هاتف الجنابي: لا علاقة لي بأي تجربة شعرية معروفة |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات منذ أكثر من 35 سنة، غادر هاتف الجنابي العراق، ليقيم في بولندا، حيث كتب غالبية شعره هناك، وحيث نقل لنا أيضا، أبرز الشعراء البولنديين المعاصرين إلى العربية، ليقدم لنا من خلالهم صورة عن شعر تلك البلاد، الذي لا يزال حاضراً في الثقافة البولندية بشكل قوي. * تعيش منذ العام 1976، في بولندا، بعد أن غادرت العراق، ماذا بقي لك اليوم من ذاك المكان الأول: الذاكرة أم الكتابة؟ - الذاكرة تعمل بلا كلل، تتشبث بكلّ ما له حضور في زمن أصبح في عداد المفقودين. فهي تستعاد كي تبقى ذات حضور، تنتج وطالما دفعتنا للتشبث بماضٍ ليس دائما مريحاً ومبهجاً ومتماهياً مع متطلبات العصر والطموح الشخصي المتطلع إلى أمام، موظفة كل ما يغري من طفولة، ندم، شقاء، حب، كره، عائلة، أصدقاء، مكان، فضاء طبيعة، دين، جغرافيا، تاريخ، قومية، نجاحات وإحباطات وهلم جرا. قد تُرتكب باسم الذاكرة المعاصي والأفعال الشنيعة. إجمالاً، هناك وجهان للذاكرة: واقعي ومتخيل. يصبح الثاني بفعل التراكم لدى البعض كالغدة السرطانية. خرجتُ من العراق مكرها وكنت فيه نشأتُ وتكونتُ وصارت ذاكرتي تنوء بما التقطته وعاشته هناك. لذلك رحل معي المكان مصحوباً بلغته التي أمارس فيها طقوسي. وكي لا تقتلني الذاكرة عالجتها بتعشيق الماضي بالحاضر، فأصبح توسيع الفضاء بكل أبعاده محوراً جديداً فيها، الأمر الذي أضعف هيمنة ذاكرة الماضي. مواجهة الآخر تتحول إلى مرآة للذات، وموشور يعبر المرء من خلاله إلى الضفة الأخرى. الكتابة فعل يعتمد أساساً على اللغة، ومن بين أهم أوجه الهوية هي اللغة. لا يوجد أكثر منها وطأة وأثراً في داخلي. أكتب بلغة الآخر وسرعان ما تهجم عليّ وتطرح القلم جانباً، تلك العدوة المعبودة - أبجديتي. شفرة الوجود * هل لعب المكان الجديد أي دور في لغتك وبالطبع لغة القصيدة؟ - يكذب من قال إن الأمكنة لا دور خاصاً لها. المكان يؤثر فيك من حيث تدري أو لا تدري، فكيف سيصبح الأمر لو سعيت لتوظيفه كما فعلت وأفعل؟! لكل مكان سحره، شأنه شأن الشجرة والطائر والمرأة. مهما كان شكل المرأة ولونها وأصلها، فإنها تمتلك نكهتها الخاصة. منذ بداياتي الأولى سعيت لحرث وبحث وتنقيب على صعيدي اللغة والخيال، لكن وفقا لاجتهاد دؤوب وصارم. لقد أعطاني المكان الجديد (الأمكنة) فرصة لا تعوض لتطويع اللغة والخيال لمنطق الحداثة، وجعل الشعر محورها. بحكم علاقتي بروح اللغة البولندية وتاريخها الشعري والفضائي، أصبحت أتبادل الأدوار واللغة العربية على مستوى الدلالة والاكتناز والفصاحة والدقة وطريقة تشكيل الجملة والصورة وطريقة المخاطبة. العربية لغة فعلية بامتياز (وهذه حسنة من دون شك) لكنها بسبب تقادم الزمن وغلبة الأمية لم تعد تلك اللغة التي عرفها أسلافنا الشعراء والكتاب الأوائل، من حيث كونها دقيقة معبرة عن كل ما يُرى ويحسّ. البولندية أكثر دقة اليوم من العربية في تسمية الأشياء، وهي أغنى باعتقادي من اللغة الانكليزية مثلاً. يتعلم البولنديون صغارا (في البيت والروضة والمدرسة) تسمية كل شيء في الطبيعة والحياة بأسماء ومترادفات محددة، تظل تعايشهم في حياتهم. * «موعد مع شفرة السكين»، ديوانك الأخير، وكأنه يحتفي بمفهوم الغياب (مع ثيمات أخرى بالطبع)، الذي يشكل نقطة الارتكاز فيه. أجد أنها غيابات متعددة. هل توافق؟ وأي غيابات هي في العمق؟ - أنا لا أكتب عن الغياب باعتباره موضوعاً أو كياناً أو ثيمة خارجية. أنا قبسٌ منه وبعضٌ من فضائه وتاريخه وأنفاسه وعوالمه. وبالتالي فالأمر عبارة عن مواجهة ومحاورة نفسي والآخر. منذ سنوات طويلة، لأنها تطول بلا هوادة، يشكل الغياب أحد أقنعة الكتابة لدي. لي رأي في تكوين الثقافة العربية برمتها، سبق أن طرحته في مقالاتي ومحاضراتي للطلبة والمؤتمرات الأكاديمية التي شاركت فيها، فحواه كالآتي: إن الثقافة العربية تشكلت في جوهرها بناء على جهد الرحيل والغياب والمنفى. حاول أنْ تحف منها هذا الجهد وسترى أن لا شيء سيبقى بعده ذا أهمية. للغياب بُعْدان: ميتافيزيقي وواقعي يتبادلان الأدوار في أحيان كثيرة حتى يتلبس بعضهما البعض. والاثنان لهما نكهة وسطوة الفعل واللغة واللامرئي. بمجرد أن تسافر فأنت غائب وحينما يطول غيابك يصير له بعد درامي وطقسي. فالله رغم حضوره الديني إلا أنه غائب ومعظم الأديان لها «غائبها» و«غياباتها» التي تَسحر بها أتباعها وتستحوذ عليهم. المخيلة بحد ذاتها جزء من الغياب والصورة الشعرية في معظمها وكذا فكرة يوم الحشر والانبعاث. وعليه «فشفرة السكين» والموعد معها هو أيضاً في بعض تطلعاته لقاء مع الغياب ورقص عند ضفافه، فهو بمثابة ملامسة لشفرة الوجود - الحياة - المصير - الغياب - الكتابة. إنه نوع من الاحتفاء بالقلق كي تتعلق بقشة الهدوء والأمل. طبل مثقوب * يميل شعرك اليوم أكثر إلى ميتافيزيقية ما، ربما إلى فلسفة ما، هل أن ذلك يأتي من قراءة الشعر البولندي؟ - هذه هي روحي وثقافتي منذ الطفولة وحتى اليوم. كنتُ أميل إلى التأمل والقراءة الكثيفة واحتقار مظاهر الحياة، متشبثاً بكل ما هو سحري ولا مرئي. ولدت في بيئة شيعية تضرب على الطبول والصدور طمعاً في الخلاص، ودرستُ في وسط متعدد المشارب والأهواء والانتماءات، وعملت في كركوك فرسّختْ في داخلي مبدأ التسامح، وشجعتني على المضي قدماً، بحثاً عن الخلاص خارج واقع حقير طمحت غالبية العقلاء إلى رحيله، ولما سافرت وجدت أن ما اختلف كثير، لكن شيئاً لم يتغير هو المتابعة والقراءة والسعي الجاد لملاقاة الآخر المختلف. سأقولها عربياً لأول مرة (إذ تم تدوين ذلك بولندياً) كانت أمي في سنوات الستينيات والسبعينيات تعلق ثلاث صور في البيت: السيد المسيح ومريم العذراء والإمام علي. وقبل موتها كانت لها نخلتان في حديقة البيت: سَمّتْ إحداها باسم مريم العذراء، وكان تمرها من ألذّ أنواع التمر. كانت تشعل الشموع حولها مرتين أو ثلاث مرات في السنة، حتى موتها قبل أربع سنوات. سمحت لي بولندا بمواصلة وممارسة وتهذيب ما في داخلي من ميتافيزيقية، ورفعتْ قراءتي الفلسفية درجات أعلى، ومنحتني فرصة الاطلاع على منجزات الشعوب الأخرى والتعرف على نسبة كبيرة من الشعراء والكتاب والفنانين من قرب، والتحاور معهم، فصارت لي علاقات وصداقات متشعبة. بعد ذلك، أرى أن الشعر المنمق فحسب لا قيمة خارجية له، يعني خارج إطار شكله. لكي أكسر سطوة التمادي في «تكديس الكلمات» وحسب كما يفعل البعض، تراني نزعتُ منذ أكثر من ثلاثين سنة إلى تكثيف وتقطير لغتي الشعرية طمعاً في أن تكون أنا، بصوتي ونفَسي وفضائي. وحسبي القول: لا علاقة لي بأية تجربة شعرية عربية معروفة. * ترجمت الكثير من الشعراء البولنديين، ماذا أعطاك هؤلاء؟ وأي واحد منهم كان الأكثر تمثيلاً لهاتف الجنابي؟ - كنتُ أميل إلى الاعتقاد بأنه لا يوجد شاعر واحد أحد ولا تجربة واحدة فريدة فقط. لذلك كنت أسخر من فكرة، من قبيل «شاعر الشعب والأمة والحزب». فثمة تجارب وأصوات متعددة، بعضها يستحق المتابعة وما عداها عزف على طبل مثقوب في ريح صرصر عاتية. قرأتُ معظم الشعراء البولنديين وسواهم أحياء وأمواتاً وتعرفت إلى معظمهم بفضل المهرجانات والترجمة، فأعجبني شعر الشعراء المجيدين والمثيرين، وما نعرفه عن الشعر البولندي بالعربية أقل من القليل، وهو مرتبط بالأسماء المعروفة التي ترجمت بسطحية، بغرض الكسب الرخيص. هناك تجارب شعرية بولندية مهمة غير معروفة. لا تزال للشعر مكانة كبيرة في الثقافة البولندية تتجاوز النثر من قصة ورواية. يرتبط الشعر البولندي بروح الأمة وعذاباتها وتطلعاتها، وهو واسع وثري وممتد في نخاع البولنديين، ومن هذا المنطلق هو أعمق من نثرهم وأكثر الأنواع الأدبية إنسانية وتجريباً وغنى. |