في تجربة عبد الجبار الرفاعي: الباحث عن الإنسان في غابة مظلمة |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات منذ أن بدأ الكتابة ونشر دراساته الأولى، حاول الدكتور عبد الجبار الرفاعي الخروج على السائد في الطروحات التي يقدمها شيوخ المدارس الدينية في العراق وإيران، فقد دعا ابتداءً للتحرر من هيمنة المؤسسة الدينية التي لا تترك مجالاً للتفكير أو البحث بعيداً عن سلطة النص، لهذا أعلن عن مطالبته بـ»إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين»، التي يعني من خلالها بناء فهم آخر للدين، وتأويلا مختلفا للنصوص الدينية، عبر قراءة شاملة لهذه النصوص، تستلهم نظامها الرمزي، وما تختزنه من معانٍ ومداليل، لا تبوح بها إلا من خلال عبور المنظومة المغلقة للفهم التقليدي لها، وتوظيف منهجيات ومفاهيم وأدوات ومعطيات المعرفة البشرية والعلوم الإنسانية الراهنة، لتفسيرها في ضوء متطلبات العصر ورهاناته. مبيناً أن هذا تفسير لا يختزن الدين في المنظومة الفقهية فقط، ولا يقوم بترحيله من حقله المعنوي القيمي الأخلاقي إلى حقل آخر، يتغلب فيه القانون على الروح، ويصبح الدين آيديولوجية سياسية صراعية، آيديولوجيا تهدر طاقاته الرمزية والجمالية والروحية والمعنوية. ومن ثمَّ يسعى هذا التفسير إلى اكتشاف وظيفة الدين الأصلية في إنتاج معنى لحياة الإنسان. وهي وظيفة عجزت معظم الجماعات الإسلامية اليوم عن إدراكها، وأغرقت أنفسها والمجتمعات في نزاعات ومعارك يتجلى فيها كل شيء، سوى الأخلاق وقيم التراحم والمحبة في الدين، على حدِّ قوله.
وبالتالي يعني الرفاعي بدعوته هذه الخلاص والتحرر من «نسيان الإنسان» في أدبيات الجماعات الإسلامية، والاعتراف ببشريته ومكانته في الأرض، وتصحيح نمط علاقته بربه، وتحويلها من صراع مسكون بالخوف والرعب والقلق، إلى علاقة تتكلم لغة المحبة، وتبتهج بالوصال مع معشوق جميل. وأكَّد الرفاعي أن مهمته خلال العقود الماضية تتمحور حول التدليل على أن الدين ظل على الدوام أحد أهم منابع إلهام قيم المحبة والتراحم والتعاطف والشفقة واحترام كرامة الكائن البشري. «مع أني أعترف بما تنوء به مجتمعاتنا من خطابات عاصفة، ومفاهيم مشوهة، تثير التعصبات والكراهيات والدعوة لقتل الآخر والنزاعات المسلحة، وما يستتبعها من انقسامات وحروب مزمنة، تغذيها على الدوام الجماعات الدينية السلفية. وإن هناك نماذج متنوعة لذلك، مما تبثه الفضائيات والمواقع والصحف الإلكترونية والمنابر، وأدبيات السلفية الجهادية وغيرها من تلك الجماعات، وعدوانها الواسع على السلم الأهلي، ودعواتها التحريضية لتفتيت مجتمعاتنا». دعوة الرفاعي هذه والآراء التي رافقتها أدت إلى انقسام أساتذته وطلبته بين مؤيّد ومعارض، لكنه كان مصراً من خلال البحوث والدراسات التي قدمها في كتبه، وفي المجلة التي يترأس تحريرها «دراسات إسلامية معاصرة»، على أن الهدف الرئيس من عمله هو إنقاذ الإنسان أولاً، وإنقاذ الدين ثانياً، فلا يمكن أن نترك الدين ينهش في كيان الإنسان وينسيه أنه الأهم على هذه الأرض، وإنقاذ الدين من الجماعات السلفية التي تحاول تشويهه بتفسيراتها التي لا يمكن أن تكون خارجة من دين يدعو للرحمة والمغفرة. في دراسته التي نشرها ضمن موسوعة (الموسم) التي احتفت في مجلدها الجديد بتجربة الدكتور عبد الجبار الرفاعي، والتي جاءت بتحرير محمد سعيد الطريحي وأقلام عدد من أساتذة وطلبة ومتابعي الرفاعي على صفحات تجاوزت الـ650 صفحة، سرد الرفاعي تفاصيل حياته والانتقالات التي مرَّ بها، ودخوله للعمل السياسي بعد ارتباطه بحزب الدعوة الإسلامية، وخروجه منه فيما بعد، إذ يقول: «عشت طفولتي وفتوتي في القرية، ثم تنقلت منذ شبابي في مدن وبلدان عديدة، انخرطت في التعليم الحديث، الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعة، وانتقلت إلى الحوزة العلمية في النجف ثم قم. انتميت لحزب الدعوة الإسلامية في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، في ظروف هي الأشرس والأعنف في ملاحقة البعث الصدامي للدعاة، ونهضت بمسؤولية الحزب في مدينة الرفاعي وقتئذ. وابتعدت عن التنظيم في منتصف الثمانينات «1985»، بعد أن بدأت أدلجة الدين والتراث تضمحل في وعيي، من دون الدخول في صراع وانشقاق، وبالتدريج نأيت عن العمل السياسي، وانصرفت للمشاغل الفكرية. أمضيت 35 عاماً في الحوزة العلمية، تتلمذت على يد علماء وفقهاء معروفين، وتتلمَّذ على يدي المئات من طلاب الحوزة العلمية، وبمؤازرة ذلك واصلت تعليمي الأكاديمي، حتى ناقشت الدكتوراة في الفلسفة الإسلامية سنة 2005». ويتحدث عن المشكلة الأهم التي تواجه عالمنا، وهي أن من يتشبثون بالماضي لم يجوبوا أنفاق التراث ومسالكه الوعرة. رؤيتهم صاغتها أدبيات تبجيلية رومانسية، لا تقول معنى، بقدر ما تنشد شعراً يطرب له الحالمون بعالم متخيل سعيد، وجيل قرآني فريد. لكن الرفاعي يرى أن خلاصه من سطوة التراث ليس بمعنى الخروج على الدين، أو الخروج من الدين، أو التحلل من التدين، والتبجح الزائف بما يجرح الضمير الديني للناس، مثلما يفعل بعض المتنطعين المراهقين، قائلاً: «تعلمت من التراث والواقع أن الدين أبدي في الحياة البشرية. الإنسان كائن متدين، وان اختلفت تجليات التدين، وتباينت التعبيرات الدينية في حياته، تبعاً للزمان والمكان والثقافة، وتنوع البشر واختلافهم. الحياة لا تطاق من دون خبرات وتجارب دينية، ذلك ان نزعة التدين كما أعيشها تمثل لدي ظمأً أنطولوجياً لا يًروى، إلا من خلال التواصل مع المطلق». وعلى الرغم من كون الرفاعي درس سنوات طويلة في الحوزة العلمية في النجف وقم، إلا أنه كان مغايراً ومختلفاً عن أقرانه، من خلال طروحاته تلك، وهو ما جعل البعض منهم يسألونه باستمرار: كيف تسنى لك المحافظة على تدينك، وتنمية إيمانك على الدوام، مع أنك تطرح أسئلة لاهوتية مشاكسة؟ الرفاعي بدونه يبرر هذه الثنائية حينما يوضح الفرق بين مسارين مهمين: مسار القلب ومسار العقل، فـ»مسار القلب لدي لا يتطابق مع مسار العقل، أي إن واجهته بموازاة العقل، إن كان للعقل وجهة أو مسار. قلق عقلي واستفهاماته المتواصلة لم يزعزع إيماني، أو يطيح بتديني، أو يهزم أخلاقي، ويبدد نزعتي الإنسانية. إيماني حقيقة أنطولوجية لا أستطيع الإطاحة بها، حتى لو قررت التخلي عنها. إنها نحو من الإشراق الروحي الذي لا يمكنني توصيفه بوضوح، لأنه مما يوجد، لا ما يُدرك، وكما نصطلح في المنطق هو من نوع الحضور الوجودي الذي يتوطن القلب، وليس نوعاً من العلم والتصور والفهم المرتسم في الذهن. إنه نمط من المحبة أو العشق الذي يغرق فيه قلبي. هل يستطيع العاشق توصيف حالته بدقة لنا؟ وهل بوسعه التخلص من الوجد والهيام، لو قدَّم له عقله آلاف الحجج على خطأ عشقه وعيوب معشوقه؟». ومن خلال هذا الطرح يفصل الرفاعي بين قلبه وعاطفته وحبه للحياة والإنسان، وارتباطه مع ربه وتدريسه لعلوم الدين والتزامه الشديد، لكنه التزام خاص بفلسفته هو. الكتاب كان سياحة مهمة في حياة الرفاعي وتجاربه من خلال دراسات عدّة، شارك في كتابته أدباء وشيوخ ونقاد مختلفون، ففي مقدمة الكتاب يسرد جامعوه عن علاقتهم بالرفاعي وطرائقه في الحياة «في بداية التسعينيات من القرن الماضي، في الحوزة العلمية بمدينة قم وسط الصحراء الإيرانية المأهولة، بدأ شاب عراقي في منتصف الثلاثينات من عمره، يدافع عن أسئلته، ويحررها واحداً تلو الآخر،فينسج منها فضاءً جذاباً، سرعان ما انشدَّت إليه عقول وأفئدة فتية، زاحمتها أسئلة فتية، وأقلقت سكونها المدجَّن. لم يكن راعي الأسئلة فريداً في أسئلته، لكنه كان فريداً في رعايتها ربما، فتلوّن فضاؤه وتعدد وتكاثر. وكأثر طبيعي لأي نمو سليم، تفرعت أغصان لم تكن بالضرورة تكراراً للأصل، بل ربما اختلفت تماماً، وابتعدت نحو الطرف المقابل من ذلك الطيف. وبعد جيل كامل من الشغب على الموات، والاشتباك مع الركود، توزع هؤلاء المتسائلون على أصقاع الأرض من إيران والعراق، مروراً بأوروبا والولايات المتحدة وليس انتهاءً بأستراليا». هاني فحص، من جانبه، يكتب عن خصائص الرفاعي التي يرى أنها تأتي من تركيبها وتركبها على جدل فني بقلقه، ومن تعدد مصادرها الروحية والمعرفية المفتوحة على كل الجهات، كدحاً نحو هدية تحنطها الكينونة، وتحفظها السيرورة، وكان يمكن أن لا يظهر هذا التركيب أو التعدد، الذي يتغدى من الاختلاف، وينمو مطرداً على محبة وشراكة، لولا أن الرفاعي اتخذ مبكراً قراراً نهائياً وفدائياً، بالحرية، وفي الحوزة العلمية الدينية، القائمة على الحرية، والتي كلما حاصرتها السلطة لتستلحقها ازدادت عشقاً للحرية، فقيه حرّر العمامة من أعبائه، عندما تحرر من أعبائها، وأحالها مرموزها العلمي الحضاري والأخلاقي، إلى قلبه وعقله وذمته، حرّر وقته وعلائقه وحركته ومكتبته، من زمان الحوزة الراتب، ومكانها المشددة الحراسة فيه وحوله، من دون أن يخطئ في تعيين مسار الإصلاح المجدي، من الداخل. ويشير أحد طلبة الرفاعي، وهو الدكتور مشتاق الحلو، إلى أن مشروع الرفاعي امتاز بالخبرة التراثية، فلا ترى فيه الشطحات التي غالباً ما تسقط فيها سائر مشاريع الحداثة الدينية، نتيجة قلة خبرتها بالعلوم الدينية الكلاسيكية والتراث. احد وجوه أهمية مشروعه أنه تكلم وهو في قلب الحوزة، وطرح فهمه وتفسيره ومشروعه من داخلها، ولم يخرج منها أو يبتعد عنها أو يصطف مع مناهضيها ودعاة القضاء عليها وتقويضها. ومن وجهة نظر كمال الحيدري، إن الرفاعي سعى الى الكشف عن أوراق طالما عمل المتطرفون على طيِّها، وانخدع بطيها السطحيون، فجاء مشروعه ليردم حصوناً مفتعلة، وحواجز قد بنتها الأوهام، وخلَّفتها لنا قلة الاطلاع على الماضي وشدَّة الخوف منه، وعمَّق ذلك التباعد والانفصال انحسار الوعي فحاول جاهداً أن يوجد التوأمة والتكامل، وهذه هي أهم مهام الروَّاد المبدعين، الذين لم تحكمهم الانفعالات الكاذبة، ولم تدجنهم الرؤى الضيقة، فضلاً عن تمكنه، بأصالته وحداثته، بلياقته وانفتاحه، بصبره وتواضعه، بإنسانيته، أن يترجم لجيل كامل محنة المنفى الطويلة، إلى نتاج فكري وإثراء ثقافي، قد أوجدا حراكاً في الوسطين الديني والثقافي معاً، ليشكل بعدها محوراً جامعاً ومستقطباً للعقول الطرية والمواهب الفتية. شارك في الكتاب، إضافة للجنة التحرير والإعداد، عدد كبير من الكتاب، منهم: طه جابر العلواني، الأب يوسف توما الدومنيكي، حسن حنفي، عبد الله إبراهيم، أنطوان سيف، وجيه قانصو، علي حاكم صالح، حسن ناظم، أسامة الشحماني، صلاح الجابري، لطفية الدليمي، فوزي الهيتي، علي الديري، زكي الميلاد، علي المرهج، وغيرهم الكثير. عن "القدس العربي"
|