قراءة في رواية (تغريبة ابن زريق البغدادي الأخيرة) لسلام عبود |
المقاله تحت باب مقالات و حوارات
من قرطبة إلي بغداد تفتتح رواية (تغريبة ابن زريق البغدادي الأخيرة) للروائي سلام عبود ،فصلها الأول بموت ابن زريق البغدادي بخان في قرطبة .وعامر المجريطي راوي الحكاية هو أندلسي من المولدين (أي أنه مسلم من أصل اسباني) ويرتبط بألفيرا صاحبة الخان الذي عاش ومات فيه ابن زريق ،بقرابة نسب..إمرأة عارفة بخفايا الأمور ..وبتفاصيل واقع الاندلس وأسرار ممالكها...هذا الراوي يكني بأبي سليمان ..وهو الذي تبهره رقعة صغيرة وجدت علي وسادة ابن زريق وقد كتب عليها قصيدته الشهيرة التي يقول مطلعها( :لاتعذليه فإن العذل يولعه قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه ..) فمالذي يجعل الروائي سلام عبود يتتبع أثر تلك القصيدة العصماء من خلال بطله أبي سليمان عامر المجريطي الأندلسي الذي قرأ القصيدة وهو يبكي ابن زريق عند قبره واصفاً أياه بأن روحه قد سكبت روحها شعراً في تلك الأبيات ،قبل أن تذهب إلي مثواها الأخير؟في البدء يكون الدافع هو الإحساس بفجيعة الشاعر الذي مات كمداً بعد عودته بخذلان كبير من كبير المقام أبي عبد الرحمن الذي كسره في كبريائه عندما لم يقدر قصيدته حق قدرها ..ثم بعد ذلك يتملك عامر المجريطي الأندلسي الفضول الهائل لمعرفة من يكون إبن زريق البغدادي ..؟؟ ومن تلك هي المرأة التي يخاطبها في قصيدته الشهيرة "لاتعذليه فإن العذل يولعه "؟ وكيف تكون تلك التي يصفها بقمر الكرخ في المقطع الذي يقول: (استودع الله في بغداد لي قمراً بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه ) أبو سليمان المجريطي هذا يحلل القصيدة ويهيم بها ثم يصفها بالقول: "لم يظهر بوح غزلي عن زوجة ،في التراث الشعري العربي كله من قبل،علي هذه الدرجة من التشخيص والإشهار".....بعد ذلك تبدأ رحلة البحث عن ذلك القمر الطالع من فلك الأزرار ..من يكون؟وكيف هو شكل تلك المرأة التي وصفها ابن زريق بقمر الكرخ ؟ وكيف تمضي ليلتها هذه بعد موت حبيبها ابن زريق؟ هل أحس قلبها بتوقف نبضه؟ هل ضاقت أنفاسها بتوقف انفاسه؟؟من تكون وكيف تكون؟؟يؤرق السؤال أبا سليمان المجريطي الأندلسي حتي مطلع الفجر وهو ينظر الي القصيدة متوسداً الحروف متخيلاً تلك المرأة البغدادية التي ألهمت ابن زريق تلك القصيدة متسائلاً لم تركها وهاجر إذن إذا كان يحبها كل ذلك الحب ؟..وهنا يقرر أبو سليمان البحث عن تلك المرأة بأي ثمن ..فيخرج إلي الحج حاملاً عطية كبير المقام أبي رحمن التي جاءت بدافع التجمل بعد فوات الاوان ..ويستخدم الحج ذريعة لكي يهجر أهله وبلاده ويرتحل عابراً القارات في البحث عن قمر الكرخ التي يرد ذكرها في القصيدة..وتحاول ألفيرا صاحبة الخان أن تثنيه عن عزمه ولكنه حسم أمره مدفوعاً بقدر خفي للوصول الي بغداد حيث يوجد ذلك القمر. الاخوة الاعداء في الفصل الثاني من الرواية والمعنون (بغداد) يصف لنا الرواي ،باذلاً علي مايبدو، عناءً مخلصاً للاستعانة بخبرات مرجعية موثوقة ، طريق القوافل بكلمات تنطوي علي حيوية الواقع وجموح الخيال حيث يجعلنا نمشي مع بطله الأندلسي إلي أرض السواد ثم يحط رحاله في بغداد جمجمة العرب وملتقي العلم والعلماء. هناك يختلط بصفوة كتابها وعلمائها ويلتقي بأبي مهدي المدرس في مدرسة العلوم. ثم يبدأ رحلة البحث عن ابن زريق في بيئة ثقافية تزخر بأهم علماء وكتاب وشعراء الحقبة ، ولكن بحثه عن زريق وزوجة ابن زريق سرعان ما ينقلب الي بحث عن أسرار بغداد، والي بحث عن الذات وعن الآخر.هناك في مجالس العلم والأدب سنعرف أوجه التشابه والاختلاف بين ضعف الخلافة في كل من بغداد والأندلس وهناك سيشعر أبو سليمان بمشاعر ابن زريق الذي كان بعمره وهو يغادر بغداد الي الأندلس ..تلبست المجريطي الأندلسي شخصية ابن زريق البغدادي في البداية ولكنه ذهب بعد ذلك الي ماهو أبعد من القصيدة وأحداث القصيدة ..أصبح في قلب الصراع الدامي بين أطراف المسلمين المتناحرة وتصبح قمر الكرخ المرأة واقعاً ورمزاً وصورة موصوفة في قصيدة جميلة ،هي المحور الذي تدور حوله أحداث الرواية ومسيرة بطل الرواية بين مكان وآخر،فيلتقي أولاً بالمؤرخ الخطيب البغدادي ويلازمه في ساعات سفره الأخيرة الي أصبهان..ولكن الخطيب البغدادي يهدي الأندلسي المجريطي مخطوطته عن بغداد قبل أن يسافر فتعينه علي وصف بغداد سرة الدانيا وحاضرة المدن في ذلك الزمان . تدور الأحداث عشية سقوط الاندلس بعد تقاتل الاخوة الأعداء من حكامها والاستقواء بالأجنبي ضد إهلهم من المسلمين ..فتخور دولتهم وتبدأ بالانهيار بينما تنوء بغداد بمعارضة البويهيين ضد الخلافة وصراع أهلها السنة والشيعة وغير ذلك من صراعات الكرد والاتراك وأطماع السلاجقة وازدواجية الحكم بين ملك بويهي وخليفة عباسي تسك صورتهيما علي جانبي العملة..كأن بسلام عبود يختار تلك اللحظة الحساسة والمركزة من تاريخ بغداد والدولة الاسلامية تحديداً والتي تزامن فيها التمهيد لسقوط بغداد مع سقوط الاندلس ، لكي تكون قصيدة ابن زريق (لاتعذليه)هي الجسر الذي يربط بغداد بقرطبة ويعبر من خلاله الراوي بين مكانين تشابها في أجواء الصراع الفكري والطائفي والسياسي، وما أدي إليه ذلك الصراع من مصير في ظل التفكك العربي والتناحر علي أجزاء الممالك العربيّة الإسلاميّة المتخاصمة. خير الشر عاجله في الرواية أيضاً نجد عصراً من أساطين الأدباء والعلماء والمؤرخين وعندما يريد المجريطي ،المتماهي مع ابن زريق ، العبور الي هذا العصر سيكتشف صعوبة ذلك من خلال تناقضات بغداد ووعورة صراعاتها الطائفية..ويحذره أبو مهدي من عواقب بحثه عن زوجة ابن زريق ،ولكن المجريطي يصر قائلاً "خير الشر عاجله" وسيكون أبو حيان التوحيدي هو المدخل الي عالم ابن زريق فهو الآخر عاد منكسراً من مجلس الصاحب بن عباد الذي استخف به وطلب منه أن يلزم بيته وينسخ له الكتب بأجرة..لكن نهاية ابن زريق والتوحيدي لم تكن واحدة..الأول مات شاباً بالفعل والثاني وصل حداً يفوق الموت عندما قتل وهو حي...ومن خلال التوحيدي ..والمرفوض من قبل السيد والمراجع الكبار بسبب رسالته عن رواية السقيفة ..ستكون مفارقة الدخول الي عالم الطائفة لأن التوحيدي المغضوب عليه له مؤلف في مدح الدنيوري المقبول عند السيد الكبير ..رحلة سيكون السعد أولها والوعد آخرها ..اذ بعد لقاء السيد الكبير، عن طريق الشاعر مهيار الديلمي ، يخبره بكذبته البيضاء بأنه يزور بغداد في طريق عودته من الحج وبكذبته الأخري هي بحثه في كتاب الدينوري الذي امتدحه التوحيدي قرين ابن زريق في محنته أمام الوزير.... وهكذا يبحر النص بين سحر المرأة وسحر بغداد، ويحفر عميقاً في التاريخ والفكر والمشاعر، صانعاً التلاحم بين الذاتي والموضوعي، وبين بحث الفرد عن مصيره وبين تشابك هذا المصير مع مصائر الآخرين..... تبدأ وتنتهي وقائع الرواية في مطلع القرن الخامس الهجري، تولد حكايتها بموت ابن زريق في قرطبة وتمر ببغداد وكربلاء والنجف ثم تنتهي قرب االمدائن قبل العودة الي قرطبة من جديد .. جاء المجريطي يريد أن يستكشف كوكباً مجهولاً هو قمر الكرخ وفي الطريق الي هذا الهدف يقع في قلب الصراع الطائفي الدامي بين الأتراك والأمويين من جهة وجماعة السيد الكبير من جهة اخري..وثمة صراعات فكرية تجاور تلك الصراعات الطائفية مثل جدل قدم العالم أم حدوثه للمعتزلة ومحاججات أخوان الصفا ورسائل التوحيدي..إنها لحظة منتقاة بعناية من تاريخ بغداد يمضي من خلالها المجريطي في تقديم طروحات جديدة من خلال مناظراته مع الخطيب البغدادي وأبي مهدي الزاهد الذي يلقي الدرس في مدرسة العلوم..فيصبح الرجل الثري القادم من الاندلس محتلاًّ مركز الصدارة في إدارة الحدث التاريخي، فهو منطقة الرصد ومنطقة الفعل ورد الفعل في مواجهة عدة قوي مركزية وهامشية .. رمال وعواصف ولكن منذ ان وقع المجريطي تحت أنظار السيد الكبير ووكيله وقيم المدرسة ..سيعمل خيط من خيوط الرواية هو الخادم (كوكب) ، الذي خصصه السيد الكبير لخدمة أبي سليمان المجريطي، علي أن يكون هو الدليل الي المرأة التي يعتقد المجريطي انها قمر الكرخ ..لتتحول الرواية في منتصفها الي شد جميل ومشوق بين المجريطي وتلك المرأة من خلال مجموعة لقاءات تتصاعد دون أن يتأكد انها نفسها قمر الكرخ التي جاء للبحث عنها ...وسيبقي هذا الغموض يلف المرأة حتي نهاية الرواية ولنا في ذلك وقفة بعد قليل. الأندلسي المحاط بريبة السيد الكبير ووكيله أبي باقر ..سيتم رصد تحركاته وخطواته أولاً بأول ومن ضمن تلك التحركات لقاءاته مع قمر الكرخ التي اتضح انها ترتبط بقرابة معهم وهي أم لطفل يجب أن يبقي تحت أنظارهم ولا يذهب بعيداً عنهم ..هنا تنحرف رحلة المجريطي عن مسارها للبحث عن معشوقة ابن زريق ، الي مكتبة دلته عليها تلك المعشوقة، تقع في كربلاء وقالت عنها أن مؤرخاً فيها سيروي لك حكاية نسبي وقصتي مع ابن زريق ..هنا تتحول المكتبة الي قضية ويبدأ الاضطراب العظيم ..تختلط دروب بغداد مع دروب قرطبة وتلقي السياسة بظلها علي المشهد كله فتتحول قمر إلي قيمة رمزية مطلقة أمام طالب لم يعد يعرف ماذا تريد . هذا الغموض انعكس علي مسار الرواية التي اضطربت في خضم ذلك الاضطراب وكاد أن يضيع خيط المرأة بين خيوط الرواية الأخري بدلاً من أن يلتقي معها ..لنكتشف فيما بعد أن ذلك الغموض كان مقصوداً من أجل الإبقاء علي رمزية المرأة التي ما أن تظهر حتي تختفي ولهذا تدور مع بطل الرواية في حلقة من التلاقي والابتعاد، كما مثلاً عندما قررت الإلتقاء به عند بيت المؤرخ في كربلاء وفي عين تمر تحديداً التي" شربت رمالها الكثير من الدماء" ..ولكنها لم تأت الي بيت المؤرخ ، فيؤسر المجريطي علي مشارف كربلاء من قبل مرتزقة وجند أتراك يبحثون عن ابن المرأة قمر الذي تم تهريبه قبل ذلك ..ويوشكون علي قتل المجريطي ظناً منهم بأنه مطلوب .. وهنا ينقسم المهاجمون علي أنفسهم بعد علمهم انه من الاندلس وتجري مذبحة بشعة تباد فيها عائلة المؤرخ الذي مات بعد وصول المجريطي اليه ،فتكون مشاهد الموت هي آخر مايتذكره المجريطي في رحلة عودته الي بغداد ونجاته من الموت في تلك المذبحة ... سينجو من الأسر والموت ويلتقي بالمرأة مرة أخري في سجنه فتعتذر عن مشورتها المهلكة بلقائه عند المؤرخ والتي كادت ان تتسبب في موته....ثم تكشف له ، وهو في سجنه مكبل بالأصفاد، عن وجهها بلا خمار ...وبدلاً من أن ينزاح الغموض عن هذه المرأة وينفتح النص علي جواب محدد حولها .. يكتنف المرأة غموض أكبر عندما لايكتفي الروائي بعدم توضيح هويتها ، ولكن يمعن في إعتامها وبلبلة أفكارنا حولها بطريقة تجعلها معلقة في الهواء..لقد تحولت تلك المرأة إلي ضباب وهي التي كان وجودها قضية مصيرية و تحدياً كبيراً للأندلسي منذ أن شد الرحال للبحث عنها ..لقد جعل الراوي تلك القضية خاسرة وبطريقة ضبابية جداً وكأن تلك المرأة العصية التي لم تتطابق صورتها مع خيال الأندلسي ..لم ترض خيال الروائي أيضاً . قدرها في مقتلين مقتل معه ومقتل بدونه ..ولهذا تواصل لعبة اللف والدوران معه بطريقة ملغزة. "أنا قدر بالنسبة لك وانت قدر بالنسبة لي وهذا الطفل اليتيم قدري وقدرك .." "انت وطفلي قدراي ..لكل انسان قدر واحد ..أما أنا ،ياللمصيبة ..فلي قدران.. قدران متخاصمان ". ..وحتي عندما يدور الحوار بين المجريطي وسعيد أحد مرافقيه عن ذلك الطفل القدري ، يبقي السؤال معلقاً دون جواب..إنه وكما ورد علي لسان سعيد: "قوة غير مشخصة ..وغير منظورة جراء التقصير او الخطأ أو الظلم أو غيرها" ..وعندما يفتح النصّ للقارئ نافذة واسعة لمعرفة الجواب ،لكنه بدلاً من أن يحصل علي جواب، يعود بسؤال آخر.. فإننا نكون أمام رمزية مقصودة ومشحونة بالدلالات ولكنها متقاطعة مع ماقبلها من عرض و تحليل و توثيق لخفايا تاريخ بغداد وحاضرها، ورفع الأحجار عن الزوايا المظلمة التي مهدت لتمزق دولتي الخلافة في الأندلس وبغداد.... سيلف الغموض مصير تلك المرأة المفترضة (قمر الكرخ) من قبل الأندلسي الذي لا يقطع الأمل في اقتفاء أثرها حتي وهو ينطلق الي المجهول ... طفلها هو الآخر يتحول الي قضية سياسية تتمشكل حولها الأحداث ،ثم إلي لغز يكتنفه الغموض بطريقة لاتتساوق مع تاريخية الرواية.. فظلت ماهيته مستترة بل تواصل استتارها في الحل والترحال بطريقة رمزية بالغة التلغيز هي الأخري: "كان الطفل أمام عينيه ،لكنه بدا له كائناً سماوياً غامضاً مشخصاً ،حاضراً غائباً،ضعيفاً قوياً،معرفاً مجهولاً،ذكراً أنثي،طفلاً شيخاً،بشراً ملاكاً،منقذاً ومهلكاً،غاية ووسيلة،بداية ونهاية." رواية "تغريبة ابن زريق الغدادي الأخيرة" جهد روائي كبير لكاتب كبير أغني المكتبة العربية بالكثير من الشهادات والروايات والأعمال البحثية المهمة ، ولهذا فإننا مع مثل هذا الجهد إزاء عمل يمتزج فيه الخيال مع الواقعة ودروب الحقيقة مع ألاعيب السرد.. وهي عندما " تتجاوز حدود البحث عن شاعر وقصيدة الي البحث عن المصير والخلاص الشخصي" فانها تقدم لنا بطلاً مثقفاً يشبه كاتبه في عنايته بهموم عصره. أراد لنا أن نري التاريخ شيخاً تعثر في مراهقته ولكنه لايزال ينظر الي الخلف الي موقع العثرة ،بدلاً من النظر الي أمام خوفاً من التعثر من جديد. الزمان |