هاشم شفيق: شعر اليوم سريع وخفيف لا يصلح للتداول لفترة طويلة

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
14/09/2012 06:00 AM
GMT



الشاعر العراقي هاشم شفيق واحد من أهم شعراء جيل السبعينيات العراقي، الجيل الشعري الذي أحدث انفلاقات شعرية بالحداثة والتجديد على مّر السنين، بالرغم من الأحداث الدراماتيكية التي عصفت بأبنائه، فكانت فترة السبعينيات داخل العراق عبارة عن صراع للأيدلوجيات مع صعود سريع للدكتاتورية المتمثلة بنظام البعث السابق، الأمر الذي جعل من المثقف العراقي آنذاك أمام خيارين صعبين فإما مديح السلطة والسكوت على الظلم! أو المسير الشاق في طريق الشعر من أجل الانتصار للإنسان المظلوم في تلك الأرض، وكان خيار الشاعر هاشم شفيق واضحاً في طريق الشعر منذ نشره لقصائده الأولى منتصف العقد السبعيني في بعض المجلات الثقافية حتى صدور ديوانه الأول (قصائد أليفة) العام 1978 ليرسم من خلال ديوانه هذا مسيرة شعرية حافلة بالإبداع والانجاز الشعري على مدى أكثر من ثلاثة عقود مضت.
ومن يتعرّف على هاشم شفيق عن قرب سيقف على تلة الشعر الصافي النابع من عمق الإحساس ورقة الجملة الشعرية التي تحيلنا في الكثير من الأحايين إلى عوالم غاية في الروعة والجمال وفي الوقت نفسه سيتلقى الحزن العميق الذي يخيّم في أسئلة الشاعر داخل قصائده المدجّجة بمآسي الإنسان التي تخللتها فترات مظلمة عبر الاعتقالات والحروب والحصار والموت على حد سواء.
يمتاز شفيق بطيبته العراقية وهدوئه المعروف الذي يُحسد عليه من أغلب أبناء جيله الأمر الذي انعكس إيجاباً على قصيدته الخالية من التشنجات أو الانفعالات والتي قد تخرج الشعر من طوره في بعض الأحيان، ولهذا فإن هذا الشاعر الهادئ في حواراته الجميلة وفي قصائده المدججة بالمعرفة والحفر في أعماقها نجد أن جملته الشعرية تحمل أسئلة كونية متمردة على الواقع وخرابه ومتمرداً بقوة على أحداث العراق منذ فترة السبعينيات وحتى اليوم والتي جعلت من المثقف العراقي وبخاصة الشاعر أن يبحث عن ملاذ آمن ليكتب بحرية بعيداً عن الرقيب، وبعيداً عن السلطة التي حاولت في ذلك الوقت أن تجعل من الأديب العراقي ذليلاً وتابعاً لها بشتى الطرق والوسائل.
وكان خيار هاشم شفيق آنذاك الهجرة بعد أن تمت دعوته إلى أحد المهرجانات الشعرية العام 1979 برفقة الشاعر فوزي كريم ومن هناك تمكنا من الإفلات من قبضة تسلط المؤسسة الثقافية التي كانت تديرها ثلة من أدباء السلطة ليبدأ شوطه الجديد في عالم الترحال والاستقرار بمدن وعواصم عالمية وعربية، فمن باريس إلى بيروت ومنها إلى قبرص وبراغ ودمشق، حتى استقرّ به المطاف في العاصمة البريطانية لندن، وخلال سنوات المنفى الطويلة استطاع شفيق أن ينتج الكثير من المجاميع الشعرية التي أحدثت صدى كبيراً في خارطة الشعر العربي بشكل عام، كما ترجمت العديد من قصائده ودواوينه إلى لغات عدة مثل الفرنسية والانجليزية والاسبانية والبولندية والفارسية والكردية.
الشاعر هاشم شفيق تجربة شعرية غنية ناضجة بكل معنى الكلمة، تجربة استطاعت أن تنقل القارئ العربي عبر إنتاجه الشعري الثر إلى عوالم بعيدة وقريبة، إلى مساحات من الوعي والإدراك والتلقي وكيفية ولوج النص الشعري إلى المتلقي في الوقت الذي أصبح فيه الشعر صعب التذوق، لقد تمكّن هذا الشاعر من رسم قصائده قبل كتابتها على الورق، فكان يراقب عن كثب مآسي الإنسان في كل مكان يتواجد فيه أو المكان الذي سيزوره لاحقاً، وغالباً ما نرى الوجع العراقي يلوح في قصائده التي كتبها خارج الوطن لارتباطه الحسي والقلبي في تلك الأرض التي أنجبت شعراء كباراً على مر السنين، وعن الشعر والإنسان والمنفى وتجربته على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، كان لنا معه هذا الحوار الذي تحدث فيه بصراحة وبصدق.

* العام 1978 أصدرت مجموعتك الشعرية الاولى (قصائد أليفة) حين كنت شاباً الأمر الذي بشر الشعر العراقي بمولد شاعر جديد، شاعر عرف طريق التكوين الشعري، وقد ظل اسمك مرتبطاً في الذاكرة الشعرية العراقية بعد مغادرتك العراق، هل مجموعتك قصائد أليفة كانت بمثابة القوة الداعمة لتكملة مشوارك الشعري وتألقك فيه خلال سنوات المنفى الطويلة؟

- لكل شاعر بصمته، ووسمه، ودمغته، التي يسعى الشاعر والمبدع الحقيقي وضعها على نتاجه الجمالي والفني «قصائد أليفة»، كانت بالنسبة اليّ الوسم الذي وسمني حقاً، ومن هنا ظهرت تسميات كثيرة بهذا الاتجاه، في ندوات ومقالات ومتابعات ونقود عديدة.
منذ بدء نشر الديوان أدرجتْ تحت أفقه واتخذتْ من سياقه تسميات مثل «ألفة القصيدة»، «كيمياء الألفة»، «الشعر الأليف»، «القصيدة الأليفة»، و «الشاعر الأليف» وغيرها من اشتقاقات تنتسب لأفق هذا الديوان.
هناك شعراء يتميّزون منذ الديوان الأول، وآخرون يتميّزون بعد إصدارهم الرابع كأدونيس في «أغاني مهيار الدمشقي» أو الخامس كسعدي يوسف في «قصائد مرئية» والسياب في إصداره الثالث والبياتي في إصداره الثاني، بينما نجد في المقابل نزار قباني يتميز منذ إصداره الأول وكذلك الماغوط وأنسي الحاج وحجازي وعبد الصبور وأمل دنقل وحسب الشيخ جعفر، لا بل هناك شعراء لم ينشروا سوى قصائد قليلة، ولكنهم عرفوا من خلالها وبات يشار لهم بالبنان كشعراء متميّزين كفاضل العزاوي وسركون بولص، فالأول نشر في مواقف والثاني في مجلة شعر وقد تأخّر سركون طويلاً بسبب كسله المزمن حتى اصدر ديوانه الأول في نهاية الثمانينيات في أثينا عن دار مبتدئة وبعيدة، وثمة من عرف من خلال نشره لقصيدة واحدة كعبد الأمير الحصيري في العراق.
أما الآن فلو نشر شاعر شاب ومجدد مئة قصيدة، فلسوف لن ينتبه اليه أحد، بسبب الفوضى الشعرية السائدة الآن، وكثرة شعراء التقنيات الحديثة والتواصل الاجتماعي، وغياب المعيار النقدي والمجلات المتخصصة والأدبية التي تتابع الأجيال الواعدة والجديدة.

الشعر البسيط

* كيف تنظر الى موضوعة الاغتراب أو المنفى داخل الشعر العراقي فيما مضى، وأقصد هنا مرحلة قبل سقوط النظام العراقي، وهل ضاع الاغتراب أو ضاع المنفى بعد تلك المرحلة؟

- لا، لن يضيع المنفى، والاغتراب باق، ما دام هناك قمع وظلم وعسف وسجون وقتل وغياب للحريات وإلغاء للتعامل بالوسائل الديموقراطية والسلمية، ما دام هناك لصوص وقتلة ومأجورون وطائفيون وحكام مستبدون، سيبقى المنفى كملاذ ووطن حقيقي بديل عن الأوطان المصادرة من قبل شرذمة من المترعين بالعتمة.
في المنفى كان الإبداع يتشكل ويحارب من أجل القيم الإنسانية، وينتشر كقيمة جمالية، تقف مع الحقائق، وتنحاز للمرهف المهجوس بالجوهر الفني والإنساني في حقلي الفنون والآداب الإبداعيين.
إن خيرة الأدباء العراقيين والفنانين كانوا في المنفى، والمنفى العراقي شكل ظاهرة تاريخية لم تدرس حتى الآن، اقتفت آثارها حركات أدبية وثقافية عربية كثيرة.
كانت للمثقفين العراقيين في العالمين العربي والأوروبي دور نشرهم ومطابعهم وصحفهم ودورياتهم وصالاتهم الفنية ومراكزهم الثقافية العديدة ومؤسساتهم الإنسانية التي لطالما وقفت ضد الحروب ورفعت راية السلم العالمي ونافحت من أجل القضايا الإنسانية العادلة.

* هل وصل الشعر العراقي عند تخوم المعرفة حيث المعرفة أحد الشروط الحديثة من شروط الكتابة الشعرية، وهل ثمة عملية تماهٍ مع الحديث والتجريب والتجديد في الشعر من خلال تلك المعرفة إن أنت ألقيت برؤيتك حيال ذلك الوصول؟

- ليس ثمة من وجود لنص أدبي وشعري وحكائي وسردي قد وصل الى تخوم المعرفة، فالمعرفة بذاتها هي شيء مطلق، ليس له حد وقعر وسطح وشكل وإناء، إنها شيء غير مرئي ومحسوس تجسّد في عمل ما، قد يطلق على بعض الأعمال الخالدة كأعمال شكسبير وفلوبير وغوته ودانتي والمتنبي وأبي العلاء والجاحظ وأبي حيان التوحيدي، تطلق هذه الصفات، ولكن من باب التوكيد والإشارة النسبية لبلوغها نوعاً من درجات الكمال وليس بلوغها تخوم المعرفة والإحتياز الكلاني للعلوم الكونية الشاملة.
فقط الأساطيرهي التي تحدثت عن الوصول الى المعرفة الكلانية، فهناك من عرف الكارما واستبطن الهرمسية وخبر ورأى كل شيء، كما لمسنا ذلك في ملحمة كلكامش الإسطورية، والإسطورة كما تعرف هي غير الواقع المجسّد والمرئي، فالشعر كما أعرفه هو كائن لغوي، جذوره تكمن في غابات الحس وفي النار المندلعة من الوجدان ومساحات الباطن، كل شعر حقيقي وأصيل مصدره الفطرة والروح الخلاقة وينابيع العفوية، وعليه في المقابل أن يكون متسلّحاً بثقافة عميقة، وملمّاً بقضايا عصره وخابراً تجارب الحياة ومطباتها الكثيرة، أن في ذلك قوة لتجربته الشعرية، ويمنحها العمق والمتانة والرؤى الكاشفة لوسائل تعبير جديدة.
وعوداً الى بدء، ولو افترضنا جدلاً أن الأدب قد وصل الى تخوم المعرفة كما أشرت لانتهى في الحال دوره، لكونه قد أنجز مهمته ورسالته الجمالية، حيث وصل الى التخوم وأكمل ما أنيط به من دور، وحقق الكمال المعرفي.
الشعر الآن بحاجة الى البساطة الدفينة، الى سبر الأغوار البشرية، الى كشف كنه الحياة، ومعرفة لغز الإنسان في وجوده الدائب على الأرض، حيث الشقاء في الحياة ثم مواجهة النهاية المحتّمة والختام بالموت، على الشعر الكشف عن جذور المأساة وعن معنى السعادة والصراع الدائم بين قوى الخير والشر، بين الظلام والنور، بين السلم والحرب، يستطيع الشعر عبر الرموز والعلامات والبنى اللغوية والرؤيوية وحقول الدوال أن يكشف عن جوهر هذه الثنائيات التي تزخر بها الحياة.

* أنت لا ترى العالم إلا من خلال الشعر، هذا ما أعرفه عنك، وعندما جاء العام 1979، حيث قمع السلطة آنذاك كنت اول الذين أعلنوا القطيعة مع النظام واخترت المنفى لتشكل معارضة ثقافية، ولم يكن اختيارك هذا سياسياً بقدر ما كنت شاعراً، كيف تصف لنا تلك المرحلة التي عصفت بالبلاد ومهدت لحروب وويلات كبيرة مازالت البلاد تئن منها، وانعكاساتها على تجربتك الشعرية؟

- الشعر هو ملاذي، هو مكاني الأليف وناصيتي أيضاً التي يحلو التسكع على جادته الطويلة، الشعر هو الفطنة، هو التأمل والحلم والمنطقة الواقعة ما وراء المجاهل، وهو ايضاً «ذلك التردد ما بين الصوت والمعنى»، كما قال الشاعر الفرنسي بول فاليري وحالتي يمكن وصفها بذلك التردد المتأتي من تلاقح الصوت بالمعنى، فإذا كان الشعر هو نبع فطنة وشلال هواجس وتيار رؤى ونهر اشارات، فالسياسة هي شبكة مصالح ومجموع مؤامرات وسلسلة انقلابات، وهي نفق يمرّ به العاطلون عن العمل والمنتفعون والانتهازيون والمبشرون بالكوارث والجنرالات والحروب، وهم قلة واستنائيون اولئك الذين لا يسعون الى مصالحهم الشخصية ويرون أنها فن الممكن لعمل شيء مفيد لمواطن قابع في محنته اليومية.
حين وقعت الحرب، كنت خارج العراق، ولكنني، كنت أعيش حرب لبنان، لقد عشت حرباً مزدوجة، واحدة خارج الحدود تمسّ ظلوعي لكون العراق بلادي، وأخرى تمس القلب كوني في بلد كأنه بلادي، حربان حملت في داخلي، واستطعت أن أكتب عن الاثنتين بحس واحد، وكان معي هناك الكثير من الأصدقاء الشعراء والأدباء والفنانين الذين كتبوا ورسموا وغنوا ولحنوا وأخرجوا مسرحيات ومثلوا ضد الحرب، أياً كان هدفها ومقصدها وأنى كانت شرارة انطلاقها والمكان الذي وقعت فيه وألهبته، نحن بدورنا ألهبنا المخيلة بنار الإبداع لكونه وسيلة وسلاحاً جمالياً فعالاً ومؤثّراً لا يقل مضاء عن السلاح الحربي.

أرض خصبة

* في ضفة أخرى من ضفاف النقدية الشعرية نجد أن حركة النقد العراقي تُجزأ في إحدى معارضها النقدية جزءين يتعلقان بالمنجز الشعري العراقي، الأول داخل العراق حيث مرحلة ما قبل التغيير الدراماتيكي في العراق اي ما قبل العام 2003 والثاني خارج العراق في المرحلة نفسها، ومقابل هذا لدينا المنجز الشعري ما بعد التغيير المذكور داخل وخارج العراق؛ كيف ترى العلاقة ما بين تلك التجزئة التي تخص المنجز الشعري العراقي؟

- المنجز الشعري العراقي واحد، غير قابل للتجزئة، ثمة ظواهر وحركات نقدية منذ البدء رافقت منجزات الشعر العراقي الحديث، إن كان النقد يعيش خارج العراق أو في داخله، فهما سيّان، جوهرهما واحد وهو البحث في تقصي عمليات الإبداع الفني والجمالي للأدب العراقي، والقصد هو، إذا كان ثمة حضور نقدي على سبيل المثال لا الحصر، للناقد فاضل ثامر في الداخل، فثمة في الخارج حضور نقدي للناقدة فاطمة المحسن، كلاهما ناقد حصيف ولبيب وقدير ومتمكن من أدواته النقدية والمعرفية والفنية، وإذا كان هناك شاعر ناقد كسامي مهدي في الداخل، فكان هناك فاضل العزاوي من يوازيه ويعدله في الخارج، كلاهما شاعر وناقد ومترجم وصحافي ومن جيل واحد، فيما عدا الاتجاه السياسي لكليهما، هذان الشاعران كلاهما رفد المكتبة النقدية العراقية برؤاه وتصوراته وإسلوبه المتميز الذي أضافه للحركة النقدية في العراق وفي العالم العربي.
من ناحيتي لم أرَ ظهور تجزئة للحركة النقدية في ما قبل 2003 وما بعدها أرى أن الزمن ممتد على نحو طبيعي في سياق الحركة النقدية العراقية.

* كيف تنظر الى الأجيال الشعرية في العراق، وكيف يمكن تحديد الماهية والكيفية الشعرية من خلال تراتب وتطور تلك الأجيال؟

- الأجيال ستظل تتوالد، في أرض هي بالأساس خصبة بالرؤى، مترعة بالأساطير، مفعمة بالحياة والتجدد، أحفاد كلكامش سيظلون يتناسلون ويقولون الخالد والأبدي، إن الشعر لهو نعمة في العراق، إنه ثروة مخزّنة ثروة لا تقل عن النفط إذا طلبت المقارنة، لكن الفارق بين الإثنين جدّ بسيط، ألا وهو أن الأول لا تستطيع سرقته واستثماره في بنوك وشركات ومشاريع وهمية، لأنه ببساطة فن متقشف، فقير ويسعى في الأرض كالنباتات البرّية، غير أن سلطته قوية، إذا ما انتوى ان يتحوّل سلاحاً نقدياً سيكون حاداً ولاذعاً وقاصماً، ضدّ وسائل القمع والقهر والقتل وقوى الشر السوداء التي تحاول أن تهيمن على الحياة العامة، ولنا في الرصافي والجواهري والسياب ومظفر النواب وسعدي يوسف خير دليل على ذلك.
أما فيما يتعلق في الشق الثاني من الجواب، فثمة الآن في العراق أجيال شعرية جديدة وصاعدة، مدركة لما تقول، وساعية نحو حيازة الجمال وإتقان القول الصحيح، فالإبداع رأيته يتجلى في أسماء كثيرة، في مجال الشعر والفن التشكيلي والنقد والرواية والقصة، العراق بلد ولّاد وحاضنة تاريخية وأزلية للإبداع والابتكار والخلق الفني والجمالي.

شعر عزلة

* قارئ قصائدك يكتشف انعكاسات حياتك الخاصة التي تعيشها، وأنت تبحث عن الجمال في أدق الأشياء الصغيرة التي تصادفك، الأمر الذي يجعل أغلب قصائدك خالية من التشنجات والتأزم / كيف تمكّنت من الحفاظ على هدوء روحك حين كتابتك القصيدة؟

- الشعر ليس معركة مع الورق، أو شجاراً مع الكلمات، أو منازلة مع المعاني والصور والاستعارات، الشعر هو تأمّل وسبر غور العوالم، والمجاهل البعيدة، تحليق في الجماليات، هنالك خلف الماوراء، لكشف المبهم والغامض وحلّ عقدة العسير الذي يعترض الرؤية.
الشعر إذاً رؤيا وخيال وطيران في اللامتحقق، حفر في الأقاصي، ونحت في الصعب وغير المدرك، الشعر رحلة في المستحيل وعدْو نحو الأبدي وتشوّق لرؤية القابع في السرمدية.
أظنّ أن الشعر هو حرث متواصل في حقول الجمال يحاكي الأعالي والأسافل معاً، وكما قال الناقد القديم حازم القرطاجني «الشعر محاكاة وتخييل»، والتخييل هو نوع من الحلم الدائم، حلم قادر على صناعة معنى الوردة، وسرّ الريح، الشعر سرّ ولغز وخبز، أحياناً يسدّ جوع المخيلة، ولأن الشعر مسكن لغوي للشاعر وشفرة وطلسم وتعازيم، فهو هنا يكون من دون شك بحاجة الى الهدأة والسكينة والعزلة.
من هنا وتحت ضوء هذا الأفق الشعر الجميل تنتجه العزلة الذهبية، والروح المتأمّلة في عملية الخلق، عملية البعث والموت والولادة.
إن الحديث أعلاه، هو ما يخصّ ويمس تجربتي في كتابة القصيدة، قد يكون هناك شاعر يكتب بطريقة مختلفة وقد يعيش تجربة معينة، وهو لا يستطيع كتابة الشعر إلا من خلال تأزّم ما، أو وضع مأساوي واجهه ومرّ به، أو أنه واجه هزيمة أو نصراً، وقد يكتب تحت ردّات فعل طارئة وحدثية، فهذا الشاعر له كل الحق في انتهاج السبيل الذي يبتغيه في الكتابة، ولهذا نجد الاختلافات والتمايزات والفوارق بين شاعر وآخر، بين قصيدة وأخرى، ولهذا نجد تعدّداً وتفرّداً وتميزاً في طرائق التعبير والأساليب والتشاكيل اللغوية والشعرية والفنية.

* ما هو تقييمك الى المشهد الشعري العراقي من خلال معرفيات الشعر اليوم؟

- الشعر العراقي اليوم بحاجة إلى مواهب قوية، لكي تعيد الشعر إلى نصابه السابق، ينبغي التألق لفتح مناطق جديدة وإعادته الى الواجهة، فاتحاً وبهياً يتصدر المشهد، ويكون كما كان في الطليعة وفي المقدمة.
شعر اليوم شعر سريع، خفيف، ليس فيه ثقل يجعله صالحاً للتداول لفترة طويلة، وقابلاً لتحديات الزمن، أي أنه شعر يشبه الموضة، سرعان ما يزول بريقــها مع مــرور وقـت معين عليها.
هناك مواهب في العراق عديدة، ولكنها بحاجة الى ثقافة كبيرة، ودراية واطلاع ومعرفة بلغة أخرى، وتبحر في خفايا وأسرار عالم الشعر المتشعب والمتداخل مع الفنون والسرديات والعلوم وعاديات الحياة ونثريتها.
شاعر اليوم ليس شاعر رؤيا بل شاعر رؤية، ليس شاعر بصيرة بل شاعر بصر، ليس شاعراً انتقالياً، بل ارتدادياً، وقصيدته ذابلة، صياغاتها مستهلكة، ليس فيها نضارة، بل فيها نظر الى تداول طريقة الآخر، أجل هناك مواهب ولكنها قليلة ومنشغلة بالواقع المحيط الذي تعيش فيه، انعدام الأمان، انعدام الهدوء، انعدام التواصل مع الطبيعة، مع الماء والأشجار والغابات والبساتين بسبب التصحر وقلة الماء، بسبب انقطاع الكهرباء التي هي ضرورية لكل إنسان وسط أجواء من القيظ الشديد وموجات الغبار التي تدهم العراق، بخاصة في فصل الصيف، انعدام وسائل الترفيه كالمقاهي والحانات ودور السينما والنوادي الليلية الى آخر القائمة من المصاعب الحياتية اليومية.

* في مهرجان جرش العام 1998 قرأت قصيدتك التي مازالت عالقة في رأسي واسمها (بائع الحدقات) كنت تصور ماسأة العراقيين ايام الحصار الذي نخر جسد الانسان العراقي، الامر الذي جعل من الحاضرين نقاداً وشعراء أن يشيدوا بهذه القصيدة وطرحها الانساني ذي القيمة العالية، كيف تصور لنا تلك المرحلة المؤلمة وانت تعيش في بريطانيا وارتباطها الروحي بقصائدك وكأنك تعيش الحصار داخل العراق؟

- قصيدة «بائع الحَدَقات» كتبتها اثناء الحصار الأميركي للعراق، إني أنجح الى حد ما في الكتابة عن التراجيديات الإنسانية، وعن محنة الفرد أمام القوى الظالمة، إني كنت اعرف ان الناس كانت تبيع الأبواب والنوافذ والبلاط، من اجل رغيف الخبز، من أجل علبة دواء، من اجل علبة حليب لطفل، من اجل برتقالة لشيخ مريض، كنت أعرف كل شيء لكأني كنت هناك بينهم. فأنا أتحدر من عائلة فقيرة وعشت طفولة صعبة وغير مريحة، من هنا انحيازي لكل شيء غير طبيعي، غير انساني وغير عادل، انها طبيعتي التي جُبلت عليها، ولا يمكنني أن أحيد عنها قيد أنملة، ولا أستطيع الا ان اقف مع المحبط والمقهور والمضطهد المضغوط بالشجى.

* ما هو جديد هاشم شفيق الشعري؟

- صدرت لي في بيروت هذا العام روايتي الثانية «أشهر من شهريار»، وصدر لي العام الفائت ببيروت ايضاً ديوان شعر بعنوان «التطــريز بالكرز»، ولي أعمال ستصدر في السنة المقبلة.