المقاله تحت باب قصة قصيرة في
21/01/2013 06:00 AM GMT
رَغمَ 'أنّ تاريخ الفلسفة يبدأ بإحدى أكثر الفرضيات الأساسية منطقيةً، ألا وهي: 'البشر جميعهم فانون' '، كما يقول أمبرتو إيكو، الا ان ذلك لم يخفف من الجزع ويقلص الجنازات الحاشدة وبكاء المعزّين وعويلهم. بل حتى عبارةِ: 'كُلُّ مَنْ عَلًيها فَانٍ' لا تطمْئن سوى بعض المؤمنين، وتعزز احياناً من القدرة على تقبّل الموت كأمر طبيعي، كجزء من الحياة ذاتها. ويبقى الموت 'المألوف' مخيفاً، يبعث على القنوط واليأس، فهو غير مقبول ولا مفهوم، نراه كبازلاء صغيرة وزنها طن. هو من اكثر الغاز الوجود غموضاً وانكشافاً، يكمن ( يختبئ ) في صلب الحياة، في الولادات الجديدة، في مِخدة النوم ومائدة العمل، في فنجان القهوة والسيجارة والكأس، في الجو وعلى الأرض وبين امواج الشواطئ، وبالطبع في ساحات المعارك... لكن الموت كان مختبئاً في حَنجَرة طلال التي طالما اطربت العراقيين والعرب والأسكندنافيين. انها احدى ادوات الغناء ؛ جزء مهم من جهاز الصوت... *** كان طلال* مفرطاً في التشظي. حادَ عن سياق التخصص (آداب، قسم اللغة الإنكليزية - علم اللغة المقارن)، ومضى يغني ويعزف الموسيقى، يؤسس الكونسرتات، يكتب الشعر والنقد والمقال، يخط الحرف العربي ... وعلى كل صعيد من ذلك كان ضليعاً. هذا التشظي تجلى في التصرف الاجتماعي كذلك. فقد جمع ما بين التعالي الصارخ والتواضع الجم، وفي كلتا الحالتين كان محقاً. هو ابن مدينة انتجت اسحق الموصلي وزرياب ومنير بشير ومراد الداغستاني ونجيب يوسف وراكان دبدوب ويوسف الصائغ وغيرهم كثيرون. هو ابن (نينوى) عاصمة الأمبراطورية الآشورية التي وحدّت بلاد بابل وآشور. لم تجهض المحن الكثيرة طموح ابنائها العراقيين (الآشوريين) في امتلاك قوة عسكرية فرضت السطوة على شعوب العالم عدة قرون .لكن الفنان طلال كان معجباً بآشوربانيبال الذي أفتتن بالأدب فجَمَعَ المؤلفات ( الواح طين ) التي تتحدث عن حضارة بلاده، وخزنها في دار مشيدة خصيصاً لهذا الغرض في نينوى. كانت هذه الدار اول مكتبة في التأريخ (الألفية الثانية قبل الميلاد). *** من ذلك الماضي التليد استوحى طلال اسم فرقة 'سومر' التي اسسها في غوثنبرغ السويد عام 1996. كان معظم عازفيها ومغنياتها ينتمي اصلاً للسويد والنروج ويغني باللغة العربية. سجّل باصوات الفنانات اسطوانة (سي دي) بعنوان 'سومر' في 1998، والثانية 'العراق' في 2002. وقدم اكثر من مائة وخمسين عرضاً باللغة العربية الفصحى وبلهجات العراق ومصر وسوريا ولبنان وفلسطين وغيرها، فضلا عن الأغاني الكردية والموشحات والمقام العراقي. اما الغناء البدوي فكان بصوت طلال المجروح، الدافئ والعميق. قدّم كذلك مختارات من أغاني فيروز وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ويوسف عمر وناظم الغزالي ... ولم يتحقق مناه في ان يقدّم عرضاً في بلد عربي . *** حدثني مرة كيف يدرب السويديات والنرويجيات على اداء اغان بلغة ولهجات لا يفهمن مفرداتها. كان يركز على النطق الصحيح لحروف الضاد والحاء والعين والقاف ؛ يضع راحة يد المغنية على عنقه (الحنجرة!) ويلفظ الحرف عدة مرات، ثم تضع هي راحة اليد على عنقها وتلفظ الحرف لتحس وتقارن حركات الحنجرة وتدرّج ذبذبات اوتار الصوت. كان يشرح معاني المفردة ليتناغمن معها عاطفياً عند الأداء. قالت لي الفنانة التشكيلية ياسمين عمر، وهي عضو مؤسس في فرقة سومر، 'كان الراحل صارماً في التدريب، لا يسمح بأبسط هفوة'. *** حين تعارفنا في حي همركولان في السويد، قبل نحو عشرين عاما، قالوا لي: حذارِ، هذا كان بعثياً! وليكن، انا الهارب منذ 1974 من نظام البعث المستبد، لي اصدقاء بعثيون حميمون، قبل تكوين الجبهة بين البعثيين والشيوعيين وبعد انفراطها. ثم ان الكثير من 'بديهياتي' تغيرت في الخارج. ادركت، مثلا، بعد عمر طويل، كم كنا على خطأ فادح حين عارضنا موقف البعثيين الصائب المناهض، مبدئياً، لتقسيم فلسطين والداعي للوحدة العربية. الشرخ الأعمق بيني وبين طلال نتج عن سبب آخر: هو اندفع في تأييد الحرب على العراق املاً في التخلص من الطغيان الرجيم، وانا اندفعت في اتجاه معاكس: ضد الحرب التي ستعرقل تبلور الظرف الموضوعي للتخلص (ذاتياً) من الطغيان. لكن هذا التعارض في الموقفين لم يمنع تواصلنا كاصدقاء. كنا نتلاقى في بيتي من حين لآخر على كأس نبيذ وسيجارة ودردشات في الفن والأدب، تاركين للمستقبل الحكم على خطأ احد الموقفين ... وسرعان ما جاء الحكم، وعلى لسان طلال الذي عاد خائباً ومهاناً من العراق المحتل، شكا بسخط: 'طردني جنرال امريكي حقير من المكتب لأني ابديت رأياً لم يرقْ له. الأميركان اوباش مغرورون وحمقى، دمروا كل شيء'. فك طلال الأرتباط بالنظام المصطنع وحرص على موافاتي بمواد اعلامية تفضح المحتلين وتهزأ ممن واصلوا التعاون معهم 'متخلفون طائفيون لصوص مرتزقة وأوغاد' عرفهم شخصياً عن كثب. فهو التحق مع مثقفين عراقيين من السويد واوربا (كتاب وشعراء وفنانون واعلاميون) في دورات نظمتها واشنطن عن طريق مقاول عراقي امريكي، هدفها المعلن اعداد كوادر لما سمي 'مشروع اعادة بناء العراق'. وحين قرأتُ رواية ' الحفيدة الامريكية' للكاتبة انعام كججي (وهي من الموصل ايضا) لم افهم مفردات قالتها الجَدَّة وهي تندد بتعاون حفيدتها (كمترجمة) مع قوات المحتلين، فسألتُ طلال الذي شرحها على الفور: (أسحتها - أطردها) (هالجماقة - هذه اللعوب) (بنت السقاقات - بنت الأزقة)، وأرفق الشرح بعدد من النكات ورسوم الكاريكاتير والفديو. كانت علاقتنا تورث الاستغراب لدى البعض. لم تتصدع مودتي نحوه كصديق دمث، ولم ينكمش اعجابي بتعدد مواهبه. مقابل ذلك، لم يمنعه نشاطي اعلامياً، بلا هوادة، ضد المثقفين المتعاونين مع الأحتلال من ان يكتب مقالات تشيد بمؤلفاتي. آخر مقال نشره قبل الوفاة كان في ' القدس العربي ' (2012-07-17) عن مهرجان اقيم في (بوتنا السويد) تحت عنوان كتابي: 'في انتظار الغريب'. *** اعلمني بالمرض للمرة الأولى ونحن في الطريق: سرطان. اخفيت ارتباكي طبعاً. يحار المرء ماذا يقول في وضع كهذا. تبادلنا بعد ذلك رسائل مؤثرة ذكّرتني بموت الأدباء والفنانين في العراق (المتخم بالنفط) جرّاء المرض والعوز. كتب لي: 'ثمة فريق من 9 ممرضات يزورني يومياً لتضميدي والعناية بي. فريق من الملائكة الحقيقيين وليس ممن نقرأ عنهم في الشعر والكتب. وخلف هذا الفريق فريق من الأطباء يتابعون حالتي ساعة بساعة. كل مناهم أن تتحسن حالتي. لكنها لا تريد ان تتحسن. لا طعام، لا شراب، لا شم، لا صوت '.وحين تحسنت الحالة قليلا، اشتركنا في مهرجان ثقافي خارج غوثنبرغ. بعد العودة تلاقينا ثلاث مرات او اربع في الممر الخارجي والمصعد... ثم اختفى. خمّنت انه في المستشفى لتلقي العلاج الكيمياوي كالعادة. تركت له رسائل (Massage) في تلفون البيت والموبايل وبعثت ايميلات. لكن شبح الموت الذي كان يترصده اخذ يدنو بخطى اسرع. يوم 5 ديسمبر 'فوجئت' بنبأ الوفاة. بعد يومين وصلتني من بريده الألكتروني رسالة بتوقيع الأبنة البكر (هند) تخاطب أصدقاء ابيها: 'الأسرة بحاجة إلى أكبر عدد ممكن من الناس لحضور تشييع الجنازة والصلاة على روح ابي'. *** في صقيع غوثنبرغ الرمادي الكئيب ذهبتُ الى المسجد (لأول مرة ادخل مسجدا في السويد او احضر مراسم تشييع ودفن). رأيت بعض السويديين (من اصدقاء الراحل) يجلس في ركن على كراسي خيزران يرقبون ما يجري بفضول وتعاطف. لم أر احدا من الأدباء والفنانين العراقيين سوى الموسيقي احمد الجوادي الذي كان طلال يعزّه كأستاذ قدير. بضعة عراقيين صلّوا على الجنازة مع صوماليين متبرعين لا يعرفون الميت. انطلقت سيّارة سوداء تحمل النعش إلى مثواه الأخير وخلفها رتلٌ متواضع من سيّارات المشيعين. توقعتُ ان ارى الفنانين والأعلاميين والأدباء العراقيين في المقبرة. لم أر سوى الفنان التشكيلي حقي البستان. كانت الأرض مكسوة بالثلج والحفرة جاهزة، تحفّها اكوام تراب ندي ومسحاة وفأس. عندها أَسهبَ كثيرا في الوعظ رجل دين صومالي عن يوم الحساب ، الخ. وفجأة حدثت مشادة. قصّاب عراقي شيعي (كما قال لي هو) يود كثيرا زبونه طلال، بدأ في تلاوة آيات من القرآن ... فنهره الصومالي (قيل انه من طائفة الأحمدية): - لا تجوز قراءة القرآن. رد عليه رجل سني (كما علمت من القصاب): - هذه اجتهادات لا ضرورة لمناقشتها الآن وهنا. انتظر القصاب ريثما انتهى الصومالي وأُنزل النعش في القبر، فعاد لتلاوة آيات من القرآن بصوت خفيض. حين انتهى جاء وأعرب لي همساً عن عدم رضاه من شعائر الدفن: - ينبغي تلقين الميت بردوده على اسئلة الملاكين' مُنْكَرٌ ونَكِيرُ '، فهما سيسألان: 'من هو رَبُّك ؟ وعلى المرحوم طلال ان يجيب: الله، من هو نبيك ؟ محمد صلى الله عليه وسلم' (واضاف مؤكداً) هو يرى الآن ويسمع. الروح ترفرف حول القبر. الجسد لا شيء، يتعفن وتأكله الديدان. لكن الروح خالدة (واستدرك باحتجاج) من اتى بهذا الشيخ الصومالي؟ تساءلت مع نفسي: لو ان طلالاً يرى الآن بالفعل ويسمع هذا النقاش، أيمتعض او يضحك؟ التفتْ القصاب يساراً ودمدم باحتجاج مرة اخرى: - ما كان ينبغي حضور نساء للتشييع. كانت النساء يقفن بعيداً متلفعات بثياب زادَ من سوادها الثلج النظيف الناصع البياض. وما ان ترك الرجال حفرة القبر تقدّمن سريعاً وتحلّقن حولها بصمت ؛ بينهن فنانات فرقة 'سومر' السويديات والنرويجيات ... ربما كنِّ يتمتمن بتلك الأغنية التي درّبهن عليها طلال: وين رايح وين، وين العهد وين ... *اديب عراقي مقيم في السويد * طلال عبد الرحمن النعيمي (1953 2012)
|