المقاله تحت باب مقالات و حوارات في
22/09/2012 06:00 AM GMT
صدرت حديثاً للكاتب العراقيّ المقيم في نيويورك سنان أنطون رواية جديدة بعنوان «يا مريم» (منشورات الجمل، بيروت)، وكانت صدرت له من قبل روايتان هما «إعجام» (دار الآداب، بيروت، 2004) و «وحدها شجرة الرّمان» (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، عمّان، 2010). ونشر الكاتب قصائد ومقالات وترجمات. هكذا بات يمكننا الكلام على عملٍ أدبيّ يتأسّس بصبر وتواضع وذكاء، ويضيف تنويعة جديدة وجادّة إلى السرد العراقيّ الجديد الذي يجد أفضل نماذجه في كتابات جنان جاسم حلاّوي وحسين الموزاني وحميد العقابي وشاكر الأنباري ونصيف فلك وآخرين. هنا وقفة وجيزة عند رواياته الثلاث. نمط خاصّ في روايته الأولى «إعجام»، يمزج الكاتب مشاهد الهلوسة والكوابيس وصوَر الواقع الدالّة على تجربة العراقيّين في سنوات الحرب العراقيّة-الإيرانيّة. على أنّ اللّغة تظلّ هي العمود الفقريّ لهذا العمل، من خلالها تمرّ ابتكارات الكاتب وعبرَها ترتسم رؤيته لواقع الحرب المظلم ولحقيقة الديكتاتورية الفاجعة والرّعناء. يتنامى الابتكار اللغوي في الرواية – وهو دوماً ابتكار منخرط في مشهدٍ وسياقٍ، أي في تجربة - عبر خطّين أساسيّين متوازيين ومتعاضدين. فهناك، من جهة، الابتكارات اللغوية الخرقاء يمارسها النظام، بدءاً بالديكتاتور نفسه وانتهاءً بإعلاميّيه للتعبئة حول «مجهودات الحرب». في خطاب كهذا، يكون لكلمة «ممنوع» سيادة مطلقة، والنصوص الأدبيّة لا تُنشَر ما لم تكن ذات قوّة تعبويّة، والحزن على قتلى الحرب مرفوض باعتباره إضعافاً لحمية المقاتلين. من شعارات النظام المبتكرة: «عرَق التدريب يقلّل من دماء المعركة» و «نريد من العراقيّ أن يكون ضميره هو الرقيب»: يجعل الشعار الأوّل من الخضوع لمنطق الحرب المرتجلة وسيلة نجاة، والثاني يصوّر الرقابة الذاتية باعتبارها سمة أولى للمواطن الصّالح. ولا أبلغ من خطاب مسؤول الأمن أمام السارد المحبّ للكتابة الأدبيّة، ينهيه بصفعة وديّة وبعبارة مسكوكة لتعمل كمبدأ وشعار: «فصل الثقافة عن الواقع تخاذل وعمل رجعيّ!». وهناك أخيراً منع استخدام اللّغات الأجنبيّة واللهجات المحليّة، لأنّ من مهامّ النظام الثوريّ «حراسة المعنى»، وكلّ من خالف ذلك نال «عقوبة الإعجام» (أي «الإعدام»). بموازاة هذه الألاعيب الخرقاء والمروِّعة في آنٍ، يمارس الكاتب، على لسان السّارد، سلسلة من الابتكارات اللغويّة والمفهوميّة تُضادّ خطاب السلطة وتحقّق من خلال شحنتها من السّخرية وطاقتها اللّعبيّة تحريراً كبيراً للذّات الكاتبة ولقارئها وتجترح لغةَ مقاومةٍ ممكنة. من هذه الابتكارات التي تفيد من غياب التنقيط الممارَس من جانب السّارد على سبيل التقيّة، ومن الإعجام الذي يقوم به «الرفيق الحزبيّ» الذي يعثر على مخطوطته ويقدّم عنها تقريراً، أنّ «القائد العامّ» يصبح «القاعد العامّ»، و «الرئيس القائد» يصير «الرئيس القاعد»، و «وزارة الثقافة والإعلام» تتحوّل إلى «وزارة السخافة والإيهام»، و «الدرس الديموقراطيّ» (دروس التوعية السياسيّة المزعومة) إلى «هرس ديموقراطيّ»، وهكذا دواليك. هكذا يمارس السّارد شغباً فعّالاً ينتشر كالسرطان في خلايا اللغة الرسميّة ويجرّد مفاهيمها الأساس وعناصر خطابها المفتاحيّة من كلّ هالة تقديس أو احترام. لا يهمّ أن يكون نصّ كهذا قد صدر بعد سقوط الديكتاتور: المهمّ هو تفكيك لغة الماضي والكشف عن منطقها الفاسد أو المغالطيّ، ومنع هذه اللعبة السّمجة من أن تتكرّر. هذا الانهمام العالي بالتشويه الذي تعرّضت له الحياة في العراق أثناء الحرب العراقية-الإيرانية وطوال العهد الديكتاتوريّ، يواصل سنان أنطون الإعراب عنه في روايته الثانية «وحدها شجرة الرمّان». سارد العمل، وهو نفسه شخصيّته المحوريّة، تلميذ سابق في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، اضطرّته ظروف ما بعد الدخول الأميركيّ إلى العراق وشيوع الإرهاب ورحيل والده إلى التفرّغ للمهنة التي ورثها عنه، ألا وهي غسل الأموات. بتبحّر موسوعيّ وبرهافة سارد حقيقيّ يقودنا الكاتب فصلاً فصلاً إلى طقوسيّة غسل الموتى في صيغتها الشيعيّة، فإذا بنا نواكب معه مراحلها ونلمّ بأدواتها وبالإيماءات المصاحبة لها والنباتات العطرة المبذولة فيها من سدر وكافور وما إليهما، والماء الكثير المبذول، وسلسلة الأدعية والصلوات التي تنغّم طقوس الوداع هذه وتهبها روحانيّة أكيدة كما في كل الثقافات المتوافرة على آداب حقيقيّة لتوديع الأموات. وعلى امتداد هذه الشعيرة يكون الميت موضع توقير وعناية، لا بل طرفاً آخر في محاورة، فكلّما قلَبه المشرف على غسله إلى هذه الجهة أو تلك همسَ به بلطف وضراعة: «عفوك! عفوك!». متشبّثاً بهذا «المُغَيْسِل» الذي صار لديه بمثابة صورة مصغّرة عن العراق، ومتمسكّاً بالعراق نفسه الذي أصبح، لولا فسحة الأمل ومساحة الحبّ اللتان تظلّان لحسن الحظّ كبيرتين في هذه الرواية، أقول أصبح أشبه ما يكون بمغسل كبير للأموات، يفقد السّارد جميع فرص الازدهار الذاتيّ، عشقاً أو سفراً. وفي خاتمة المطاف، وفي انتظار المجهول، تصبح آصرته الوحيدة بالبلاد محصورة في هذا المكان الضيّق، الذي حشّد الكاتب كلّ طاقاته ليمدّه بشعريّة للفضاء باذخة ومذهلة التفاصيل، سائقاً إيّاه صفحة بعد صفحة إلى مركزه الجاذب أو بؤرته الأساس: شجرة الرّمان التي شربت طيلة دهور من ماء غسيل الموتى وصارت في ينوعها الزّاهر السّميرَ الأوحد للسّارد، ومتلقّي مخاوفه وجواثيمه وكاتم أسراره. أنشودة البقاء في روايته الجديدة «يا مريم» يوصل الكاتب معرفة واسعة بآخر تجليّات الإرهاب السّوداء في العراق من حيث استهدافها مسيحيّي البلاد. ولئن وجد «بطل» روايته السابقة قراره الوجوديّ الصارم متمثّلاً في البقاء في العراق مهما يكن من فداحة حاضر أيّامه، فالرسالة ذاتها هي التي يعمل الكاتب على إيصالها في روايته الجديدة. تشكّل الرّواية عبر فصولها الخمسة مناسبة لانعقاد خطّين كبيرين ينموان متوازيين، فإذا ما بلغنا نهاية الرّواية اندمَجا بما لا فكاك منه. الخطّ الكبير الأوّل يلخّص مصير يوسف، الرّجل المتقدّم في السنّ الذي نرى عبر سرد ماضيه مساحة واسعة من تاريخ العراق. والخطّ الكبير الثّاني يتمثّل في مصير مها، الشابّة التي يتطوّر وعيها رويداً رويداً من موقف قائم على التّضاد وخيارات يوسف وشاكلة تفكيره إلى اعتناقها لها كفلسفة وموقف وخيار. وبهذا كلّه ترقى هي من مقام الضّحيّة إلى مقام شاهد أساسيّ. في بداية العمل تصرّح مها ليوسف، الذي تقيم هي وزوجها الشّاب لؤي في جزء من بيته، بأنّه كائن يعيش في الماضي. هذه العبارة يأخذ بها المؤلّف كمسلّمة إيجابيّة ويجعل منها عنواناً لفصلين أساسيّين («أن تعيش في الماضي») يسرد عبرهما الماضي الجميل والآفل ليوسف، الملتحم بماضي العراق ذاته. تارةً يتكلّم يوسف نفسه عن حياته وطوراً يسردها راوٍ غير متدخّل في الأحداث يستعين بعدد من الصّور الفوتوغرافيّة ترينا يوسف وعائلته وأصدقاءه على امتداد عقود. ببراعة وشاعريّة يستنطق الكاتب الصّور ويردّها إلى سياقها التّاريخيّ والاجتماعيّ-الثقافيّ، أي يحوّلها إلى تاريخ. يستعيد يوسف رحلات أخته حنّة إلى روما وإلى كنيسة القيامة في فلسطين، ويتذكّر مشاكساته لها في خصوص إيمانها الفطريّ الذي كان يثير دعابته، هو المثقّف العلمانيّ، كما يتذكّر سنوات عمله مترجماً لدى الشّركات الأجنبيّة في العراق، ثمّ خبيراً بأشجار النّخيل وأمراضها، هذه المهنة التي اكتسبها من صديقه جاسم أبي الشوك الذي علّمه محبّة النّخلة، محبّة حوّلها يوسف إلى نشاطٍ علميّ وشغفٍ موسوعيّ. يتذكّر أيضاً رحيل رفاق عمره، بعضهم يذوي اعتلالاً وآخرون يضطرّون إلى الهجرة وآخرون يختفون أيّاماً ولا يعودون ثمّ يُعثر على جثثهم في حارات مجاورة. في حواراته العاصفة الكثيرة مع مها، يصرّ يوسف على أن يرى في الجرائم الإرهابيّة آلة تدمير شاملة تستهدف العراق في سائر ألوان طيفه الاجتماعيّ والإثنيّ، لا المجتمع المسيحيّ وحده. هذا كلّه لا تقدر الشابّة أن تقبل به، هي التي لم تشهد عهود الوئام المنصرمة ولا ترى أبعد من جراحها الطريّة بعد. فقدت مها جنينها على أثر عمليّة تفجير طاولت جزءاً من منزلها، وأصبحت منهكة الأعصاب، واضطرّت إلى ارتداء شالٍ لتتفادى سخرية زميلاتها المسلمات في كليّة الطبّ. رفضت الاعتقاد مثل يوسف بأنّ ما يحدث قابل للزّوال وظلّت متشبّثة بفكرة الرّحيل... حتّى اليوم الذي يحدث فيه التّفجير الشّهير لكاتدرائيّة في بغداد. قد لا يحسن الكشف عن حبكة رواية، لكنّنا لا نعتقد أنّ الرّواية، أيّة رواية، تقيم في حبكتها وحدها. كانت مها واحدة من النّاجين القلائل من التّفجير الانتحاريّ الذي أُقيمَ أثناء القدّاس وأودى بحياة يوسف وآخرين. شكّل رحيل يوسف الذي سكت قلبه بينما كانت شفتاه تهمسان بصوت خافت: «يا مريم»، شكّل نقطة تحوّل في التطوّر الدّاخلي لمها. قرّرت البقاء وأدلَت لإحدى الفضائيّات بشهادتها عن الحدث واستعرضت مراحل الوجود المسيحيّ كجزء لا يتجزّأ من الواقع الحيّ للبلاد. بفضل كلامها أدركت أنّ رحيلهما هي وزوجها يعني التّراجع أمام إرادة بعضهم محوَ حضورهما وحضور أمثالهما، لا من البلاد فحسب بل من تاريخ كامل قرّرت هي أن تعمل على تأمين استمراره باستمرار حضورها فيه، وبقوّة خطابها الذي وجد في مقتل يوسف مناسبة نضجه الكبير.
|