بورتريه: رافع الناصري .. التشكيلي المختلف

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
03/09/2012 06:00 AM
GMT



على محيَّاه وعي ببساطة تعانق نزوعاً قديماً إلى العفوية والبداهة .. فيُفصح إيقاع مشيته عن لين يساور المحب في دلاله وكبريائه .. ويترامى وجهه في رحلة بحثه البصري ، عبر اتصال الألوان بالظلال .. والخطوط بالأبعاد ؛ فإذا المعنى يُطل عليك بغير اجتراء على التخوم المعقودة على التواصل !
هامس .. متمهل الخطى .. كلامه توقيعات .. يقبض على حقيبته التي أودعها كتفه ، وكأنها تصل خياله بأحلامه المضنون بها على غير أهلها .. غير أن عينيْه تكشفان لك ارتعاشات ريشته ، أو اصطفاق يديْه على أطياف شوقه ووجوده .. وهو ما تلخصه لنا أحياناً ابتسامته الخاطفة وهي تتبادل الأدوار والمواقع مع تعبيراته المكثفة . لكنه يصمت إذا لم يعجبه شيء ، فيدلك على لحظة التنوير في الحوار ، دون أن يعصى ضميره الجمالي !
عندما التقيته عام 2006 في القاهرة ، اغتنم فرصة وجود زوجه الشاعرة 'مي مظفر'ليتحدث عن العلاقة بين الشعر والفن ؛ حتى لا يستأثر بالحديث عن نفسه وعن أعماله ؛ أو كأنه يرى الشعر بوابة النفير التي تمر منها الأحلام الحقيقية ، أما الأحلام الزائفة فتمر عبر بوابة العاج ، كما أخبرنا 'فرجيل'في 'الإنيادة'.
عرف الغربة والترحال 'أو الهجرة الفنية بتعبيره'مثل شاعره الأثير 'أبي الطيب المتنبي'؛ الذي عاش حياته جوَّاب آفاق ، واقفاً أبداً على مفترق طرق ، متمثلاً ، ربما ، قوله :
فإما تريْني لا أقيم ببلدةٍ فآفة غمدي في دلوقي من حدِّي
تبدِّل أيامي وعيشي ومنزلي نجائبُ لا يفكُرْنَ في النحس والسعدِ

رسام وفنان غرافيكي عراقي ( ولد في تكريت عام 1940) مهموم بصيرورة العلاقة بينهما ؛ بغية خلق الظروف المواتية لاكتشاف ما هو حيوي بين التراث والتواصل .. الحداثة والمجتمع العربي ؛ بعد أن أدرك طبيعة 'الثنائية الأزلية التي لازمت الفنان العراقي ، أولا وهي الانشداد إلى الماضي ، وتشبثه بالحاضر، مع تطلع قلق إلى المستقبل ' مضيفاً إليها:'صرامة الدراسة الفنية الأكاديمية ، وروح التحدي ، ووضوح الرؤية ، وحدة التعبير ' ولعل ذلك ما حرَّضه على اختيار 'أبي الطيب المتنبي'مشروعاً فنيّاً له جاء تحت اسم 'تحية إلي المتنبي'، بعد أن رأى فيه ما فيه من كبرياء وموهبة استثنائية ، وعيشه الحياة كحلم ، على نحو ما جاء في بيته :
هوِّن على بصر ما شقَّ منظره فإنما يقظات العين كالحُلم
مفيدا، ربما، من تجربة الفنان العراقي'يحيى بن محمود الواسطي' الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي ، حين نهض برسم 'مقامات الحريري' وسواها من المخطوطات النادرة ، متفهماً جوهر العامل الزمني في الكشف عن هوية التمايز وأفق الانتظار. تتلمذ على يد فائق حسن وجواد سليم وإسماعيل الشيخلي ،فلمس مهارة الأول في 'تكوين الموضوع ، ومعرفته الجيدة بتكنولوجيا الألوان ، وإبداعه في استخدامها'، وأجَلَّ في الثاني 'دوره الأساس والمؤثر في بدء وتعزيز النزعة الحداثية ، والروح المعاصرة في الرسم العراقي ، بعد أن فتح أبواباً وآفاقاً جديدة أمام الرسامين الشباب'، وأحب في الثالث'النظام والالتزام الشديد من ناحية ،والشفافية والأريحية من ناحية أخرى'.لكن سيبقى للأستاذ 'جبرا إبراهيم جبرا'القدح المعلَّى في دعم مسيرة رافع ورفاقه : ضياء العزاوي وإسماعيل فتاح ومحمد مهر الدين وصالح الجميعي وهاشم سمرجي الذين أصدروا في نهاية عام 1969بيان 'الرؤيا الجديدة'الذي صاغه 'ضياء العزاوي'، ومثَّل منحى مغايراً في زاويتي النظر والتناول الفنييْن على الصعيد العراقي بأسره ، وقام 'جبرا' بتعريفهم مع نظراء لهم وأنداد إلى رفيق رحلته الحداثية الشاعر 'يوسف الخال' في أثناء زيارته إلى بغداد ، فتحمس لهم ، وفتح صالته الفنية 'غاليري وان' في بيروت لأعمالهم ؛ فغدت 'منذ ذلك الحين نافذة الفن العراقي على العالم العربي'.
عشق الحفر مثل أسلافه ، وازداد ولعه بالفن الصيني ، إثر ما حققه فنانه من إنجاز في هذا المضمار؛ فالتحق بأكاديمية الفنون المركزية في بكين ، فأفاد من فنانيها الكبار 'لي خوا' بدروسه التي تحتاج إلى 'الدقة والشفافية ، وقوة الملاحظة والذاكرة' ، 'وخوانج يو يي''دائم الحركة والبحث عن الجديد '.. على نحو ما فعله الفنان الإنجليزي 'ديفيد هوكني'الذي استطاع 'أن يقتنص من الفن الصيني الاختزال والشفافية مثلاً' على حد تعبيره .. ليعود إلى بغداد في أواخر عام 1963حاملاً شهادة التخصص في هذا الفن ، وليقوم عام 1974بمبادرة شخصية منه بتأسيس قسم الغرافيك بمعهد الفنون الجميلة الذي أسهم في تخريج جيل له بصمته الواضحة في هذا المجال من طراز: سامرأسامة ومظهرأحمد ونديم محسن وهناء مال الله وعمار سلمان. وقد آمن رافع الناصري بحيوية أن يحيا الفن في الحاضر، طارحاً أسئلته التي تتعين بها منظوراته ، عبر ضفيرة من الرؤى التركيبية التي تتحرك داخل ساحة الفن ، وبلغة الفن وحده . فكما أن الشعر هو الذي يجعل اللغة ممكنة في المقام الأول كما قال هيدغر ، فإن على الفن أن يصدر عن اختلافه في إطار نسق من العلاقات التي تكثر انزياحاتها . لهذا وجد رافع فن الغرافيك العربي متخلفاً عن لحظته في أوربا واليابان وبعض دول جنوب شرق آسيا 'وأول هذه الظروف : عدم توفر المناخ والمكان المناسبيْن لإنتاج فن من هذا النوع يحتاج إضافة إلى مساحات العمل المدروسة علميّاً ، إلى أدوات وعدد ووسائل طباعية خاصة ، كما يحتاج إلى توفر مقدار كافٍ من روحية العمل الجماعي التي تُفْتقَدُ كليّاً أو جزئيّاً في تكوين الفنانين العرب ' ، ناعياً على الفنان العربي 'إصراره على الرسم على القماش فقط بطريقة لوحة المسند والمحترفات المغلقة'.
من هنا أنشأ رافع الناصري محترفه الخاص في بغداد عام 1987؛ ليقدم لنا لوحاته الرائعة في الحفر على الزنك والمونوتايب .. وكان قبلها قد أنجز أعماله الرائدة في محترف لشبونة في الحفر على النحاس ؛ تأسياً بالحفار الإنجليزي المعروف 'دبليو إيج .هايتر'في الطباعة 'حين اكتشف الحرف العربي وجمالياته ، مستخدماً إياه في موضوعات تجريدية أصبحت المنطلق الأساس لكثير من أعمالي اللاحقة'، وأسس محترف الغرافيك التابع لدارة الفنون في عمَّان عام 1993، وأشرف عليه لسنوات عدة ليُرسي تقاليد في العمل الجماعي أفضى افتقادها إلى انفراط عقد الحركة التشكيلية العربية ، وابتدع لغة لا تتعين إلا بنفسها ، وبقدرتها على تغذية شك متبادل بينها وبين محيطها الفني ، عبر إدراكه التنوع المتغير دوماً داخل المشهد الطبيعي ، فتغنى بجمالياته ، ممتدحاً جماله الحر.. في معادلة تحقق حلمه بإنسان جديد .. اكتسب تجربته من ماهيات الطبيعة الكبرى ..ألم يُنصت رافع الناصري إلى شاعر إسبانيا العظيم 'رافاييل ألبرتي' إثر تعلمه الغرافيك وهو يقول :'وقد قمتُ بصبر يعادل صبر راهب من العصور الوسطى يتحلى بدقة فنان صيني إيطالي ـ عربي ـ أندلسي ، بصنع كتب من القطع الكبير' ، ليقدم لنا بورتفوليوغرافيك لا حدَّ لفتنة مغايرته ، لديوان زوجه الجميلة الشاعرة والمترجمة 'مي مظفر' من تلك الأرض النائية ؟! مؤمناً بأن 'إقامة المعارض الشخصية أو المشتركة الآن في العواصم العربية مثلاً ، لأمر وطني وقومي ملح ؛ فهى الرد الأرقى على تردي الوضع السياسي العربي '.. تماماً مثل مقالاته التي ينشرها بين الفينة والأخرى ؛ رامياً من ورائها إلى 'بث الأفكار الفنية والذائقة البصرية المعاصرة ، في صيغة مقالات ' جمع بعضها في كتابه 'آفاق ومرايا' ؛ للرد على حملات التشويه والأمية التي لحقت إنساننا العربي ، ولتحقيق التواصل مع الآخرين . ألم يقل لنا الفيلسوف 'ميرلوبونتي': 'إن أي كائن لا يستعلي على الكائنات الأخرى بشكل نهائي ، إلا إذا كان عاطلاً وجاثماً على اختلافه الطبيعي' ؟
*كاتب وناقد من مصر