شتات الأُسَر العراقية الجميلة

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
28/11/2012 06:00 AM
GMT



بِسِّكينِ حادة كالخنجر وقلب ناعم كالحرير، حَفَرَ الفنانُ العراقي رافع الناصري حياته كرسوم الجرافيك الجميلة التي اشتهر بنقشها على الخشب والنحاس. في العام المقبل يُعقدُ معرضه الاستعادي في العاصمة الأردنية عمّان، حيث يقيم منذ ثمان سنوات. وقبل 40 عاماً أقام معرضه الشخصي الأول في هونج كونج بالصين، حيث درس فن الجرافيك أربع سنوات في بكين. والناصري كالشاعر ابن زريق البغدادي "موَكَّلٌ بفضاء الله يذرعه" ما بين بغداد حيث دَرَس ودَرَّسَ في "معهد الفنون الجميلة" مع رواد الفن العراقي، والمدن التي تعلم وعلّم الفن فيها، وأقام محترفات، وجاليرهات، ومعارض في لشبونة، وساوباولو، وبوينس آيرس، ونيودلهي، والمنامة، وبيروت، والكويت، ولندن، وباريس، وأصيلة، ودبي، وأبوظبي، لكنه ليس كابن زريق الذي استودع "الله في بغداد لي قمراً في الكرخ من فلك الأزرار مطلعه". فالناصري رافقته قرينته الشاعرة مي مظفر في حلِّه وترحاله، ملهمة وناقدة في آن. شتات الأُسر العراقية الجميلة، من المهندسين، والأطباء، والعلماء، والفنانين، والأدباء الذين يقضون العمر هاربين من العراق وإليه.
في الصين تَعلّم الناصري فنون الرسم الأكاديمي والخطّ بالفرشاة على الطريقة الصينية. و"من هذه الخلفية البصرية المركبة شرع في تجاربه لاعتماد الحرف بوصفه عنصر تعبير خطّي، لكنه سرعان ما وجد الحرف يتسلل إلى أعماله الجرافيكية أيضاً، لما يمتلكه الحرف من إمكانيات خطية جرافيكية عالية". استغرق هذا التحول لديه وقتاً طويلاً قبل أن يتبنى كلياً الأسلوب التجريدي، وكان عليه أن يبحث عن عناصر جديدة، فاعتمد الحروف ذات الامتدادات والانحناءات المنسابة، كالواو والهاء والميم والسين". وبعد سنين من معاناته الحساسية من الألوان الزيتية، لم تبدأ تجربته في الرسم بالمعنى الاحترافي إلا في العاصمة البرتغالية برشلونة، حيث درس سنتين. هناك اكتشف مادة الإكريليك وانكَبّ عليها كالظمآن على نبع الماء، فمنحته قدرة هائلة على تنفيذ أفكاره بسرعة وشفافية غير مألوفتين في فنون الحفر على الخشب والنحاس، والطباعة على الحرير، وورق الأرز، التي تعلمها في الصين.
والفن التجريدي الذي يُعتبر الناصري من أبرز فنانيه العرب قريباً للذائقة العربية المعتادة على تجريد فنون الفسيفساء والخطوط. وكما يسمع الرائي العربي والمسلم تراتيل النص القرآني المرسوم بالخط العربي الجميل، يسمع ذوّاق الفن التجريدي موسيقى تكوينات الناصري التجريدية. فهو إذ "يرسم الحرف إنما يفرض عليك أن تلفظه، أو تهمس به ليصل إلى حيث يبقى الحرف رمزاً مطلقاً" حسب الشاعر بلند الحيدري.
وتَعلَّمْ الحب ولو في الصين، حيث يقول المعلم كونفشيوس: "إذا أبقيتَ غصناً أخضر في قلبك، فالطيور المغردة ستأتي". وقد أتت الطيور المغردة التي ساهم الناصري معها في تشكيل مدارس، وجمعيات فنية، من أشهرها "جماعة الرؤيا الجديدة" و"البعد الواحد" في بغداد في ستينيات القرن الماضي، وفيما بعد عُرف عالمياً من أعضائها ضياء العزاوي الذي اقتنى أخيراً متحف "تيت جاليري في لندن لوحته الجدارية "صبرا وشاتيلا"، وإسماعيل فتاح، مصمم تماثيل تحمل بصمته في ساحات بغداد، كالرصافي، والواسطي، وأبي نواس، ونصب الشهيد.
والناصري كبطل رواية أوسكار وايلد "صورة دوريان جراي" إنما بالمعكوس. فخطوط الزمن لم تترك آثارها على لوحاته التي ازدادت نضارة وسحراً واشتهاءً، بل عليه، وهو "الباهي" الذي تتحدث عنه الروائية العربية غادة السمان في قصتها "حريق ذلك الصيف". كان الناصري من أجمل الفنانين التشكيليين العرب وأبهاهم، تقتنصه عدسات التصوير محاطاً بأذرع جميلات الأدب والفن العربيين. وفيما يبدو اليوم متلبداً كغيوم لوحته "تحولات الأفق" (أكريليك على قماش، بغداد 1976) تشُّعُ رسومه جمالاً في قصيدة محمود درويش "لوصف زهر اللوز"، التي صدرت عام 2009 في كتاب مطبوع على الحرير. "وهو الشفيف كضحكة مائية نبتت على الأغصان مِن خَفَر الندى، وهو الخفيف كجملة بيضاء موسيقية، وهو الضعيف كلمح خاطرة تُطِلُ على أصابعنا ونَكتُبُها سُدى".
و"باليت" ألوان الناصري، أو ما تُسمى بالعربية الفصحى "المِلْونة"، تخترع أسماء للألوان يسجلها كتاب "رافع الناصري... حياته وفنه". أعدّ الكتاب الذي صدر عام 2010 شقيقه صباح الناصري، أستاذ الأدب العربي في جامعة ليموج في فرنسا، وراجعته مي مظفر. واللون الأكثر استعمالاً في "مِلونة" الناصري الأزرق وضروبه، السماوي، والكوبالت، والفيروزي، والقاشاني، واللازوردي، والنيلي، والزّرقم الكحلي. ونادراً ما يستخدم الناصري اللون البنفسجي الأنثوي، إلا في تدرجات تكتم الأنفاس حين تبلغ الأزرق، مضيئاً أو مطفئاً، زاهياً وبراقاً، ساطعاً أو مكتوماً، باهتاً أو فاتحاً، كذكرى حب قديم قديم، أو غامقاً ومعتماً ومظلماً تام السواد كسلطنة الحبيبة عندما تتلفع بعباءة الغضب. وقلما يتعرى اللون الأخضر صريحاً في أعماله، بل تتلمسه ألوان العشب والمرج، والزبرجد، والطحلب، والزنجار، والصَدأ. والزنجار كالصدأ لكن يختلف عنه اختلاف موسيقى حروف الكلمتين.
وفي عِشقِ الوطن، يعرفُ أهلُ الشتات عُمقَ الهوى. خلال قصف بغداد في حرب عام 1991 اخترقت قذيفةٌ سقف مرسم الناصري، وثقبت حفرة في محفظة رسومه، فتناول أوراق الرز الصيني، نشرها فوق منضدة الرسم، وطبع فوقها بصمات كفه المغموسة بلوني إكريليك أسود وبُنِّي، وسفح فوقها قطرات إكريليك دموية حمراء. تحول الدفتر الذي أطلق عليه اسم "مذكرات الحرب"، إلى أحد أشهر أعمال الاحتجاج في الفن العربي. ومن بين ملصقات ودفاتر رسوم الناصري ضد حصار العراق وغزوه، بقيت في الذاكرة العالمية "مذكرات الحرب" التي بَصَمت بالكف كالنذور على جدران أضرحة الأولياء. قال عنها مصور تلفزيون "أي بي سي" الأميركي الذي عرضها عام 1991، إنها تبث الرعب في قلبه. وفي حرب عام 2003 أعادت نشرها "دير شبيجل" ثاني أكبر صحيفة يومية في ألمانيا. وفي دراسة بالإنجليزية عنوانها "عشر سنوات وثلاث مدن"، استعادت مي مظفر "صرخة الفنان المروعة، وانفجار دفق اللون الأسود الذي غطى سطح اللوحة وتَدّفق خارج قماشتها".
و"مِنْ جيب معطفي خَرَجتَ زهرةً، وضعتُها في صحفة الكتابْ ولَمْ أنمْ". إنه الوطن في ذاكرة امرأة عراقية في الشتات، حيث "تحتارُ الزهرة كيف تسيرْ، فالجذرُ عسيرْ، الريحُ تطاردها ريحٌ، والزهرة يلفُظها البستان". تكتب ذلك مي مظفر في مجموعتها الشعرية "محنة الفيروز"، وهي واحدة من خمس مجموعات أصدرتها في الشتات، وفيها العراق "نخلٌ تصاعدَ للسماءْ. يندس في حُلُمي فأبني من ضفائره منازل. سَكَناً نُسميه الوطنْ". والوطن هو الحبيب في قصيدة "بعض ما بقيَ من الأندلس"، حيث "عانقتُ ظلَكَ مرةً فوق الطريق. ومرةً أخرى على سور المدينة، إذْ تعبتُ ومِلتُ تُسعفني يدي. فوجدت ظلك مِسندي".