تستطيع نصوصي أن تسافر وتغادر مكانها بدلاً مني
ينهضُ المشهد السردي في العراق، على عدد من الأسماء الإبداعية التي تساهم في تشكيل هُويته التي ينماز بها عن السرديات العربية. إنّ النظرة المتفحصة لأحداث الستينيات، وما مرَّ به المجتمع العربي بعامة والعراقي بخاصة، على أكثر من اتجاه، جعلت كتابة القصة تتطوّر على أكثر من مستوى، وتجلّى ذلك من خلال زاوية معالجتها للثيمات، وسعة حدثها، والتغيرات الجذرية على لغتها الفنية وتنوع الشخصيات، وتباين الوقائع الثقافية والسياسية والاجتماعية التي انعكست على بنيتها.
القاص، محمد خضير، أو نخلة البصرة كما يسميه البعض، واحد من الأسماء الثقافية المهمة التي مثلت إضافة حقيقية وجادة في تجربة القصة العراقيّة، فأصبح من علاماتها. ولد في البصرة جنوب العراق عام (1942)، وتخرج في دار المعلمين وما يزال معلمًا في مدارسها. يؤمن خضير أن من يخرب عشه في مكانه الشخصي، يمكنه أن يخربه في أي مكان آخر. لذا، لم يفكر بمغادرة بلده، فظل مثابرًا ووفيًا لنصوصه، يتابع عبر أدبيته ما يحدث لمدينته من حروب ودمار.
عُرف في السردية العربية بعد أن نشر نصًا بعنوان(الأرجوحة) في مجلة الآداب البيروتية آنذاك، والنص جزء من مجموعته القصصية الأولى: (المملكة السوداء) عام 1972. ثم تتالت إصداراته الأخرى: ( في درجة 45 مئوي) عام 1978و(تحنيط) 1988 ليكون بعدها مع (بصرياثا ـ سيرة مدينة) عام 1994، وهي سيرة ذاتية لمدينة تقع تحت القصف اليومي. ثم (رؤيا خريف) عام 1995. و(كراسة كانون) 2001، و(حدائق الوجوه) الذي صدر في 2008. وله في النقد كتاب بعنوان: (الحكاية الجديدة) صدر عن دار أزمنة في الأردن عام 1995. اقتربنا من عالم محمد خضير السردي، فكان الحوار التالي:
* ولدتَ سرديًا بعد نكسة 1967. كيف وجدتَ تجربة الكتابة في البداية؟
- ثمة تواريخ فارقة في تجربتي الكتابية، مثلاً بدأتُ إجابتي على أسئلتكم في الرابع عشر من تموز، لأنني أعدّ هذا اليوم من عام 1958 حدّا فاصلاً بين شخصيتين، شخصية ما قبل الرشد وشخصية ما بعد الوعي بالحياة والكتابة والسياسة. ومثل ذاك تاريخ الخامس من حزيران 1967 الذي وضع فصلاً جديداً في وعي التجربة بالكتابة. ولعل هذا التاريخ كان الوقت الحقيقي الذي بدأتُ فيه وعياً جديداً بالهُوية القومية للكتابة تحت ضغط الشعور بانكسار العرب أمام إسرائيل واندلاع المقاومة الفلسطينية. لكن هذا الشعور امتزج بحوادث أخرى فيما بعد حتى صار شعوراً عالمياً وإنسانياً. فالكتابة فعل كوني، كما أعتقد. كما أنه يكتسب مشروعيته من الخصوصية المحلية. وأخصُّ من هذا فهو شعور شخصي وذاتي في أواخر العمر. هكذا أنظر إلى التواريخ العظيمة باعتبارها حافزاً للوعي الأوّلي، ونقاط انطلاق أساسية للوعي، ومنها تاريخ 2003 باعتباره فجوة تاريخية بدأتُ أملأها بمحاولات وهواجس ذاتية. كل تاريخ منعطف نحو مسار جديد وبداية مختلفة لوعي أدبي أكثر افتراقاً من الأرض الأولى والنشأة الأولى.
* ماذا بقي من "أرجوحة" محمد خضير البصرية؟
- "الأرجوحة" قصة من زمن "المملكة السوداء" أيضاً. بعدها جرت مياه كثيرة، بل دماء غزيرة، وولدتْ من رحم المدينة القديمة تواريخُ جديدة. فقد بلغنا فاصل التغيير في العام 2003 وثورات الربيع العربية. تحول مسار الحلم القديم ونشأت فواصل في أثره. بعد ذلك النص نشأت نصوص في أوقاتها. عبرت نصوصي مرحلة الوعي أو اللاوعي البروستي والجويسي. لا تتطور النصوص مع ظروفها التاريخية فحسب، لها مسارها الداخلي كذلك. صار ضرورياً اكتشاف الذات التي أفرغها التاريخ العنيف من أحلامها، ومع الزمن خفتَ ذلك الغرور والاندفاع. لا أثق بغرور الكتابة كثيراً. صار البطء والتوجس سمة الحاضر. لكن القلق مستمر. إنه قلق "الذات الكونية" حول المستقبل. مستقبل الحياة ومستقبل الكتابة بتعبير أدقّ.
* ماذا يعني "الشفيع" في المجموعة نفسها بالنسبة إليك، وبخاصة في الوقت الحاضر؟
- كذلك "الشفيع" فهي من مرحلة الانتماء للواقع الجمعي، واقع الطقوس الرثائية والهجائية. كانت هذه القصة المكتوبة في تموز 1967 تعلقاً بواقع المأساة العراقية وكشفاً ميثولوجياً لأعماقها الجمعية بمنظور تشبيهي وتمثيلي لمأساة كربلاء. كنتُ واحداً من نهر الجموع البشرية المنوَّمة جمعياً، تنجرف وتتدهور في سرداب النكسات والتمثيلات الجمعية التي لم تتوقف حتى اليوم.