز التصرف للكاتب. وبهذا المستوى من البيان نرى ميول شاوي بادارة نصه حكائيا/ديولوجيا مطولا احيانا، بل فاقداً وحدات علاقته بالقارئ، بتخلف ملحظوظ للراوي عن فعل الحوار. وعموما نميل الى جودة الادراة لدى شاوي، ذلك لانطواء معظم الفصول على ادارة ناجحة. هو ما اوصلنا له الكاتب من خلال العلاقة بين الوصف العادي والجمالي وتكافؤية النص، الوصف والسرد والحوار، والموازنة بين الواقعة والخيال.
خاتمة الروائي برهان شاوي، هو صوت مميز ذا نفس طويل، لا يمتاز نصه بالصمت انما العكس، فهو مفعم بالحركة وجودة الاداء، يخضع عمله لمجهر كبير يعاين من خلاله التفاصيل، اتمنى لو اتسعت عينه اكثر الى عيون القراء، فالأهم هنا هو رؤيتها من زوايا مجهرية متعددة، وتتسع صفحاته الى ما لم تقع عليه عينه في صفحاتهم. وهذا بالضبط ما بدأت به الكتابة التي وسمتها بالإرهاق وهو متعة الروي الخالصة المشوبة بالتفاصيل التي تقرب القارئ من النص، وتمنحه صفة المشاركة. وبمعنى آخر هو كاتب نصنفه كمحترف ومبدع، واذ تناولنا جوانب سلبية او معتمة في أدبه من خلال روايتين، فأن في ذهننا الرواية التي سيكتبها شاوي مستقبلا، او يكون قد كتبها فعلاً، فنكون بذلك قد حققنا مشروعاً لكاتب يخرج نصه الى العالمية باقتدار وامتياز.
|