المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
07/02/2014 06:00 AM GMT
(لا أعلم إن كانت كتب الأدب والفن والموسيقى تزيد من بلاهتنا في الحياة لتعيقنا وتزيد من غربتنا) دنى غالي: منازل الوحشة ص 126
تغطي رواية دنى غالي ( منازل الوحشة. دار التنوير للطباعة والنشر، 2013، بيروت) الفترة الممتدة منذ سقوط النظام السابق عام 2003 وحتى نهاية عام 2008. ورواية غالي طموحة وغنية بثيمات متعددة : الحب، الجنس، الطلاق وتأثيراته على الأطفال، السايكولوجيا المعايير الأخلاقية الاجتماعية ، الحرب، السياسة، الاحتلال الاميركي للعراق، بالإضافة طبعا، للأحداث المأساوية التي شهدها المجتمع العراقي بعد سقوط النظام السابق، وهي رواية بقصص متعددة وليست قصة واحدة.
فئة متوسطة حضرية مثقفة
أفراد المنزل العراقي، الذي اختارته المؤلفة، وجعلتهم يواجهون هذه الفترة الاستثنائية العصيبة في تاريخ العراق، ليسوا من عامة العراقيين. المنزل تسكنه عائلة تنتمي للفئة المتوسطة الحضرية وأفراد العائلة كلهم جامعيون، وهم امتداد للأنتيليجسيا العراقية الوطنية التي بدأت تتشكل، بتأثير مباشر للثقافة الغربية، مع بداية تشكل الدولة العراقية الوطنية الحديثة، أثر انهيار الخلافة الإسلامية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. وبالإمكان تصنيف أفراد العائلة، ليس ضمن فئة المتعلمين فحسب وإنما ضمن فئة المثقفين، المهتمين بالأدب والفن والموسيقى والمسرح. وبحكم أعمارهم واهتماماتهم فأنهم لا يبتعدون عن مواصفات مثقفي الستينات أو حتى الخمسينات من القرن الماضي. وثقافتهم كما يبدو ذات أصول غربية، إذ كان في المنزل (بار) صغير، والأم ما تزال تلوذ بالويسكي عندما تحاصرها الهموم. وبينما لا نجدهم يستمعون لأي أغنية أو موسيقى عراقية شعبية، فأن ربة المنزل (تفز من مكانها) تأثرا عندما تسمع مقطع من (موسيقى شوبرت) التي (( تمعن في الإيلام وتجعل الدموع تنحدر ص171))، ودائما ما تصدح في البيت ((ضربات بيانو لشوبان ص120)) و ((السيمفونية التاسعة لبيتهوفن ص53)) و كونسيرتو باخ الذي ((يغسل المجون والفحش في الخارج ص 169))، ويجد (البيانو) ((هذا الكائن الصامت بحجمه الكبير ص 164 )) مكانا مميزا داخل منزل العائلة، وابنهما سلوان الذي يبلغ الثلاثين من عمره تعود منذ طفولته على ((الإنصات إلى الموسيقى بانتظار أريا "بابا غينو" و "ملكة الليل" ص 23)). وأحيانا يحلو لبعض أفراد العائلة أطلاق أسماء شخصيات من روايات ومسرحيات أجنبية على بعضهم، كشخصية سونيا من دوستوفيسكي وشخصية أوفيليا من شكسبير. وحتى القط الأليف في منزلهم أطلقوا عليه أسم (هاملت).(1) انثروبولوجيا يحمل أفراد المنزل قيما حضرية تتقاطع مع الأعراف والعادات والسنن العشائرية. تقول ربة المنزل / الراوية: (( لا أعرف شيئا عن العشائر ونظامها، تلك أمور بعيدة جدا عن حياتنا ص 43)). وعلى الصعيد السياسي فأنهم لا ينتمون لأي جهة سياسية، والعائلة لم (تخرج من جبة الحزب الشيوعي)، كما ترى الروائية عالية ممدوح (2) ولا من جبة أية جهة سياسية.
"الوضع مسخم" فعلا، لكن ما العمل ؟
هذه هي مواصفات العائلة العراقية (المثقفة) التي اختارتها مؤلفة (منازل الوحشة) لتواجه ( الخارج)، أي ظروف العراق التي بتنا نعرفها جميعا والتي تصفها الرواية كالتالي : (( الوجوه الملثمة التي يمكن ان تقفز إلى داخل البيت، والأمراء والولاة، والأحزاب الدينية التي قد ينتمي إليها الخاطفون، والمليشيات المسلحة، والعشائر ونظامها، وعمايم على رؤوس فارغة، و"حواسم"، وجماعات تتحارب وتغتصب وتفتي، والقتلة الملثمون (الذين يطلقون) أطلاقات لا يهدأ أزيزها .. أطلاقات متتالية مفاجئة تسمع في الخارج .. و(يطلقون) كلمات خشنة .. ( وتروى عنهم) قصص مرعبة (بما في ذلك)أخبار الذبح والترهيب والاختطافات و الطرق المقطعة والمناطق المسدودة والمفارز المتعاقبة ... والاختطافات.. والسرقات، والجنون، والاغتيالات.. والآثار المسروقة.. والبنيات العريقة التي هرمت.. والمسارح التي تم احتلالها.. والصالات السينما المغلقة.. والنسوة المسربلات بالسواد والمعممون الذين ظهروا في الجامعات... )). بالطبع، تصوير الواقع العراقي الذي سجلته الرواية ونقلناه حرفيا من صفحاتها، صحيح جدا ولا أحد ينكره. ونحن نتفق إن (( الوضع مسخم ص 152)) فعلا، كما تقول جدة سلوان. وبالتالي بإمكاننا أن نفهم ونتفهم، بل ونتعاطف مع ربة المنزل وهي تقول: (( ليس لنا من يسندنا. نحن عزل بالفعل ص 151.)) فاللحظة التاريخية التي يعيشها المجتمع العراقي الذي تنتمي إليه هذه العائلة الهادئة المسالمة الحضرية المثقفة، تتسم بتراجع القانون المدني وتفوق قانون الغاب حيث السيطرة للأقوى وسيطرة المليشيات، وسيادة السنن العشائرية، وهذه العائلة الوديعة الفردانية لا تملك أي واحدة من مصدات الدفاع هذه. فهي، إذن، عائلة (عزلاء) بالمعنى الحقيقي. هذا كله صحيح.
من هم الغرباء ؟
لكن الأسئلة الأكثر خطورة، ليس فيما يتعلق بهذه الرواية فحسب، وليس فيما يخص الرواية العراقية فقط، ولكن فيما يتعلق، ليس براهن الثقافة العراقية فحسب وإنما بمستقبلها، أيضا، ويتعلق بمفهوم وتعريف وبدور المثقف العراقي، خصوصا المثقف العضوي في هذه الظروف الجديدة المعقدة، هي الأسئلة الأتية: هل أن اللاعبين العراقيين الجدد الذين ظهروا على خشبة المسرح العراقي وتعاظمت أدوارهم بعد عام 2003، هم، سواء أحببناهم أو كرهناهم أو وقفنا إزائهم على الحياد، (غرباء) عن المجتمع العراقي وهبطوا من سطح المريخ، وعلينا طردهم إلى حيث هبطوا، أم هم أبنائه ظهروا الآن إلى المتن بعد أن ظلوا لسنين طويلة على الهامش ؟ وحتى إذا اتقفنا أنهم فعلا (غرباء)، فوفقا لأي مقاييس ومعايير ؟ وغرباء لمن ؟ وغرباء لماذا ؟ والأسئلة الأخرى هي: هل بالإمكان أختزال الأوضاع العراقية المستجدة بعد عام 2003 بالخطف والقتل العشوائي والمليشيات، فقط، وأهمال قضايا جوهرية وفي منتهى الخطورة، كمسائل الديمقراطية والحريات والتمثيل البرلماني والكوتا المخصصة للنساء وتقدم فئات وطبقات اجتماعية مهمشة إلى صدارة المشهد ؟ هل أن الأوضاع العراقية المستجدة بعد عام 2003 اكتملت وانتهت أم أنها ما تزال في بدايات المخاض، وما تزال كل الأحتمالات قائمة، بما في ذلك أن يتحول العراق إلى دولة مدنية ويتعافى و أن يتفتت ويصبح مقاطعات يحكمها أمراء حرب ؟ هل أن (الغرباء) هم اللاعبون الجدد، أم (الغرباء) هم أفراد المنزل، أو المثقفون العراقيون كما تصورهم الرواية ؟ لنتمعن جيدا في المقطع التالي من رواية (منازل الوحشة) : (( عندما اتصلت (الراوية) بصديقنا الدكتور حسام ... أكمل حديثه عن العشائر التي أخذت مكانها في الصدارة شيئا فشيئا حتى صارت تتدخل في عملهم وتقتص منهم. (...) بدا الدكتور حسام ( هو صديق العائلة و "مثقف" مثل أفرادها) متحمسا في حديثه. من الغريب أنه عاد إلى اهتماماته القديمة في جمع السجاد واللوحات الفنية.. يتحدث بأنفاس مخنوقة .. أغلق عيادته شأن الباقين وصار يقضي الوقت في متابعة الفن والغاليرهات عبر الإنترنيت .. قال إنه ينوي السفر ... ليرتخي و "يشم هوا" .. وأكمل " هل تصدقين، أدور بسيارتي في الشوارع مجازفا. بالأمس مررت بالوزيرية ثم إلى باب المعظم، ومن هناك إلى زيونة ومنها نحو ساحة الأندلس إلى شارع السعدون ... إني مشتاق إلى بغداد التنورات القصيرة وقصات الشعر والبدلات الصيفية وعودة الطالبات من الجامعات في الباص .. هل معقول ما يحدث ؟ لا أريد غير أن أتنسم صبحا نظيفا بريئا. (...) كنت (ربة المنزل/ الراوية) منصتة (لحديث حسام) بينما صوته يؤكد ما يعاني منه .. ما كنا عليه وما اختفى من حياتنا، ومن أين أتى هولاء الغرباء ؟ ص 56/57)). لا أظن أن المصادفة العفوية وحدها والاختيار العشوائي هما اللذان جعلا (الصبح النظيف البريء) يقترن بمناطق (الوزيرية وباب المعظم وزيونة وساحة الأندلس وشارع السعدون) وليس بمناطق الثورة والشعلة والفضل والصدرية والرحمانية والجعيفر، مثلا. ولو سألنا أي قارئ عن ذلك لأرجع السبب إلى (رقي) المناطق الأولى و (تخلف) الثانية. وبالطبع، فأن (الرقي) هنا يعني الجوانب الاجتماعية الحضارية السلوكية ذات الصبغة الأوربية، لكنه يعني قبل ذلك الجانب الطبقي الاجتماعي. هنا علينا ان نتوقف لمعرفة (ما كنا عليه) قبل التغيرات التي شهدها المجتمع العراقي بعد عام 2003، وأن نعرف (ما اختفى من حياتنا) بعد التغيرات. وفقا للرواية فأن ((ما اختفى من حياتنا)) هو ((بغداد التنورات القصيرة وقصات الشعر والبدلات الصيفية وعودة الطالبات من الجامعات في الباص ص 56)) )) و((الكتب التي قرأناها والأفلام التي شاهدناها والمسرحيات التي حضرناها ص92)) وكذلك((محيط الجامعة بكل انفتاحه ومغرياته والحرية ص 104 )) و (الموسيقى والعزف على البيانو أوائل السبعينات ص107 )) و ((الأيام الهادئة ص 60)). لقد ((كان زمنا جميلا رغم كل شيء ص 39)). من المؤكد أن (الزمن الجميل) الذي تعنيه الرواية ليس حقبة حكم صدام حسين، فالرواية تدين النظام السابق ورب العائلة كان قد فصل من وظيفته وقتذاك، وعندما سقط نظام صدام استبشرت العائلة خيرا. وبالتالي فأن الزمن الجميل الذي تعنيه الرواية لا يقترن بنظام سياسي معين، إنما هو مجمل النظام السياسي الاجتماعي الذي تشكل مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة واستمر حتى عام 2003. كيف يتسنى لعراقي محايد، حتى لا نقول عراقيا يساريا ديمقراطيا، أن يتجاوز تعبير (رغم كل شيء)، ويقول (لقد كان زمنا جميلا) ؟ ربما كان (زمنا جميلا) ل(المركز) ، للعاصمة بغداد ولنخب بعينها من سكانها (زيونة وباب المعظم والوزيرية وشارع السعدون وساحة الأندلس)، لكنه ليس كذلك ل(الأطراف)، للمدن والقرى النائية والأرياف ولا لضواحي بغداد المتعبة (الميزرة والعاصمة سابقا والثورة فيما بعد أو صرائف الشاكرية سابقا والشعلة فيما بعد أو حي الفضل وأبو دودو وأبو سيفين والجعيفر و صبابيغ الآل). ونحن لا نعني فترة حكم صدام حسين فحسب، وإنما نعني جميع الحقب التاريخية التي عاشها العراق منذ العقد الثاني من القرن الماضي. لكن، وعلى أي حال، لنتفق مع الراوية أن ذاك الماضي كان جميلا ومشرقا وبهيا رغم كل شيء. ولكنه (كان) ولم يعد كائنا. لقد اختفى ذاك ( الزمن الجميل)، وظهر بعد عام 2003 زمن آخر، هو الواقع الذي رأينا تفاصيله في السطور السابقة، بكل ما فيه من قسوة وعنف ولكن بكل ما فيه من تغيرات إيجابية لم تتوضح ولم تكتمل ملامحها بعد، وأصبح اللاعبون الرئيسيون فيه هم ( أحزاب دينية، رجال عشائر، فئات شعبية غير متعلمة أو قليلة التعليم، معممون، نسوة مسربلات بالسواد .. الخ). هولاء هم الذين تسميهم الرواية (الغرباء). وهولاء (غرباء) فعلا، لكنهم غرباء ليس لعموم العراقيين، هم غرباء بالنسبة لأوساط محددة داخل الفئة الاجتماعية الوسطى الحضرية المتنعمة (وريثة الأفندية)، وهم (غرباء) أكثر لفئة المثقفين، لكن ليس لعموم المثقفين العراقيين الذين هم، تاريخيا وتقليديا وبأكثريتهم الساحقة ينتمون لليسار، وإنما بالنسبة لفئة (المثقفين) العراقيين المتغربين طوعا داخل مجتمعهم ( Aliénés). النستلوجيا: مرض رجعي وليس عافية تقدمية
تزدحم مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنيت هذه الأيام، وأصحابها متعلمون وربما مثقفون تقدميون يساريون وبعضهم يؤمن بالديالكتيك الماركسي، تزدحم بصور تعود للسنوات والعقود الخوالي في العصر الملكي وفي العصور الجمهورية، خصوصا لنساء سافرات وحفلات وسفرات جامعية ومسابقات جمال، وبجوارها صور حديثة لبرلمانيات ورجال دين وأفراد عشائر ورجالات من الحكم الجديد، وتحت هذه الصور تعليقات تقول، بحزن وبحسرة وبأسف: أين كنا وأين أصبحنا ؟ ! تعليقات كهذه تكشف عن تنفج اجتماعي ( Snopisme) وهي ذات مغزى. إنها انعكاس لأمتعاض الفئة الوسطى الحضرية المثقفة التقليدية التي كانت تحتكر (المعرفة والثقافة والوجاهة) لنفسها، ولم تألف رؤية هولاء اللاعبين الجدد. وبعد ظهور هذه الفئات (المنسية) إلى الواجهة ، واحتلالهم لمواقع الصدارة وتواجدهم في كل مكان، بأزيائهم وهندامهم وأذواقهم ومنظوماتهم الأخلاقية وقاموسهم اللغوي وطرائق تصرفهم ولغة تخاطبهم، شعرت النخب الحضرية المثقفة التقليدية بأن هذه الفئات الجديدة بدأت تنافسها مواقعها وتقزم أحجامها وتحدد أدوارها، وتقصيها عن مواقعها التقليدية في صدارة المجتمع، فلم يملك المثقفون التقليديون ألا أن يرددوا مستغيثين، وكأنهم شاهدوا مخلوقات غريبة هبطت من المريخ: من أين جاء هولاء الغرباء ؟ وهذا ما نجده في رواية (منازل الوحشة).
هلع الفئة الاجتماعية الوسطى القديمة
تروي المثقفة، ربة المنزل أم سلوان، وهي الراوية في الوقت نفسه، أنها عادت لمنزلها من مشوار لها في الخارج فوجدت فيه أحدى بنات الجيران لم تكن قد شاهدتها من قبل، وهي شابة بسيطة من عامة الناس، أي من الفئات الشعبية التي تجهل (الأتيكيت والأصول) التي نشأت عليها ربة المنزل ذات المنشأ الارستقراطي، جاءت لتنظيف البيت. وحالما شاهدت المثقفة أم سلوان هذه البنت (الشعبية) بدت وكأن الأرض زلزلت تحت قدميها وأظلمت الدنيا في عينيها. لماذا ؟ لا لشيء سوى أن هذه الصبية كانت قد (( شمرت عن ساعديها ورفعت ثوبها وحشرته تحت سروالها من الجانبين ص 101)) كما تفعل عادة معظم النساء العراقيات من الفئات الشعبية، ولأن ((عينيها مغرقتان بالكحل والأحمر على شفتيها له منظر مقرف ص101)). تقول أم سلوان إنها (( استغربت الصورة واستشاطت غضبا ص101)) وراحت توبخ أمها الريفية، أي جدة سلوان بهستيريا حقيقة وهي تصرخ: ((من أين جئت بهذه الرخيصة ؟ ص 102)). وفي أحدى المرات تقول ربة المنزل، أم سلوان: (انطلقت صرخة امرأة من بيت الجوار وعلمت أن جارنا وجد ابنه الشاب الذي انتسب حديثا إلى الشرطة مقتولا أمام البيت.. دخلت البيت مسرعة وأوصدت الباب.. وقصدت المطبخ وأدرت المذياع وارتحت لعثوري على أغنية ص 46)) !! وهي تبرر تصرفها اللاأبالي لموت هذا الشرطي الشاب كالأتي ((إني فارغة من الحزن ص 46 )). لكن ربة المنزل نفسها تمتلأ حزنا لوفاة المثقف العراقي الروائي فؤاد التكرلي وتعتبر وفاته ((خسارة كبيرة)) وترى وفاة الشاعرة نازك الملائكة واحدة من ((خسائرنا ص91 )). ترى لو كان الشاب الشرطي القتيل (شخصية) عراقية مشهورة ، هل كانت ربة المنزل ستتصرف بنفس الطريقة ؟
بالطبع، البنت الشعبية (رخيصة) وفقا لدرجات التراتبية الاجتماعية و وفقا لمنظومة القيم والمفاهيم الاخلاقية الثقافية الاجتماعية الطبقية التي تحملها أم سلوان ربة المنزل. الفتاة (الرخيصة) هي العالم الخارجي، هي سواد الناس، هي غالبية المجتمع العراقي الذي تعيش فيه ربة هذا المنزل (المثقفة) لكنها لا (تراه) ولا (تعرفه). فربة المنزل كان والدها الارستقراطي قد (عزلها) عن المجتمع منذ أن كانت صبية، وزوجها أسعد ((انزوى هو الأخر ص11)) وأبنهما سلوان ((في كهف ص13)). وهكذا فهم يعيشون أيامهم ((تحت حالة أشبه بمنع تجوال اختياري ص13)) مقطوعين من المجتمع أو العالم الخارجي، وكأن أحدهم (روبنسن كروسو) عراقي جديد يواجه عزلته الأختيارية، لكنهم يفتقدون شجاعة كروسو وصبره وإصراره وقوة أرادته وتفاؤله. وعندما اقتحم العالم الخارجي ،فجأة، بثقافته وتصرفاته وسلوكه ، المنزل العائلي، لأول مرة، بدون موافقتها، شعرت ربة المنزل بالهلع. الفتاة (الرخيصة) هي واحدة من هولاء (الغرباء) الذين بدأوا يثيرون دهشة ربة المنزل المثقفة، بل وتقززها، بعد صعودهم المفاجئ على مسرح الحياة في هذه اللحظة المفصلية في تاريخ العراق، ويجعلونها تتساءل، من أين أتى هولاء الغرباء ؟ إنها نفس مسألة العلاقة المتعالية التي نجدها في رواية دانيال دفو (روبنسن كروسو)، بين (المركز) وبين (الأطراف)، أو بين الشمال والجنوب أو بين الغرب المتحضر والشرق المتخلف، ولكن هذه المرة بنسخة عالمثالثية أو شرق أوسطية أو عراقية. فشخصية الإنكليزي، روبنسن كروسو، نابت عنها في رواية (منازل الوحشة) شخصية المثقفة أم سلوان، وشخصية (فرايدي/ جمعة) نابت عنها شخصية الفتاة الشعبية. شخصية أم سلون هي مثال للنخب المثقفة الشرقية أو العالمثالثية التي تشعر بتفوق إزاء مواطنيها وتزدري ثقافتهم المحلية، وتشعر بدونية إزاء حضارة الغرب وتبجل ثقافته. شخصية أم سلوان (بشرتها سمراء وقناعها أبيض)، إذا أستخدمنا عنوان كتاب فرانتز فانون، صاحب كتاب (معذبو الأرض)، ومعه كتابات علي شريعتي وليوبولد سنغور عن "الوعي الزائف" عند المثقف العالمثالثي المستلب (Aliéné) الطوباوي المتعالي النخبوي. قلنا سابقا نحن نتفهم الراوية/ المؤلفة عندما تقول (نحن عزل بالفعل). ومن الواضح أن تعبير (نحن عزل بالفعل) الذي وضعته المؤلفة على لسان ربة المنزل/ الراوية، ومقابله رسمت واقعا عراقيا شرسا وعنيفا، إنما أرادت أن تنقل عبره رسالة مضمونها: محنة (الفرد) العراقي داخل مجتمع قاس وعنيف جدا، يتحرك كحشود بشرية لا مكان فيه للفرد الحر المتفرد. وهذه الفكرة نجدها عند التكرلي في روايتيه (المسرات والأوجاع) و (الرجع البعيد) وعند جبرا إبراهيم جبرا في (السفينة). لكن شخصيات (منازل الوحشة) بدت رخوة أكثر مما ينبغي، مقارنة بشخصيات التكرلي وجبرا، وخلت نوع ما من مواصفات هذه الشخصيات الأخيرة، فيما يتعلق بروح المغامرة عندها وامتلائها الثقافي وأطلاعها جيدا على البيئة العراقية المحلية وإلمامها بالموروث العربي الإسلامي وتعمقها في معرفة الثقافة الغربية الفلسفية.
التشريب والخميعة لا يؤكلان بالشوكة والسكين وحسنا فعلت مؤلفة (منازل الوحشة) عندما تداركت الأمر، ببراعة روائية تحسب لها، وخلقت شخصية جدة سلوان. فالجدة هي الشخصية الوحيدة القوية في الرواية التي ((لم تكن تخشى شيئا في حياتها، ولم ترتجف لا لأميركي ولا لعراقي ولا لإيراني ص 103)). إنها معادل الواقع الخارجي بكل شراسته وعنفه وتعقيداته. وهي لم تنقذ رب المنزل أسعد عندما تم اختطافه من قبل واحدة من المليشيات، فحسب، وإنما أنقذت الرواية كلها. ولولا شخصية الجدة لأصبحت الرواية مثل كائن رخو لا عمود فقري فيه. ورغم أن شخصية الجدة تحضر مبكرا منذ الصفحات الأولى في الرواية (ص 26) ويتكرر حضورها في الصفحات التي تلي، ألا أننا شخصيا، كنا نتمنى أن يكون لشخصية الجدة حضورا فعالا أكثر في هيكيلية الرواية، لكن هذا لم يحدث، ففي كل مرة تدخل فيها شخصية الجدة متن الرواية فأن الراوية/ المؤلفة تعيدها مرة أخرى إلى الهامش ((كنت أزج بأسعد في علاقتي المفروضة بها لأبتعد عنها ص75)). وقد يكون هذا لسبب يخص أراء المؤلفة في التربية البيتية وتأثير انفصال الوالدين على نشأة الأبناء (إنها حقا لم تحضني يوما ... وصوتها يوقظ في شعورا مغروسا بالخوف منها والابتعاد عنها ص76 ، ص 183))، وقد يكون لسبب تقني يتعلق بقوة الجدة كشخصية روائية لا تستطيع المؤلفة السيطرة عليها وتطويعها مثلما تفعل مع الشخصيات الأخرى. فالجدة الأمية البسيطة تؤكد، كما تؤكد أبنتها تماما، أن ((الوضع مسخم ص152)) في العراق في تلك السنوات الصعبة لكنها لا تكتفي، مثل أبنتها المثقفة أم سلوان، بالتشخيص وبالإدانة وبالشتم وبالتعالي على الناس ولا بالتقوقع داخل شرنقة (الأنا) ، ولا باللجوء إلى المهدئات والهروب من الواقع. صحيح أن جدة سلوان هي امرأة أمية وبسيطة لكنها إنسانة مثقفة، إذا أخذنا برأي غرامشي القائل أن جميع الناس مثقفون، والفرق بين المثقف وغيره من عامة الناس هو أن المثقف يضطلع بوظيفة اجتماعية. والمثقف العضوي هو الذي لا يكتفي بإنتاج الخطاب، مثلما المثقفين ربة المنزل وزوجها وصديقهم طبيب العائلة ، إنما هو الذي ينغمر في تنظيم الممارسات الاجتماعية، كما هي حال جدة سلوان. الفرق بين الراوية وأمها هو كالفرق بين عراقيين أحدهما يأكل التشريب والخميعة العراقيتين بالشوكة والملعقة والآخر يأكلهما بأصابع اليد، أو كالفرق بين مثقف عراقي يصر على رؤية الواقع العراقي الحالي بنظارات سوداء مظللة وآخر يراه بالعين المجردة، الأول (يأكل) الواقع العراقي بالملعقة والسكين وكأنه ما يزال يجلس في ركن هادئ في مقهى البرازيلية في الخمسينات، والأخر (يلتهم) الواقع المستجد الفوار بأصابع اليد وعلى عجل خوفا أن تنفجر سيارة مفخخة بقربه، أو خوفا أن يتخلف عن ملاحقة الأحداث المتسارعة التي ما يزال يقذف بها البركان الذي تفجر عام 2003. تقول الجدة، ومرة أخرى هذه براعة تحسب للمؤلفة، بأن رب المنزل، المثقف أسعد، الذي (ابتعد وانزوى ص11)) واعتاد أن ((يلوذ بغرفته، يلوذ بكتاب، بفرشاة ألوان جافة وأوراق مصفرة ص 10)) ((لن يستطيع أن يقاوم ص51)) وسط الظروف الاجتماعية الجديدة في العراق، لأن ((موديله غير ص51)). هذا تشخيص صائب وهو عين الصواب. وكذلك ربة المنزل المثقفة أم سلون، وكذلك طبيب العائلة ، المثقف حسام، كلهم (موديلهم غير). هولاء يشبهون (موديل) المثقف العراقي العضوي في الخمسينات من القرن الماضي الذي اعتاد مناقشة أمور سهلة وواضحة لا تسبب صداعا للرأس، هي ثنائية أبيض وأسود، ولا مكان للرمادي بينهما: التقدمي / الرجعي، اليساري / اليميني، الحضري المتعلم / الريفي المتخلف، الأفندي الحداثوي / المعمم الظلامي، الوطني / العميل، التحرري / الاستعماري، البروليتاري / رب العمل الرأسمالي.
المثقف العضوي هو الذي يتراجع ولكن لا لينزوي وإنما ليثب من جديد متقدما الصفوف
أما الآن، وبعد التوسنامي السياسي الاجتماعي الطبقي الثقافي الذي حدث في المجتمع العراقي بعد عام 2003، فقد تداخلت الألوان وتشابك، في مرات عديدة، اليسار واليمين، ولهذا يجب إعادة النظر في معنى هذه المصطلحات ومعنى المثقف العضوي، مثلما يجب إعادة النظر في كثير من المفاهيم والمقولات التي كانت لعقود طويلة بمثابة الحقائق التي لا يمكن الطعن بها. من هذه المفاهيم: ما معنى اليسار واليمين، والتقدمي والرجعي في الظرف العراقي الراهن ؟ هل أن هذه المفاهيم هي معادلات رياضية ونتائج مختبرية لا تتغير ولا تتبدل مهما تغيرت ظروف المجتمع ؟ هل العشيرة بقوانينها المدنية أكثر تقدمية أم أكثر رجعية، مقارنة بالأحزاب الدينية التي تتمترس بالمقدس لفرض أيدولوجيتها وتبرير ذبح من يخالف أرائها ؟ هل أن رجل الدين يميني ورجعي بطبعه، هكذا على ألإطلاق وبغض النظر عن الظروف ؟ هل أن الحداثة ولدت عندنا من رحم محلي، أم استوردناها كما نستورد أية بضاعة ؟ إن جدة سلوان على حق تماما عندما تنصح أبنتها المثقفة قائلة لها: (( إصحي ص 102)). والمؤلفة/ الراوية على حق، أيضا عندما تعترف بعدم مواكبتها للتغيرات الجديدة، مقارنة بأمها: ((شعوري بقدمي ونفاد صلاحيتي يجعلني أسخر من أقوالي في الوقت عينه. إبنة الحياة (الجدة) .. كانت هي المتحركة وأنا التي تتقوقع وتتخلف ص75)). ورب المنزل، أسعد، على حق، كذلك، عندما يعترف بمسؤوليته في عدم فهم الواقع العراقي (العشائر، مثلا)، قائلا إن هذا واقع موجود لكننا (أنكرناه ص 43). الاعتراف هنا هو بداية الطريق لمعرفة الواقع كما هو. لكن تغيير الواقع نحو الأفضل لا يتم بالهجاء والشتائم، وإنما بتقديم بدائل وأفكار جديدة. إذ، ما جدوي أن يشتم مثقف الواقع العراقي الحالي، قائلا إنهم (( سفلة ولصوص وخونة وطائفيون لوثوا المجتمع بكواتم الصوت. ص 152)) وفي نفس الوقت يعيش هذا المثقف فراغا روحيا وثقافيا وفلسفيا، حيث ((لا شيء. لا شيء عدا اللاشيء)) في رأسه (ص 14) !
المثقف العراقي العضوي الجديد هو الذي ((يدرب نفسه على تجاوز المحن ص 123)) ويعبر، كما تقول رواية (منازل الوحشة)، عن ((أيمانه بهذه المدينة "بغداد" يمكن أن تغير من نفسها وتستعيد صورتها التي كانت ص 123)) وأن يكون ذهنه مزدحما بأفكار جديدة مضادة للواقع البائس، أفكار ليس من الثقافة المحلية وحدها وإنما من جميع ثقافات العالم، شرط أن يطوعها للواقع الوطني، ويدعها تختمر بخميرة محلية. وآنذاك يكون جديرا بأن يردد، بوعي أصيل وبمنطق ديالكتيكي سرمدي، قول الحسن بن هانئ أبو نواس: (أبدا ما عشت خالف دأب قوم بعد قوم.)
الهوامش (1) في رواية الكاتب الإنكليزي الأشهر د. ه. لورنس ( النسوة العاشقات Women In Love ) يوجد فصل كامل، هو الفصل الثالث عشر (طبعة بنجوين الإنكليزية) عنوانه (مينو Mino ). و مينو أسم قط أليف في المنزل، مثلما القط المنزلي (هاملت) في رواية دنى غالي. وقد توقف كثير من النقاد عند الفصل (مينو) وشرحوا الوظيفه الرمزية للقط التي عناها لورنس. والفرق متناقض بين الوظيفة الرمزية الروائية للقط (مينو) وللقط (هاملت). لورنس أراد التأكيد على تفوق (الفحل) القوي المتنمر، مقارنة بالأنثى الضعيفة، انطلاقا من بعض أراءه التي يراها بعض نقاد متعاطفة مع الفاشية ، بينما يرمز القط (هاملت) في جميع المقاطع التي يرد فيها في (منازل الوحشة) لأفكار إنسانية مسالمة، ولرقة طبع، ولضعف بشري ولقلق وجودي، وهي أفكار مضادة تماما لأفكار لورنس. (2) ترى الروائية العراقية عالية ممدوح في مقال كتبته عن رواية (منازل الوحشة) أن العائلة التي تتحدث عنها الرواية (خرجت ربما، من جبة الحزب الشيوعي العراقي.) ثم تصدر ممدوح استنادا على استنتاجها هذا حكما سياسيا وأخلاقيا مفاده أن الحزب الشيوعي أصبح طائفيا، وتتساءل ممدوح: (كيف رخص الشيوعي اليساري جبينه وفرط بماء وجهه، صمت أو أخرس أمام سطوة جميع ما يحصل وللساعة فدخل السيستم الطائفي) ؟ عالية ممدوح: (دنى غالي في منازل الوحشة. احتدام البرودة) ، جريدة الرياض السعودية، 26 اكتوبر 2013. شخصيا، قرأت الرواية عدة مرات فلم أجد أن العائلة خرجت من جبة الحزب الشيوعي، ولا من أي جبة سياسية أخرى. فالرواية تقول أن رب العائلة كان قد فصل من وظيفته في العهد البعثي لأنه ((كان قريبا من الشيوعيين))، ليس ألا، وكان قريبا منهم ((لفترة قصيرة ص 11)) ، وبقي ((مصنفا ضمن مجموعة اليسار الصامتة أو الفئة المستقيلة ص11)) من أي نشاط سياسي. وبالتالي فأن رب الأسرة ليس شيوعيا، وما دام غير شيوعي أصلا فأنه، وكتحصيل حاصل، لم يرخص نفسه ولم يصمت ولم يدخل السيستم الطائفي. أما إذا كانت الأستاذة ممدوح تعني سياسة الحزب الشيوعي حاليا وتريد منه أن يرسم سياسته ويحلل الأمور كما في الأربعينات و الخمسينات من القرن الماضي، فأنها حرة تماما فيما تعتقد. لكن رأينا الشخصي أن الحزب الشيوعي لم (يدخل السيستم الطائفي).
|